وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة المدثر - تفسير الآية31 معرفة الله من خلال أفعاله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

  ولاء الملائكة لله عز وجل:


أيها الإخوة الكرام: مع الدرس الخامس من سورة المُدَّثِر، ومع الآية الكريمة الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:

﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)﴾

[ سورة المدثر ]

تروي كتب التفسير أن أبا جهل قال: أيعجز كل مئة منكم أن يبطش بواحدٍ منهم من هؤلاء التسعة عشر؟ أيعجز كل مئة منكم أن يبطش بواحدٍ منهم ثم تخرجون من النار؟ تفكير عميق جداً أن مئة لواحد فقال الله عزَّ جل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ من جنس آخر، لا من جنس البشر، أي إذا بدا جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام ملء الأفق، فهؤلاء الملائكة ليسوا من جنس البشر، وقد حلل بعض علماء التفسير حكمة أن الذين يعذِّبون الكُفَّار في النار ليسوا من جنس البشر، لأنهم لو كانوا من جنسهم لكان هناك مقاربة في القوة فقد يغلب المُعذَّب المُعذِّب، ولو كانوا من جنسهم لتعاطفوا معهم، ولو كانوا من جنسهم لما كانوا في نُصرة لله عزَّ وجل، فالملائكة من جنسٍ آخر، لا يتعاطفون مع هؤلاء العُصاة الفُجَّار، كما أن ولاءهم لله وحده، فلا يمكن أن يكون هناك تخفيف.
 

عدم تعاطف الملائكة مع الكفار:


أحياناً يأتي أمر بإيقاع عذاب معين بشخص، المنفِّذ قد يخفف هذا الأمر، قد يأتي بربعه، قد يعذِّب عذاباً شكلياً إذا كان هناك تعاطف، فإذا توهَّم أبو جهل أن كل مئة من كفار قريش يصرعون واحداً من هؤلاء التسعة عشر فتفكيرٌ مضحكٌ سخيف، قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ الملائكة ليسوا متعاطفين مع هؤلاء العُصاة والكفار، ولاؤهم لله وحده، لو كانوا من جنسهم لتعاطفوا معهم، ولا يمكن بحال أن يُخفِف الملائكة بعض العذاب عن هؤلاء، الآية الكريمة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)﴾

[ سورة التحريم  ]

ليس من الحكمة أن يكون هذا الذي كُلِّف بتعذيب هؤلاء لطيف: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ .
 

معرفة الله من خلال خلقه:


إذاً: هذا تفكيرٌ محدود وينمُّ عن جهل، ولكن أنا أريد أن أقف وقفةً تُوَضِّح أعماق هذه الآية، الله جلَّ جلاله لابدَّ من أن نعرفه، هناك طرق لمعرفته، إنَّ أسلم الطرق وأنجعها أن تعرفه من خلال خلقه، ترى عظمةً ما بعدها عظمة، ترى حكمةً ما بعدها حكمة، ترى دقةً ما بعدها دقة، ترى نظاماً ما بعده نظام، ترى إعجازاً ما بعده إعجاز، أما لو أن المشاهد جَهِلَ، غفل عن معرفة الله من خلال خلقه، وأراد أن يعرفه مثلاً من خلال أفعاله، فالطريق شائك، هذا الطريق محفوف بالألغام، ماذا يرى المشاهد؟ يرى مجاعة، ويرى عدواناً، ويرى تَصَحُّراً، ويرى نقص مياه في العالم، ويرى فقراً شديداً، فإن أردت أن تعرف الله من خلال أفعاله هذا الطريق يوصل ولكن بصعوبة، سالك بصعوبة، فيه ألغام كثيرة، وإن أردت أن تعرف الله من خلال كلامه فقط تقرأ الآية الكريمة:

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾

[ سورة السجدة ]

تقع في إشكال، أي أن الله عزَّ وجل ما شاء أن يهدي الناس، لو شاء لهداهم، فلذلك طريق معرفة الله من خلال كلامه طريق يحتاج إلى تَبَصُّر، من هنا قال أصحاب رسول الله رضي الله عنهم أجمعين: "أوتينا الإيمان قبل القرآن" هناك آيات كثيرة شاءت حكمة الله أن تكون متشابهة.
 

التفكر في خلق السماوات والأرض:


﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ فإذا الإنسان ليس له معرفة بالله عميقة جداً يقع في إشكال مع هذه الآية، مع أن معنى هذه الآية دقيق جداً: أي يا عبادي لو أردت أن أُلغي اختياركم، وأن أُلغي تكليفكم، وأن أُلغي حمل الأمانة، وأن أجعلكم كبقية المخلوقات التي لا اختيار لها، وأجبرتكم على شيءٍ ما، لما أجبرتكم إلا على الهدى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ لكن هذا المعنى الدقيق هذا لا يُفهَم إلا بعد مرحلة متقدِّمة من الإيمان، فربنا عزَّ وجل شاءت حكمته أن يكون في كتاب الله بعض الآيات المتشابهة، هذه تحتاج إلى إيمان قبل أن تقرأها.

﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)﴾

[ سورة فاطر ]

هكذا، قد تفهم هذا الآية على نحوٍ ما أراده الله عزَّ وجل، إذاً الطريق السليم الآمن الموصل الذي لا يوجد فيه أخطار، لا يوجد فيه ألغام، لا يوجد فيه مفاجآت أن تتفكر في خلق السماوات والأرض، أبو جهل اسم على مسمَّى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ .
 

الإنسان الغافل عن الله لا يفهم القرآن المبين:


﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ هم قلة، نحن أكثر، كل مئة على واحد انتهى كل شيء، كل مئة على واحد يصرعونه ويخرجون من جهنم، هذا أراد أن يعرف الله من خلال كلامه وإيمانه صفر، أما إذا آمنت بالله إيماناً عميقاً عندئذٍ أنت أقرب الناس. 
ذكرت قبل يومين أن القرآن الكريم لا يكفي أن تُتقن العربية لفهمه، لأن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)﴾

[ سورة الشعراء  ]

نزَّلنا هذا الكتاب على إنسان فارسي أو على إنسان تركي أو على إنسان صيني، فقرأ عليهم هذا القرآن باللغة الصينية أو الفارسية أو التركية، لا يفقهون شيئاً، قال:

﴿ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)﴾

[ سورة الشعراء  ]

أي هذا القرآن العربي المبين الواضح المعجز إذا الإنسان قرأه وهو غافل عن الله، بعيد عن الله، بعيد عن الاتصال بالله، يفهمه كما يفهم كتاباً باللغة الفارسية.

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)﴾

[ سورة الشعراء  ]

الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾

[ سورة فصلت  ]

وقال: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ ، وقال:

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)﴾

[ سورة الإسراء  ]

فهو عمى على الكفار، ويزيد الظالمين خساراً، لأنه يُنادى من مكانٍ بعيد، والله عزَّ وجل يبيِّن أنه لابدَّ من أن تؤمن بالله قبل أن تقرأ كلامه.
 

الإيمان شرط للوصول إلى الله:


أنت أحياناً تلتقي بإنسان لا تعرف عنه شيئاً إطلاقاً، قال لك: أنا معي ألف مليون، تضحك من هذا الكلام، لو تعرف حجمه المالي حقيقةً لما ضحكت، لذلك الطريق إلى الله؛ طريق كلامه يحتاج إلى إيمان مسبق، وطريق أفعاله يحتاج إلى إيمان مسبق، طريق أفعاله حقل محفوف بالألغام، أنت ماذا ترى؟ ترى مشكلات في العالم، ترى دولاً متجبِّرة ودولاً مقهورة، ترى مجاعات، ترى فيضانات، ترى سيولاً، ترى زلازل، ترى براكين، ترى أعاصير، ترى شحاً في المياه، ترى حروباً طاحنة، ترى حروباً أهلية تدوم أربعين عام أحياناً، الحرب العالمية الثانية فيها خمسون مليون قتيل، فقد تأخذ صورة غير صحيحة، هناك حكمٌ ما بعدها حِكَم، العبرة أن توحِّد، أن ترى يد الله تفعل في كل شيء، فلذلك الله جعل لنا مثلاً قال: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ تسعة عشر ملكاً، فجاء إنسان غافل عن الله قال: هؤلاء قلة، نحن نغلبهم وننجو من هذا العذاب.
 

آيات الله امتحان للإنسان:


قال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ما معنى فتنة؟ أنت أحياناً تقول كلاماً واضحاً كالشمس، لكن هناك كلام له فائدة، يوجد كلام تمتحن به الآخرين، مثلاً لو قلت لك: أعط فلاناً ألف درهمٍ، لا يوجد مشكلة، واضح، أما أعط فلاناً ألف درهمٍ ونصفه، هنا تدخل النفوس، البخيل يقول لك: ألف ونصف درهم، لأن الهاء تعود على الدرهم، أما الكريم فيقول لك: ألف وخمسمئة لأن الهاء تعود على الألف، فهذا كلام احتمالي لكن في الوقت نفسه فيه امتحان، الله عزَّ وجل يمتحن هذا الإنسان، فربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تصور مثلاً حقل سباق، نأتي بمئة حصان مثلاً كلها تجري في هذا الحقل، لو وضعنا عقبة    أي مرتفعاً فبعض هذه الأحصنة لا تستطيع تخطي هذه العقبة، هذه العقبة ما فائدتها؟ هذه تعطي فرزاً، منهم خمسة ضعاف ما أمكنهم تجاوز هذه العقبة، لو رفعنا العقبة سقطوا عشرين، لو رفعناها أكثر سقطوا خمسين، لو رفعناها أكثر وأكثر سقطوا تسعين، فهذه العقبات التي توضع أمام الخيول في أثناء جريها هي فارزة لها، فربنا عزَّ وجل أنزل هذا الكتاب على النبي الكريم، يوجد آيات تفرز المؤمنون، ويوجد آيات متشابهة، إنسان ميَّال للربا، مُصِر عليها، يقرأ قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)﴾

[ سورة آل عمران  ]

أنا آكله ضعفاً واحداً، نسبة قليلة، فأنا لست معنياً بهذه الآية، يفهمها كما يريد، كما يحلو له، فالقرآن الكريم فيه أيضاً امتحان، لذلك قالوا: تؤخذ ألفاظه من حُفَّاظه، وتؤخذ معانيه ممن يعانيه، القرآن يحتاج إلى قرب من الله، القرآن يحتاج إلى إيمان بالله، القرآن يحتاج إلى أن تعرف من هو المتكلم؟ خالق السماوات والأرض.
 

معرفة الله من خلال أفعاله وكلامه:


من هنا قال بعض الصحابة الكرام: "أوتينا الإيمان قبل القرآن" ، لمّا آمنا بالله فهمنا كلامه فهماً صحيحاً وكنا في المستوى الذي ينبغي.
كذلك إذا نظرت في أفعاله قد تجد أمراضاً وبيلة، قد تجد طفلاً مات في المهد، قد تجد شاباً مات في حادث عمره ثلاثون سنة لم يتزوَّج، إنسان عمّر مئة وثلاثين، قد تتساءل، لذلك لا تستطيع فهم أفعاله إلا بعد معرفته، مثل بسيط: لو طفل رأى طفلاً يضربه رجل، يقول لك: هذا الرجل ظالم، أما لو رجل رأى رجلاً يضرب ابنه، يقول لك: يربِّيه، اختلف، الطفل توهَّم أن هذا الإنسان يظلمه، أما الرجل الذي عنده مشاعر الأبوَّة عَلم أن هذا الرجل يؤدِّب ابنه لذنبٍ كبير حتماً، ما الذي جعله يفهم صواب فعل الرجل؟ قربه منه.
الذي أريد أن أقوله هنا: خطر كبير أن تعرف الله من خلال أفعاله فقط، لأنه لا يمكن أن تفسِّرها إلا بحالة واحدة أن يكون لك علمٌ كعلمه، وهذا مستحيل، هناك أمثلة كثيرة جداً، إنسان قد يجد مرضاً عضالاً ألَمَّ بإنسان فسحقه سحقاً، أنت لا تعرف عن هذا الإنسان شيئاً، قد يكون هذا عقاباً له، وقد يكون ترقية، هناك حكمةٌ.
 

تعلق إرادة الله بالحكمة المطلقة:


نحن لدينا قاعدة: كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، هذا السطر يحل مليون مشكلة، كل شيء وقع يجب أن تؤمن إيماناً جازماً أن الله أراده، الدليل: لو لم يرده لما وقع، لأنه لا يقع شيءٌ في ملك الله إلا إذا أراده الله، مستحيل ما دام وقع.
وتوجد مقولة رائعة جداً: لكل واقعٍ حكمة، قد يكون الذي أوقع هذا الشيء غير حكيم، أحمق، مجرم، لكن ما دام هذا الشيء قد وقع فليس لكل موقعٍ حكمة، لكل واقعٍ حكمة، الشيء الذي وقع هناك حكمةٌ ما بعدها حكمة منه، قد نعرفها وقد لا نعرفها، قد نكشفها وقد لا نكشفها، قد نكشفها بعد حين، وقد نكشفها بعد أمدٍ طويل، وقد لا نكشفها، نحن غير مكلَّفين أن نستقصي حكمة الله من أفعاله، هذا فوق طاقة البشر. 
 

لكل واقع حكمة:


طبعاً قصة ذكرتها كثيراً لكن الآن تفيدنا كثيراً: إنسان استوقفني مرة بالطريق قال لي: فلان خرج من بيته إلى دكانه في أحد أسواق دمشق الشهيرة المغطاة، وسمع إطلاق رصاص، اثنان يتشاجران، مدّ رأسه فإذا برصاصةٍ تستقر في عموده الفقري تشلُّه فوراً، فهذا الإنسان فكَّر، هذه: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ ليس له ذنب، إنسان بريء جاء إلى هذا المحل التجاري وهو محله ليفتح المحل، وليبيع ويشتري، ويكسب قوت أولاده، قال لي: ماذا فعل؟ أجبني؟ قلت له: أنا ليس لدي جواب، أنا غير مكلف أن أستقصي حكمة أفعال الله كلها، هذا فوق طاقتي.
أنا مؤمن إيماناً إجمالياً أن الله حكيم وعادل ورحيم، أما هذه بالذات أنا لا أعرف تفسيرها، طبعاً حكمة إلهية الله سخرها، بعد عشرين يوماً أحد إخواني الكرام قال لي: أنا ساكن في الميدان بالمحل الفلاني، لنا جار بالطابق الأعلى أو الأدنى لا أذكر آكل مال أيتام، مال أولاد أخيه، والمبلغ كبير، ويساوي ثمن بيت، وأولاد أخيه في أمسِّ الحاجة لهذا المال ليشتروا بيتاً به، يمتنع عن إعطاء حقهم، شكوه لأحد علماء دمشق توفِّي رحمه الله، فاستدعاه وحضَّه على دفع ما عليه فرفض، قال لي بالضبط قال لهم: يا بني إيَّاكم أن تشكوه إلى القضاء فهذا لا يليق بكم ولا به، هو عمكم والعم والد، اشكوه إلى الله، هذا الكلام تمّ في الساعة التاسعة مساءً، هذا الشخص نفسه الذي نزل إلى محله التجاري، وسمع إطلاق رصاص بين اثنين متشاجرين، ومدّ رأسه ليرى ما الخبر، فإذا برصاصة تستقر في عموده الفقري، أنا لا أعلم الحكمة وقتها، لكن أُتيح لي لحكمةٍ أرادها الله أن يأتي إنسان يعطيني هذه القصة التي فسَّرت لي الحدث الأخير، من الصعب أن تعرف الله من أفعاله، الله له حكم.

  امتحان الله للإنسان في الدنيا من أجل أن يتوب إليه:


يوجد شيء ثان أهم بكثير؛ هذه الدنيا محدودة، الله خلقنا لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، فربنا أحياناً يُضَحِّي لنا بدنيانا من أجل أن نتوب إليه، أصحاب الجنة أتلف كل محاصيلهم، محصول ثمنه خمسمئة ألف فرضاً تجده كله منتهٍ؟ دَمَّر لهم كل محاصيلهم، ليقولوا: 

﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾

[ سورة القلم ]

ليقولوا هذه الكلمة وليتوبوا إلى الله، أنت إذا كنت غنياً كبيراً وابن صغير ومعلِّق عليه آمالاً كبيرة، وفحصه على الأبواب، ويمضي وقته كله بلعبة، واللعبة غالية وأنت غني فجئت ودهستها برجلك، حطمتها برجلك، قلت له: ادرس، هو الطفل متعلق بهذه اللعبة، بكى بكاءً مراً من أجلها، شيء ثمين عنده، لكن عند الأب ليس لها قيمة، سحقها وحطَّمها من أجل أن يلتفت إلى دراسته، إلى مستقبله، فالدنيا على الناس غالية كثيراً.
إنسان يفلس، إذا كان لا يصلي وبعد أن فلس صار يصلي فقد ربح ربحاً كبيراً، إنسان لا يوجد فيه دين، بعدما جاءه شبح مرض مخيف فتاب، ربح ربحاً كبيراً، المرض شر نسبي، والتفليسة شر نسبي، ومحله احترق شر نسبي، أما في منظور الله عزَّ وجل فالله ناظر إلى الآخرة، خير مطلق.
 

تعلق حكمة الله بالخير المطلق:


أول نقطة إخواننا الكرام: كل شيء وقع أراده الله، لأن لكل واقعٍ حكمة، لكل واقعٍ ما دام وقع فهناك حكمة، قد يكون الفاعل أحمق، قد يكون مجرماً، لا يهمنا، ما دام الله سمح له أن يفعل إذاً لكل واقعٍ حكمة، كل شيءٍ وقع أراده الله، بالعكس: كل شيءٍ أراده الله وقع، أي: 

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

مهما كانوا أقوياء يتهافتون كبيت العنكبوت، قلعة من قلاع الإلحاد تداعت كبيت العنكبوت، لا يوجد عند الله قوي، الله هو القوي، إذاً إذا أراد شيئاً وقع، الله عزَّ وجل فعَّالٌ لما يريد، الذي أراده يقع، والذي وقع أراده.
الآن: إرادته متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، معنى الحكمة المطلقة أي هذا الذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً، أو لو وقع على خلاف ما وقع لكان الله ملوماً، أو لعُدَّ هذا نقصاً في حكمته، والذي وقع أراده الله، وإرادة الله متعلقةٌ بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، اسمع قوله تعالى:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران  ]

لو قال: والشر اختلف المعنى، أي إيتاء الملك خير، ونزعه خير، تعز من تشاء خير، تذل من تشاء خير: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
 

الكون هو الطريق الآمن لمعرفة الله تعالى:


هذه المُقدمة أيها الإخوة الطريق السليم الآمن لمعرفة الله الكون، أقصر طريق إلى الله وأوسع باب.

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾

[  سورة آل عمران  ]

هل تريد أن تكون معطِّلاً لكتاب الله لا سمح الله ولا قدر؟ لما ربنا عزَّ وجل يقول لك:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾

[ سورة الغاشية  ]

هذا أمر إلهي.
 

التفكر في خلق الإنسان لمعرفة قدرة الله:


يوجد عندنا قاعدة أصولية: كل أمرٍ يقتضي الوجوب. 

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25)﴾

[ سورة عبس  ]

تحلية لتر ماء يكلِّف خمس عشرة ليرة، اللتر، فهذا الماء الذي تشربه محلى، مصفى، فرات، عذب، من جعله عذباً فراتاً وكان ملحاً أجاجاً؟ انظر إلى طعامك، وإلى شرابك.

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)﴾

[ سورة الطارق  ]

باللقاء الزوجي يوجد خمسمئة مليون حوين، والحوين يوجد عليه مليون معلومة مبرمجة، الخمسمئة مليون حوين بسنتيمتر مكعب، أو اثنين سنتيمتر مكعب، والحوين الواحد عالم قائم بذاته، والبويضة قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ*﴾ .
 

التفكر في الآيات الكونية للوصول إلى الله:


اجمع الآيات التي تتحدث عن الكون تقريباً ربع القرآن، فإذا الإنسان لم يفكر في هذه الآيات عطَّلها، عَطَّل رُبع كتاب الله، هذا خطأ كبير، إذاً طريق معرفة الله من خلال الكون طريق آمنة وسالكة، والكون أوسع بابٍ للدخول منه على الله، وأقصر طريقٍ إليه، يوجد طريقان آخران، طريق أفعاله طريق ضيِّق ومحفوف بالألغام وسالك بصعوبة، فيه مشكلات، يوجد حروب، يوجد فقر، يوجد قوي ويوجد ضعيف، يوجد ظالم ويوجد مظلوم، يوجد فروقات اجتماعية كبيرة جداً هذه لا تعرف حكمتها إلا أن يكون لك علمٌ كعلم الله، وكلامه:

﴿ الم (1)﴾

[ سورة البقرة  ]

الله أعلم بمراده.

القرب من الله يقودنا إلى التفسير الصحيح:


بعضهم قال: 

﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾

[ سورة المدثر ]

 لماذا ليسوا عشرين؟ عشرون رقم صحيح، كلن هذا أحسن، تسعة عشر، يوجد أشياء تتحدى عقل البشر، فهذه المقدِّمة: إذا أردت أن تعرف الله ابدأ بمعرفته من خلال خلقه، بعد ذلك أصبح عندك نوراً، هذا النور يكشف لك أفعاله.
مثل بسيط: طفل صغير رأى طفلاً يضربه أبوه، قال: أبوه ظالم، لأن رؤيته محدودة جداً، أما صديق الأب يعلم علم اليقين أن ابنه ارتكب ذنباً كبيراً وهو يؤدِّبه ويضربه رحمةً به، اختلف التفسير، فكلما كنت أقرب إلى الله كان التفسير أوضح وأصح، وكلما كنت أبعد كان التفسير خطأ، هذا عن أفعاله، وعن كلامه أيضاً الصحابة قالوا: "أوتينا الإيمان قبل القرآن" ، هذا معنى قوله تعالى كل هذا التمهيد: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عملية فرز.
 

اختبار الله العباد لفرزهم:


اللهم صلّ على سيدنا محمد بعثه الله رسولاً، لابأس، أنزل عليه قرآناً، لابأس، أما عندما عرج به إلى السماء، وقال له: أخبرهم، هذا شيء صعب جداً، ما قبلوه رسولاً، حتى يقبلوه سافر إلى القدس ورجع ببضعة دقائق، هو كان يتمنَّى من أعماقه ألا يقول لهم ذلك، هم كذَّبوه في الأصل، وفوق تكذيبهم كيف يقول لهم: أنني أنا كنت في السماء، وتخطيت بيت المقدس، وعرجت إلى السماء، فهذا قد قالوا: الإسراء والمعراج كان فرزاً للمؤمنين، جاء قبل الهجرة، يوجد عملية تحميل، أي شرفة منسمة إخواننا المهندسون يعرفون هذا الشيء ماذا نفعل تجاهها؟ نضع لها عشرة براميل من الماء فإذا وقعت هذا هو المقصود نكشف خللها، إذا ثبتت معناها جيدة، نطمئن، عملية تحميل.
فربنا أحياناً يفعل شيئاً أولاً لفرز عباده، أو يُحَمِّلهم، فإما أن يكشف لهم أنهم بعيدون عن الإيمان أو أنهم يصمدوا، فإن صمدوا عرفوا أنهم صامدون والله عزَّ وجل أكرمهم بعد ذلك، لا تنتظر أن القضية سهلة، أنا آمنت وانتهى كل شيء.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

هل من الممكن طالب بالجامعة أن يقدِّم طلباً لرئيس الجامعة أنا أشعر أنني قوي بالرياضيات، فيرجى إدراج اسمي مع الناجحين، وإعطائي مرتبة امتياز الأولى، التوقيع فلان، من دون فحص، يقول له: أنا واثق من نفسي، شيء مضحك، لا يمكن أن تأخذ شهادة من دون امتحان، والامتحان صعب: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ .
 

امتحان الله لكل إنسان على قدر ما يستطيع:


معرفة الله من خلال قرآنه تحتاج إلى إيمان مسبق، ومعرفة الله من خلال أفعاله تحتاج إلى إيمان مسبق، أما إن بدأت فابدأ بخلقه لا إشكال، قيل: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا، ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقيل: إلا عذاباً للذين كفروا، لأن الله عزَّ وجل يقول:

﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)﴾

[ سورة الذاريات  ]

أي عملية فرز، الامتحان هكذا، مرة كنا في الجامعة، الصف الذي أعلى منا جاء سؤال، الدكتور في الجامعة كتب نصاً، قال ابن المقفَّع كتب نصف صفحة، اشرح هذا النص؟ الطلاب ثلاثمئة وخمسون طالباً، النتيجة سطر واحد: لم ينجح أحد، لماذا كلهم شرحوا النص؟ هذا النص بعيد عن خصائصه عن كلام ابن المقفع، فكيف صدَّقوا أنه له؟! فالذي ينجح هذا النص ليس لابن المقفع، لأن خصائصه الأدبية بعيدة عن أسلوبه، هم لم ينتبهوا، فكان هذا النص عملية فرز، من عَطَّل محاكمته، عَطَّل ذوقه الأدبي، عطّل فهمه العميق للنص وشرحه شرحاً آلياً، فرسب عنده، يوجد امتحانات، والله عزَّ وجل حكيم، يمتحن كل إنسان على قدر ما يستطيع، فهذا الرقم قال:

﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)﴾

[ سورة المدثر ]

 

عدم الإكثار من الجدل:


سيدنا الصديق لما قيل له: تعالَ اسمع ما يقول صاحبك، قال: إنه عرج إلى السماء، فقال: هو قال هذا؟ قالوا: نعم، قال: فقد صدق، هذا الإيمان، إن قال هذا فقد صدق، فأحياناً الله يمتحننا بامتحانات عبودية، سيدنا إبراهيم قال له الله: اذبح ابنك، ليست معقولة،  ليست مقبولة، ليست معقولة، غير محتملة، قال له: سمعاً وطاعةً يا رب، قال:

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾

[ سورة الصافات ]

يوجد شيء اسمه: امتحان عبودية، الله قال لك: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ انتهى، يوجد حكمة بالغة، أما لماذا ليسوا عشرين؟ لماذا ليسوا خمسة وعشرين؟ اجعلهم مئة، خمسة، صار هناك مناقشة، أنت تناقش خالق الكون: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أي الذين آمنوا، كعبد الله بن سلام، أو الذين أوتوا الكتاب لأن هذا الرقم عندهم أيضاً، إما ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من أن القرآن كالإنجيل والتوراة من مصدر واحد، أو لأن بعض الذين آمنوا بالإسلام يستيقنوا أن كلام الله هو الصحيح، ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً﴾ .
 

مكافأة الله لمن ينصاع لأمره:


الحقيقة توجد نقطة مهمة جداً، أحياناً الإنسان يتلقَّى أمراً إلهياً ما فهم حكمته، لكن لأنه يعلم أن الله الذي خلق السماوات والأرض حكمته لا شك فيها فيستسلم لحكمةٍ يصدِّقها ولا يراها -دقق في هذا الكلام-أحياناً تجد أن هناك حكماً شرعياً، لماذا الله عزَّ وجل ما ورَّث أبناء الذين توفي أبوهم في حياة جدهم؟ يا ترى هل يوجد نقص بالشريعة؟ الله عزَّ وجل نسي أن يورثهم؟ لا يوجد لهم ورث، فالمؤمن عنده علم اليقين أن الله عزَّ وجل حكيم فيستسلم لحكمة الله، لأنه استسلم لحكمته العامة غير التفصيلية فربنا عزَّ وجل يكرمه بكشف حكمة عدم توريث هذا الإنسان، فيكون جَمَعَ الإنسان الحُسْنَيين؛ جمع العبادة ثم أضاف إليها الحقيقة، فكل إنسان ينصاع لأمر الله استسلاماً له يكافئه الله عزَّ وجل بكشف الحكمة، فكسب مرتبة العابدين ومرتبة العلماء، العلماء قالوا: "علة كل أمرٍ أنه أمر" .
 

حكمة الله وراء أوامره ونواهيه:


أحد علماء دمشق الأكارم كان بأمريكا يناقش عالماً أسلم حديثاً عن مضار لحم الخنزير، ذكر له تفاصيل، ذكر له الدودة الشريطية، ذكر له انتقال طباع الخنزير إلى الإنسان، يقول لك: فلان مخنزر، لأن الخنزير يقارب امرأته أمام بقية الخنازير، فإذا شخص أكل لحم الخنزير يتطبع بطباعه، بعدما أسهب قال له: كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرَّمه، الأمريكي كلامه أبلغ، قال له: كان يكفيك أن تقول لي: إن الله حرمه، خالق الكون حرمه، انتهى.
سألوا امرأة ببرنامج مفتوح بين القارات الخمس عن رأيكِ في تعدد الزوجات؟ امرأة من بلد إسلامي، قالت: كيف تطلب رأيي والله سمح به؟! من أنا؟ إذا كان الله سمح به أنا ليس لي رأي في الموضوع، يوجد كلام عميق جداً، فأنا الذي أريده أن تعرف الله، إن عرفته فسَّرت أفعاله، أن تعرف الله، إن عرفته فسَّرت كلامه: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ يوجد شخص لو تفرمه لا يصدق أن الله يضل عباده، لكن أضلّه أي وجده ضالاً، أنا عاشرت هؤلاء فما أبخلتهم (بالمعاجم): أي ما وجدتهم بخلاء. 

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾

[ سورة الكهف ]

أي من وجدناه غافلاً، أما قد يفهم إنسان منحرف أن الله خلق فيه الغفلة، أو خلق فيه الضلال، لا.
 

الكون طريق المعرفة السالك:


إذاً: يجب أن تعرف الله قبل أن تقرأ كلامه، ويجب أن تعرفه قبل أن تنظر في أفعاله، طريق المعرفة السالك والآمن والمحصَّن طريق الكون، طريق أفعاله يحتاج أن تعرفه قبل أن تنظر في أفعاله، وطريق كلامه يحتاج إلى أن تعرفه قبل أن تقرأ كلامه.
 

ازدياد إيمان المؤمن بعد كشفه حكمة الله تعالى:


﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً﴾ فالإنسان أحياناً يستسلم إلى الله، تُكشف له الحكمة فيزداد إيماناً.
﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ معناها:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)﴾

[ سورة الأنعام  ]

إذاً هذه الآية هي آية دقيقة جداً، مُفادها أنها امتحان، وأنها فرز، وأنها تعريف في إيمان المؤمن: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي المنافقون، أو المختلفون، ﴿وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ .
 

عظمة الله في خلقه:


الله عزَّ وجل قال:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)﴾

[ سورة البقرة  ]

بعوضة!! هذه البعوضة! إله عظيم، أنت هل تعلم أن هذه البعوضة لها ثلاثة قلوب؟ قلب مركزي، وقلب لكل جناح، وأن جناح البعوضة يرف أربعة آلاف رفة في الثانية، وأن هذه البعوضة تملك جهاز رادار، تتحرَّك في الليل المظلم بأشعة رادار، تأتي على جبين النائم مباشرةً لا تخطئ، وأن هذه البعوضة معها جهاز تحليل دم، هناك دم لا يناسبها، إذا نام أخوان على فراش واحد، الأول يلسع، والثاني لا يوجد فيه شيء.
وهذه البعوضة يوجد عندها جهاز تمييع دم لأن خرطومها دقيق جداً، فإذا كان الدم غير مميَّع لا يمر، وأن هذه البعوضة عندها جهاز تخدير، أنت تضربها تكون قد طارت، تخدرك أولاً، وتأخذ الدماء، ينتهي المخدر تجد نفسك مقروصاً، تعمل هكذا فإذا هي قد طارت إلى الأعلى، جهاز رادار، وجهاز تحليل، وجهاز تخدير، وجهاز تمييع، ولها مخالب إذا كان سطح خشناً، ولها محاجم إذا كان لها سطح أملس على الضغط، ولها مخالب، وجناحاها يرفان أربعة آلاف رفة في الثانية، ولها ثلاثة قلوب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ ما هذا؟ بعوضة!! أنت لو تعرف ما البعوضة تخشع لله عزَّ وجل.
 

الإضلال الجزائي المبني على إضلال اختياري:


﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ ليسوا كُثُر، كل مئة على واحد ينتهون، هكذا قال أبو جهل، وهو اسم على مسمى، كل مئة لواحد ينتهون فنخرج من النار. 
قال: ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ إذا عُزِيَ الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، أو يُضلّهم عن شركائه، أو يجدهم ضالين، تحب أن تقول: وجدهم ضاليّن، أو أضلّهم عن شركائه ليلتفتوا إليه، أو أضلَّهم ضلالاً جزائياً أساسه ضلال اختياري، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ أي ملايين مُمَلينة، الحديث الشريف أنه لا يوجد مكان بالسماء إلا وفيه ملك. 
 

استسلام الإنسان لله عز وجل:


﴿وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ إما النار التي نستخدمها هي ذكرى للبشر، أي الإنسان لو وضع يده على لهب يقفز قفزاً سريعاً فكيف إذا وُضِع كله في النار؟! فالنار ذكرى للبشر، أو جهنم جعلها الله رادعاً للبشر، أو جعل هذا الرقم ذكرى ليستيقن الإنسان أنه يجب أن يستسلم لله عزَّ وجل. 
ضاق الوقت وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نعود لهذه الآيات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور