وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة الحجر - تفسير الآيتان 85 – 86 الحق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  الحقّ هو الشيء الثابت والباطل هو الشيء الزائل :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثامن من سورة الحجر .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ .. هذه الآية فيها كلمة هي مركز الثقل وهي كلمة( بالحق ) ، فما معنى قوله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ .. بعض المفسرين يفسر القرآن بالقرآن ، في القرآن الكريم آيتان :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)  ﴾

[ سورة ص ]

فالحق هنا ضد الباطل .  وفي آية أخرى :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)  ﴾

[ سورة الأنبياء  ]

ما خلقناهما إلا بالحق ، فكلمة ( بالحق ) يقابلها بالباطل أو لاعبين ، فالحق ليس باطلاً ، والحق ليس لعباً ، فالباطل كل شيء طارئ ، كل شيء زائل :

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)  ﴾

[ سورة الإسراء ]

من صفات الباطل الثابتة التي تترابط معه ترابطاً وجودياً أن الباطل زائل ، فالجدار الذي يبنى بشكل مائل هذا جدار باطل ، لأنه لا بدّ من أن يقع ، والتنظيم الذي فيه إجحاف لإنسان لو أن تركة وزعت بين أربعة أولاد ، وكان هذا التوزيع مجحفاً بحق بعضهم هذا التوزيع باطل ، بمعنى أنه لن يطبق ، ولن يستمر ، ولن يعترف به ، ما دام هذا التوزيع فيه إجحاف لولدين ، ومحاباة لولدين فهو توزيع باطل ، والشيء الباطل لا يستمر ، ولا يستقر.

الباطل الشيء الذي يزول ، لأن فيه خللاً ، لأن فيه ضعفاً ، لأن فيه تناقضاً ، لأن فيه ظلماً ، لأن فيه نظرة من جانب واحد ، الباطل هو الشيء الذي يزول ، فالحق هو الشيء الثابت على مرّ العصور والدهور ، على اختلاف الأزمان والأوقات ، في كل الأمصار ، في كل الأصقاع ، في كل البيئات ، في كل الظروف ، عند كل الناس ، أسودهم ، وأبيضهم ، وأحمرهم ، وأصفرهم ، غنيهم ، وفقيرهم ، الحق حق ، الشيء الثابت الذي لا يتزحزح .

 

معاني الحق :

 

1 ـ الإنسان إما أن يتبع الحق أو يتبع الباطل :

من معاني الحق أنك إما أن تكون متبعاً للحق ، وهو الشيء الثابت ، وإما أن تكون متبعاً للباطل ، وهو الشيء الزائل ، ثابت لأنه بني على قواعد صحيحة ، ثابت لأنه بني على العدل ، ثابت لأنه بني على المنطق ، ثابت لأنه استند إلى حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه بني على خرافة ، أو على كذب ، أو على تزوير ، أو على ظلم ، أو على بغي ، فالشيء الباطل هو الشيء الزائل لخلل فيه ، والشيء الحق هو الشيء الثابت ، لأنه يستند إلى حقيقة ، إلى واقع ، إلى منطق ، إلى حجة ، إلى دعم من الله رب العالمين ، هذا المعنى الأول .

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ أي الحق يتنافى مع الباطل ، لو أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض ، وخلَقَنا على هذه الأرض ، وعاش الناس كما تعرفون ستين عاماً ، سبعين عاماً ، أربعين عاماً ، ثلاثين عاماً ، هذا عاش فقيراً  ومات فقيراً ، ولم يُتح له من متاع الدنيا شيئاً ، هذا عمّر عمراً طويلاً ، هذا ما إن استوفى دراسته حتى وافته المنية بحادث ، هذه الحياة القصيرة ، كلّ هذا الكون لحياة قصيرة مليئة بالمتاعب ، ألهذا خلقنا ؟ لا بدّ أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لهدف كبير ، خلقنا بالحق ، والحق الشيء الدائم ، الشيء الثابت المستقر ، لا بدّ من أن خلق السماوات والأرض كان خلقاً لحياة أبدية سرمدية دائمة .

أما أن يحيا الإنسان حياة يُعدّ نفسه للعمل ، ما إن يتسلم عمله حتى يموت بعد سنوات ، هذا الشيء لا يتناسب مع عظمة الكون ، لا بدّ من حياة أخرى ينصف فيها الإنسان ، يؤخذ على يد الباغي ، وينصر فيها المظلوم ، لا بدّ من حياة تتحقق فيها معنى العدالة ، إذاً : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾   هذا معنى .  

2 ـ الله تعالى منزَّه عن العبث :

المعنى الثاني مستنبط من الآية الثانية وهي : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ اللعب هو العبث ، الإله جلّ شأنه لا يعقل أن يعبث بالخلق ، خلقه ليس عبثاً .

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

العبث هو العمل الذي لا يتوخى منه صاحبه هدفاً ، من تعاريف اللعب : هو عمل آني ، ليس له هدف ، هدفه تمضية الوقت ، فالله سبحانه وتعالى جلّ عن أن يعبث : ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ بلا هدف :

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ﴾

[ سورة القيامة  ]

هكذا ، من دون حساب ، من دون مسؤولية ، من دون تدقيق ، إذاً : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾

3 ـ الحق هو الحكمة الثابتة :

شيء آخر ، جاء في بعض التفاسير أنه بالحق أي بالحكمة الثابتة ، أي هناك حكمة ما بعدها حكمة ، هناك حكمة من خلق السماوات والأرض ، حكمة ثابتة لا تقبل التغير ، قد ترتئي أنت ، وأنت الإنسان الضعيف أن هذا العمل هو أحكم ما يكون ، بعد أن تكبر ترى أن هذا العمل أخرق ، وأن الحكمة عكس ذلك ، لكن خلق السماوات والأرض كان بالحق ، بمعنى أن هناك حكمة ثابتة من خلق السماوات والأرض ، ما هي هذه الحكمة ؟ قالوا : هي الاستدلال بالسماوات والأرض على صانعها ، أي على خالقها ، آيات تدل على الخالق ، السماوات والأرض بدءًا من الذرة ، وانتهاء بالمجرة ، السماوات وما فيها ، والأرض وما فيها ، وما بين السماوات والأرض ، كل الكون مخلوق ليجسد أسماء الله الحسنى.

إذاً : الهدف الأول أن تعرفه من خلال الكون ، ما هي الحكمة الثابتة التي خلق الكون من أجلها ؟ أن يكون هذا الكون دليلاً على الواحد القهار ، دليلاً على الله الأحد الفرد الصمد ، أن يكون هذا الكون دليلاً للإنسان على خالقه ، هذه هي الحكمة الثابتة .

لماذا جعله الله دليلاً على ذاته ؟ لأنك إذا عرفت ذاته عبدته ، وإذا عبدته سعدت بقربه إلى الأبد ، وهذا هو الهدف من خلق السماوات والأرض .

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)  ﴾

[  سورة الذاريات  ]

شيء مهم جداً أن تعرف لماذا خلق الله السماوات والأرض ؟ أي ما من شيء يعلو على هذا الهدف ، لماذا أنت على وجه الأرض ؟ من أنت ؟ أين كنت ؟ وإلى أين المصير ؟ لماذا السماء وما فيها من مجرات ؟ لماذا الشمس والقمر ؟ لماذا الأرض ؟ لماذا الجبال ؟ لماذا هذا التنويع الهائل في المخلوقات ؟ لماذا ؟ لماذا هذا الجمال في الأرض ؟ جمال الأزهار ، الأطيار ، الأسماك ، البحار ، الجبال ، لماذا ؟ لماذا تنويع الغذاء ؟ لماذا الحياة والموت ؟ أسئلة كبيرة ، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ .. والحق هو الحكمة الثابتة ، ومعنى الحكمة الثابتة أن هذا الكون خلق من أجل أن يكون دليلاً على الواحد القهار ، الله سبحانه وتعالى لا نستطيع أن نراه في الدنيا ، لا تدركه الأبصار ، ولكن الأبصار ترى خلقه ، والعقول تستنبط من هذا الخلق أسماءه الحسنى وصفاته .

 

الكون كله تعريف بالله :


 إذاً الحكمة الثابتة أن نستدل على الله بالسماوات والأرض ، وماذا يعني أن نستدل على الله بالسماوات والأرض ؟ إذا عرفته عبدته ، أي قادتك هذه المعرفة إلى تطبيق أوامره ونواهيه ، وهذا هو الإسلام .

﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) ﴾  

[ سورة آل عمران  ]

أي أن تنقاد في كل أقوالك ، وأفعالك ، وتصرفاتك ، ومواقفك إلى أمر الله سبحانه وتعالى ، هذه هي حقيقة العبادة ، إذاً: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ، أي خلق الكون لعلة المعرفة ، كي تعرف الله سبحانه وتعالى ، هذا ملخص الملخص ، هذا الكون من أجل أن تعرفه ، فإذا عرفته عبدته ، فإذا عبدته سعدت بقربه إلى أبد الآبدين ، إذاً الهدف الأكبر من خلقك أيها الإنسان أن يسعدك الله سبحانه وتعالى سعادة لا تزول ، ولا تحول ، ولا تتناقص ، سعادة مستمرة متزايدة .

هذا الهدف النبيل ، هذا الهدف العظيم وهو أن يكون الكون أداة لتعريفك بالله ، وتعريفك بالله طريق إلى عبادته ، وعبادته طريق إلى سعادتك الأبدية ، هذا الهدف النبيل لا يتناسب مع الفساد في الأرض ، لا يتناسب مع الانغماس في الشهوات ، وترك معرفة رب الأرباب ، لا يتناسب هذا الهدف النبيل مع الركون إلى الدنيا ، والاستمتاع بها ، لا يتناسب مع إشاعة الفساد في الأرض ، لذلك لا بدّ من أن يرسل الله سبحانه وتعالى رسلاً مبشرين ومنذرين ليحذروا الناس من مغبة غفلتهم ، وسقوطهم في وحول الشهوات ، إذاً إرسال المرسلين بالحق ،  انسجاماً مع الحق الذي خلق الله الكون من أجله ، هذا الحق أي هذا الهدف العظيم هو الذي يدعو إلى إرسال الأنبياء والمرسلين ، وهو الذي يدعو أيضاً إلى إهلاك الفجرة الفاسقين .

 إذاً خلق السماوات والأرض بالحق ، وإنزال الكتب بالحق ، وإرسال الرسل بالحق ، وإهلاك الأقوام الطاغية بالحق . 

 

الساعة آتية لا ريب فيها وهذا ما يؤكد أن خلق السماوات والأرض بالحق :


﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ هذه الباء في كلمة : ( بالحق ) قال عنها العلماء : هي للمصاحبة والملابسة ، أي خلق السماوات والأرض صاحَبَه هذا الهدف العظيم دائماً وأبداً ، خلق السماوات والأرض متلبس بالحق ، الحق مواكب لخلق السماوات والأرض ، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ .. والدليل على أنه بالحق ، وأن الساعة لآتية ، هذه الساعة التي تلقى فيها جزاء عملك ، هذه الساعة التي ينصف فيها المظلوم ، هذه الساعة التي يحاسب فيها الإنسان عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقه ؟ هذه الساعة التي يفصل الله بها بين الخلائق ، الله يفصل بينهم يوم القيامة .

إن الذي يكمل خلق السماوات والأرض أن الساعة آتية لا ريب فيها ، لو لم تكن هناك ساعة آتية لتعطلت بعض أسماء الله الحسنى ، وهو أن الله حق ، وقد يكون في الأرض الباطل ، وقد يكون في الأرض البغي والعدوان ، لو لم يكن هناك ساعة آتية لتعطلت أسماء الله ، أو بعض أسماء الله سبحانه وتعالى ، فالذي يؤكد أن خلق السماوات والأرض بالحق هو أن الساعة آتية ، هذه الساعة يفصل الله بها بين الخلائق ، يعطي كل إنسان جزاء عمله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وإن الساعة آتية ، وكل متوقع آت ، وكل آت قريب .

ما هي إلا فترة لا نحس بمرورها إلا وجاء العام التالي ، والعام الذي يليه ، ثم يأتي الموت ، ويُنسى هذا الإنسان ، ويلقى عمله ، ويُحاسب عليه .

 

الحق لا يتحقق إلا يوم الدين :


﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ﴾ هذا يؤكد آية أخرى :

﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ﴾  

[  سورة الروم  ]

بدأ الخلق فجسد بهذا الخلق أسماءه الحسنى ، وأعاد الخلق فحقق اسم الحق ، لأن الحق لا يتحقق إلا يوم الدين .

