- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (030)سورة الروم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من سورة الروم.
أفعال الله عزَّ وجل واحدة منها ما هو مادي ومنها ما هو توجيهي:
مما يُلفت النظر في الآيتين وهما:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(46)﴾
ما العلاقة بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ(47)﴾
أي أن أفعال الله عزَّ وجل واحدة، منها ما هو مادي، ومنها ما هو توجيهي، فكما أن الله سبحانه وتعالى يُرسل الرياح مبشرات بالأمطار، والأمطار إذا هطلت ذاق الناس رحمة الله عزَّ وجل، كذلك يُرسل الله المرسلين بالهُدى، فإذا كان المطر حياةً للإنسان، فإن الهدى حياةٌ للقلب، فجوهر الفعل واحدٌ، إن أرسل المطر تحيا به الأجسام، وإن أرسل الرسل بالبينات والهدى تحيا بهم القلوب.
انتهاء الفعل المادي بإحياء الأجسام و انتهاء الفعل المعنوي بإحياء القلوب:
الله عزَّ وجل يقول:
﴿
عامة الناس يُعنَون بحياة الجسد؛ بصحته، بنشاطه، بسلامة أعضائه، بسلامة أجهزته، بسلامة حواسِّه، ولكن غاب عنهم أن النفس هي الخالدة، حياة الجسد مؤقتة وتنتهي بالموت، ولكن النفس هي الباقية، فلأن يُعْنى الإنسان بنفسه؛ بطهارتها، بسلامتها من العيوب، بطهارتها من الذنوب، باصطباغها بصبغة علام الغيوب، لَأَن يُعنى الإنسان بنفسه من باب أولى، كلٌ منا إذا شعر أن في أعضائه خللاً بسيطاً بادر إلى الطبيب، لماذا لا نبادر إلى من يطبّب قلوبنا ونفوسنا إذا شعرنا أن في نفوسنا خللاً؟!
ربنا عزَّ وجل حينما جمع الآيتين، أراد من هذا الجمع بين الآيتين أن يبين أن فعل الله واحد، الفعل المادي ينتهي بإحياء الأجسام، والفعل المعنوي ينتهي بإحياء القلوب.
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)﴾
ماذا تفهم لو أن الله عزَّ وجل قال: يُرسل الله الرياح، لو أن لفظ الجلالة جاء بعد الفِعل، يرسل الله الرياح؟ وماذا تفهم كما قال الله عزَّ وجل: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ لا شك أن الصيغة القرآنية تفيد القَصر، الله وحده.
الله عزَّ وجل واجب الوجود وما سوى الله ممكن الوجود وهناك مستحيل الوجود:
هل عرفت أيها الإنسان من هو الذي يحرك الرياح؟ هل عرفت أيها الإنسان من هو الذي يسوق السحاب؟ هل عرفت أيها الإنسان من الذي ينزل المطر فتحيا به الأرض بعد موتها؟ فهذا كله مستفادٌ من قوله تعالى: (الله)، والله كما تعلمون صاحب الأسماء الحسنى، علمٌ على الذَّات، عَلمٌ على الذات الكاملة، الواجب الوجود، الله عزَّ وجل واجب الوجود، وما سوى الله ممكن الوجود، وهناك مستحيل الوجود، فما يناقض أسماء الله الحسنى مستحيل الوجود، والله سبحانه وتعالى واجب الوجود، الله علمٌ على الذات، أي اسم الذات.
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري. ))
قال تعالى:
تحريك الرياح له فوائد كبيرة جداً:
حينما يختار الله عزَّ وجل آيةً من الكون فهذا موضوعٌ نموذجي هو في متناول الناس جميعاً، لعل هناك بعض الموضوعات تحتاج إلى ميكروسكوبات، إلى تلسكوبات، إلى إحصائيَّات، إلى ثقافة رفيعة جداً، إلى درجات علمية عالية ليست في متناول جميع الناس، لكن ربنا عزَّ وجل حينما يختار هو موضوعاً للتفكر، هذا الموضوع موضوعٌ بين أيدي الناس، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، مثقفهم وغير مثقفهم، من كان في المدينة، ومن كان في الريف،
تحريك الرياح له فوائد كبيرة جداً؛ منها تجديد الأجواء، الأجواء تُلوَّث أحياناً، تأتي الرياح فتجدد هذه الأجواء، والرياح تسوق السُحُب، إذا ساق الله السحب من مكانٍ إلى مكان، لو أن السحب تمركزت فوق البحار ماذا نستفيد منها؟ فالبحر كله ماء، لكن من رحمة الله عزَّ وجل أن هذه السحب يسوقها الله سبحانه وتعالى إلى مناطق عطشى، إلى مناطق جدباء، إلى مناطق محتاجةٍ إلى ماء السماء، إلى رحمة الله عزَّ وجل.
الفرق بين رؤية المؤمن ورؤية الكافر للأمطار:
السحب يراها كل الناس، والأمطار يراها كل الناس، ولكن فرقٌ كبير بين رؤية المؤمن ورؤية الكافر، المؤمن يرى أن يد الله عزَّ وجل، اليدُ الرحيمة، اليد الحكيمة، اليد الرازقة، هي التي تحرك الرياح وتسوق السحاب، فالمؤمن إذا رأى الأمطار تنهمر، تنهمر مع الأمطار دموعه شكراً لله عزَّ وجل، هذه الرؤية هي التوحيد، وغير المؤمن يقول: هناك منخفضٌ متمركزٌ فوق المكان الفلاني باتجاه القطر مثلاً، فدائماً يجب أن لا ننسى، يجب أن ننتقل من النعمة إلى المُنعم، من الكون إلى المكوِّن، من النظام إلى المنظِّم، من الأسباب إلى المُسَبِّب، هذا هو الإيمان، قال تعالى:
السحاب علم قائم بذاته وهو من آيات الله الدالة على عظمته:
قال تعالى:
لابدّ من ذراتٍ تنعقد عليها حبات المطر وهذا هو الودق:
ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
لها سرعة، وبلا صوت، وفيها الخيرات، إذاً:
الإنسان حتى لو لم يكن مزارعاً ارتباطه بالأمطار ارتباط مصيري:
الله عز وجل حرك الأمطار ليكون الناس على اتصالٍ بربهم:
قال تعالى:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾
تلقي نظرة على بعض البساتين في شهر كانون الأول، ولك أن تُلقي هذه النظرة الأخرى على بعض البساتين في هذه الأيام، يا ترى الأرض كلها قد أنبتت؟ من كل زوجٍ بهيج، اللون الأخطر نضر، الأزهار فوَّاحة، الأرض ارتوت، وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.
المؤمن يعلم أن تقنين الله عزَّ وجل لم يكن عن عجزٍ بل كان عن تأديبٍ:
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(49)﴾
معنى مبلسين أي يائسين، الإنسان لجوج، إذا انحبست أمطار السماء، تجد الناس يقولون: انتهى الأمر، الأنهار جَفَّت، دخلنا في التصحُّر، الجفاف عَم، المواسم انتهت، الأشجار سنقطعها، تجد يأسه سريعاً، ودائماً ربنا عزَّ وجل يُخَيِّبُ آمال أو توقُّعات المتشائمين، هناك أماكن في الغوطة مجاري المياه زرعوها، ظنوا أن القضية انتهت، الأنهار جَفَّت، ولن تجري بعد اليوم، فلما جاء تفجُّر نبع الفيجة قبل أشهر، وصلت مياه بردى إلى العُتَيْبَة، وعاد إلى ما كان عليه قبل سنواتٍ طويلة، زرعوا أرضه في بعض الأماكن، إذاً:
﴿
سمعت أن قرية في إيطاليا هطل فيها أمطار في الليلة الواحدة مئتين وخمسين ميليمتر، أي أن أمطار السنة كلها نزلت في ليلة واحدة، ونحن هنا في دمشق في بعض أوقات المطر في ليلة واحدة، في أربع ساعات هطل ستة وستين ميليمتر، في أربع ساعات هطل من السماء ما يوازي أمطار العام الماضي بأكمله، أي أن الأمطار التي هطلت في العام الماضي كله في دمشق نزلت في أربع ساعات، وانتهى الأمر، ممكن أن ينزل مئة ميليمتر، فلذلك الأمر بيد الله.
المطر رحمة وانحباس المطر نِقْمَة:
لا تنسوا هاتين الآيتين:
﴿
قال تعالى:
﴿
الآن الأمر الإلهي:
﴿
المطر رحمة، وانحباس المطر نِقْمَة، وآثار رحمة الله المراعي، أحياناً تمطر السماء على البادية بأرقام قد لا تصدقونها، أرقام فلكية، فنوفر استيراد علف بمئات أو بألوف الملايين، كمية أمطار تهطل على البادية فتنبت العشب، نوفر من خلال هذه الأمطار ألوف الملايين من العلف المستورد.
الماء تحيي الأرض والاتصال بالله عزَّ وجل يحيي النفوس البعيدة عن الله:
قال تعالى:
(( اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً. ))
الريح مدمرة، تدمر كل شيء.
﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ(5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ(7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)﴾
الكفر هو التكذيب والإعراض وإيقاع الأذى بالآخرين:
الآن هذه الرياح لو جاءت باردة دون الصفر هذا هو الصقيع، بساتين، مزروعات، مشاريع، أشجار مثمرة، خضراوات، فواكه، كلها تسود وتموت، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
رأوا النبات قد مات، اصفرّ
الكافر مَيِّتٌ ماتت نفسه فهي لا تعي على خير:
قال تعالى:
﴿
هذه إشارةٌ دقيقةٌ جداً إلى أن الكافر مَيِّتٌ، ماتت نفسه، فهي لا تعي على خير، قال عليه الصلاة والسلام:
(( من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه ـ أي يختم على قلبه ـ ))
فاصبح لا يعي على خير، صار إنساناً كتلة من اللحم والدم تبحث عن شهواتها، هكذا المُنقطع عن الله عزَّ وجل مخلوق يبحث عن ملذَّاته، عن شهواته، من دون انضباط، من دون منهج، من دون قيد، من دون شرط.
دائماً وأبداً يجب أن نعرف الآمر قبل الأمر:
قال تعالى:
﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ(53)﴾
هذه الآية دقيقة جداً، إذا الإنسان فكر بالكون أولاً وعرف الله عزَّ وجل، وإذا قرأ أمر الله عزَّ وجل، أو تعرَّف إلى كتابه، أو فهم كلامه ففهمه دقيق جداً، فدائماً وأبداً يجب أن نعرف الآمر قبل الأمر، لأنك إذا عرفت الآمر قبل الأمر كان الأمر عظيماً عندك، أما إذا قرأت الأمر ولم تعرف الآمر، كان الأمر تَرْكُهُ لا يكلفك شيئاً.
﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)﴾
الله عزَّ وجل ينفي عن النبي الهدى مرة ويثبت له الهدى مرة أخرى:
قال تعالى:
﴿ وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ
يقول الله عزَّ وجل:
﴿
مرة الله عزَّ وجل ينفي عنه الهدى؛ ومرة يثبت له الهدى، إذا نفى عنه الهدى بمعنى: أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يصل إلى قلب الإنسان فيلزمه وهو مختار، وهو حر في اختياره، أما إذا أثبتنا للنبي عليه الصلاة والسلام الهدى، بمعنى أنه ينطق بالحق، إذا كان الهدى هو أن ينطق بالحق فهو:
المتقي آمن بالله أولاً وأراد أن يطيعه ثانياً فجاء الكتاب هادياً له ثالثاً:
هكذا قال أصحاب النبي عليهم رضوان الله: "أوتينا الإيمان قبل القرآن"، آمنا بالله عزَّ وجل، بعد أن آمنا به آمنا بكلامه، فلما ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)﴾
من هو المتقي؟ أنت تتقي شيئاً موجوداً، آمنت بوجود الله عزَّ جل واتقيت أن تعصيه، هذا المتقي، فمتى آمنت بالله عزَّ وجل؟ إذا فكرت في ملكوت السماوات والأرض؛ لأن الكتاب هدىً للمتقي، أي أن المتقي آمن بالله أولاً، وأراد أن يطيعه ثانياً، فجاء الكتاب هادياً له ثالثاً، آمن، وأراد، وجاء الكتاب هادياً له.
﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21)﴾
السماع الذي أراده الله عزَّ وجل هو الذي يحملك على التطبيق، هو الذي ينقلك من طور السماع إلى طور التطبيق.
لفتة من الله عزّ وجل إلى آياتٍ في خلق الإنسان:
الآن عودةٌ إلى... طبعاً الله عزَّ وجل قال:
﴿
الآن لفتة من الله عزّ وجل إلى آياتٍ في خلق الإنسان، قال:
﴿
لمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل: الله الذي خلقكم ضعافاً، ضعافاً حال، خلقكم ضعافاً، لكن:
خُلِقَ الإنسان من مادةٍ هي الضعف فالضعف موجود فيه:
إذاً أنت مخلوق من ضعف، من حوين، وبويضة منقسمة، وحجمها لم يزدد، وصلت هذه البويضة الملقحة المنقسمة إلى الرحم، إما أن تعلق وإما أن لا تعلق، فأنت ضعيف، فإن لم تعلق، سقطت، وهناك عُقم سببه أن الرحم لا تحمل هذه البويضة، فأنت من ضعف مخلوق، أي بويضة ملقَّحة، صار لها استطالة، شبه رأس، دماغ، أحشاء، أطراف، حواس، ظلت هذه البويضة تنمو؛ من نطفةٍ، إلى علقةٍ، إلى مضغةٍ مخلقةٍ، وغير مخلقةٍ، إلى أن أصبح الجنين، ويحتاج إلى الدم من أمه، مجهز برئتين لا تعملان، ليس في الرحم هواء، مجهز بقلب يتحرك في وقت معين، مجهز بحواس إلخ...
خرج صغيراً، ليس في هذا الطفل الصغير إلا منعكس المص، كتلة من اللحم والدم، طبعاً عضلات، وعظام، وأوعية، وشرايين، وأعصاب، ودماغ، وأعضاء، وحواس، لكن لا يتكلم، ولا يرى، ولا يسمع، أبداً، إلا أن منعكس المص هو الذي زوَّده الله به، معنى منعكس أي رد فعل غير إرادي، مثلاً إذا لامست يد الإنسان جمرة يسحبها سريعاً، هذا منعكس، كذلك منعكس المَص، حينما يولد الطفل يضع فمه على ثَدي أمه، يحكم إغلاق شفتيه على حُلْمَة الثدي ويسحب الحليب، هذا مُجهز به، فالطفل ضعيف، لولا الحليب لمات جوعاً، جعل الله له سلاحاً وحيداً وهو البكاء، إذا لم يبك يموت الطفل، يجوع فيموت؛ لكن يجوع فيبكي فيطعمونه، فكل حاجاته يُعَبِّر عنها عن طريق البكاء، ضعيف، يحتاج إلى أم رؤوم، تطعمه، وتنظفه، وتسقيه، وتدفئه، الإنسان ضعيف، يبقى محتاجاً إلى والديه إلى أمدٍ طويل.
آيات من القرآن الكريم على ضعف الإنسان:
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)﴾
قال:
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ
حتى لو كبر، نقطة دم في دماغه تجعله مشلولاً، في مكان تجعله أعمى، في مكان تجعله أصماً، في مكان تفقده ذاكرته، أي أن الإنسان ضعيف، شيء آخر ضعيف ولو كان قوياً، يحتاج إلى كأس ماء.
يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس إذا مُنع عنك؟ قال له: بنصف ملكي، قال له: فإذا منع إخراجه؟ قال له: بنصف ملكي الآخر.
الإنسان ضعيف الحوافز والدوافع التي أودعها الله فيه:
أنت مفتقر لكأس ماء، مفتقر لطعام تأكله، مفتقر إلى امرأةٍ تقيم معها، حاجة الله عزَّ وجل أودعها بالإنسان، فأنت ضعيف، ضعيف في حاجاتك، ضعيف في ميولك، ضعيف في الحوافز والدوافع التي أودعها الله فيك، قال:
مكافأة الله للمؤمن أن يمتعه بعقله وسمعه وبصره وقوته إلى آخر حياته:
(( من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت. ))
من مكافأة الله للمؤمن أن يمتعه بعقله وسمعه وبصره وقوته إلى آخر حياته، هذه من مكافأة الله للمؤمن، لكن سُنَّة الله في الخلق أن الإنسان بعد سن معينة يتراجع، قال لي أخ متقدم بالسن: أنا سبحان الله كنت قبل خمسين سنة أنشط من الآن، قلت له: طبعاً.
من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة:
الإنسان إذا دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، بعد الأربعين سن التُقى، الورع، العمل الصالح، تلاوة القرآن، الإعداد للدار الآخرة، هكذا، كما قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي:
عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة، يبغض الشيخ الزاني والفقير المختال والمكثر البخيل، ويحب ثلاثة رجل كان في كتيبة فكر يحميهم حتى قتل أو يفتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل وكان النوم أحب إليهم مما يعدل به فناموا وقام يتلو آياتي ويتملقني، ورجل كان في قوم فأتاهم ورجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه.
مسند الإمام أحمد
إنسان في الخامسة والخمسين جالس بالقهوة، يلعب النرد، بلا صلاة، مشكلة، منظر قبيح جداً، إنسان في سن متقدمة يمضي وقته في سخافات الحياة، في القيل والقال، في لعب النرد، في الغيبة، في النميمة، هذا شيء، وإن كانت المعصية معصية، في أي سن هي معصية، لكن تبدو المعصية أقبح وأقذر في سن متقدمة، فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، والإمام القرطبي في تفسيره:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ
النذير هو سن الأربعين، والنذير هو الشيب، والنذير هي المصائب، والنذير هو القرآن، والنذير هو النبي العدنان، والنذير هو موت الأقارب، هذا كله نذير.
﴿
والله الحياة حلم، قال: الدنيا ساعة اجعلها طاعة، كل واحد منا يسأل نفسه هذا السؤال: أنا كم عمري؟ ثلاثين، كيف مضت؟ يقول لك: كلمح البصر، البارحة كان طفلاً، البارحة كان بالمدرسة، الآن أصبح مهندساً، وبعد عدد من السنين يتقاعد، بعد فترة يأتي مَلَكُ الموت، مراحل؛ كنا صغاراً، أصبحنا شباباً، أصبحنا كهولاً، أصبحنا شيوخاً، أصبحنا على شفير القبر، لو سألت شخصاً عاش تسعين عاماً يقول لك: والله مضت كأنها ساعة، جاء رمضان وانتهى رمضان، وأقبل الصيف، وبعد حين ينتهي الصيف ويأتي الشتاء، كنا في الستينات، بالسبعينات، بالثمانينات، الآن التسعينات، إذا أمد الله بعمرنا نصل للألفين وواحد، لا تعرف، مثلما مضوا الستينات، والسبعينات والثمانينات والتسعينات تأتي سنة الألفين وهكذا، إلى أن يأتي ملك الموت، يُختَم العمل، إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نار لا ينفد عذابها.
ساعة اللذة دقيقة ودقيقة الألم ساعة:
الوقت يمضي سريعاً، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، ما مضى فات والمؤمَّلُ غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، بين يومٍ مفقود، يومٍ مشهود، يومٍ موعود، يومٍ مورود، ويومٍ ممدود.
إن يطل بعـدك ليلي فلـكم بِتُّ أشكو قصر الليل معك
***
ساعة اللذة دقيقة، ودقيقة الألم ساعة، الله عزَّ وجل قال:
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)﴾
فرعون مضى على موته ستة آلاف سنة تقريباً، أو سبعة آلاف سنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، ضرب اثنين،
الله عزَّ وجل جعل الكون دالاً عليه فمن مات كافراً وخُتِمَ عمله ليس له عذر:
قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(56)﴾
أي أن المدة المقررة قد أمضيتموها، وعشتم العمر الذي رسمه الله لكم، وقد حذركم ربُّكم وأنذركم ولم يدع طريقةً من طرائق هدايتكم إلا سلكها، ومع ذلك أصررتم على عنادكم وكفركم.
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(57)﴾
أحياناً المُقَّصِر يعتذر، يُقبَل عذره، يقدِّم أسباباً موجبة لتقصيره يُقبَل منه ذلك، لكن الإنسان إذا مات كافراً وخُتِمَ عمله ليس له عذر؛ لأن الله عزَّ وجل جعل الكون دالاً عليه، أعطاه العقل، أعطاه الفطرة، الحوادث تؤكِّد ما في القرآن، القرآن وضَّح كل شيء، الأنبياء بيَّنوا، والعلماء وضَّحوا، فالحوادث، والفطرة، والعقل، والكون، والقرآن والتشريع، والعلماء، والدعاة، والأحوال، والمنامات، كلها في خدمة الإنسان، ومع ذلك لم يهتدِ إلى الله عزَّ وجل.
﴿
هنا الآية لها معنيان: إما أن الله عزَّ وجل صوَّر الكافر، والمنافق، والفاجر، والمؤمن، والمتقي، والمسلم، والناجي، والهالك، أو أنه سلك سبيل التحذير، والإنذار، والوعد، والوعيد، والتصوير، والتبشير، والتخويف، فإما أن يكون
من لا يوقن بالآخرة لا تحزن عليه:
قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)﴾
أي أن كل وعدٍ وعد الله به لابدَّ أن يأتي.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.