وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الحجر - تفسير الآيات 4 – 15 أنواع الإهلاك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


  من معاني قوله تعالى : وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ :

 

1 ـ الإهلاك مقدر بزمن معلوم من قِبل الله عز وجل :

أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني من سورة الحجر ، بسم الله الرحمن الرحيم وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ ..حينما يصل إلى علمنا أن قرية أهلكها الله عز وجل بأيّ نوع من أنواع الإهلاك ، قد تُهلَك القرية بزلزال ، وقد تُهلك ببركان ، وقد تُهلك بمجاعة ، وقد تُهلك بحرب ، ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ ..

المعنى الأول لهذه الآية أن هذا الإهلاك مقدر بزمن معلوم من قِبل الله عز وجل ، وأن هذا التقدير له أساس ، الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحكيم ، ومن أسمائه العليم ، ومن أسمائه السميع البصير ، ومن أسمائه القوي ، فهذا الأجل الذي أجلها الله إليه بتقدير عزيز عليم  ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لكلِّ شيءٍ حقيقةٌ ، و ما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتى يعلمَ أنَّ ما أصابَه لم يكن لِيُخطِئَه  ، وما أخطأه لم يكن لِيُصيبَه . ))

[ السلسلة الصحيحة  : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن رجاله ثقات : أخرجه أحمد  واللفظ له ، وابن أبي عاصم في ((السنة))  ، والطبراني في ((مسند الشاميين)) . ]

كل شيء بقضاء وقدر ، والإيمان بالقضاء والقدر يذهب الهمّ والحزن .

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ ، فلا تَقُلْ : لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ. ))

[ صحيح مسلم  ]

هذا هو المعنى الأول ، أي إن هذا الإهلاك لم يكن صدفة ، لم يكن مرتجلاً ، لم يكن من غير حكمة ، لم يكن من غير علم ، لم يكن اعتباطاً ،  لم يكن تعسفاً ، إنما هو إهلاك بتقدير عزيز عليم ، في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ، وللأسباب المناسبة ، ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾

2 ـ لكل إنسان كتاب فيه عمله : 

المعنى الثاني : كيف أن لكل إنسان أو لكل موظف في الذاتية إضبارة فيها حسناته وسيئاته ، إنجازاته وعقوباته ومكافآته ، كل حركة ، كل سكنة ، كل عمل طيب ، كل عمل سيئ ، كل شيء يقوله ، كل شيء يفعله مسطر في هذا الكتاب ، يؤيد هذا المعنى قوله تعالى :

﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)  ﴾

[ سورة الإسراء  ]

 وقال :

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ -  والمقصود به كتاب الأعمال - لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)  ﴾

[  سورة الكهف ]

أي هذه القرية إن كانت تتعامل بالربا ، إن كانت تستبيح المحرمات ، إن كان الفقير فيها مظلوماً ، إن كان الغني فيها بخيلاً ، إن كان الأمير فيها قاسياً ، هذه القرية إن كان كسبها حراماً ، إن أباحت المنكرات ، إن فعلت الفواحش ، اضطهد الفقير ، استعلى الغني ، هذه القرية لها عندنا كتاب معلوم ، أعمالها ، انحرافاتها ، تقصيراتها ، معاصيها ، تجاوزاتها ، طغيانها ، كل هذا في الكتاب المعلوم ، ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ أهلكت بموجبه ، بموجب أعمالها المسطورة في هذا الكتاب ، فإذا سمعت عن كارثة ، عن زلزال ، عن فيضان ، عن خسف ، عن بركان ، عن قهر ، هذا إهلاك من الله عز وجل ، والإهلاك له كتاب معلوم .

أي هذه القرية ، أو هذا المجمع السكاني ، هذا الحي ، هذه البلدة ، هذه المدينة ، هذه لها عند الله كتاب معلوم ، يتقرر إهلاكها في ضوء هذا الكتاب ، تستحق الهلاك في ضوء معطيات هذا الكتاب ، في ضوء ما سطر عليها في هذا الكتاب.

الإهلاك إذاً ليس اعتباطياً ، ولا عشوائياً ، ولا صدفة ، ولا مزاجياً ، ولا مرتجلاً ، إنما إهلاك من تقدير عزيز عليم .  