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)  ﴾

[ سورة الفاتحة ]

يوم يدين فيه الرجل والعبد لله عز وجل ، يخضع له خضوع الرجل أمام القاضي ، لمَ فعلت كذا ؟ لمَ لمْ تفعل ؟ لمَ قلت كذا ؟ لمَ لمْ تقل ؟ لماذا أعطيت ؟ لماذا منعت ؟ لماذا قدمت ؟ لماذا أخرت ؟ ماذا فعلت ؟ ماذا عملت بكتابي ؟ هل طبقته ؟ لمَ لمْ تطبقه ؟ وهكذا . ﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ .

 

الفرق بين العفو والصفح :


العلماء قالوا : هناك فرق بين العفو وبين الصفح ، فالعفو أن تتجاوز هذا الذنب فلا تُعاقِبُ عليه ، لكن الصفح أن تنساه كلياً ، أن تعفو عن صاحبه ، وألا تعاتبه عليه إطلاقاً ، فربنا عزّ وجل أمر النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً له : ﴿فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾   ، بعض علماء اللغة يقول : الصفح ترك التثريب ، والتثريب هو اللوم ، وترك التثريب أبلغ من العفو ، فقد يعفو المرء ولا يصفح ، يقول لك : عفوت عنه ، قوله : عفوت عنه أي لم يصفح عنه ، لقد أساء إليّ فعفوت عنه ، ولم أعاقبه ، هذا تثريب ، هذا ذكر ، إنك لا تنسى هذا العمل ، عفوت عنه ولكنك تذكر ذنبه وتذكر عفوك عنه فهذا ليس صفحاً جميلاً . ﴿ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ .

الصفح الجميل أي أن تعرض عن صفحة ذنبه ، هذه صفحة ذنبه تطويها ، وانتهى الأمر ، هذا هو الصفح ، أو أن تفتح له صفحة جديدة في التعامل معك ، إما أن تطوي صفحة ذنبه وإما أن تفتح له صفحة جديدة ، والصفح هو العفو مع ترك التثريب ، ترك الملامة ، ترك الذكر ، ترك الامتنان . النبي عليه الصلاة والسلام يأمره الواحد الديّان أن يصفح الصفح الجميل ، اصفح ، أي كأن الله عز وجل يقول : ما دام الله بصيراً بحالهم ، وسيحاسبهم عن أعمالهم ، لأن الساعة آتية ، إذاً فاصفح عنهم الصفح الجميل ، أي هذا الذي أساء إليك لابدّ من أن يوقف يوم القيامة ليحاسب على إساءته ، ولابدّ من أن يندم على فعلته ، ولابدّ من أن يلقى جزاءه ، ولابدّ من أن يذوب ندماً على فعلته إذاً أنت فاصفح عنهم .

إذا ارتكب رجل مخالفة ، وكُتِب فيه ضبط ، وأحُيل إلى القضاء ، لماذا أنت مهموم ؟ لابدّ من قاض حَكَمٍ فصلٍ يحكم في هذه القضية ، لذلك قال الشاعر إيليا أبو ماضي:

حُـــــــــــرٌّ وَمَذهَبُ كُلِّ حُرٍّ مَذهَبي        ما كُنتُ بِالغاوي وَلا المُتَعَصِّـبِ

يَأبى فُؤادي أَن يَميلَ إِلى الأَذى        حُبُّ الأَذِيَّةِ مِن طِباعِ العَقــــرَبِ

لـــــــي أَن أَرُدَّ مَساءَةً بِمَســـــاءَةٍ         لَو أَنَّني أَرضى بِبَرقٍ خُـــــــــلَّبِ

حَسبُ المُسيءِ شُعورُهُ وَمَقالــُهُ         في سِرِّهِ يا لَيتَني لَم أُذنـــــــــــِبِ

***

﴿ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ من أحبّ الله سبحانه وتعالى يطبق هذه الآية ، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، إنسان أساء ، أنت عفوت عنه ، شيء جميل ، ولكن الأرقى من العفو عنه أن تنسى هذا الذنب كلياً ، أن تقلب صفحة ، أن تطوي صفحة ذنبه ، وأن تفتح له صفحة جديدة وكأنه ما فعل معك شيئاً ﴿ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ ما دام الله بصيرًا بحالهم ، إنّ الله بصير بالعباد . 

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)  ﴾

[ سورة الإسراء ]

بصير بحالهم ، سيحاسبهم على أعمالهم ، أنت اصفح عنهم الصفح الجميل . 

 

علة خلق السماوات والأرض هي أن تعرف الله سبحانه وتعالى :


﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ الحق أي معنى مهم جداً ، خلقت كي تسعد به ، اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإذا فتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحبّ إليك من كل شيء ، يا رب ماذا وجد من فقدك ؟ وماذا فقد من وجدك ؟ خلقت لتسعد بقربه ، ولا تسعد بقربه إلا إذا عبدته ، ولا تعبده إلا إذا عرفته ، ولا تعرفه إلا إذا تأملت في خلق السماوات والأرض ، لذلك : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ خلقت السماوات والأرض كي تعرف الله من خلالهما .

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)  ﴾

[ سورة الطلاق  ]

أي العلم هو علة خلق السماوات والأرض ، خلق الله السماوات والأرض لتعلم أن الله على كل شيء قدير :

﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) ﴾

[ سورة المائدة ]

آيات كثيرة تؤكد أن علة خلق السماوات والأرض أن تعرف الله سبحانه وتعالى ، لذلك لو رأيت حاجة من حاجات الدنيا ولو أنك لم تقتنِها .

لذلك لو رأيت حاجة من حاجات الدنيا ، لو أنك لم تقتنها ، لو أنك ما ذقت العسل في حياتك ، لكنك قرأت عنه ، وعن فوائده ، وعن نظام النحل ، وعن هذا النظام المعجز في خلق هذه الحشرة ، وخشع قلبك ، وانهمرت دمعات من عينيك لقد حققت الهدف  من خلق هذه النحلة ، وهو أنك عرفت الله من خلالها ، مع أنك لم تذق طعم العسل ، أن تذوق طعم العسل شيء ثانوي بالنسبة لمعرفة الله من خلال الكون ، لأنك إذا عرفته فسوف تدخل الجنة ، وفي الجنة أنهار من عسل مصفى – ليس كيلو واحداً - أنهار من عسل ، من لبن ، إذاً النحلة من أجل أن تعرفه ، وهذه الوردة من أجل أن تسبحه ، وهذا البحر من أجل أن تمجده ، وهذه الجبال من أجل أن توحده .

إذا عرفت أن الكون خُلق من أجل أن يكون وسيلة إيضاح ، وأداة تعريف ، فقد حققت الهدف من خلقك ، فإذا استمتعت بالدنيا ، وملكت الأموال الطائلة ، وانغمست في نعيمها ، وفي شهواتها ، وفي زينتها ، وفي بهرجها ، ولم تعرف الله سبحانه وتعالى ، فكأنك عطلت علة خلق السماوات والأرض ، عطلت هذه العلة .

هذا الذي يشتري كتاباً ، ويجلده ، ويكتب عليه اسمه ، ويوقع تحت الاسم ، ولا يقرأ فيه ، ماذا فعل ؟ عطل الهدف من تأليف الكتاب ، الكتاب حينما أُلِّف من أجل أن تقرأه ، أنت افتخرت باقتنائه ، وضعته في مكان في مكتبتك ، طبعت عليه اسمك بماء الذهب ، كتبته ، وقّعت عليه ولم تقرأه ، أنت إذاً عطلت الهدف من تأليفه .

 

الله تعالى قادر أن يخلق الإنسان ثانيةً ليقف بين يديه ويحاسب عن أعماله كلها:


﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ طبعاً هذه الآية بالسياق ، الله سبحانه وتعالى خلّاق ، صيغة مبالغة ، أي قادر على أن يخلقك مرة ثانية ، لو أن إنساناً احترق في طائرة ، وأصبح ذرات من الهباب ، لو أنه غرق في البحر ، لو أن جثته حُرِقت في الهند ، وبعثرت في أنحاء الأرض ، هكذا في الهند يحرقون الجثة ، ويبعثرون رمادها في أطراف الدنيا ، ومع ذلك : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾   ، أي لا تعجزه في خَلقك ، لابدّ من أن تخلق مرة ثانية لتلقى جزاء عملك ، لتحاسب على ما قدمت وعلى ما أخرت ، لتدفع الثمن باهظاً عن كل المخالفات ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ وإذا نزعنا هذه الآية وحدها من دون السياق فلها معنى آخر ، أي انظر إلى خلق النبات ، انظر إلى الشجرة كيف تكون حطباً يابساً في الشتاء ، يأتي الربيع تزهر ، تنعقد الثمار ، بعد أسابيع ترى حبيبات صغيرة قد خلّفتها الأزهار ، هذه هي الثمار ، ثم تكبر وتكبر إلى أن تصبح تفاحة شهية المنظر ، من خلقها لك ؟ أأنت خلقتها؟ من طورها من حالة إلى حالة ؟ انظر إلى هذه الفواكه ، انظر إلى هذه المحاصيل ، انظر إلى هذه الأشجار ، إلى هذه الخضراوات كيف يُخَلِّقها الله عز وجل ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ هذه النقطة من ماء مهين ، بعد تسعة أشهر تصبح طفلاً وزنه ثلاثة كيلو ، لحم ؟ لا ، فيه معدة ، فيه مريء ، فيه حلقات ، فيه أمعاء دقيقة ، فيه أمعاء غليظة ، فيه أشعار ماصة ، فيه بنكرياس ، فيه كبد ، فيه صفراء ، فيه كليتان ، فيه كظر ، فيه حالب ، فيه مثانة ، فيه عضلات ، فيه أعصاب ، فيه جلد ، فيه أشعار ، فيه دماغ ، فيه عمود فقري ، فيه نخاع شوكي ، فيه معامل لكريات الدم في نقي العظام ، ثلاثة كيلو أمامك نقطة من ماء مهين ، حيوان منوي واحد دخل في بويضة ، وبعد تسعة أشهر إذا هو طفل يستجيب للضوء ، يستجيب للصوت ، يعطس ، يتثاءب ، يأكل ، يشرب ، يمص ثدي أمه ، ينام ، يستيقظ ، إذا كَبُر قليلاً يسلك سلوكاً معيناً ، يرفض ، يتكلم ، يضحك ، يبتسم ، ثم هو يتعلم بعض الآيات ، بعض السور ، ثم هو يفكر ، ثم هم يؤدي امتحاناً ، ثم هو يصبح شاباً ، ثم يصبح وزنه ثمانين كيلو ، ثم يغدو شخصية مهمة جداً ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ مَن خلقه ؟

﴿ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)  ﴾

[ سورة الواقعة  ]

﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ هذا الإنسان ، ومثله الحيوان كذلك ، اشترِ بقرة تجدها حاملاً ، بعد فترة يأتي عجل صغير يكبر يصبح بقرة ، كل يوم تعطي ثلاثين أو أربعين كيلو حليب ، ما هذا ؟ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ الدجاجة تعطي البيض ، من خلق البيض ؟ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ من خلق الحليب في ثديي البقرة ؟ ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ خلق الكواكب ، خلق الثمار ، خلق الأزهار ، خلق الأطيار ، خلق الأسماك ، خلق البحار ، خلق الأنهار ، خلق الينابيع ، خلق الهواء ، خلق الماء ، خلق المجرات ، خلق الشمس ، خلق القمر ، خلقك ولم تكن من قبل شيئاً ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾   ، قال لي شخص : خلال أيام العيد جاء أقربائي ، بناتي وأولادهن ، وأولادي وأولادهم ، كان مجموعهم خمسة وعشرين شخصاً ، قال لزوجته : قبل خمس وعشرين سنة كنا اثنين ، صرنا  سبعة وعشرين ، هؤلاء من أين أتوا ؟ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ هذا الطفل الصغير الذي وزنه ثلاثة كيلو ، في الثامنة عشرة صار وزنه سبعين كيلو ، ستين كيلو ، السبعة والخمسون كيلو عضلات ، أعصاب ، عظام ، أجهزة ، من أين ؟ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ راقب نمو نبتة ، راقب نمو هذه الخضراوات ، بذرة خيار هذه تنتج خمسة وعشرين كيلو ، غرام البذر من بعض الخضراوات ينتج طناً ، أي مليون ضعف ، الغرام الواحد من البذور ينتج مليون ضعف وزناً ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ هذه السماوات والأرض ، هذه الأمطار ، يقول لك : سبعون مليمتراً ، هل تعلم ماذا يعني هذا الرقم في ليلة واحدة ؟ كميات الأمطار أحياناً الإنسان يضطر أن يسافر يشاهد منخفضاً جوياً يغطي القطر كله ، كله أمطار ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ فهذه الآية وحدها لها معانٍ كثيرة ، وأما في السياق : ﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ لو أن ذرات هذا الجسد أصبحت هباء منثوراً ، لو أنها صارت ملقاة في البرية ، في الفلاة ، لو أن الإنسان احترق في الجو ، غرق في البحر ، أكله السمك ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ يخلقه ثانية ليقف بين يديه ، ويحاسب عن أعماله كلها ، فإن كانت هذه الأعمال كريمة أكرمه الله ، وإن كانت سيئة حاسبه الله .

 

الأحمق من انهمك بهموم الحياة ونسي الموت ولم يعدّ له :


الحقيقة عندما ينهمك الإنسان في هموم الدنيا ، ويغيب عن هذه الحقائق يكون قد ضيع كثيراً ، وفي الحديث عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم : 

(( من كانت الدُّنيا همَّه فرَّق اللهُ عليه أمرَه ، وجعل فقرَه بين عينَيْه ، ولم يأْتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له ، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه ، جمع اللهُ له أمرَه ، وجعل غناه في قلبِه  ، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ . ))

[ السلسلة الصحيحة :  خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد رجاله ثقات ]

خلقت لك ما في السماوات والأرض ، ولم أعي بخلقهن ، أفيعييني رغيف خبز أسوقه إليك كل حين ؟ لي عليك فريضة ، ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزق ، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، أي إذا غاب الإنسان عن هذا الهدف النبيل ، لماذا أنا على هذه الدنيا ؟ الناس في غفلة ، الناس نيام ، إذا ماتوا انتبهوا ، نذهب إلى أعمالنا ، ونعود إلى البيت ، نأكل ، وننام ، نستيقظ على بعض المعاصي ، نلهو ، نسهر ، نسمر ، ننام متأخرين ، نستيقظ بلا صلاة ، نذهب إلى أعمالنا إلى أن يأتي الموت فجأة ، فتكتب النعوة على الجدران ، ويدفن هذا الإنسان في التراب ، ولا يدري ماذا حلّ به بعد الموت ، إلى أين ذهب ؟ كيف سيحاسب ؟ متى يلغى وجوده ؟ لا يلغى وجوده أبداً .

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)  ﴾

[ سورة الزخرف ]

كيف يستسيغ الإنسان حياة قصيرة مليئة بالمتاعب ، ويضيع من أجلها حياة أبدية وعدنا الله بها ؟ قول وجدته لبعض الصحابة رضوان الله عليهم يتعلق بالموت ، قال هذا الصحابي : << ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت >> .

هل بقي أحد من الأولين ؟ هل بقي نبي ؟ النبي يموت ، العظيم يموت ، الغني يموت ، الصحيح يموت ، المريض يموت، << ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له كأنهم فيه شاكون >> هذا حال معظم الناس ، موضوع الموت خارج كل اهتمامه ، يقول لك : نريد أن ندهن البيت ، نريد أن نزينه ، نريد أن نوسع المحل ، نريد أن نعمل رحلة حول العالم ، نريد أن نزور ، نريد نعمل ، نريد أن نترك ، والموت ؟ هذه الرحلة الأبدية ، هذه التأشيرة على جواز السفر ، تأشيرة خروج بلا عودة ، ماذا نفعل بها هذه ؟ ما موقفك منها ؟

 

أواخر السورة ملخص لها :


أيها الإخوة الأكارم ، الملاحظ أن أواخر السور فيها آيات كأنها ملخص السورة كلها ، فنهاية سورة الحجر :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85)إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(86)وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87)لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89)كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90)الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ(91)فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95)الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ(98)وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ .

أتمنى على الإخوة الأكارم التأمل في هذه الآيات في هذا الأسبوع ، ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي ﴾ ما هي المثاني ؟ وما هي السبع المثاني ؟ ﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ﴾ أي أزواج هؤلاء ؟ ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ من هم المقتسمون ؟ ما معنى : ﴿ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ ؟ ما معنى : ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ ؟ أي يوجد أسئلة مهمة جداً أرجو أن تتأملوا في هذه الآيات ، لأنكم إذا تأملتم ، وتوقفتم وتساءلتم فهذا يعين على أن ترسخ المعاني في نفوسكم ، وأن تنقلب إلى مواقف ، إذا انقلبت المعاني إلى مواقف فهذا هو أكمل مردود لقراءة القرآن ، تقرأ القرآن ، تتفاعل معه ، تتأثر بمعانيه ، تطبقه في حياتك اليومية فقد سعدت به ، وفي الحديث الصحيح عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ . ))

[ صحيح البخاري ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور