الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أعظم سعادة للإنسان أن تكون تصوراته متوافقة مع كلام الله:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن والأخير من سورة المدَّثر.
في الدرس الماضي نقاطٌ كثيرةٌ ودقيقة مررنا بها سريعاً، وأتمنى أن نقف عندها وقفةً متأنية في هذا الدرس، ويكون هذا الدرس الأخير من سورة المدثر.
الآية الكريمة:
﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)﴾
كلمة: ﴿كَلَّا﴾ كما تعلمون أداة ردعٍ ونفيٍ، أي حينما يقول الله عزَّ وجل لهذا الإنسان: ﴿كَلَّا﴾ لا كما تتصور، لا كما تتوهم، لا كما تقول، أي شقاءٍ أكبر من أن تكون في تفكيرك وإدراكك مخالفاً لمنهج الله عزَّ وجل، ﴿كَلَّا﴾ .
من هو السعيد؟ الذي جاءت تصوَّراته ويقينياته موافقةً لما في القرآن الكريم، والحقيقة لابدَّ من أن نعرفها جميعاً، أهل الأرض كلُّهم من آدم إلى يوم القيامة سيعرفون الحقيقة عند الموت، كل البطولة أن تعرفها الآن، إن عرفتها الآن انتفعت بها، وإلا لا تنتفع بها أبداً، فعند كلمة: ﴿كَلَّا﴾ تعتقد شيئاً؟ تتوهم شيئاً؟ تتصور شيئاً؟ تمشي في طريق مسدود، تمشي في طريق ينتهي إلى الهاوية، أنا لا أرى سعادةً أعظم من أن تكون معتقداتك، تصوُّراتك، يقينياتك موافقةٌ لكلام الله عزَّ وجل، هذا هو الهُدى.
الابتعاد عن الضلال والوهم:
أما:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104)﴾
بطولتك أن تتوافق تصوراتك مع ما في القرآن الكريم، أو أن تأخذها من القرآن الكريم، بطولتك أن تكون قِيَمُك قيماً دينية، أن تكون مقاييسك مقاييس القرآن الكريم، أن تقيِّم الأشخاص لا بحجمهم المالي، ولا بحجم قوتهم، بل بحجم انتمائهم لهذا الدين، فكلمة: ﴿كلا﴾ ، أداة ردعٍ ونفيٍ أي إياك أيها الإنسان أن تكون ضالاً، إيَّاك أن تكون واهماً، إيَّاك أن تتبع الظن، عليك أن تكون مع الحقيقة، والحقيقة تُستقى من الوحي فقط.
العقل أيها الإخوة مع أنه أعقد جهازٍ أودعه الله فينا، مع أنه الشيء الذي نتميَّز به لا يكفي وحده من دون وحي لمعرفة الحقيقة.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾
لابدَّ من أن تهتدي بوحي، الحقيقة قد تعرفها بالتجربة، قد تعرفها من خلال العِلم، قد، ولكن الحقيقة المطلقة لا تكون إلا على طريق الوحي، الإنسان بعقله قد يكشف بعض الحقائق، قد يكشفها في الوقت المناسب، وقد يكشفها في الوقت غير المناسب، وقد يكشفها بعد فوات الأوان، وقد يكشفها ولا يستطيع أن ينتفع بها، أما إذا استقيت الحقائق من الوحي، من كتاب الله، تعرفُها في الوقت المناسب، وتنتفع بها، وهي صحيحةٌ صحةً مطلقة، فكلا ليس كما تقولون، ليس كما تزعمون، ليس كما تتوهَّمون، الحقيقة هذه: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ .
التأمل في الآيات لمعرفة الله من خلالها:
كل الآيات القرآنية:
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)﴾
﴿ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾
﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ الله عزَّ وجل يلفِتُنا إلى هذه الآية، هؤلاء الذين أعرضوا عن التفكر في خلق السماوات والأرض ماذا فعلوا؟ عطَّلوا ثُلث القرآن، لماذا يقول الله عزَّ وجل: ﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ ؟ أي هل فكرت في القمر؟ هل فكرت في الشمس؟ هل فكرت في الليل والنهار؟ هل فكرت في الكواكب؟ هل فكرت في طعامك؟ هل فكرت في شرابك؟ هل فكرت مما خلقت؟ هل فكرت في الذكر والأنثى؟ هذه الآيات كيف تعرف الله عزَّ وجل؟
التفكر أساس معرفة الخالق:
ذكرت اليوم في الخطبة أنك أنت ترى إنساناً، رأيته هل عرفته؟ لا، إنسان أمامك، برأس، وجذع، وأطراف، وعيون، وأنف، وفم، لابس، جالس، مهما تأمَّلت في شكله وفي هندامه لا تعرفه، أما إذا سألته عن دراسته، أو عن إنجازاته، أو عن طبيعة عمله، أو عن فعله، كلما عرفت عنه شيئاً كَبُر في نظرك، أنت مع إنسان تحتاج إلى تفاصيل كي تعرفه، فمع الواحد الدّيان يكفي أن تقول: الله خالق السماوات والأرض؟! هل فكَّرت في رحمته؟ في قدرته؟ في علمه؟ في رأفته؟ في لطفه؟ في جبروته؟ في قوته؟ ما لم تحصِ أسماء الله الحسنى لا تعرف الله عزَّ وجل، أحد الأشياء التي تقربك من الله عزَّ وجل أن تحصي أسماءه الحسنى، "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" إحصاؤها شيء، وعَدُّها شيءٌ آخر، أن تعرف أسماء الله الحسنى باب، أن تفكِّر في القمر.
﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)﴾
الليل وحده، يا سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل؟ ويا سبحان الله أين الليل إذا جاء النهار؟ من ظلام، من سكينة، من هدوء إلى إشراق، إلى وضوح، وكيف أن الليل والنهار يتعاقبان ويختلفان طولاً وقصراً بين الصيف والشتاء، هذه آية الليل، يقولون: شدة القُرب حجاب، الشيء الذي نألفه كثيراً؛ ليل ونهار، وشمس وقمر، وأمطار ورياح، وجبال ونباتات، وطعام وشراب، هذا نعيشه كل يوم، شدة هذا القرب قد تكون حجاباً بينك وبينه، الإنسان لا ينتبه أنه مغمور بنعم الله عزَّ وجل.
كأس الماء بكم تشتريه يا أمير المؤمنين إذا منع عنك؟ قال: بنصف مُلكي، قال: فإذا منع إخراجه؟ قال: بنصف مُلكي الآخر، عندما يشرب الإنسان الماء ويخرج الماء، عندما يتحرك، ينظر، يبحث، يسمع، يتكلم، ينطق، يدخل بيته، هذه نعمٌ كثيرةٌ، يجب أن نتأمَّل فيها.
﴿كَلَّا وَالْقَمَرِ﴾ فكرت بالقمر؟ فكرت بالشمس؟ فكرت بالليل؟ فكرت بالنهار؟ هذه الآيات ينبغي أن نستعملها، ينبغي أن ننتفع بها، ينبغي أن نعرف الله من خلالها، وأذكر لكم دائماً أن آيات الله الكونية لها وظيفتان كبيرتان؛ وظيفةٌ تعريفية، ووظيفةٌ نفعية، فنحن ننتفع بالقمر، ونتعرَّف إلى الله من خلاله، فالذي انتفع به فقط هم أهل الغرب، والذين ينبغي أن يتعرفوا إلى الله من خلاله نحن المؤمنين، يجب أن تتعرَّف إلى الله من خلقه، ولا شك أن المهمة الأولى أكبر بكثير، كل شيء الله خلقه له وظيفتان؛ وظيفةٌ تعريفية، ووظيفةٌ نفعية، فالشارد عن الله عزَّ وجل يقف عند النعمة ولا يصل منها إلى المُنعم، وظيفته نفعية، ينتفع ويأكل ويشرب، لكن المؤمن ينتقل من هذه النعمة إلى المُنعم، من هذا الخَلق إلى الخالق، من هذا النظام إلى المُنَظِّم، من هذا التسيير إلى المُسَيِّر، من مظاهر الكون إلى خالق الكون، هذه النقلة التي لابدَّ منها.
الليل و النهار من نعم الله على الإنسان:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)﴾
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)﴾
نعمة النهار قليلة؟ أساساً هناك في شمال الكرة الأرضية في قطبها الشمالي وقطبها الجنوبي الليل يستمر ستة أشهر، والنهار ستة أشهر، الحياة لا تُحتمل، لا تحتمل أن يبقى الليل ستة أشهر، جعله في ساعاتٍ تناسب طاقاتك، تناسب عملك، تناسب نظام حياتك، هذه آية، دائماً يوجد ربط، الذي أنزل هذا الكتاب هو الذي خلق السماوات والأرض، يوجد ربط مستمر في القرآن الكريم.
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)﴾
جواب القسم يأتي دائماً متناسباً مع المُقْسَم به، خالق الكون أنزل هذا القرآن الكريم.
على الإنسان إدخال الجنة والنار في حساباته:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)﴾
بعض علماء التفسير قال: إنها جهنم لإحدى الكبر، إنسان يمشي في الطريق يمرح ويضحك وأمامه لغم سيجعله قطعاً صغيرة ولا يتأثَّر؟! الناس في غفلةٍ شديدة، موضوع الجنة والنار، أنا أرى أن أكثر الناس لا يُدخلان هذا الموضوع في حساباتهم اليومية، لماذا آلاف الدعاوى في قصر العدل؟ لماذا اغتصاب الأموال؟ لماذا الكذب؟ لماذا الغُش؟ لماذا العدوان على ما عند الآخرين؟ سيدنا عمر تَسَلَّم منصب القضاء في عهد سيدنا الصديق مدة سنتين لم يرفع أحدٌ إليه قضية، كل إنسان يعرف ما له وما عليه، كل إنسان يعرف حدوده، هذا المؤمن، فحينما نأخذ ما ليس لنا ونعتدي على حقوق الآخرين كيف نكون في المستوى الذي يريدنا الله به؟
﴿ كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)﴾
قضية النار قال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾
إله عظيم، هل يعقل أن يقول شيئاً لا يقع؟ هل تصدق أن ذلك؟! هل تصدق أن خالق الكون يقول شيئاً لا يقع؟ إنسان قوي يحترم قوله، إنسان جُبِلَ على الخطأ ويحترم قوله، خالق الأرض والسماوات يقول: جهنم ونار:
﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74)﴾
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)﴾
ومع ذلك لا تجد كثيراً من المسلمين الذين ينتمون إلى هذا الدين يدخلون النار في حساباتهم اليومية.
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ: آية لها عدة معان:
1 ـ جهنم أكبر الأخطار التي تنتظر الإنسان:
﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ هذه النار إحدى أكبر الأخطار التي تنتظر الإنسان، أي أكبر خطر أن يكون المصير إلى النار.
﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾
﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ فجهنم أحد أكبر الأخطار التي تنتظر الإنسان، والأخطار في الدنيا مؤقَّتة تنتهي عند الموت، لكن الأخطار في الآخرة ليس هناك موت: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾ .
2 ـ تكذيب الإنسان بالحق من أكبر الجرائم:
المعنى الثاني: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ تكذيبكم بالحق أحد أكبر الجرائم، أي أكبر جريمة أن تشرد عن الله عزَّ وجل، أن تكذِّب كلامه، ألا تعبأ بكلام نبيّه، ألا تعبأ بالوعد والوعيد، ألا تعبأ بالحق والباطل، تعيش لذاتك، لشهواتك: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ .
3 ـ الاهتمام بقضية الدين:
والمعنى الثالث الذي فَصَّلته في الدرس الماضي أي أكبر قضية ينبغي أن تنتبه لها مصيرك، علاقتك بهذا الدين، هل أنت مؤمن؟ هل أنت مسلم؟ هل أنت مُحسن؟ أين موقعك؟ ما درجتك عند الله عزَّ وجل؟ هل أنت مقبول عند الله؟ الصحابة الكرام، أحد التابعين قال: التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا وهو يظن نفسه منافقاً من شدة خوفه من الله، المنافق يبقى في حالٍ واحدة أربعين عاماً بينما المؤمن يتقلَّب في اليوم الواحد أربعين حالاً، من شدة قلقه وخوفه وحرصه على رضوان الله عزَّ وجل.
إذاً أول معنى: جهنم ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ .
المعنى الثاني: تكذيبكم بهذا الدين ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ .
المعنى الثالث: قضية الدين بمجملها، هذه أكبر قضية ينبغي أن تهتم لها، ليس هناك قضية تعلو عليها، وأكثر الناس يضعون قضية الدين في الدرجة الخامسة، مصالحه، رزقه، كسبه، ماله، مكانته، في الدرجة الأولى، إذا عنده وقت فارغ يحضر درس علم، يجب أن تُشَكِّل حياتك وفق منهج الله عزَّ وجل.
﴿ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)﴾
النار نذير، وقال علماء التفسير: والنبي هو النذير، وقالوا: القرآن هو النذير، والأربعون هي النذير، والشيب هو النذير، والسّتون هي النذير، والمصائب نذير، وموت الأقارب نذير:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾
﴿ نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)﴾
أنت مُخَيَّر، تحب أن تتقدم إلى السعادة فالطريق سالك، تحب أن تتأخَّر عنها أنت مخير، تحب أن تتقدم إلى الخير الطريق سالك، تحب أن تبتعد عن الخير إلى الشر ممكن لأنَّك مُخَيَّر: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ﴾ إلى الخير، إلى الجنة، إلى رضوان الله، إلى السعادة، أو يتأخَّر عن هذه كُلها.
﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾
أنت رهينُ عملك، أنت محبوسٌ بعملك، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، أخطر سؤال يجب أن تطرحه على نفسك كل يوم: ما نوع عملي هل فيه خلل؟ هل هناك خلل بالدخل؟ هل هناك خلل بالعلاقات؟ هل لي عمل لا يُرضي الله؟ هل لي عمل مخالف للمنهج الصحيح؟ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ وشَتَّانَ بين من يكون عمله صالحاً ويأتيه ملك الموت، وبين من يكون عمله سيئاً ويأتيه ملك الموت.
يا أيها الإخوة الكرام؛ أن تكون طليقاً هذا دليل استقامتك، المؤمن طليق، والمؤمن متفائل، والمؤمن متوازن، والمؤمن سعيد، والمؤمن يوجد بقلبه سكينة، يوجد سعادة، شعوره أن الله راضٍ عنه شعور لا يقَدَّر بثمن.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾
هؤلاء الذين عرفوا الحق، وطَبَّقوا أمر الله وأمر النبي، هؤلاء الذين وصلوا إلى الله، هؤلاء الذين عرفوا سرّ وجودهم وغاية وجودهم.
أسباب دخول المجرمين النار:
﴿ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)﴾
ماذا أراد الله بهذه الآية؟ لو أن إنساناً زار سجناً، هو يعمل في التجارة، وزار سجناً، ورأى أحد السجناء قال له: ما الذي أوصلك إلى هنا؟ قال له: لأنني تاجرت ببضاعةٍ محرمة ممنوع المتاجرة بها، أليس هذا درساً للزائر؟ درس لنا، الآن نحن مع بعض أهل النار، يُسْأل:
﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)﴾
ما الذي أوصلكم إلى النار؟ ما سبب دخولكم النار؟ لماذا أنتم هنا؟ أول سؤال تطرحه على سجين: لماذا أنت هنا؟ لأنه كامل؟ لا، لأنه إنسان صالح؟ لا طبعاً، لأنه محسن؟ طبعاً مستحيل، يوجد مشكلة كبيرة كانت سبب دخوله السجن، فالآن اسمعوا إلى أسباب دخول النار.
﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)﴾
﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ ما الذي أوصلكم إلى النار؟
﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)﴾
أي إن لم تنعقد الصلة بينك وبين الله فالوضع خطير جداً، إن لم تنعقد هذه الصلة، وهذه الصلة لا تنعقد إلا بطاعته، إلا بالاستقامة على أمره، إلا بالإحسان إلى خلقه، إلا بأن تقف عند الحدود، إلا بأن تعرف ما لك وما عليك، إلا أن تنام مساءً وأنت مرتاح، لم تكن سبباً في شقاء إنسان، ولا في نشر معصية، ولا في إفساد إنسان، ما تَعَلَّقت بك الحقوق ولا الواجبات، هذه الحالة الطيبة، الذي استقام على أمر الله هو الذي ينام مطمئناً:
﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)﴾
الاتصال بالله يحتاج إلى مقدِّمات، مقدماته الاستقامة على أمر الله، الاتصال بالله يحتاج إلى معرفة الله، تصلي لمن؟ هناك من يصلي لمن لا يعرفه، يجب أن تعرفه من أجل أن تنعقد صلاتك معه انعقاداً صحيحاً.
2 ـ الانقطاع عن الله والإساءة لخلقه:
﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)﴾
حركتان؛ لسنا متصلين بالله عزَّ وجل وليس لنا عمل صالح، معنى هذا أن أسباب دخول النار الانقطاع عن الله والإساءة إلى الخلق: ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ بل إن هنا المعنى دقيق جداً، أي الامتناع عن العمل الصالح جريمة لأنك مخلوق للعمل الصالح، لو طالب قال لك: أنا ما آذيت صديقاً طوال حياتي، ما ضربت زميلاً لي، ما سببت زميلاً، لكن ما درس إطلاقاً، هل ينجح؟ لم يؤذِ أحداً، لم يتكلم كلمة نابية، لم يضرب أي طالب أبداً، كل أعماله صالحة ولكن لم يدرس ولا كلمة، فمعنى ذلك أن عدم العمل الصالح هو الخطأ الكبير.
3 ـ التقليد الأعمى للآخرين:
﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)﴾
هنا المشكلة، هذا الانجراف مع التيار العام:
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾
الانجراف مع التيار العام، الناس كشفوا عن عوراتهم يكشف عن عوراته، دخلوا جحر ضب فدخلوه، هذه صرعات الأزياء، المستحدثات، الانحرافات، هذا الشيء الذي نستورده من الغرب يتعَلَّق بأخلاقنا، بديننا، بقيمنا، ما دام شاع نأخذ به: ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ لا يوجد موقف، لا يوجد اتجاه خاص، لا يوجد منظومة قيم تقبلها أو لا تقبلها، مع الناس إمَّعة، لا يكن أحدكم إمعة الذي يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس وإن أساؤوا أسأت.
إدخال اليوم الآخر في حساباتنا:
أنتم ترون كيف تنتشر بعض المستحدثات في بلادنا انتشاراً واسعاً جداً مع أنها لا ترضي الله عزَّ وجل، الذي يفعله الناس يفعله الباقون والحُجَّة: هكذا يفعل الناس، أي إنسان يقول لك: الناس كلهم كذلك، هل هذه حجة؟ هذا دليل؟ بشكل أو بآخر إذا وجد مستنقع آسن، مياه سوداء، مياه مجار، وفيها مئة إنسان يسبحون بها، ويلعبون، ويضحكون، وأنت الله عزَّ وجل كَرَّمك بالنظافة والوضع السليم لأن هؤلاء في هذه البركة الآسنة تنزل معهم؟ هل هذه حُجَّة؟
﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)﴾
أي اليوم الآخر ما دخل في حسابات الناس إطلاقاً.
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ: آية لها عدة معان:
1 ـ الإنسان عند الموت يعرف الحقيقة اليقينية:
﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)﴾
لمَ سُمي الموت يقيناً؟ سُمّي الموت يقيناً لأن الإنسان عند الموت يعرف الحقيقة اليقينية التي كان غافلاً عنها، هذا معنى.
المعنى الثاني: سُمّي الموت يقيناً لأنه مُتَيَقِّنٌ وقوعه، هل يستطيع أحد على وجه الأرض أن يقول: أنا لا أموت؟ أعوذ بالله، مصير كل حي، جئنا على هذا الشرط، سبحان من وعد عباده بالموت، كتب علينا الموت جميعاً: عش ما شئت فإنك مَيِّت، أحبب ما شئت فإنَّك مُفارق، اعمل ما شئت فإنَّك مجزيٌ به.
لذلك لا أحد يستطيع أن يُنكر حدث الموت، ولكن الناس يتفاوتون في مدى الاستعداد للموت ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ أروع ما في حياة الإنسان أن يأتي الغيبُ موافقاً لاعتقاده، أما أن يأتي الغيب الذي غاب عنك مفاجئاً لك فهذه مشكلة كبيرة جداً.
﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)﴾
لماذا الإعراض عن هذا الحق؟ لماذا الإعراض عن هذه التذكرة؟ لماذا الإعراض عن هذا القرآن؟ لماذا الإعراض عن دعوة الله لنا أن نستجيب له؟ لماذا نُعرض؟ لم لا نستجيب؟ لمَ نتقاعس؟
﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)﴾
في إعراضهم.
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)﴾
من رام، أو من الليل: ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ .
الإنسان المنحرف يريد ديناً يتوافق مع مزاجه:
أيها الإخوة؛ الآية التي ذكرتها في الدرس الماضي:
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)﴾
أبو جهل قال له: "يا محمد ليُنزل ربك علينا كتاباً نقرؤه أنه بعثك إلينا رسولاً" ، هذا قول أبو جهل، وكل إنسان لو توسَّعنا في فهم هذه الآية، كل إنسان يريد ديناً يتوافق مع مزاجه، يحب هذا السلوك يبحث عن غطاءٍ لهذا السلوك، فتوى ضعيفة، قول ضعيف، اجتهاد، تصوّر عقلي شخصي، فهذا الذي يقول لك: أنا عندي هذه جائز، من أنت؟ أنت مُشَرِّع؟
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ فمن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ؟!
﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً﴾ أي يريد منهجاً يتوافق مع مزاجه، فالذي يُرابي يُقنعك أن هذا الربا أنا لا أُرابي بالربا ربا القروض، بل ربا الاستثمار والمشاريع، والإسلام حينما حرَّم الربا حرم القروض فقط، القروض الاستغلالية هذه حرمها، لكن الله لم يذكر علة للتحريم، التحريم مطلق، فيريد كل إنسان أن يبقى على ما هو عليه وأن يكون تحت غطاء الدين، هذا مستحيل، أن تبقى على ما أنت عليه وتحت غطاء الدين مستحيل.
الأفعال السيئة ينسبها الإنسان إلى ربه:
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)﴾
لو الإنسان مع شخص قوي يُطَبِّق تعاليمه بحذافيرها، لكن مع الله عزَّ وجل يأخذ ويعطي، شيء يقول لك: هذا لم أقتنع به، شيء يقول لك: يوجد فتوى، أما لو عرف عظمة الله عزَّ وجل لانصاع لأمره.
أيها الإخوة؛ النقطتان اللتان مررت بهما سريعاً في الدرس الماضي الآيتان الأخيرتان:
﴿ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)﴾
أنت مُخَيَّر، وفي أية لحظةٍ تنفي بها عن نفسك الاختيار فأنت واهم، أنت مخير، والإنسان عجيب أمره في أعماله الطيبة يقول: أنا فعلت وتركت، أما في أعماله السيئة فيقول: إن الله قدَّر عليَّ ذلك، لماذا تنسب أفعالك الطيِّبة إلى ذاتك بينما الأفعال السيِّئة تنسبها إلى الله عزّ وجل؟
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)﴾
﴿ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)﴾
ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله ربط فضل:
الآن الشيء الدقيق أن بعض الناس يتوهَّمون أن ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله، أي أن الإنسان مُجْبَر، وهذا المعنى لم يرد إطلاقاً في الإسلام، الإنسان مُخَيَّر، لكن:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)﴾
ما معنى هذه الآية؟ دخلت إلى محل تجاري يبيع الذهب والألماس، قال لك صاحب المحل: اختر ما شئت، طبعاً يوجد خاتم بمليون، وخاتم بمئة ليرة، فأنت اخترت المليون، وأنت خارج قال لك: لولا أنني سمحت لك أن تختار لما نلت هذا الخاتم الثمين، فربط اختيارك بسماح صاحب المحل لأن تختار ربط جبر أم ربط فضل؟ ربط فضل.
أسباب سعادتك في الآخرة اختيارك للحق:
أنت أحد أسباب سعادتك في الآخرة، أحد أسباب دخول الجنة أنَّك استعملت حرية الإرادة التي منحك الله إيَّاها في اختيار الحق، واختيار طريق الجنة فوصلت إليها، فيقال له: ما كان لك أن تدخل الجنة لولا أن الله لم يسمح لك أن تختار، فاختيارك الموَفَّق هو بسبب أن الله سمح لك أن تختار، فهذا الربط، ربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله ربط فضل، لبيان الفضل، أي كل هذا الخير الذي نلته بسبب اختيارِك شاءه الله لك، ولو لم يشأ لك هذا الاختيار لما اخترت، ولما كنت المخلوق الأول، هناك مخلوقات كثيرة جداً في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة مسيَّرة، أما الإنسان فهو أكرم المخلوقات.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)﴾
فالإنسان إذا استعمل حرِّيته وفق ما أراد الله عزَّ وجل كان خير المخلوقات جميعاً، وإن لم يستعملها وفق ما أراد الله عزَّ وجل كان شرّ المخلوقات جميعاً، فحالته عجيبة بين أن يكون سيِّد المخلوقات أو أشقى المخلوقات، من سيد المخلوقات إلى أسوأ المخلوقات، من صنفٍ فوق الملائكة إلى ما دون الحيوان.
أكبر أسباب السعادة أن تتوافق نفسك مع فطرتك:
﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ والتذكرة تعني أن الإيمان فِطري، إذا الإنسان ذهب إلى بلد ورأى معالمه، ثم أطلعته على صورة من صور هذا البلد تقول له: نعم أنا كنت هناك، وكنت في هذا المكان بالذَّات، ما دور هذه الصورة؟ تذكرة، ذَكَّرَتْكَ بهذه الرحلة، إذاً التذكرة معنى ذلك أنك تعرفها سابقاً، فالإنسان مجبول على الإيمان بالله، فطرته فطرةٌ مؤمنة، فإذا آمن ارتاحت نفسه، واطمأن قلبه، واستعاد توازنه، تماماً كالسيَّارة التي صُمِّمَت لتسير على طريقٍ مُعَبَّد، فإذا سرت بها في طريقٍ وعر كَسَّرْتَها وانزعجت من الأصوات ولم تحتمل قيادتها، أما إذا سرت بها على طريقٍ مُعَبَّد ارتاحت نفسك لأنك أرجعتها إلى فطرتها.
فأحد أكبر أسباب السعادة أن تجد نفسك، وأن تتوافق مع فطرتك، والعالم الغربي الآن بماذا يشعر ويعاني؟ كل شيء موفور، كل شيء ميَسَّر، لكنهم مقطوعون عن الله، فبيوتهم قطعٌ من الجحيم، جحيم البعد عن الله عزَّ وجل، جحيم التفلُّت، جحيم تفكك الأسرة، جحيم الانغماس بالمخدرات، جحيم الانحراف الجنسي الخطير، هذا كله جحيم.
سعادتك تكون باختيارك ما يرضي الله:
يا أيها الإخوة الكرام؛ كون الإنسان مُخَيَّراً، فإذا استعمل هذا الاختيار وفق ما يرضي الله ونال السعادة الكبرى، يُقال له: لولا أن الله شاء لك أن تختار لما اخترت، فهذا هو فضل الله عليك:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
﴿ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)﴾
لولا أن الله يشاء لكم أن تذكروه لما ذكرتموه.
طاعة الله واجبة على كل إنسان :
آخر كلمتين في هذه السورة يا أيها الإخوة الكرام كلمتان خطيرتان جداً: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى﴾ وحده أهلٌ أن تطيعه، أما إذا أطعت مخلوقاً وعصيت خالقاً، هذا هو الشقاء بعينه، هذا هو الخطأ بعينه، هذا هو الضلال بعينه، أن تطيع مخلوقاً وتعصي خالقاً، أن تمشي في طريقٍ مسدود، أن تعلِّق الآمال على مخلوقٍ ضعيف لئيم ينسى الفضل.
ليس هناك جهةٌ في الكون أهلٌ أن تطيعها إلا الله، ليس هناك جهةٌ في الكون أهلٌ أن تفني شبابك من أجلها إلا الله، ليس في الكون جهةٌ مؤَهَّلةٌ أن تهبها روحك ووقتك وجهدك ومالك إلا الله، من هو الذكي؟ هو الذي كان لله، ومن هو الغبي؟ هو الذي كان لغير الله، احرص على أن تكون محسوباً على الله، وإياك أن تُحْسَب على زيدٍ أو عبيد، أو على هذه الجهة، أو على هذه الجماعة، أنت مخلوق مُكَرَّم، أنت مخلوقٌ لله، هو وحده أهلٌ أن تطيعه، أن تتقيه، أن ترجو رحمته، أن تخشى عذابه، أن تسعى إليه، أن تسعى إلى رضوانه، أن تسعد بقربه، لأنه أبدي وسرمدي، مبدئياً ما سوى الله فان، كم من إنسان تعلَّق بامرأة! زوجته، لكنه تركها أو تركته شاء أم أبى، تعلَّق بأولاده تركوه أو تركهم، تعلَّق بالمال ترك المال، تعلَّق بالبيت ترك البيت، تعلَّق بمكانة اجتماعية فقدها، أيُّ تعلقٍ بما سوى الله سوف تفقده، أما إذا كنت مع الله فأنت أسعد الخلق: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى﴾ .
رجاء الإنسان رحمة الله ومغفرته:
أما الشيء الذي يملأ النفس تفاؤلاً، لك مشكلة في الماضي، هو أهل المغفرة، إيَّاك أن تجعل الماضي عقبةً بينك وبين الله:
(( عن أنس بن مالك قال اللهُ تعالى: يا بنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي يا بنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً. ))
[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي ]
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)﴾
لا تجعل الماضي مهما بدا لك منحرفاً عقبةً بينك وبين الله.
فيا أيها الإخوة الكرام؛ لنعقد النيَّة على أن نكون لله، على أن نكون أحراراً من أي عبوديةٍ أرضية، كن لله، كن عبداً لله فعبد الله حُر: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ .
الله عز وجل منتهى آمال الإنسان:
لا تكن لغير لله، لا تتجه لغير الله، لا تسع لغير الله، لا ترجُ رحمة غير الله، لا تخف من غير الله، لا تعلِّق الآمال على غير الله، لا تتوكَّل على غير الله، لا تصبر لغير الله: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ .
﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)﴾
وعليه فاعقد النيَّة، اجعله منتهى آمالك، محطَّ رِحالك، هذا هو المؤمن: ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أنت له ولست لأحدٍ سواه، فإن كنت لسواه خسرت خسارةً كبيرة.
الملف مدقق