3 ـ لكل أمة أجل ووقت مسمّى :

﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ .. أي إذا رأيت أمة أو مجتمعاً يزداد قوة واستعلاء ، ويزداد معصية انحرافاً وفجوراً ، لا تقل : لمَ لم يهلك الله هذه القرية ؟ إن لها عند الله كتاباً معلوماً ، هذا المعنى الثالث ، لا تستبطئ إهلاك القرية الفاسقة الفاجرة المنحرفة ، إن لها عند الله كتاباً معلوماً.

﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)  ﴾

[  سورة طه  ]

﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ﴾ أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليسعدهم ، ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا ﴾  إهلاكهم ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ ، فلكل أمة أجل . 

 

للإهلاك قانون عند الله عز وجل :


﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ الحقيقة هناك من يستنبط من المفسرين أن إهلاك القرية أو إهلاك البلدة أو إهلاك الأمة له عند الله قانون ، مادام فيها بقية خير ، مادام فيها ذرة من خير فالله سبحانه وتعالى يبقيها فلعل هذا الخير ينمو ، ولكن متى تستحق الأمة الهلاك ؟ إذا أصبحت عاتية عن أمر ربها ، ولا خير فيها ، ولا مثقال ذرة من خير فيها ، إذا شردت عن الله شرود البعير ، إذا عصت واستعلت في عصيانها ، إذا عصت ورأت أن المعصية هي الصواب ، وأن الدين شيء لا يصلح لهذا الزمن ، وأنه غيبي ، وأن العلم هو كل شيء ، إذا بلغت الأمة هذا المبلغ بمعنى أنه لا خير فيها ، لا خير يرجى من أبنائها ، لا ذرة إيمان فيها ، إذا استنفد الله كل وسائل الهداية ، وشردوا على ربهم شرود البعير عندئذ تستحق الأمة الهلاك ، لا يهلك إلا هالك ، فلا تقل : لو حينما تهلك الأمة ، أو تهلك القرية ، أو تهلك البلدة ، أو تهلك  المدينة فلا خير يرتجى منها ، قال:

﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)  ﴾

[ سورة الذاريات  ]

أخرجنا هذا البيت ، وأهلكنا الباقين .

 

الله تعالى لا يهلك قرية إلا بعد أن يستنفذ كل وسائل الهداية :


إذاً يمكن أن نستنبط من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى لا يهلك قرية إلا بعد أن يستنفذ كل وسائل الهداية ، حينما ترد الحق ، حينما تضطهد الحق ، حينما يضطهد الفقير ، حينما يستعلي القوي ، حينما تنتهك الحرمات ، حينما يأكل القوي الضعيف ، حينما تفجر فإنها تستحق الهلاك .

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)﴾

[ سورة الإسراء  ]

﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾

[ سورة هود ]

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)﴾

[  سورة البروج  ]

 

اتهام كفار قريش النبي الكريم بالجنون :


﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ .. من الذين قالوا ؟ كفار قريش ، زعماء الشرك ، علية القوم ، الملأ من قريش ، أصحاب الحول والطول ، أصحاب الجاه ، الأغنياء ، المترفون ، الأقوياء ، هؤلاء قالوا تهكماً واستهزاءً واستخفافاً ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ﴾ أي أنت تزعم أنه قد نزل عليك الذكر ، هذا بزعمك ، إنك لمجنون ، أي يبدو أنهم غارقون في ملذاتهم ، في حفلاتهم ، في نزهاتهم ، في ندواتهم ، غارقون في أفخر الطعام ، وأفخر الثياب ، يستمتعون بالمحرمات ، يأكلون الربا ، يفعلون الموبقات ، نظروا إلى هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فوجدوه عازفاً عن الدنيا ، بعيداً عن شهواتها ، مترفعاً عن حطامها ، وجدوه في قيمهم هم مجنوناً .

 لذلك وقد يقع الإنسان في حيرة ، كيف يكون المؤمن أبلهَ وهو الكيس الفطن الحذر ؟ كيف ؟ لا بدّ أن يكون أبلهَ في نظر الناس ، إذا أتيح لإنسان أن يأخذ مليوناً من الليرات بحركة بسيطة ، بملاحظة يكتبها ، بغض بصر يغضه عن شيء ما ، فإذا ترفع ورفض ، ورضي بدخله اليسير ، مؤثراً هذا الدخل اليسير على هذا المال الوفير ، لأنه من حرام ، إن هذا الإنسان الورع النزيه ذو القيم ، ذو المبادئ ، يتهم في نظر زملائه ومن حوله بأنه مجنون أو أبله ، نعم إنه أبله في نظر البله ، ويا حبذا أن يكون المؤمن أبله في نظر البله من أهل الدنيا ، أي هم غارقون في شهواتهم ، في حفلاتهم ، في متعهم الرخيصة ، نظروا إلى هذا النبي النظيف ، العفيف ، الطاهر ، الحامد ، المحمود ، نظروا إليه نظرة شهوانية ، نظرة منطلقة من قيمهم الأرضية ، من خلودهم إلى الدنيا ، فقالوا : ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ .

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء . ))

[ سنن ابن ماجه صحيح  ]

(( عن عبد الله بن عمرو : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ ، ونحن عندَه:  طوبى للغُرَباءِ ، فقيل : مَنِ الغُرَباءُ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : أُناسٌ صالِحون في أُناسِ سوءٍ كثيرٍ ، مَن يَعصيهم أكثَرُ ممَّن يُطيعُهم . ))

[ الهيثمي :مجمع الزوائد : حكم المحدث: : فيه ابن لهيعة وفيه ضعف ]

وهؤلاء الأحباب أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم نوّه بهم النبي عليه الصلاة والسلام :

مثلاً حينما يزمع التاجر أن يطبق شرع الله في تجارته يصبح أضحوكة بين الناس ، مجنون أتبيع بضاعة نسيئة بسعر غير نسيء ؟ إذا أراد التاجر أن يكشف عيب البضاعة يصبح أضحوكة بين زملائه ، (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )) إذا أراد الرجل ألا يأخذ مالاً حراماً ، وهو متاح له عند الناس يعد مجنوناً ، ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾  ، قال تعالى :

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ﴾

[  سورة القلم  ]

قال تعالى : 

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾

[ سورة هود  ]

إذا منحك الله رحمة عمّيت على من حولك ، هم في وادٍ ، وأنت في واد ، هم لهم أذواق ، وأنت لك ذوق ، هم يسعدهم الطعام والشراب ، وأنت يسعدك القرب من الله سبحانه وتعالى ، هم تسعدهم الدنيا ، وأنت يسعدك العلم ، ورتبة العلم أعلى الرتب ، ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ المجنون من عصى الله ، المجنون من باع الآخرة الباقية بالدنيا الفانية ، المجنون من آثر دنياه على آخرته فخسرهما معاً ، والعاقل من آثر آخرته على دنياه فربحهما معاً ، المجنون من سار في طريق مسدود ينتهي بالموت ، والعاقل من سار في طريق الإيمان الذي يوصله إلى روضات الجنان .

 

العقل أصل الدين :


العقل أصل الدين ، من لا عقل له لا دين له ، من لا دين له لا عقل له ، تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ويختلفان في العقل كالذرة جنب أحد ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين ، ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً .

الشيء الوحيد الذي يميز الإنسان عن الحيوان عقله ، ذكر الواقدي في المغازي في قصة خالد عند دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فأسرعت المشي فطلعت عليه -أي على النبي صلى الله عليه وسلم - فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه وسلمت عليه بالنبوة، فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير.

لمَ لم تستخدمه ؟ العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه ، فالمجنون من التفت إلى الدنيا على حساب الآخرة ، فالإنسان أحياناً حينما يسلم ، حينما يسير في طريق مستقيم ، حينما يلتزم الإسلام التزاماً صحيحاً قد يثور عليه أهله في البيت ، قد تتعبه زوجته ، قد يتعبه أبناؤه ، قد يعارضه أبوه ، قد تعارضه أمه ، تقول له : غيرت خطة حياتنا ، نشأنا على غير هذا ، فرقت الأسرة :

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ﴾

[ سورة القلم ]

أم سعد قالت لابنها سعد : يا بني ، إما أن تكفر بمحمد وإما أن أصوم حتى أموت ، فقال : يا أمي ، لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدة وَاحدة ما كفرت بمحمد فكلي إن شئت ، أو لا تأكلي .

﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) ﴾

[ سورة لقمان ]

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)  ﴾

[  سورة الكهف 28 ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)  ﴾

[ سورة الكهف  ]

 

من لم يؤمن بآيات الله فلن يؤمن بخرق العادات :


﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ﴾ .. أين الملائكة ؟ الآن الآيات سلكت مسلكاً خاصاً ، أي هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا باختيارهم ، إن لم يؤمنوا بمبادرة منهم فلن يؤمنوا ولو شاهدوا كل شيء ، الإنسان مخير ، ولن يؤمن إلا إذا أراد الهدى .

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) ﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) ﴾

[  سورة الإنسان  ]

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾

[  سورة البقرة  ]

﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ ﴾ ما دمت يا محمد تزعم أن ملكاً اسمه جبريل يأتيك بهذا الكتاب أين هذا الملك ؟ دعنا نره كي نؤمن بك ،( لو ما ) أي لولا أداة حَض ، ﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ﴾ يروى أن إنساناً معه ثروة كبيرة أراد أن يضعها عند شخص أمين بشرط أن يأكل غرفة من الملح - قصة يرويها الناس - فجاء رجل قال : أنا آكل كل هذه الغرفة ، قال : تفضل ، وضع إصبعه في فمه ، ولعق لعقة واحدة من الملح ، قال : أكلتها ، من لم يؤثر به القليل لن يؤثر فيه الكثير ، أي ملايين الآيات ؛ الشمس آية ، القمر آية ، النجوم آية ، المجرات آية ، الأرض آية ، الجبال آية ، الصحارى ، السهول ، الوديان ، الأغوار ، الأنهار ، الينابيع ، الثلوج ، البحار ، الأسماك ، مليون نوع من السمك ، الأطيار ، المواشي ، الأنعام ، الوحوش ، زوجتك ، ابنك ، السحاب ، الأمطار ، كل هذه الآيات الدقيقة أين هي ؟ ما فكرت فيها ، تريد أن ترى الملك الذي يأتي بالوحي ، إذا كنت في عمىً عن كل هذه الآيات فلن تؤمن بالله حتى لو رأيت الملائكة كلهم أجمعين .

أي هذه المثانة تتسع للتر ونصف من البول ، من جعلها بهذا الحجم ؟ من الممكن أن تمضي ثماني ساعات في عمل دون أن تحتاج لإفراغها ، هذا يحفظ لك شأنك بين الناس ، يحفظ لك مكانتك ، جالس في اجتماع ، راكب سيارة ، علماً بأن الكليتين تقذفان في هذه المثانة في كل دقيقة نقطتين ، فلولا المثانة لكانت حالة الإنسان لا تطاق ، ولكانت كرامته مهدورة ، من زود هذه المثانة بالعضلات ؟ لو لم يكن فيها عضلات والماء إن لم يكن فوقه ضغط هوائي لا ينزل ، والدليل مستودع الوقود لو كان محكم الإغلاق من أعلى الصنبور من الأسفل لا يسمح للوقود أن ينزل منه تحتاج إلى إعطائه بعض الهواء من فوق ، فهذه المثانة لولا هذه العضلات لا تفرغ ، مزودة بعضلات .

 هذه المثانة كيف تفرغها ؟ هناك أعصاب في جدرانها تتحسس بالضغط ، فإذا امتلأت بالبول ضغط البول على جدران المثانة فتنبهت أعصاب الحس ، فأرسلت إشارة إلى النخاع الشوكي أن قد امتلأت ، يأتي النخاع الشوكي فيعطي أمرين ، أمراً لعضلات المثانة بالتقلص ، وأمراً للفتحة التي في أسفلها المضبوطة بعضلة بالاسترخاء ، هذه العضلات تتقلص كي تدفع البول ، وهذه العضلة المحكمة تسترخي كي تفتح الصنبور ، هل هذا الفعل منعكس شرطي أي يتم في النخاع الشوكي ؟ لو كان كذلك لفتح الصنبور  وهو لا يشعر ، وهو في أحرج الأوقات ، لا ، هذا الأمر بإفراغ المثانة لا ينفذ إلا إذا صدّق من المراجع العليا ، من الدماغ ، في منطقة الوعي والمحاكمة والإدراك تأتي الموافقة على إفراغها في الوقت المناسب ، أما إذا تعنتت هذه المراجع العليا ، ولم توافق على إفراغها ، وأصرت على قرارها ، عندئذ يقع الإنسان في خطر التسمم بالبول ، يعود البول من الحالبين إلى الكليتين فيختلط بالدم عندئذ تكون المصيبة كبرى ، في هذه الحالة المركز العصبي في النخاع الشوكي يعطي أمراً بإفراغ المثانة من دون أن يرجع إلى المراجع العليا تفرغ المثانة .

 تصميم من ؟ هذه آية ، القلب آية ، المعدة آية ، خمسة وثلاثون مليون عصارة هاضمة في المعدة ، العين آية ، مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط في الشبكية ، العدسة آية ، عدسة مرنة يزداد تقعرها وتحدبها من أجل أن يبقى الخيال على الشبكية ، وهذه العملية المعقدة تسمى المطابقة ، هذه آية ، الدماغ آية ، الجمجمة مشدودة إلى الداخل بقوة تساوي أربعمئة كيلو ، لو أنك أردت أن تفتح هذه الجمجمة فتحاً ، أن تفكها من مفاصلها ، وتمكنت من أحد سطوحها لاحتجت إلى أربعمئة كيلو كي تشدها بها ، من جعل بين الجمجمة وبين الدماغ سائلاً يقيه الصدمات ؟ يوزع هذا السائل الصدمة على كل السطح على مبدأ الهيدروليك تماماً ، يأتي الضغط من جهة فيوزع على كامل السطح فلا يؤذي الدماغ ، هذه كلها آيات .

 هذه الأصابع آية ، هذه الخطوط ، التجاعيد في الجلد آية ، لولا هذه التجاعيد لما كان بإمكانك أن تثني أصابعك ، بطن الكف خال من الشعر آية ، لو كان الشعر هنا لأصبحت الحياة لا تطاق ، لاضطررت أن تحلق ذقنك وباطن كفك كل يوم بالشفرة ، ليس في الفم شعر ، هذا آية ، ليس في الشعر أعصاب حس ، آية ، لو أن في الشعر أعصاب حس لاضطررت أن تذهب إلى المستشفى ليجرى لك تخدير ، وبعد التخدير يأتي الحلاق ليحلق لك ، هذه آيات ، كل هذه الآيات التي لا تعد ولا تحصى ما رآها الإنسان ، أرنا الملك الذي يهبط عليك يا محمد  حتى نؤمن لك ؟ إن لم تؤمن بكل هذه الآيات فلن تؤمن بخرق العادات ، إن لم تؤمن بهذه الآيات المعجزات فلن تؤمن بخرق نظم الكون .

 

تولي الله سبحانه وتعالى حفظ القرآن الكريم بنفسه :


﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ(7)مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ﴾ الملائكة تنزل مرة واحدة بالعذاب ، وبعد العذاب يكون الهلاك ، فلا عودة ، ولا رجوع ، ولا توبة ، ولا توقف ، لو أن الملائكة نزلت على قوم لنزلت بالعذاب المبين : ﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ – وحينما تنزل الملائكة - وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ(8)إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ .. هذه الآية تطمئننا أن هذا الكتاب تولى الله سبحانه وتعالى حفظه رغم كيد الكائدين ، رغم تزوير المبطلين ، محاولات إثر المحاولات جرت لتعديل أو تبديل هذا الكتاب ، كل هذه المحاولات كشفت في وقت ولادتها ، وانتهت .

المستعمرون حينما كانوا هنا طبعوا خمسين ألف نسخة من كتاب الله ، وحذفوا كلمة واحدة مؤلفة من ثلاثة أحرف :

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)  ﴾

[  سورة آل عمران  ]

حذفوا كلمة( غير ) ، العملية كشفت في وقتها ، وأتلفت المصاحف ، وأحرقت .

شيء عجيب ، إذا تولى الله سبحانه وتعالى حفظ هذا الكتاب يوفر له أناساً مخلصين يحفظونه ، يهتمون به ، بدقائقه ، بمحكمه ، بمتشابهه ، بآياته ، مكيه ، مدنيه ، فربنا عز وجل تولى حفظ هذا القرآن .

طبعاً هناك قصص كثيرة ، يروى أن أحد الخلفاء التقى برجل من أهل الكتاب ، وكان يهودياً ، دعاه إلى الإسلام فأبى ، بعد عام رآه قد أسلم ، قال : يا هذا ما حملك على إسلامك ؟ قال : أخذت التوراة ، ونسختها ، وبدلت ، وزدت ، وأنقصت ، وبعتها في كنُسِ اليهود ، فاشتروها مني ، وقبلوها ، وجئت بالإنجيل فبدلت وغيرت وحذفت وأضفت وبعته في كنائس النصارى فاشتروه مني ، وقبلوه ، ثم جئت بالقرآن وعدلت فيه ، وبدلت ، وغيرت ، ولما أردت أن أبيعه للوراقين تصفحوه ، فعرفوا كل ما فعلته فيه ، فعلاً ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ أي إذا تولى الله سبحانه وتعالى حفظ الكتاب فلا تستطيع جهة في الأرض أن تنتقص منه حرفاً ، ولا حركة ، ولا ضمة ، ولا علامة وقف ، ولا أن تزيد فيه ، هذا الكتاب تولى الله حفظه ، ماذا فعل الكائدون للإسلام ؟ كادوا في تفسيره ، لذلك قال :

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)﴾

[ سورة يونس  ]

إذاً : ليحذر الإنسان من أن يقرأ تفسير آية أو حديث لمغرض ، كادوا في تفسيره ، كان في الكتاب الإسرائيليات وهي قصص اليهود عن أنبيائهم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، تتناقض مع كتاب الله تناقضاً كبيراً ، فسيدنا داود مثلاً أحب تسعاً وتسعين امرأة ، وتزوجهن ، ثم علم أن أحد قواده له زوجة جميلة فدفعه إلى القتال ، وأمرهم أن يقدموه كي يموت فيأخذ زوجته ، هذه بعض الإسرائيليات.

ربنا عز وجل ينفي عن هذا النبي الكريم هذه القصص ، تقوَّلوا على سيدنا يوسف أقوالاً هو منها بريء ، تقوّلوا على سيدنا موسى ، على سيدنا عيسى ، لذلك الحفظ في نص القرآن ، أما في تفسيره فيجب أن يكون الإنسان يقظاً لئلا يدخل عليه من تفسير المغرضين والكائدين للإسلام والمسلمين . 

 

التبديل والتغيير في كتاب الله مغلق ولكنه مفتوح للتأويل وللحديث :


أمّا الحديث الشريف فهناك وضّاعون كثر وضعوا في الحديث مئات ألوف الأحاديث الباطلة ، وضعوها ، حرموا بها الحلال ، حللوا بها الحرام ، أضافوا ، غيروا ، بدلوا ، لذلك يجب أن ننتبه انتباهاً جيداً حينما نقرأ الحديث ، أهو متواتر ؟ أهو صحيح ؟ أهو حسن ؟ أهو ضعيف ؟ أهو موضوع  ؟ أما أن نقرأ الحديث هكذا من دون تصحيح ، من دون تخريج ، من دون تمحيص ، من دون تدقيق ، فهذا قد يدخل على الإسلام ما ليس فيه ، أي باب التبديل والتغيير في كتاب الله مغلق : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ بقي الباب مفتوحاً للتأويل وللحديث وضعاً وتأويلاً ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ(10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ هذه الآية تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ هذا شأن المنافقين ، شأن الكفار ، يستخفون بالحق ، يستخفون بالدعاة ، يستخفون بالرسل ، ويستهزئون منهم .

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)  ﴾

[ سورة البقرة  ]

 

من معاني قوله تعالى : كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ :

 

1 ـ الله تعالى أفهم المجرمين كتابه ووضح لهم الحق :

﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ .. هذه الآية دقيقة جداً ، أي أوجه تفسير وجدته لها أن الله سبحانه وتعالى كما أنه أفهم المؤمنين كتابه الكريم كذلك سلك بالقرآن في قلوب المجرمين ، أي وضح لهم الحق ، فإذا كذبوا به فقد كذبوا به عن علم .

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾

[ سورة فصلت  ]

هذا الكافر مستهدف من الله عز وجل ، مطلوب أن يؤمن ﴿ كَذَلِكَ – هذا الكتاب - نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي أن الله عز وجل يضع المجرم في ظرف ، يسمعه الكتاب ، يسمعه تفسيره أحياناً ، يذكره بآية ، فإذا أصرّ على كفره فقد تولى أن يسمعه هذا الكتاب ، ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ..هذا المعنى الأول . 

2 ـ المجرم الغارق في شهواته لو قرأ القرآن يفهمه فهماً معكوساً :

المعنى الثاني : أن المجرم الغارق في شهواته ، لو قرأ القرآن يفهمه فهماً معكوساً ، لأن فيه قيوداً ، فيه حدوداً يرفضها ، يرفض القيود ، يرفض الحدود ، لذلك إذا قرأ الظالم القرآن كان عمىً عليه .

﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)  ﴾

[  سورة الإسراء  ]

قبلها :

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)  ﴾

[ سورة الإسراء  ]

الظالم لنفسه ، البعيد ، الشهواني ، المنحرف ، لو قرأ القرآن هو عمىً عليه ، يفهمه فهماً معكوساً ، يزيده ضلالاً ، هذا المعنى الثاني ، كذلك يستخفون به ، يستهزؤون به . 

 

سنن الله وقوانينه نافذة في خلقه :


﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾ .. أي قوانين الله نافذة ، أنت إما أن تؤمن بها فتنجو ، وإما أن تسخر بها فتهلك ، لو كلفنا إنساناً أن ينزل من الطائرة ، وهو في الجو ، الهواء له قوانين ، السقوط له قوانين ، الثقالة لها قوانين ، إما أن يفهم هذه القوانين ، ويتأدب معها ، ويحترمها ، فيستخدم المظلة ، فينزل إلى الأرض سليماً ، وإما أن يستخف بها ، ويحتقرها ، ويهزأ منها ، فلا يستخدم المظلة ، فينزل إلى الأرض مكسراً ، القوانين نافذة ، قوانين السقوط نافذة ، لن تعطل ، ولن تبدل ، فالقرآن الكريم أحكامه نافذة .

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124 ﴾ ﴾

[  سورة طه  ]

شيء قطعي ، إما أن تؤمن بهذه الآية فتذكر الله عز وجل ، فتسعد بقربه ، وإما أن تتجاهلها فتشقى . 

 

إن لم يكن الإيمان نابعاً من اختيار الإنسان ومن إرادته فلا فائدة منه :


﴿ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾ خلت أي مضت ، نفذت ، ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴾ .. لو أن السماء فتحت ، وصعد هؤلاء إليها ، ورأوا ما لا عين رأت ، رأوا ملكوت السماوات والأرض ، رأوا كل شيء : ﴿ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ .. إن لم يكن الإيمان نابعاً من اختيارك ، من إرادتك ، الإيمان القسري لا فائدة منه ، لو أن الله سبحانه وتعالى فتح لهم السماء ، وعرجوا فيها ، ورأوا ملكوت السماوات والأرض ما آمنوا ، ماذا يقولون ؟ ﴿ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا – أي منعنا عن النظر - بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ .. رأينا خيالات ليست حقائق ، هذه الآية دقيقة جداً ، لو أن الله سبحانه وتعالى كان هذا يجعلهم مؤمنين لفعله الله سبحانه وتعالى ، ولكن هذا لا يجدي ، ولا ينفع ، الهدى أن تأتي إلى الله طائعاً .

 آيات كثيرة أي لن يهتدي الإنسان إلا إذا سلك الطريق التي رسمه الله سبحانه وتعالى ، فإذا اقترح هذا الإنسان على الله طريقاً للهدى فإن هذا الطريق لا يجدي ، هم اقترحوا ، و : ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ ﴾ هم اقترحوا أن يروا الملائكة ، الله سبحانه وتعالى يجيبهم : لو أننا فتحنا السماء أبواباً ، وعرجوا فيها ، ورأوا كل الملائكة دفعة واحدة ، بل رأوا ملكوت السماوات والأرض : ﴿ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ لذلك نعود لقوله تعالى :

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)  ﴾

[ سورة الأنفال ]

 

القرآن الكريم لا يهتدي به إلا المستقيم :


أما معنى قوله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي هذا الكتاب لا يهتدي به إلا المطهرون .

﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)  ﴾

[  سورة الواقعة ]

لا يهتدي به إلا المستقيم ، أما المنحرف فإن الله سبحانه وتعالى يسلكه في قلبه كما يسلكه في قلوب المنافقين ، ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ(13)وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾


كل إنسان على وجه الأرض مستهدفٌ من قِبل الله عز وجل :


كلمة على قوله تعالى : ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ المعنى دقيق أي ربنا عز وجل حتى الكافر ، حتى المجرم ، حتى المعرض ، حتى الفاجر ، مستهدف من قِبل الله عز وجل ، مدعو للإيمان ، مدعو لمعرفته ، كيف قال تعالى :

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)  ﴾

[ سورة طه  ]

إذاً كل إنسان على وجه الأرض مهما يكن كافراً ، مهما يكن منحرفاً ، مهما يكن مجرماً ، مستهدفٌ من قِبل الله عز وجل ، فلا بدّ من أن يتوضح لهذا المجرم بشكل أو بآخر حقيقة هذا الكتاب ، بعد أن يعرف الحقيقة هو إما أن يستجيب أو لا يستجيب ، وإن لم يستجب فبعد أن عرف الحقيقة الحجة عليه ، وليست له ، هذا التفسير وجدته في تفسير محاسن التأويل.

والمعنى الأولي : أن المجرم لإجرامه ولبعده وانغماسه في شهواته وإصراره على معاصيه إذا سمع آيات القرآن يستهزئ بها ، لماذا ؟ لأنه لو لم يستهزئ بها لحاصرته نفسه ، لوقع في حرج داخلي ، لاختل توازنه الداخلي ، هو يخطط أن يعيش في الدنيا فقط ، الدنيا عنده هي كل شيء ، فإذا سمع آيات القرآن تنقله للآخرة ، وما فيها من عذاب أليم ، أو نعيم مقيم يختل توازنه الداخلي ، فيرد على هذا الاختلال بإنكاره هذا الكتاب أو الاستخفاف به ، المعنيان دقيقان .

إما أن الله سبحانه وتعالى الفعل فعله والكسب كسب العبد ، كأن تقول : رسّب المعلم الطالب ، الفعل فعل المعلم ، والكسب كسب الطالب ، تنفيذ الترسيب كان من قِبل المعلم ، ﴿ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾   بمعنى أن هذا المجرم لبعده عن الحق ، وانغماسه في الشهوات بعيد عن أن يفهم كتاب الله ، لو فهمه لاختل توازنه ، يرد على هذا الاختلال بالاستهزاء به ، هذا المعنى الذي عند أكثر المفسرين .

أما في تفسير محاسن التأويل فيرى أن الله سبحانه وتعالى يسلك هذا القرآن في قلوب المجرمين كما يسلكه في قلوب المؤمنين ، يوضح لهم كل شيء ، أحياناً المنحرف يوضع في ظرف يستمع إلى الحق ، يكون مدعواً إلى كتاب مثلاً ، حفلة قران ، يقوم شخص ، ويتكلم كلمة ، الله يسمعه الآيات ـ يسمعه الإنذار ، الوعيد ، يسمعه أن هناك آخرة ، فربنا عز وجل الآية تحتمل المعنيين ﴿ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أما أن تفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى منعهم من الهدى ، ثم أدخلهم النار خالدين فيها فهذا المعنى لا يقبله ذو عقل سليم .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور