الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النفخ في الصور هو الإعلان عن بدء يوم القيامة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة المدثر، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
الناقور اسم آلة من النقْر، والنقر هو التصويت: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)﴾ أي نُفِخ في الصور.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)﴾
هذا النفخ في الصور إعلانٌ عن بدء يوم القيامة، قال: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ .
تصوَّر إنساناً ارتكب سرقات كبيرة، وجمع أموالاً طائلة، ثم أُلقي القبض عليه، مشاعره حين أُلقي القبض عليه، سيواجه تعذيباً، سيواجه عقاباً شديداً، قد يواجه سجناً مديداً، قد يواجه ذُلاً وإهانة، فهذا اليوم يومٌ عسير، إنسان ارتكب جريمة ثم أُلقي القبض عليه، هو يوم الدين يوم الحساب، في الدنيا الإنسان مخير يفعل ما يشاء، له أن يستقيم وله أن ينحرف، له أن يصدق وله أن يكذب، له أن يأكل المال الحلال وله أن يأكل المال الحرام، طبيعة الحياة الدنيا طبيعةٌ فيها حرية اختيار، وفيها أمد، أي أنت تُعْطَى أمداً طويلاً، لك أن تفعل كل شيء ولا شيء عليك وأنت في الدنيا، لكن حينما يأتي ملك الموت، وحينما تنتهي الحياة الدنيا، وحينما يبدأ الحساب: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)﴾ .
يوم الجائزة يوم قطف ثمار العبادة:
هذا اليوم أيها الإخوة؛ هو أسعد أيام المؤمن، يوم الجائزة، يوم الفَوز، يوم دخول الجنة، يوم تحقيق وعد الله عزَّ وجل، يوم قطف ثمار العبادة.
العبادة فيها تكاليف؛ تكاليف الصلوات، تكاليف الصيام، تكاليف ضبط اللسان، تكاليف ضبط الجوارح، تكاليف إقامة الإسلام في البيت، تكاليف ضبط كسب الإنسان وضبط إنفاقه، كل هذه التكاليف متى تقطف ثمارها؟ في هذا اليوم، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
[ رواه ابن المبارك في والبيهقي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ]
والموت تحفة المؤمن.
التفلت من منهج الله عذابه عسير يوم القيامة:
بالمقابل الذي تفلَّت من منهج الله، واستكبر عن عبادته، أعطى لشهواته العنان، وركب رأسه، وردَّ حقائق الدين، وسخر من المؤمنين، أو كاد لهم، أو أراد أن يطفئ نور الله عزَّ وجل، نقول له: افعل ما تشاء لابدَّ من أن تموت، وعند الموت سوف تعلم من هو الخاسر.
لذلك البطولة أن تكون آخر الضاحكين، الإنسان أحياناً يكون أول الضاحكين، يكسب مالاً غير مشروع، يشتري بيتاً فخماً، يشتري مركبة، يؤسس هذا البيت، يتطلَّع إلى الشهوات التي حرَّمها الله، يفعلها استهتاراً، فهو يضحك، وقد يضحك ضحكاً غير معقول، لكنه سيبكي، لكنه سيبكي دماً، قال: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)﴾ أي إذا نُفخ في الصور ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ .
أحياناً ينشرون صور المجرمين في الصحف، مجرم كان عاتياً، ارتكب الموبقات، زنا، سرق، شرب الخمور، له عصابة، ثم يُلقى القبض عليه فإذا هو ذليلٌ ذلاً لا حدود له، لذلك البطل هو الذي يعمل لهذه الساعة:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتِّقي الله البطل
العقاب الأليم الذي ينتظر الكافر يوم القيامة:
يوجد آية قرآنية ذكرتها قبل يومين أن أخص خصائص المؤمن أنه يؤمن بالغيب، ما هو الغيب؟ الذي لم يره لكنه استنبطه بعقله، يوم القيامة خبر في القرآن الكريم، وحساب الله لنا استنباط، خالقنا جميعاً لا يسمح لنا أن نؤذي خلقه فإذا فعلنا سمح لنا إلى حين ولا على حساب الآخرين.
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
ثم يأتي العقاب الأليم.
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)﴾
سيدنا إبراهيم قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
أي أراد أن يكون هذا الإكرام للمؤمنين، فقال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ وسأرزق من كفر: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ .
والله أيها الإخوة هذه الآية تكفي: ﴿فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾ .
السلامة والسعادة في طاعة الله:
يقول أحد العارفين بالله: "مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا وغادروها ولم يذوقوا أطيب ما فيها، أطيب شيءٍ فيها القرب من الله عزَّ وجل" .
وقع تحت يدي قصة كتبتها أختٌ مؤمنة، يبدو أنَّها قبل أن تكتبها كانت متفلِّتة، وصفت حياتها يوم كانت متفلتة، ثم وصفت حياتها بعد أن عرفت الله عزَّ وجل، هناك بونٌ شاسع، ليس هناك شيءٌ يجمع بينهما، هي في قمة السعادة حينما صَلَّت، وصامت، وعبدت ربها، وتحجَّبت، وقرأت القرآن، ودعت إلى الله، وكانت في قمَّة تفلتها وهي من أشقى الشقيات.
إخواننا الكرام؛ لا أصدق أن في الأرض واحداً لا يتمنَّى السلامة والسعادة، في الأرض كلها، والسلامة في طاعة الله، والسعادة في القرب منه، كلمتان خفيفتان، السلامة في طاعة الله، والسعادة في القرب منه.
يوم القيامة يوم عسير على الكافرين:
موطن الثقل في هذه الآية:
﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
كل متع الحياة، إنسان سافر، وأقام في فنادق، وأكل من الطيِّبات، وأحاط نفسه بالشهوات والمباهج ثم جاء الموت، يقول: لم أرَ خيراً قط، كل هذا الذي أمضاه في المعاصي تذهب لذَّته ويبقى إثمه، ويبقى الحساب الأليم، ثم إن الذين جاهدوا أنفسهم وأهواءهم في الطاعات، وأطاعوا الله عزَّ وجل، وجاءهم ملك الموت، يذهب عنهم كل هذا التعب، وتبقى الثمار اليانعة التي يقطفونها.
إذاً: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)﴾ أي إذا نفخ في الصور، ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)﴾ عسيرٌ جداً: ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ .
المعنى المخالف أن هذا اليوم يومٌ يسير على المؤمنين، قالت له: يا أبت، وا كربتاه يا أبت، وهو على فراش الموت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبَّة محمداً وصحبه.
اقرؤوا إن شئتم سِيَر الصحابة تفاجؤون أنه ما من صحابي على الإطلاق إلا كان في أسعد لحظات حياته يوم فارق الدنيا، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ وقف خطيباً فقال:
(( عن أبي سعيد الخدري: إن عبداً خيَّره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده. ))
فبكى الصّديق بكاءً لا حدود له، عرف أن النبي ينعي نفسه، اختار ما عند الله عزَّ وجل، أي هذه الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمر، هذه الدنيا فانية، هي دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له، كيف؟ ممكن إنسان يبني مستقبله لبنة لبِنة، بدأ حياته عصامياً، نال شهادة عُليا، اشترى بيتاً صغيراً، وَسَّع البيت، فرشه، اشترى بيتاً بمكان آخر، زوَّج أولاده، نَمَّى ثروته، وصل إلى قمة نجاحه، يأتي ملك الموت فيأخذ منه ما حصَّله في كل عمره في ثانيةٍ واحدة، أما المؤمن قدَّم ماله أمامه، وله عند الله زادٌ كبير، يسُره اللحاق بماله وبزاده، الإنسان حيث أهله وحيث رحله، معلَّق بماله، لو كان ماله في بلد آخر، دائماً مع أخبار هذا البلد، يذهب من حين إلى آخر لتفقُّد ماله، فإذا الإنسان قدَّم ماله أمامه، وقدَّم عملاً صالحاً كثيراً، أسعد شيءٍ في حياته اللحاق به.
الملخص: بين أن يكون الموت أكبَرَ مصيبةٍ، وبين أن يكون الموت أكبر سعادةً، للمؤمن أكبر سعادة لأنه يوم الجائزة، يوم الفوز، يوم دخول الجنة، يوم القُرب من الله، يوم نَمَط من الحياة جديد، مسؤوليات لا يوجد، تكاليف لا يوجد، حساب لا يوجد، اطلب تعط:
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
﴿ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
أما الآخرون فهم في عذابٍ أليم، هذه الآية الأولى، ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)﴾ هذا كلام الخبير، يقول لك: هو يومٌ عسير، إنسان أحياناً يتهدد إنساناً، ماذا يفعل معي؟ يوزن قوته، يوزن اتصالاته، يوزن مكانته، يا ترى هل يستطيع أن يمنعني من السفر؟ هل يستطيع أن يكف يدي عن هذا العمل؟ هل يستطيع أن يخلِّصني هذه الشركة مثلاً؟ إذا توعدك شخص من بني البشر تحسب له ألف حساب، ولا تنام الليل، وترى حجمه واتصالاته وعلاقاته، ويا ترى هل هو قادر أن ينفذ هذا الوعيد أم أنه يبالغ؟ فإذا قال الله خالق البشر: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ .
رسول الله هو أشدّ الناس خوفاً من الله تعالى:
أنا ما رأيت أعقل من الذي يخاف من الله، والله يا أيها الإخوة، والله ليس في الأرض أعقل ممن يخشى الله، ويحسب حساب المساءلة في كل دقيقة، عوِّد نفسك أيها الأخ الكريم قبل أن تقول كلمة زِنها، هل ترضي الله؟ قبل أن تبتسم، لعلها ابتسامة سخرية، قبل أن تعلِّق تعليقاً لاذعاً، لعل هذا التعليق يكسر هذا الإنسان ويجرحه، قبل أن تنفق هذه النفقة، قبل أن تطلق بصرك في منظرٍ.
أيها الإخوة؛ الإنسان كلما اشتد خوفه من الله كان أعلم، هل تعلمون من هو أشدّ الناس خوفاً من الله؟ هو رسول الله، أشدّ الناس خوفاً من الله.
أمسك بسواك، عنده خادم أرسله في حاجة فغاب طويلاً، فأدرك النبي الغضب البشري فلما جاء الخادم قال له:
(( عن أم سلمة أم المؤمنين: كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بيتي وكان بيدِه سِواكٌ فدعا وصيفةً له أو لها حتَّى استبان الغضبُ في وجهِه فخرَجَت أمُّ سَلَمةَ إلى الحُجراتِ فوجَدَت الوصيفةَ وهي تلعَبُ ببُهْمَةٍ فقالت ألا أراكِ تلعبين بهذه البُهْمةِ ورسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعوك فقالت لا والَّذي بعَثك بالحقِّ ما سمِعْتُك فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لولا خشيةَ القَودِ لأوجَعْتُك بهذا السِّواكِ وفي روايةٍ لولا القِصاصُ لضرَبْتُك بهذا السِّواكِ وفي روايةٍ لولا مخافةُ القِصاصِ لأوجَعْتُك بهذا السَّوطِ ))
[ الهيثمي : مجمع الزوائد: خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد ]
ولكن لم يفعل.
مرَّ على أحد أصحابه وكان يضرب غلاماً له، قال له:
(( عن أبي سعيد البدري: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. ))
التذلل إلى الله علامة عزتك:
أنت لا تتألق، ولا تشعر بالطمأنينة إلا إذا خفت من الله، اسمعوا هذه الحقيقة: محالٌ أن تخافه فيما بينك وبينه ثم يُخيفك من خلقه، محال، هذا لا يليق بكمال الله، أن تخافه فيما بينك وبينه ثم يخيفك من خلقه، أما الذي لا يخاف الله فيما بينه وبين الله يُخيفه من أضعف خلقه، قال لي رجل مرة: دخل عليّ موظف طلب هويتي، ركبي لم تعد تحملني، فيها سجن مدة شهرين، صار يرجف، مستحيل أن تخاف من الله في بيعك وشرائك، لم تغش، لم تكذب، لم تحتال، لم تدلس، لم تستغل، لم تحتكر، لم تستغل جهل الزبون، بعته بضاعة غالية وسيِّئة، أبداً، خفت من الله، ما دُمت تخاف من الله لن يخيفك من خلقه، هذه قاعدة، إن أردت أن تكون عزيزاً فتذلل إلى الله، وخف منه، وخلقه في خدمتك، ورد بالأثر القدسي: ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه.
تعلمون أن مرةً الحسن البصري تكلَّم كلاماً، أدى رسالة العلم مع الحجاج، بلغ الحجاج مقالة الحسن البصري، فقال: والله لأروينَّكم من دمه، واستدعى السيَّاف ومُدَّ النطْعُ -النطع رداء كبير يوضع إذا أراد الإنسان أن يقتل إنساناً بقطع رأسه لئلا يتأثَّر الأثاث بالدم يُمد النطع- فجيء بالسيَّاف، ومُد النطع وقال: ائتوني به لأقتله أمامكم، دخل الحسن البصري رأى السيَّاف واقفاً، والنطع ممدوداً، والجو مكهرباً، فتمتم بكلماتٍ لم يسمعه أحد، فإذا بالحجاج يقف له، ويقول له: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيِّد العُلماء، وما زال يُقرِّبه حتى يجلسه إلى جانبه، ويستفتيه، ويعطِّره، ويضيِّفه، ثم يشيِّعه إلى باب القصر، السياف والحاجب صُعِقا، استدعي السياف ليقطع رأس الحسن البصري، والحاجب هو الذي يعلم هذا، فإذا بالحجاج يحترمه ويُكرِّمَهُ، تبعه الحاجب، قال له: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فُعِلَ بك، فماذا قلت لربك؟ قال له قلت: "يا مؤنسي في وحشتي، يا ملاذي عند كُربتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم" .
فالله عزَّ وجل قلَّب قلب الحجاج من قلب الحقد والغضب إلى قلب الرأفة والرحمة، وقلوب العباد بيد الله، هذه حقيقة جديدة الآن، النبي صلوات الله وسلامه عليه قال:
(( عن أنس : قلوب العباد بين أُصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ))
أنت إذا وقفت أمام إنسان، إذا الله عزَّ وجل أراد أن ينجِّيك أو أن يكَرِّمك ألقى محبتك في قلب هذا الإنسان فإذا هو خادمٌ له، وإذا أحبّ الله عزَّ وجل أن يؤدِّب إنساناً يلقي بغضك في قلبه، فيبحث لك عن الذي يؤلمُك، والذي يزعجك، يُعَقِّدُ عليك الأمور، يضع العراقيل، ينشئ السدود، يُلبِّسك تهماً أنت منها بريء، لأنه ألقى في قلبه البغض، هذه قاعدة: أنت إذا وقفت أمام إنسان أقوى منك تذكَّر أن قلبه بيد الله، فإن شاء ليَّنه، وإن شاء قَسَّاه، إذاً: ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ .
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)﴾
أي دعني يا محمد.
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾ وهذا من أشدّ أنواع التهديد، من أشدّ أنواع التهديد أن يقول الله: ﴿ذَرْنِي﴾ أي الله عزَّ وجل أرسل رسولاً، ومعه الكتاب، ومعه معجزات، ومعه منطق، ومعه بيان، ومعه فصاحة، ومعه كمال، ومعه أدلة، ومعه براهين، ومعه شيء كثير، فالإنسان أبى أن يؤمن، وركب رأسه وعصى، فإن لم يستفد من رسول الله، قال له: اتركه لي أنا أعالجه.
إنسانة متفلِّتة أشد التفلُّت، تبدي كل مفاتنها للناس، نُصحت، ونُصِحت، ونُصحت، ونُصحت، لم ترعوِ، ثم أصيبت بمرضٍ خبيث، فقالت: أنا مستعدةٌ أن أضع على رأسي ما يوضع على الحمار على أن يشفيني الله عزَّ وجل، الله أدَّبها، الله أدويته مُرّة، وأدويته مصيبة تصيب المكان الحرج، والله عزَّ وجل يعرف تماماً ما الذي يحجِّمُك؟ يعرف كل خصائصك.
يوجد إنسان المال عنده ليس له قيمة، هذا يُرسل له شيئاً متعلقاً بصحته أحياناً، متعلقاً بكرامته، متعلقاً بمكانته، متعلقاً بعمله، متعلقاً بأهل بيته، متعلِّقاً بأعزِّ الناس إليه: ﴿ذَرْنِي﴾ .
إذاً الملخص: نحن حينما نُدعى إلى الله، يوجد مرحلة رائعة، مرحلة البيان، الدعوة البيانية، القضية سهلة، خطيب يلقي خطبة، مدرس يُلقي درساً، شريط تسمعه، كتاب تقرؤه، نصيحة تنصح بها، أنت معافى، سليم، كامل، مُكَمَّل، لكن الله عزَّ وجل بلَّغك الدعوة ينبغي أن تستجب.
2 ـ مرحلة التأديب التربوي:
إن لم تستجب أدخلك في معالجة ثانية التأديب التربوي، قال له: ﴿ذَرْنِي﴾ .
إن لم تستفد أدخلك في معالجةٍ ثالثة هي الإكرام الاستدراجي.
فإن لم تشكر أدخلك في مرحلة القصم الرابعة، عندئذٍ يُقصم الإنسان وينتهي.
فنحن إذا كنا في مرحلة الدعوة البيانية نحن في خير، نحن في بحبوحة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾
العلماء فسروا: ما معنى غير يسير؟ ﴿فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾ قال: عُقَدهم تنحل إلى عُقدٍ أشد، كلمة عسير، العقدة تنحل إلى عقدة أشد، لا تملك مفتاح هذا الباب، هناك عِدَّة مفاتيح يمكن أحدها أن تستعمله في فتح الباب، هذه مشكلة، فأدخلت مفتاحاً وحركته فانكسر داخله، أصبحت المشكلة أصعب، كنت تبحث عن مفتاح مناسب فصرت تحتاج فك القفل، أحضرت إنساناً حتى يصلحه رأيت البيت مسروقاً كله، ممكن أن ينتقل من مشكلة إلى أكبر إلى أكبر إلى أكبر، هذا معنى عسير، أما يسير، من مشكلة إلى حل إلى حل انتهت العملية، لذلك: اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً.
إنسان له انحرافات جاء بإنسان قال له: هذا القاطع جدده لي، قال له: سأضعه في مكان عالٍ، قال له: ضعه إن شئت، في اليوم التالي أراد أن يستعمله، لزمه كرسي، الكرسي اختلّ، فدخلت رجل الكرسي في مقعده، دخل المستشفى ثمانية عشر يوماً كان قد انتهى، السبب تافه جداً، تبديل محل قاطع، لزمه أن يبدله، قال له الشخص: سأرفعه، قال له: ارفعه، في اليوم الثاني اضطر أن يستعمله أحضر كرسياً، استخدم الكرسي، اختلّ توازن الكرسي دخل في مقعده، تسمم دمه، ثمانية عشر طبيباً، عشرون يوماً، كان خالصاً، كتبت نعوته، ممكن إنسان يُتْلَف بسببٍ تافه، إذا كنت في رضوان الله فأنت غال على الله، الحياة مليئة بالقصص، فكلمة عسير أي المشكلة تولد مشكلة أكبر، أكبر، أكبر إلى أن ينتهي الأمر، قانون التعسير والتيسير معروف:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾
﴿أَعْطَى وَاتَّقَى (5)﴾ أي عمل عملاً صالحاً، واتقى أن يعصي الله عزَّ وجل، وآمن بهذا الدين، الأمور كلها ميسرة، وهناك تأكيد للمستقبل:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
إخواننا الكرام؛ الأمن الذي يشعر به المؤمن لا يقدَّر بثمن، يشعر أنه في رحمة الله، وفي عين الله.
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
ويشعر أن أحداً لن يستطيع أن يصل إليه إلا بأمر الله، شعور كأنه في حصانة، أحياناً يمنحون للنوَّاب حصانة، يحس النائب أنه هو إنسان متميِّز، لا يستطيع أن يصل إليه أحد، لا يقدر، لا يوجد اعتقال، معه حصانة، عضو مجلس الشعب محصَّن، فإذا حصَّن إنسان إنساناً يحس بالأمن فكيف إذا الواحد الديَّان حَصَّنك؟ أقوى بكثير.
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾
أما كلمة وحيد فلها معان كثيرة، أي حينما خُلق خُلِق وحيداً، لا معه ماله، لا معه شهادة، لا يوجد زوجة، لا يوجد أولاد، لا يوجد مكانة اجتماعية، لا يوجد منصب رفيع، لا يوجد ثروة طائلة، لا يوجد شيء، طفل صغير.
رأيت مرة في مطار طفلاً يبدو أن السفر بعيد، فوضعوا له عدداً كبيراً جداً من الفُوَط فصار وسطه مثل الكرة، قلت: هذا الطفل حينما يكبر يصير ذو شأن، غني أو قوي، وينسى أنه كان صغيراً وكانت توضع له الفوط لئلا يتسرَّب البول إلى الخارج، الإنسان خلق ضعيفاً، ما معنى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾ ؟ خُلق وحيداً، لا يوجد عنده شيء، مفتقر إلى رضعة من أمه، لو أنه لم يرضع مات.
منعكس المص من آيات الله الدالة على عظمته:
كلكم يعلّم أن الله عزَّ وجل أمدنا بما يسمى بمصطلح العلماء: منعكس المَص، الطفل الآن يولد بعد دقيقة يضع شفتيه على حلمة ثدي أمه، ويُحكم الإغلاق ويسحب الهواء، لو أن هذا المنعكس غير موجود، وأراد الأب أن يعلِّم ابنه الذي ولد الآن: يا بني الله يرضى عليك، شيء مضحك، مستحيل أن يعيش إنسان، لأن المص عملية معقدة، أما حينما يولد الطفل يعرف كيف يَمُصّ الحليب من ثدي أمه، انتهى الأمر، ضعيف إلى منعكس المص، ولولا هذا المنعكس ما وجدت إنساناً على الأرض الآن، لا يوجد إنسان، لأنه خلق لك هذا الثدي، كرَّمك بهما، لكن أعطاك هذه الخاصية المعقدة منعكس المص، خلقت وحيداً، لا مال، ولا زوجة، ولا مكانة، ولا علم، ولا شهادة، ولا عزوة، ولا منصب، ولا ثروة، قال:
﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13)﴾
إذا الإنسان كبير، عظيم بماله، عظيم بشهاداته، عظيم بمنصبه، ونسى كيف كان صغيراً، كيف رضع من ثدي أمه، كيف كان مفتقراً إلى فضل الله، كيف كان مفتقراً إلى رحمة الله، ينظر إلى أولاده، الله جعل أولاده شهوداً على طريقة خلقه، هل من بيت لا يوجد فيه أولاد؟ انظر إلى الطفل كيف يولد؟ غلطة في أثناء الولادة يموت، قال: هذا الرحم يتقلَّص، يتقلَّص تقلصاً لطيفاً قبل الولادة، تقلُّص متزامن، لطيف، متسارع، تقلص لطيف متزامن أي يوجد زمن، ويوجد تسارع، الطلقات تضيق أمدها مع مرور الزمن، شيء جميل، فإذا خرج الطفل من بطن أمه تقلَّص الرحم تقلصاً شديداً وصار كالصَخر، فالموَلِّدة تضع يدها على رحم الوالدة فإذا كان صخرياً تقول: الولادة سليمة، فإذا كان الرحم فيه ليونة معنى ذلك أن هناك شرايين مفتوحة سوف تموت الأم من النزيف.
من جعل هذا الرحم يتقلَّص هذا التقلص الشديد بعد الولادة واللطيف قبل الولادة؟ العلماء قالوا: لو عُكِسَ الأمر لماتت الأم والطفل في آن واحد، لو تقلَّص تقلصاً حاداً لقتل الغلام، وبعد الولادة تقلصاً لطيفاً لماتت الأم من النزيف، الطفل مفتقر إلى الله عزَّ وجل: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)﴾ بلا مال، بلا أهل، الله عزَّ وجل قال:
﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾
أي عظم الحوض يتوسع بأمر هرموني، توسع ميكانيكي، عظام متراكمة لا تسمح للطفل أن يخرج منه، يتوسع عظم الحوض توسعاً بأمر هرموني مبرمَج، الولادة وحدها آية من آيات الله الدالة على عظمته، والله ذكرها في القرآن: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾ فهذا هو المعنى الأول: وحيداً بلا أهل، ولا مال، ولا ثروة، ولا منصب، ولا شهادات، ولا مكانة، ولا أتباع.
المعنى الثاني: خلقته وحيداً ولم يشركني في خلقه أحد.
المعنى الثالث: أنه المخلوق الوحيد الأول، المخلوق الأول في الكون هو الإنسان.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
أنت المخلوق الأول الوحيد، الله عزّ وجل خلقك وحيداً بمعنى أنك ضعيف، وخلقك وحيداً بمعنى أنك متميِّز، وخلقك وحيداً بمعنى أن الخالق لا شريك له، خلقك وحيداً هو وحده، وخلقك متميزاً، وخلقك ضعيفاً.
4 ـ ستعود إلى الله وحيداً:
والمعنى الرابع: كما خلقه وحيداً سيعود إليه وحيداً، الإنسان له أتباع، له أعوان، له من يدافع عنه في الدنيا، أحياناً يقول لك: جاءنا مئة تليفون للمخفر، أنت مهم، أُخذ فجأةً فجاء له مئة تليفون، له أتباع، له أنصار، له أعوان، فكما خُلقت وحيداً تعود إليه وحيداً، لا يوجد دفتر تليفونات، خبِّر فلاناً لا يوجد، هواتف لا توجد، اتصالات لا توجد، أعوان لا يوجد، أموال لا توجد، دفتر شيكات لا يوجد، كلّه واقف، بالقبر لا يوجد شيء، خُلِقت وحيداً وسوف تعود إليه وحيداً، معك عملك فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك.
القبر صندوق العمل:
لذلك القبر صندوق العمل، سؤال محرج ودقيق، اسأل نفسك هذا السؤال: أنا ما عملي؟ يوجد عمل طيب، يوجد عمل نظيف، يوجد عمل خيِّر، يوجد عمل عظيم، ويوجد عمل قذر، يوجد عمل إجرامي، يوجد عمل خسيس، يوجد عمل دنيء، يوجد عمل ظالم، اسأل نفسك: ما عملي؟ وإن أردت أن تعرف مقامك فانظر فيمَ استعملك؟ يا ترى استعملك بالخير أم بالشر؟
(( عن أنس بن مالك: إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق الشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير بيدي، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه. ))
أحياناً الإنسان يمد شريطاً حريرياً تُفتح به المستشفيات، والأبنية النافعة للأمة، وأحياناً مِلقط يُلتقط به الشيء النجس والقذر، فإذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيمَ استعملك؟ هذا سؤال مهم، كل إنسان له عمل ؛ إذا كان عملاً نظيفاً فهذا جيِّد، عملاً خيِّراً فهو أجود، عملاً بنَّاء فهذا أعظم، عملاً كبيراً فهو أعظم وأعظم، أما أن يكون عمله مبنياً على أنقاض الآخرين، أن يبني غناه على فقرهم، أن يبني سعادته على شقائهم، أن يبني أمنه على خوفهم، أن يبني مجده على تلفهم، هذا شيء مخيف.
5 ـ خلقته وحيداً ولا أحتاج النصر في إهلاكه:
شيءٌ آخر؛ خلقته وحيداً ولا أحتاج إلى من ينصرني في إهلاكه، هذا المعنى الخامس.
خلقته وحيداً فإن أردت أن أهلكه لا أحتاج إلى من يعينني، هذا الإنسان يسمُّونه في أوروبا الإنسان الإله، هم كفروا بالله وألَّهوا الإنسان، أن الإنسان سيطر على الطبيعة، وأرسل مركبات إلى الفضاء الخارجي، وسخَّر الطبيعة، وكشف الثروات، وتحكَّم برقاب العباد، هذا الإنسان الإله سوف يجعله الله يلقى مصيره يوم القيامة.
(( عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار، وروي بألفاظ مختلفة منها: عذبته وقصمته وألقيته في جهنم وأدخلته جهنم وألقيته في النار. ))
[ الحديث أصله في صحيح مسلم وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وغيرهم.
]
الأولاد شهود ببدايتك ورفاهك:
﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13)﴾
يشهدون له أصله، كل واحد ينظر إلى أولاده، أحياناً يقف الإنسان عند قصَّاب فيجد أنه يوجد عضلات، ويوجد أوتار، ويوجد كبد، ويوجد رئتان، وتوجد معدة، وتوجد أمعاء، ويوجد دماغ، ويوجد أعصاب، وأوعية، وشرايين، وأوردة، وعظام، فالله جعل غذاءنا من حيوانات تشابهنا في التشريح تماماً.
والله مرَّة رأيت قلباً صغيراً، قلب خروف شرَّحته فرأيت الدسَّامات، الأجواف، الأذين، البطين، هكذا قلبك، البنين شهود يشهدون لك بدايتك.
﴿ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾
أي رفهته مثل المهاد، المهاد مريح جداً، أي يوجد بيت فيه تدفئة، فيه تكييف في الصيف، فيه أنواع من الطعام، فيه مشروبات كالعصير، قهوة، شاي، مُقَبِّلات، سلطات مثلاً، أنواع الفواكه أحياناً يضعون ثلاثين نوعاً من أنواع الفواكه، أنواع الحلويات، أنواع الطعام، أحياناً تجد مُتَعاً سمعية كأن يسمع أحياناً أنغاماً، توجد متع بصرية، توجد حدائق، توجد مروج خضراء، توجد جبال خضراء، توجد كائنات جميلات، أي: ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾ الإنسان إذا كان له بيت، له زوجة، له أولاد، محل ينام، محل يأكل، محل يستقبل الضيوف، محل يستلقي، محل يتنظف، يوجد لك بيت عدة غرف، لك زوجة، لك أولاد، لك عمل، توجد أنوع من الطعام الطيبة تأكلها: ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)﴾ .
الكافر رغم انحرافه يطلب مزيداً من فضل الله:
قال:
﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)﴾
أي رغم انحرافه وفسقه وفجوره يريد مزيداً من فضل الله، بل إنه يدَّعي إذا مات فله الجنة، هذا إدِّعاء، كان الوليد بن المغيرة يقول هكذا: "لو أن هناك جنة لكانت لي" وهو من أكفر الكفَّار.
﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)﴾
وهذا في الدرس القادم نتابعه إن شاء الله تعالى.
الملف مدقق