الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام: مع الدرس الأول من سورة المدثر:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
كأن الله سبحانه وتعالى -كما قلت في درسٍ سابق-حينما يخاطب في أسلوب اللغة العربية، في أسلوب البلاغة العربية، حينما تخاطب إنساناً بحالةٍ متلبِّسٍ بها فهذا من باب التَحَبُّب، ومن باب الاستلطاف، ومن باب الإيناس، وقد ذكرت لكم تأكيداً لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان سيدنا عليٌّ رضي الله عنه مُضَّجعاً على الأرض وقد تأثَّر بتراب الأرض، قال: قُمْ يا أبا تُراب ، كان مخاصماً للسيدة فاطمة، أراد النبي أن يتحبب إليه، وأراد أن يتلطَّف به، وأراد أن يؤنسه فقال: قُمْ يا أبا تُراب.
فحينما تخاطب إنساناً بحالةٍ متلبِّسٍ بها فهذا من باب التحبب، من باب الاستلطاف، من باب الإيناس.
النبي عليه الصلاة والسلام تدثَّر بثيابه فقال الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ أي انتهى وقت الراحة، وقد سمعت من قبل أن السيدة خديجة رضي الله عنها طَلَبَت من النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن جاءه الوحي من السماء أن يأخذ قسطاً من الراحة، فقال لها: انتهى عهد النوم يا خديجة، قد يقول أحدكم: ما علاقتنا بهذا؟ علاقتنا بهذا علاقةٌ متينة، كل واحدٍ منَّا مكلَّفٌ بعبادة الله، كل واحدٍ منَّا مكلَّفٌ بالدعوة إلى الله، كل واحدٍ منَّا مكلفٌ بنشر هذا الحق، نشر الحق فرض عين، طالبوني بالدليل:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
فإن لم تدعُ إلى الله فأنت لست متبعاً لرسول الله، وقد قال الله عزّ وجل:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
الجهاد الدعوي أعلى أنواع الجهاد:
مما يؤكِّد حُبَّك لله أن تتبع رسول الله، ومن اتباع رسول الله أن تدعو إلى الله على بصيرة، والإنسان الذي لا يجد في نفسه رغبةً أن ينشر الحق، أو أن يدعو إلى الله، أو أن يشيع الفضيلة في المجتمع؛ هذا إنسان يموت على ثُلْمَةٍ من النِفاق، لأنه كما تعلمون كلمة الجهاد يخطئ كثيرون حينما يحصرونها بالجهاد القتالي، جهاد النفس والهوى في بعض الأحاديث الصحيحة من أعلى أنواع الجهاد، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى، والجهاد الدعوي من أعلى أنواع الجهاد.
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾
سمَّاه الله جهاداً كبيراً أن تتعَلَّمَ وتُعَلِّم، أن تأخذ وتعطي، أن تتلقى وتُلقي، أن تُسهم في نشر الحق، أن تسهم في تعريف الناس بربهم، أن تسهم في حملهم على طاعته، أن تُسهِمَ في إسعادهم بالقرب منهم، هذه أكبر مهمة، إنها صنعة الأنبياء.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
إقناع الناس بالحق في حدود ما نعلم:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾
المؤمن ينبغي أن يُفَكر؛ كيف آخذ بيدِ أولادي؟ كيف أقنع زوجتي بالحق؟ كيف أُقنع أولاد إخوتي؟ كيف أُقنع جيراني؟ من حولي؟ طبعاً الدعوة إلى الله كفرض عين في حدود ما تعلم.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». ))
وفي حدود من تعلم؛ من حولك، أقرباؤك، جيرانك، زملاؤك، أقرب الناس إليك هؤلاء الذين أنت مكلفٌ بدعوتهم إلى الله، أما إنسان يعيش عُمُراً مديداً لم يُحدث نفسه بالجهاد الدعوي ولا مرة يموت على ثِلمةٍ من النفاق، لأن الجهاد كما تعلمون وكما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي أمامه الباهلي: ذروةُ سنامِ الإسلامِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ لا ينالُه إلا أفضلُهم. ))
[ صحيح : أخرجه الطبراني ]
فــ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ تحبباً، وإيناساً، وتلطفاً﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ .
يا أيها المؤمن هل فكَّرت في الدعوة إلى الله؟ قالوا: الإنسان قد يقرأ كتاباً، قد يقرأ قصةً ممتعةً يمضي بها وقتاً لطيفاً، بعد أن تنتهي قراءتها يتثاءب وينام، لكنك أحياناً تقرأُ قصةً أو كتاباً، كتاباً في العقيدة أو كتاباً إسلامياً تنتهي من قراءته فتبدأ متاعِبُك لأن هذا الكتاب وضعك أمام مسؤوليَّاتك، وضعك أمام سرِّ وجودك وغاية وجودك، وضعك أمام رسالة مكلف بحملها، وضعك أمام مهمةٍ لابدَّ من أن تؤَدِّيها، فإذا قرأت قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ قل: ما علاقتي أنا بهذه الآية؟ علاقتك بهذه الآية هل تعلَّمت وعَلَّمت؟ هل قرأت القرآن وأقرأته؟ هل تعلَّمت القرآن وعَلَّمته؟ هل نقلت عن رسول الله حديثاً؟ هل بلَّغت الناس حُكماً فقهياً؟ هل رويت للناس قصةَ صحابيٍّ أحبَّ الله عزّ وجل وبذل في سبيله الغالي والرخيص؟ ماذا فعلت؟ نأكل ونشرب!!
أيها الأخوة؛ دققوا في هذا المعنى، الإنسان له وجود إنساني، وله وجود حيواني، فالإنسان حينما يكتفي بالطعام والشراب، والتنفُّس، والنوم، وإنجاب الأولاد، والتمتُع بمباهج الحياة الدنيا، ماذا فعل هذا الإنسان؟ ما حقق إلا وجوده الحيواني فقط، قد تسألني: أيعقل أن يكون هذا؟ ماذا قال الله عزّ وجل؟ قال:
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)﴾
كلام الله عزّ وجل، قال:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)﴾
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾
أبلغ من ذلك:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)﴾
الإنسان أحياناً يرى دابة تُفاجأ بحفرة فتحيدُ عنها، ترى ناراً مضطرمة فتبتعد عنها، يوجد نوع من الإدراك، أما الخُشب المسندة فهل تبتعد عن النيران؟ الله عزّ وجل وصف هؤلاء: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ ، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ ، ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ ، ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)﴾ ، هذا الوجود الحيواني ؛ أكل، شرب، تنفس، زواج، استمتاع، إنجاب أولاد، عمل شاق، نوم، وجود حيواني.
أما الحاجة العُليا في الإنسان من هنا إلى فوق إدراك، معرفة، طلب علم، تعليم العلم، تحقيق وجودك ، تحقيق سرّ وجودك، تأكيد ذاتك، نشر الحق، إشاعة الفضيلة بين الناس، هذا وجود إنساني، لا يليق بك أن تَهْبِطَ عن وجودك الإنساني إلى وجودٍ حيواني، لابدَّ من أن تحمل رسالة، لابدَّ من أن تنقل الحق، لابدَّ من أن تتعَلَّم وتُعَلِّم، أن تتلقى وتُلقي، أن تتعلم القرآن وأن تُعلمه، لابدَّ لك من عملٍ صالح.
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾
هذا معنى قول الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ تحبباً، واستلطافاً، وإيناساً، ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ .
خدمة الخلق عن طريق النصيحة والمودة:
أكثر نشاط الإنسان يَتَمَحْوَر حول مصالحه، أما أن يخرج الإنسان من بيته لطلب العلم، لزيارة مريض، لدعوة أخٍ إلى الله، لخدمة شخص دون أن تكون له مصلحة لا من قريب ولا من بعيد إلا ابتغاء وجه الله، هذا الذي أتمنَّاه على كل مؤمن أن يخرج من ذاته إلى خدمة الخلق: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ بالنصيحة، بالمودة، بالتلطُّف، تزوره في بيته، تقدِّم له هدية، تعاونه، تحل له مشكلة ثم تأخذ بيده إلى الله.
(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ. ))
((يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس)) ، ((.... خيرٌ لك من الدنيا وما فيها)) يوجد شركات مبيعاتها السنوية أربعمئة مليار دولار، ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس)) ، ((خيرٌ لك من حُمُر النعم)) ، ((خيرٌ لك من الدنيا وما فيها)) .
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ أي هذا التوجيه من باب علاقتنا بالآية، تسميه تطبيقاً عملياً؛ جيد، تسميه مغزى؛ جيد: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾
(( عن أبي هريرة: يا أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ طيِّبٌ ولا يقبلُ إلا طيبًا وإنَّ اللهَ أَمَرَ المؤمنين بما أَمَرَ به المرسلينَ. ))
نصيحة أقرب الناس إليك لأنك ستسأل عنهم:
﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)﴾
أقرب الناس إليك أولادك، زوجتك، إخوتك، أخواتك، أعمامك، أخوالك، جيرانك، زملاؤك، أصدقاؤك، هؤلاء الذين هم حولك، ألا تنطق بكلمة حق أمامهم؟ ألا تأخذ بيدهم إلى الله؟ ألا تشعر أن الله سيسألك عنهم؟ إن الله يسأل العبد عن صحبة ساعة، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن جابر عبد الله الأنصاري: بينما أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) ))
إيناساً له، تحبباً إليه، تقريباً له، تلطفاً به، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾ وجاء في صحيح مسلم:
(( عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَعْنَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قَالَ يَحْيَى: فَقُلْتُ لأَبِي سَلَمَةَ أَوِ اقْرَأْ، فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ فَقَالَ جَابِر:ٌ أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ قَالَ: فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ -أي جبريل عليه السلام-فَأَخَذَتْنِي وَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ وَقَالا فِي حَدِيثِهِمَا: فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ). ))
الصفات التي نعت بها الكفار سيدنا محمداً:
شيءٌ آخر متعلقٌ بهذه الآية: اجتمع أبو لهبٍ وأبو سفيان والوليد بن المغيرة في أيَّام الحج وهم يتساءلون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفوا في الإخبار عنه فمن قائلٍ: مجنون، وقد يسأل سائل: كيف ربنا جلَّ جلاله أثبت في القرآن الذي يُتلى إلى يوم القيامة أثبت قول الكُفَّار فيه؟
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
لأنه قدوةٌ لنا صلى الله عليه وسلم، الإنسان إذا دعا إلى الله أو عمل صالحاً الطرف الآخر لا يرضى عن ذلك، فقد يتهم الطرف الآخر من دعا إلى الله أو من عمل صالحاً بتهمٍ هو منها بريء، فتطييباً لقلب كل من دعا إلى الله إلى آخر الزمان أثبت الله قول الكفار في سيِّد الخلق وحبيب الحق، قالوا: مجنون، وقال آخرون: كاهن، وقال آخرون: شاعر، وتَعْلَمُ العرب أن هذا كلَّه لا يجتمع في رجلٍ واحد، فَسَمّوا محمداً باسمٍ واحد، اتفق أهل الكفر والعصيان على توحيد النعت الذي يُنعَتُ به النبي أي مجنون، شاعر، كاهن.
هذه الصفات الثلاثة لا تجتمع في واحد فاتفقوا على أن ننعت محمداً بنعتٍ واحد يجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: هو شاعر، فقال الوليد بن المغيرة: كلامُه ما يشبه كلام الشعراء، كلام محمدٍ شيء وكلام الشعراء شيءٌ آخر، فقالوا: إذاً كاهن، فقال: الكاهن يصدُقُ ويكذب وما كذب محمدٍ قط، فقام آخر وقال: مجنون، فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خَنَقَ محمدٌ أحدٌ قط، وانصرف الوليد إلى بيته، فقال خصومه: صبأ الوليد بن المغيرة أي أسلم لأنه دافع عن النبي، نفى عنه الشعر، نفى عنه الكهانة، نفى عنه الجنون.
فدخل عليه أبو جهل قال: ما لك يا أبا عبد شمس هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونك إيَّاه زعموا أنك قد صبأت، فقال الوليد: "ما لي إلى ذلك حاجة ولكنني فكَّرت في محمدٍ فقلت: ما يكون من السحر، فقيل: يُفرِّق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنَّه ساحر" .
أي بعد أن لامس الحقيقة، بعد أن قال الصواب وجد أنه سيفقد مكانته بين مجتمعه فعاد وانتكس وقال: إنه ساحر، وصاحوا يقولون: إن محمداً ساحر، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزوناً مُتَأَلِّماً أشدَّ الألم تدثر بقطيفةٍ ثم نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ النبي بشر، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر، تألَّم هو رسول الله، هم بين أن يكون مجنوناً، أو كاهناً، أو شاعراً، ثم اتفقوا على أنه ساحر لأنه يفرق بين المرء وأهله، كيف يُفَرِّق؟ الرجل يؤمن، امرأته لا تؤمن، تنشأ هوةٌ بينهما، الأخ يسلم، الأخ الثاني لا يسلم.
إحساسك بالغربة بين عامة الناس علامة إيمانك:
أنت الآن أقول لك بصراحة: إن لم تشعر بغربةٍ وأنت بين عامَّة الناس فأنت بعيدٌ عن الإيمان لأن:
(( عن أبي هريرة: هذا الدين بدأ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء. ))
أناسٌ صالحون في قوم سوءٍ كثير، إحساسك بالغربة علامة إيمانك، إن جلست بين أهل الدنيا، بين من شغلتهم الدنيا، شغلتهم أهواؤهم، شغلتهم شهواتهم، شغلتهم مصالحهم عن طلب العلم، وعن معرفة الله، وعن طاعة الله عزّ وجل، هؤلاء ضاعوا فإن استأنست بهم فأنت مثلهم، الإحساس بالغربة من علامة الإيمان، العلماء قالوا: "المؤمنون في غربةٍ مع غير المؤمنين، والموَحِّدون في غربة مع عامَّة المؤمنين، والسالكون إلى الله في غربةٍ مع غير السالكين" كلَّما ارتقيت في الإيمان شعرت أن الذين حولك ليسوا على مستواك، هذا نوعٌ من الغربة.
صفات المؤمن في الدعوة إلى الله:
الشيء الذي أكَّدته لكم قبل قليل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)﴾ ملاطفة في الخطاب، إيناس، تَحَبُّب إلى الله عزّ وجل، تكريم لهذا النبي وتذكير بمهمَّته الكبيرة: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ لذلك أيها الأخوة؛ من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلَّها، اعمل لوجهٍ واحد يكفك الهموم كلها.
حينما ينشأ في نفسك رغبةٌ في نشر الحق هذا همّ مقدَّس عندئذِ الله جلَّ جلاله يوفِّقُك، ويؤيّدك، ويَدْعَمك، ويطلق لسانك، ويهبك الحكمة التي هي أثمن شيء:
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾
﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ ، أي أنذر أهل مكة وحذِّرهم العذاب إن لم يسلموا، وأنذرهم أي أعلمهم أنك نبيٌّ من عند الله، وأنَّك رسول الله، وأنك تحمل رسالة، وقال: أنذرهم أي ادعهم إلى التوحيد لأنه المقصود بالدين، وقال بعض العلماء: "قُم فأنذر أي قم فصلِّ وائمر بالصلاة" .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علة خيرية هذه الأمة:
بالمناسبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفريضة السادسة، وهذه الأمة المحمَّدية التي استحقت أن تكون خير أمةٍ أخرجت للناس، علَّة هذه الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن لم يأمر بالمعروف ومن لم ينهَ عن المنكر فقد عطَّل فريضةً من أجلِّ الفرائض وعندئذٍ الحق يصغُر ويتقلَّص ويضعُف والباطل ينمو.
ضربت مرة مثلاً: أنك أنت عم، زارتك بنت أخيك فلم يعجبك مظهرها، ولا خروجها بهذه الثياب، لو بقيت ساكتاً أنت قصَّرت بواجبٍ دينيٍّ كبير، أما لو نصحتها، وبيَّنت لها صفة المرأة المؤمنة المسلمة، وكيف أن الاحتشام يزيدها قرباً من الله عزّ وجل، وكيف أن الأمر بيد الله، وأن زواجها بيد الله، وأنها إذا أطاعت الله عزّ وجل فقد فازت فوزاً عظيماً، ربما تأتيك في المرة الثانية بثياب محتشمة، وربما يغدو الاحتشام سلوكاً لها ثابتاً، تكلم، بيِّن حكم الله.
أحياناً الإنسان يُدعى إلى طعام وعليه خمر ماذا يقول؟ يقول لك: أنا معي القرحة لا أقدر أن أشرب الخمر، يا أخي قل: أنا مسلم، هذا محرَّم عندنا، أتستحي بدين الله عزّ وجل؟ بيّن، وضح، استقيموا يُستقم بكم.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ أي عظِّم، ما هو التسبيح؟ هو التنزيه، وقال بعضهم: "هو التمجيد" ، وقال بعضهم: "هو الخضوع" .
﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾
أي الله أجلّ وأكبر مما تصفون، أجلّ وأكبر أن يظلم العباد، أجلّ وأكبر أن يكون مِثْلَ عباده ليس كمثله شيء، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، أي عظم.
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
أي هو أكبر من أن يكون له صاحبةٌ وولد، قالوا: الملائكة بنات الله، هو أكبر من ذلك، فكلما كَبَّرته كلما عرفته، كلما اقتربت منه، وقد سأل الصحابة الكرام: بمَ نفتتح الصلاة؟ فنزل قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ أي صِفْهُ بأنه أكبر، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى يقول:
(( عن عمر بن الخطاب: الله أكبر.. ))
ومعنى الله أكبر أي أكبر من أي شيءٍ يشغلني عنه.
إذا الإنسان كان يعد مئة ألف ليرة، وشعر أن هذه الحاجة مائلة فترك العد وجعلها مستقيمة، هل يفعل هذا؟ هذا شيء سخيف جداً أنَّ الحاجة مائلة ليست متوازية مع طرف الطاولة، هو يعد مالاً، لا يوجد إنسان أثناء العد ينام، إنه يقبض مبلغاً، أو يدفع مبلغاً، إنه في يقظة، إذاً الإنسان إذا صلى وقال: الله أكبر أي الله أكبر من أي شيءٍ يشغلني عنه، من أي شيءٍ في الدنيا يشغلني عنه.
تطبيق الله أكبر قولاً وفعلاً:
شيءٌ آخر؛ روي أن أبا سفيان قال يوم أحد: اعلُ هُبَل، أي يُكبرون أصنامهم، اعلُ هُبَل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قولوا:
وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع تكبير العبادات كُلِّها ؛ آذاناً، وصلاةً، وفي أكثر العبادات.
الآن عند ذبح الأضحية: الله أكبر، عند تقبيل الحجر الأسعد: الله أكبر، عند الآذان: الله أكبر، عند الصلاة: الله أكبر، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ لكن ليس المقصود أن تقول: الله أكبر فقط، أنا مرة في خطبة العيد قديماً ذكرت أن الإنسان إذا أطاع مخلوقاً وعصى خالقاً لو قال بلسانه: الله أكبر ألف مرة هو في الحقيقة ما قالها ولا مرة لأنه رأى أن طاعة هذا المخلوق أكبر عنده من طاعة الخالق، لو أن الإنسان في بيته استجاب لرغبات زوجته المُنْحَرفة فكسب المال الحرام إرضاءً لزوجته وعصى الواحد الديَّان، لو قال في العيد: ألف مرة الله أكبر ما قالها ولا مرة، لأنه رأى أن إرضاء زوجته أكبر عنده من إرضاء الله، بينما صحابيٌّ جليل طالبته امرأته بشيءٍ من الدنيا -الشيء المباح-فقال: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهُن على أهل الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أُضَحِّي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهنَّ من أجلك" ، قال: الله أكبر.
لذلك المؤمن إذا دُعي إلى مخالفة، إذا دُعي إلى شيء لا يرضي الله يقول: الله أكبر، ما عنده أكبر، ما وعد به أولياءه من الجنة أكبر، ما أوعد عباده من العذاب أكبر، الله أكبر، وهذا هو الدين، وهذا هو الإيمان، أي الله أكبر أكثر العبادات تُفتتح بهذه التكبيرة أي أُعظِّم الله عزّ وجل.
بعضهم قال: من معاني الله أكبر في قوله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ أن الله أكبر مما تعرف. مهما عرفت عن الله فهو أكبر، مهما ارتقيت في سُلَّم الإيمان فهو أكبر، مهما اتسعت رؤيتك للحقيقة فالله أكبر، مهما شعرت أن الله عظيم فهو أعظم، لذلك من أدق التفسيرات لقوله تعالى:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
أيُّ ذنبٍ اقترفه النبي عليه الصلاة والسلام؟ العلماء وجَّهوا هذه الآية بمعنى أن كل رؤيةٍ رآها النبي رأى فيها عظمة الله عزّ وجل، الرؤية التي تليها هي أوسع وأشمل، فكأنه يستحي برؤيته السابقة وكأنها في حقِّه ذنب.
إنسان تعرف عنه الشيء الكثير ثم فوجئت أنه أكبر مما تعرف تستحي بمعرفتك المتواضعة، وفي النهاية لا يعرف الله إلا الله، النبي عليه الصلاة والسلام مع أنَّه سيِّد الخلق وحبيب الحق لم يعرف الله حقّ المعرفة، هو أعلى إنسان في معرفة الله، لكن لأن الله لا يعرفه إلا الله، إذاً الله أكبر، أكبر مما أعرف، مهما عرفت عن رحمته فهو أكبر، مهما عرفت عن عدله فهو أكبر، مهما عرفت عن لطفه فهو ألطف.
من معاني الثياب في قوله "وثيابك فطهر":
أيها الأخوة؛
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾
هذه الآية مهمة جداً، أول معنى من معاني الثياب: هو العمل ، الإنسان له ثوبٌ من عمله، الآن في جلسة يُذكر إنسان، جزاه الله خيراً، يُذكر إنسان ثان، أول كلمة: الله لا يوفقه، معنى هذا أن عمله ثوب له، فأول معنى من معاني: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي هذا العمل الذي هو لك كالثوب أنت متلبسٌ به، يوجد مستقيم ويوجد منحرف، يوجد رحيم ويوجد قاس، يوجد منصف ويوجد ظالم، يوجد صادق ويوجد كاذب.
أول معنى: وعملك فأصلح، عملك ثوبٌ لك، يقول لك: هذا يقول لك: أمين، الأمانة ثوب، هذا مستقيم، الاستقامة ثوب، هذا مُتْقِن، الإتقان ثوب، هذا مخلص، الإخلاص ثوب، هذا صادق، الصدق ثوب، هذا كاذب، الكذب ثوب، هذا خائن، الخيانة ثوب، هذا غير عفيف، عدم العفة ثوب، فثوبك أي عملك، كلما ذُكِرت ذُكِرَ معك عملك وكأنه ثوبٌ لك يحيط بك.
استعمالات كلمة الثوب في اللغة العربية:
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي أصلح عملك، يوجد تقصير؟ يوجد انحراف؟ يوجد كذب؟ يوجد اغتصاب لأموال الآخرين؟ يوجد احتيال؟ يوجد تدجيل؟ يوجد ابتزاز؟ عملك ثوبك الذي تَلْبَسُهُ دائماً ولا تستطيع أن تخلعه أبداً.
لو أن إنساناً فُضِح، هذه الفضيحة سَرَت بين الناس، أصبحت له كالثوب، متى ذُكِر تذكر فضيحته، متى تحرَّك يُشار إليه بأنه فعل كذا وكذا، والآن الفضائح توجد معها أفلام، يوجد تصوير، لا يستطيع أن يهرب من هذا الثوب الذي لبسه، هذا المعنى الأول: وعملك فأصلح.
لذلك العرب تقول: فلان خبيث الثياب، إذا كان عمله سيئاً، وفلان طاهر الثياب، إذا كان عمله صالحاً، وهذا من استعمالات كلمة الثوب في اللغة العربية، لأن القرآن الكريم نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين.
﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)﴾
أساليب العرب قبل الإسلام الثوب هو العمل، فلان طاهر الثوب أي عفيف، فلان خبيث الثوب أي عمله سيئ، والحقيقة الإنسان القوي أحياناً أو الغني يُمدح في وجهه فقط، العبرة لا ما يّقال أمامك بل ما يّقال في غيبتك، أنت تساوي لا ما يّقال في حضرتك بل ما يُقال في غيبتك، فإذا غبت عن الناس ماذا يّقال عنك؟ جزاه الله خيراً، والله صادق، والله كريم، والله محسن، مستقيم، ورع، هكذا، والإنسان المنحرف إذا تكلَّم الناس عنه في غيبته نهشوا عرضه، وأطلقوا لألسنتهم العنان.
المعنى الثاني: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي قلبك فطهِّر، لأن العمل أساسه القلب، الذي قلبه طاهر عمله طاهر، الذي قلبه فيه حقد وفيه حسد وفيه شهوة دنيَّة عمله سيئ، فهذا تحصيل حاصل، أي ثوبك قلبك الذي يصدر منه عملك، العمل سلوك، قبل السلوك إرادة، قبل الإرادة تصوُّر، قبل التصور عزم القلب، يوجد في القلب تساهل فيصبح الإنسان غير مستقيم، يوجد في القلب كبر، سلوكه فيه كبر، يوجد في القلب حقد، سلوكه فيه حقد، يوجد في القلب ظلم، إذاً هو يظلم، فالمعنى الثاني: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي قلبك فطهر.
عبدي طَهَّرت منظر الخلق سنين أفلا طهَّرت منظري ساعة؟ طهرت منظر الخلق أي الإنسان يطلي البناء، يرتدي ثياباً جميلة، ينظف مركبته لأنها منظر الخلق، أفلا ينبغي أن يطهر قلبه لأنه منظر الرب؟
(( عن أبي هريرة : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. ))
المعنى الثالث: النفس، ذات الإنسان، يوجد نفس طاهرة، يوجد نفس خبيثة.
﴿ عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)﴾
من هي ذات الصدور؟ نفسك التي بين جنبيك، هذا المعنى الثالث لـ: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي طهر عملك، وطهر قلبك، وطهِّر نفسك، والنفس ذات الإنسان، قالوا: طَهِّرها من الإثم والعدوان، طَهِّرها من المعاصي والآثام، طهرها من الغدر بالخُلان، هكذا قالوا، أي طَهِّر نفسك من كل شيْ لا يرضي الله عزّ وجل.
المعنى الرابع: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي وجسمك فطهِّر عن المعاصي الظاهرة، العين تزني وزناها النظر، توجد عين طاهرة أي تغض عن محارم الله، توجد أذن طاهرة لا تستمع إلى الغناء، يوجد لسان طاهر يذكر الله دائماً، توجد يد طاهرة تعطي، يوجد رجل طاهرة تحملك إلى المسجد ؛ أما الرِّجل التي تقود صاحبها إلى ملهى فهذه رِجلٌ نجسة، واليد التي يبطش بها الإنسان ظلماً يدٌ نجسة، والعين التي يتَّبع بها عورات المسلمين عينٌ نجسة، والأذن التي يستمع بها إلى الغيبة والنميمة وقول الزور والبهتان وفضائح الناس، ويستمع بها إلى الغناء أذنٌ نجسة، واللسان الذي يذكر عورات الناس لسانٌ نجس، إذاً: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي طَهِّر جسمك من المعاصي الظاهرة.
المعنى الخامس لقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي أهلك فطَهِّرهم لأن أهل الإنسان كالثياب له استناداً لقوله تعالى:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾
والله سبحانه وتعالى يؤكِّد هذا المعنى في آيةٍ أخرى، يقول الله عزّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾
أي زوجتك ألصق الناس بك، أولادك، بناتك، إخوتك، أخواتك، هؤلاء أهلك، هؤلاء عورتك، طَهِّرهم، أي اهتم بهم، دقق في صلاتهم، في طاعتهم، في حجابهم، في دينهم، في علمهم، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ هم ثيابك، هذا المعنى المتعلِّق بالأهل، المعنى الخامس.
والمعنى السادس: الثياب هي الخُلُق، أي يبدو منك أخلاقك، أخلاقك هي كالثياب، أنت إن نظرت إلى إنسان ماذا ترى؟ ترى ثيابه، وأخلاقه ثيابه، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي طهِّر أخلاقك من الدنَس، من الكذب، من الغيبة، من النميمة، من الحقد، من الكِبر، هذا أيضاً من معاني: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي خُلُق الإنسان مُشْتَمِلٌ على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه.
ويوجد معنى سابع: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي دينك فطهر : ابن عمر، دينك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ الدين عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا، دين، عقيدتك، هل بحثت عن عقيدةٍ صحيحة أم أن في ذهنك تعشعش الأوهام والأباطيل والخرافات والأحاديث الضعيفة والموضوعة والقصص التالفة والخرافات والكرامات التي لا تُصدَّق؟ ثيابك دينك، هل استقامت عقيدتك؟ هل قُمْتَ بواجباتك الدينية؟ هل عبدت الله حقّ العبادة؟ هل اتقيت الله حقّ التقوى؟ أن تذكره فلا تنساه، أن تشكره فلا تكفره، أن تطيعه فلا تعصيه، هذا المعنى السابع، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي دينك فطهِّر، هذا يؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم، في الصحيحين عنه عليه السلام قال:
(( عن أبي سعيد الخدري : رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر ابن الخطاب وعليه إزارٌ يجرّه -أي ثيابه سابغة- فقلت يا رسول الله: فما أوَّلت ذلك؟ قال: الدين. ))
الثوب هو الدِّين، يوجد إنسان ثوبه إلى خصره، يوجد إنسان ثوبه إلى أثدائه، يوجد إنسان ثوبه إلى رقبته، رأى عمراً يرتدي ثوباً سابغاً يجرُّه، قال: ما أوّلت ذلك؟ قال: الدِّين، إذاً استنباطاً من هذا الحديث الشريف: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ أي دينك فأصلح، اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
بقي المعنى الثامن: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ المعنى المتبادر للثياب، أي هذه الثياب التي ترتديها يجب أن تكون طاهرة، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن ابن عمر: لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاء. ))
(( عن عبد الله عن أبيه: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))
سيدنا الصديق قال:
(( عن سالم بن عبد الله: يا رسول الله إن أحد شِقَّي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال عليه الصلاة والسلام: لست ممن يصنعه خيلاء. ))
أنت فوق ذلك يا أبا بكر.
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ لا تجعلها مع الطريق، أو اغسلها من النجاسة وهو ظاهرٌ، لا تصلِّ في ثوبٍ غير طاهر، هذا معنى الثياب الطاهرة، أي يجب أن ترتدي ثياباً نظيفة، هذا المعنى، فإما أن تجعلها طاهرة بألا تكون سابغةً إلى درجة أنَّك تنظِّف بها الطريق، فالثوب المعتدل أنقى وأقرب إلى الله وأتقى.
علامة حبك لله اتباعك لرسوله :
شيءٌ أخير في هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)﴾ الثوب الأهل، والثوب القلب، والثوب النفس، والثوب العمل، والثوب الثياب التي أُمِرنا أن نطهِّرها دائماً، والقرآن كما قال الإمام عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "حمَّال أوجه" .
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾
وهذه الآية الأولى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ اسأل نفسك هذا السؤال: هل ساهمت في حياتك بهداية إنسانٍ واحد؟ هل فكَّرت أن تنقل حقيقةً للآخرين؟ هل أردت أن تصطحب أحداً إلى بيت الله؟ هل دخل إلى قلبك رغبةٌ حميمةٌ أن تنقذ إنساناً من الكفر؟ من الضياع؟ من المعصية؟ هذا ما نستفيد منه من هذه الآية: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (2)﴾ طبعاً في حدود ما تعلم، وفي حدود من تعلم، وهذه الدعوة إلى الله على هذين المستويين فرض عينٍ على كل مسلم، ومن قصَّر بهذا فهو ليس متبعاً لرسول الله، ومن علامة حبك لله اتباعك لرسول الله.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع هذه الآيات:
﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
الملف مدقق