- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (015)سورة الحجر
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السابع من سورة الحجر .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
الأنبياء أمضوا هذا العمر في هداية البشرية ، في نقلهم من الضلال إلى الهدى ، من الشقاء إلى السعادة ، في تخليصهم من عقائد الوثنية ، من ضلالات الشرك ، من وحول الشهوات ، من ترهات الأباطيل ، من الخرافات ، من الخزعبلات ، وهناك أشخاص هتلر مثلاً عاش عمراً ، وانتهى هذا العمر ، وترك خمسين مليون قتيلاً في الحرب العالمية الثانية ، إذا كان لكل قتيل أقرباء يزيدون على خمسة فمئتان وخمسون مليونًا من البشر قد أعطبهم ، هذا عمر ، \ والنبي عليه الصلاة والسلام بهذه السنوات الثلاثة والستين التي عاشها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور ، من الضلال إلى الهدى ، من الانحراف إلى الاستقامة ، من الشقاء إلى السعادة ، لذلك استحق أن يقسم الله رب السماوات والأرض بعمره الثمين .
وهذا الكلام لنا علاقة به ، هذا العمر الذي أحياه كيف أمضيه ؟ ما الموضوعات الكبرى التي تستغرقه ؟ كسب المال ؟ تأمين الحاجات ؟ الرفعة بين الناس أم لك في الحياة رسالة تؤديها؟ ما رسالتك ؟ ما الذي يعنيك في الحياة ؟ هناك أناس لا تزيد اهتماماتهم عن تأمين حاجاتهم ، لذلك أحد الشعراء في عهد سيدنا عمر قال بيتاً من الشعر فأدبه عمر رضي الله عنه وجعله يدخل السجن ، قال لأحد الأشخاص :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
***
من كان اهتمامه لا يزيد عن تأمين الطعام والشراب ، وتأمين حاجاته ، والخلود إلى الراحة والزينة وما إلى ذلك ، هذا العمر فارغ ، عش ستين أو سبعين أو ثمانين أو تسعين أو مئتين ، هذه السنوات كلها لا تعني شيئاً ، إن الله يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها ودنيها ، اسأل نفسك يا أخي هذا السؤال : أنا ماذا فعلت ؟ سؤال حرج ، ماذا فعلت ؟ حجمك عند الله بحجم عملك ، ما العمل الذي تستطيع أن تلقى الله به ؟ ما العمل الذي تستطيع أن تعرضه على الله عز وجل ؟ ماذا فعلت ؟
لا أنسى مرة حينما حضرت فيها جنازة ، وقام أحد العلماء ليؤبّن الميت فقال : فلان مؤذن ، ما تمكن أن يضيف كلمة واحدة ، مع أنني أعرف فلاناً رحمه الله ، كانت حياته مرفهة ، وكان دخله كبيراً ، وكان يحب أهل العلم ، وكان ، لكن ماذا فعل ؟ هل هدى واحداً ؟ هل أنقذ إنساناً ؟ هل خلف علماً ؟ هل خلّف ولداً صالحاً ينتفع الناس به يدعو له ؟ هل ترك صدقة جارية ؟ سؤال ؛ هذا العمر لفت نظري في هذه الآية كلمة العمر
النبي عليه الصلاة والسلام عاش هذا العمر ، ما من كلمة نطق بها ، ما من تصرف ، ما من سكوت ، سكوته تشريع اللهم صلِّ عليه .
عرَّف علماء الحديث الشريف بأنه أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراره ، لو أنه نظر إلى صحابي يفعل شيئاً وسكت فسكوته تشريع ، لأنه إذا سكت معنى ذلك أنه أقره على هذا العمل .
امرأة من خلف الستار كانت تخاطب زوجها المتوفى في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام..
(( فَعَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ، وَغُسِّلَ ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ – هذا الكلام يخالف آداب التوحيد - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ؟ قَالَتْ : فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا . ))
ما سكت ، لو سكت لكان قولها صحيحاً . إذاً هذا النبي الكريم أقواله ، أفعاله ، سكوته ، تصرفاته ، كلها كانت تشريعاً ، جاء إلى الحياة وغادرها وما أخذ منها شيئاً ، الدنيا دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له . عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . ))
الزمن أثمن شيء يملكه الإنسان :
هذا الزمان الذي تمضيه هو أثمن ما تملك ، فإذا انتهى فلا تملك شيئاً ، أي حينما تجلس على طاولة في الامتحان العام في صف التخرج ، وسيبنى على تخرجك آمال عريضة ، إن هذه الساعات الثلاثة هي وقت مصيري ، فإذا أمضيت هذه الساعات في عمل تافه ، في بعض الرسوم التي لا علاقة لها بالسؤال فهذا تضييع للوقت لأن أثمن ما تملك هو الوقت ، وهذا الكلام لكم أيها الإخوة ، إن أثمن شيء تملكونه هو الوقت .
أحد الصالحين كان يمشي في الطريق فرأى مقهى ، ورأى أناساً يقبعون فيه يلعبون النرد ، فقال : يا سبحان الله ! لو أن الوقت يشترى من هؤلاء لاشتريته منهم ، المؤمن يتمنى أن يكون النهار خمسين ساعة حتى يحقق طموحه ، يتمنى أن يتعلم كل شيء ، يتمنى أن يخدم الناس جميعاً ، يتمنى أن يصلي كل ليلة قيام الليل ، يتمنى أن يحفظ القرآن غيباً ، يتمنى أن يفهم التفسير فهماً كاملاً ، أي نية المؤمن خير من عمله يحتاج هذا إلى وقت ، فالوقت أيها الإخوة أثمن ما تملكونه .
وأنت بين أيام ثلاث ، يوم مضى لا يعود ، ويوم مقبل مغيب عنك ، ويوم تعيشه ، فما مضى فات ، والمؤمل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها ، لك هذه الليلة ، الليلة السابقة ليست لك ، إن كانت في خير أو إن كانت في شر ، إن أطعت الله فيها مضت ، وإن عصيته فيها مضت ، لا تندم على ما فات ، وتقول : غداً ، غداً لا تملكه ، غيب ، لا تملك إلا اليوم الذي أنت فيه ، لذلك كلما استيقظ الإنسان يخاطبه اليوم يقول : أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني فإني لا أعود .
على الإنسان ألا يفوِّت فرصة عمل صالح :
كلما استيقظ الإنسان صباحاً من فراشه يجب أن يأتي على خاطره ما يلي : لقد سمح الله لي أن أعيش يوماً آخر في حياتي ، سمح لي ، ما دام قد استيقظ .
لي صديق ذهب إلى فراشه الساعة الحادية عشرة ، زوجته في الساعة الثانية مست يدها يده ، فإذا هي باردة فانتفضت من الفراش فإذا هو ميت ، فإذا استيقظ الإنسان من فراشه صباحاً يجب أن يأتي عليه هذا الخاطر ، لقد سمح الله لي أن أعيش يوماً آخر ، أضيف إلى عمري هذا اليوم ماذا أفعل به ؟ راقب نفسك كيف تمضي هذا اليوم ؟ كيف يمضي ؟ قد يمضي بأشياء تافهة ، بمشاحنة فارغة ، بخصومة سخيفة ، بأعمال لا جدوى منها ، بحديث فارغ ، بغيبة ، بنميمة ، بجمع مال ، بتزيين بيت ، بزيارة قريب ، بالحديث عن الدنيا وعن حطامها وعن حاجاتها ، هذا إذا لم يكن هناك معصية ، هذا إذا أمضيت اليوم فيما لا يغضب الله عز وجل فأنت خاسر ، فكيف إذا أمضي اليوم في معصية ؟ كيف إذا ارتكبت فيه معصية ؟ كيف إذا كنت غافلاً ؟ كيف إذا كنت منحرفاً ؟ كيف إذا تجاوزت حدك إلى ما لا يرضي الله عز وجل ؟ والمغبون من تساوى يوماه ، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان .
هذا الدرس لا ينبغي أن ينتهي مع نهاية الدرس ، يجب أن تبقى هذه المعاني معكم طوال الأسبوع ، هذه شحنة ، أي استيقظت ، ماذا سأفعل اليوم من عمل يرضي الله عز وجل ؟ ماذا سأفعل من عمل أدخره لآخرتي ؟ لما بعد الموت ؟ إذا جاءني ملك الموت فجأة يا رب قدمت هذا العمل ، فعلت هذا العمل ، عدت هذا المريض لوجهك ، عاونت هذا الفقير لوجهك ، جلست في مجلس العلم حتى أتعرف إليك ، قرأت القرآن ، حفظته ، بررت أمي ، خدمت والدي ، أحسنت إلى جيراني ، دعوت إلى الله ، أمرت بالمعروف ، نهيت عن المنكر ، إذا استيقظت من منامك فانتبه أن هذا اليوم يوم جديد أضيف إلى عمرك ولن يعود ، أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد فتزود مني ، أمسك سيدنا عمر تفاحة فقال : أكلتها ذهبت ، أطعمتها بقيت .
ركبت سيارتك ، رأيت إنساناً يحتاج إلى أن توصله إلى مكان بعيد ، ومعك وقت ، هذه فرصة لعمل صالح ، لا يفوت هذا العمل ، لك جار مريض عدته ، وجدته بحاجة إلى طبيب ، فأتيت له بالطبيب ، وجدته بحاجة إلى الدواء ، فأحضرت له الدواء ، هذا عمل تدخره لما بعد الموت :
العاقل من يعمل لما بعد الموت :
معظم الناس يعملون لما قبل الموت ، والمؤمن يعمل لما بعد الموت ، إذا كان عملك لما قبل الموت عظيماً فينتهي بالموت ، مهما كان عملك عظيماً ينتهي بالموت ، مهما تركت من ثروة طائلة تنتهي بالموت .
يا أهلي ! يا ولدي ! لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناءة لكم ، والتبعة عليّ . فهذا النبي الكريم ما غفل عن الله لحظة ، ما نامت عينه ، دائم الذكر ، دائم الالتجاء ، دائم الدعاء ، دائم الرجاء ، دائم التوكل ، دائم التفويض ، دائم التسليم ، دائم الصبر ، دائم الشكر ، هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام لذلك استحق أن يقسم الله بعمره الثمين .
طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام بلغ سدرة المنتهى ، وبلغ المقام المحمود ، وكان أكرم الخلق على الحق ، لا يحتاج إلى اعتراف بهذا المقام هو غني عن هذا ، ولكننا نحن المحتاجون ، إذا قلت : إنه أقسم بعمره الثمين إنك لا تضيف شيئاً إليه ، هو هكذا ، هذه مرتبته ، وهذا مقامه ، وقد فاز ونجح وكان سيد الخلق وحبيب الحق وانتهى الأمر ، لن تضيف شيئاً بكل ما تقول ، ولكن الذي يعنيني أنت الذي تعيش ، الذي بين جوانحك قلب ينبض ، أنت المعني ، كيف تمضي هذا العمر ؟ كيف ؟ أتحضر مجالس العلم أم تحضرها شتاء وفي الصيف لك حركاتك ونزهاتك ؟ أمجلس العلم أغلى عليك من كل شيء ؟ معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى غال عندك .
عمر الإنسان إما أنه مليء بالخيرات أو تافه أو مليء بالشر والتجاوزات والطغيان :
أيها الإخوة الأكارم ، هناك عمر تافه ، وهناك عمر ملئ بالشر والتجاوزات والطغيان ، وهناك عمر ملئ بالخيرات ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ . ))
الذي أحب أن أقوله لكم الحقيقة مرة دائماً وهناك أسئلة محرجة ؛ اسأل نفسك : ما هو عملي الذي ألقى الله عليه ؟ ما هو عملي الذي أدخره لآخرتي ؟ ما العمل الذي يمكنني أن أعرضه على الله عز وجل ؟ إذا كان مقامي عند الله عز وجل بحجم عملي فما هو عملي ؟ هل تظن أنك إذا حضرت مجلس العلم ولم تكن في مستواه فقد فعلت شيئاً عظيماً ؟
(( عن عبد الله بن مسعود : أوْحَى اللهُ تَعالى إلى نَبيٍّ من الأنبياءِ أنْ قُلْ لِفلانٍ العابِدِ : أمَّا زُهدُكَ في الدنيا فتَعَجَّلْتَ راحةَ نفْسِك ، وأمَّا انْقِطاعُكَ إِليَّ فتَعزَّزْتَ بِي ، فماذا عَمِلْتَ فِيما لِي عليكَ ؟ قال : يَا ربِّ ! ومَاذا لَكَ عَلَيَّ ؟ قال : هَلْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا ؟ أو هل والَيْتَ فِيَّ ولِيًّا ؟ ))
ماذا أنفقت من مالك من أجلي ؟ ماذا أعطيت ؟ هل منعت من أجلي ؟ هل أعطيت من أجلي ؟ هل واددت من أجلي ؟ هل عاديت من أجلي ؟ هل أكرمت من أجلي ؟ هل خاصمت من أجلي ؟ ماذا فعلت من أجلي ؟
هذا كله مستوحى من قوله سبحانه وتعالى :
أنواع السكر :
أما معنى سكرتهم فقد قال أحد الشعراء :
سكران ؛ سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقته من به سكران
***
السكر أنواع ؛ بعض أنواع السكر أن يشرب الإنسان الخمر فتسكره ، وبعض أنواع السكر أن يهوى شيئاً فهو سكران في محبته ، هذا سكران بحب الدنيا ، وهذا سكران بحب متاعها ومتعها ، مباهجها ، شهواتها ، ملذاتها ، حطامها ، أماكن العلو فيها ، هذا سكر :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ﴾
الناس أحياناً يسكرون بالعذاب ، لشدة الهول يذهلون عن أنفسهم ، وعن أعز الناس عليهم ، والهوى سكر ، وهؤلاء قوم لوط سكارى بهذه الشهوات المنحرفة ،
أما سكرتهم فقد قال بعض المفسرين : ضلالهم ، لعمرك إنهم لفي ضلالهم يعمهون أي يلعبون ، هم في ضلال ويلعبون.
وبعضهم قال : سكرتهم أي حيرتهم ، ويعمهون يترددون ، إنهم لفي حيرتهم يترددون.
وبعضهم قال : سكرتهم شهوتهم المنحطة ، هم سكارى بها ، وقد تلتقي بإنسان سكران بشهوة ما ، غائب عن كل شيء ، لا يرى سواها ، لا يتحدث إلا عنها ، لا يعنيه إلا أخبارها ، لذلك الشهوات إذا استحوذت على القلوب حجبتها عن علّام الغيوب ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
وبعضهم فسر هذه الآية بأن هذه القبور هي قبور الشهوات ، والإنسان قد يدفن في الحياة الدنيا في قبر شهوته ، فإذا هو أعمى .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾
أعمى ، أصم ، أبكم ، إنه مدفون في قبر الشهوة ، هذا بالنساء ، وهذا بالمال ، وهذا بالعلو في الأرض ، وهذا بمباهج الدنيا ، وهذا بمتعها الرخيصة ، وهذا بدرهمها ودينارها ، وهذا بمركباتها ، وهذا بقصورها ، وهذا بأسواقها .
توجيهات للقسم الإلهي في القرآن الكريم :
شيء آخر ؛ هذا يقودنا إلى موضوع القسم ، الله سبحانه وتعالى أقسم بعمر النبي ، بعض العلماء فهم هذا القسم فهماً دقيقاً فقال : ما من شيء أقسم الله به أي إذا أقسم الله عز وجل بعمر النبي صلى الله عليه وسلم فهل أقسم الله بشيء أعظم منه ؟ لا ، الإنسان حينما يقسم يقول : والله العظيم ، الإنسان إذا أقسم يقسم بشيء أعظم منه ، لكن الله إذا أقسم له معنى آخر .
قال بعض العلماء : ما من شيء أقسم الله به إلا ليدل على فضله على ما يدخل في عداده ، أي من يدخل في عداد المصطفى ؟ البشر كلهم لأنه بشر ومن في عداده البشر ، فإذا أقسم بحياته فليدل بقسمه هذا على أن هذا الإنسان متميز على سائر البشر ، إذا قال :
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) ﴾
على هذا المعنى هناك أشجار كثيرة ، لكن التين والزيتون يقعان في المقدمة ، أشجار معمرة ، وتؤدي غايات كثيرة ، ولها منافع جمّة ، في السماء نجوم كثيرة ، قال :
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) ﴾
وأقرب النجوم لنا الشمس ، فإذا أقسم الله بشيء فليدل على أنه أفضل مما يدخل في عداده ، هذا بعض توجيهات الأقسام الإلهية .
وبعضهم قال : إذا أقسم الله بالشمس فهو يقول : ورب الشمس ، ورب القمر ، ورب السماء ، ورب محمد ، ورب هذا العمر الثمين ، إما أن توجه القسم بإضافة كلمة و ( رب ) وإما أن القسم يفيد أن هذا الشيء الذي أقسم الله به يفوق كل ما دخل في عداده ، وإما أن يقسم الله عز وجل بشيء هو بالنسبة إلينا عظيم ، لكن إذا قيس بالله عز وجل لا شيء ، بالنسبة إلينا يقسم ، بالنسبة إليه لا يقسم ، يقول :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) ﴾
الكون كله دخل فيه .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) ﴾
فهذا توجيه ثالث ، إذا أقسم بشيء فهذا الشيء بالنسبة إلينا ، وإذا لم يقسم بشيء فهذا الشيء بالنسبة إليه ، وإذا أقسم فليدلل أن كل ما دخل في عداده دونه ، أو لك أن تضيف مع الأقسام الإلهية كلمة و ( رب الشمس والقمر ) ، و ( رب الفجر وليال عشر ) هذه ثلاثة توجيهات للقسم الإلهي في القرآن الكريم .
الاقتداء بالنبي الكريم في عمل الصالحات وطاعة الله عز وجل :
على كلٍّ ما من شك في أن جميع العلماء اتفقوا على أن المقصود بهذا القسم هو عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا تشريف وتعظيم لعمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وتأكيد أن أيها الإنسان اقتدِ بهذا النبي العدنان ، أمض عمرك بهذه الطريقة ، ونظر إلى الماضي فرأى أن هذه السنوات أمضاها في طاعة الله ، وفي عمل الصالحات ، وفي تعلّم العلم ، وفي نشر العلم ، والله الذي لا إله إلا هو يغمر قلبه سعادة ما بعدها سعادة ، إذا شعرت أنك قد أمضيت هذا العمر في طاعة الله ، لذلك عَنْ أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ : عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ ، وفيمَ أنفقَهُ ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ ؟ ))
المؤمن مستعد للقاء ربه دائماً :
﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) ﴾
قدرة الله عز وجل في تدمير الظالم :
معاني كلمة سجيل :
والمعنى الآخر أن السجيل من السجل ، أي حجر سجل عليه اسم صاحبه ، بمعنى أنه في ملكوت السماوات والأرض ليس هناك شظية طائشة ، شيء طائش لا يوجد عند الله عز وجل ، فكل حجر عليه اسم الذي يستحقه من سجيل ، لذلك عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . ))
تعريف بالمتوسمين :
من علامة العاقل يتبصر ، يفكر ، يدقق ، يحقق ، يتريث قبل أن يقبل ، قبل أن يتهافت ، قبل أن يلقي نفسه في جحيم هذه الشهوة وفي أتونها ، ينتظر هل ترضي الله ؟ هل عملي صحيح ؟ ينطبق على الشرع ؟ هل فيه مخالفة ؟ هل توعد الله من فعل هذا بعذاب أليم ؟ قبل أن تأكل الربا قرأت قوله تعالى :
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
قرأت هذه الآية ؟ العاقل هو الذي يقف ، سيدنا عمر كان وقّافاً عند كتاب الله ، لا يتسرع ، قبل أن توقع هذا العقد مع شريكك هل تعلم أن في هذه البضاعة مادة حرام يحرمها الشرع ؟ قبل أن تأخذ هذا المبلغ هل علمت أن هذا المبلغ قد يكون حراماً ؟ قبل أن تطلق هذه الزوجة هل أنت متأكد أن هذا الطلاق يرضي الله عز وجل أم أن فيه سخط الله عز وجل ؟ قبل أن تشتري ، قبل أن تبيع ، قبل أن تتزوج هل اخترت المرأة الصالحة ؟ من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، من تزوجها لمالها أفقره الله ، من تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، قبل الزواج ، قبل الشراء ، قبل البيع ، قبل أن تسجل اسمك بهذه الرحلة في الصيف إلى بلغاريا هل تعرف ما في هذه الرحلة من معاصٍ ؟ من انحرافات ؟ من موبقات ؟ هل أنت تملك نفسك في هذه الأماكن ؟ قبل أن توافق كن متوسماً ، توسم الحقيقة قبل أن تصلها ، العاقل هو الذي يصل إلى الشيء قبل أن يصل إليه ، يصل إليه بفكره قبل أن يصل إليه بجسمه ،
دخل رجل إلى مجلس سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال : أو يدخل أحدكم إلى المجلس وعليه آثار الزنا ؟ فقالوا : يا خليفة رسول الله أوحي بعد رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنها فراسة صادقة .
والتوسم كما قال العلماء : التثبت والتفكر ، لذلك ورد في الأثر أن الحزم سوء الظن ، وسوء الظن عصمة ، واحترس من الناس بسوء الظن ، وكان عليه الصلاة والسلام يحذر الناس ، ويحترس منهم من غير أن يطوي بشره عن أحد ، بشره للجميع ، ولكن يحذر أحياناً .
شروط التوسم والفراسة :
العلماء قالوا : التوسم يحتاج إلى شروط ؛ إلى جودة القريحة ، وحدة الخاطر ، وصفاء الفكر ، وتفريغ القلب من حشو الدنيا - هذا الغارق بالشهوات قلبه أعمى - وتطهير النفس من أدناس المعاصي ، وقذرات الأخلاق الذميمة ، وفضول الدنيا ، هذا المتوسم إنسان قلبه شفاف ، فارغ من حب الدنيا ، فارغ من شهواتها ، فارغ من حطامها ، من مشاغلها ، من همومها ، المتوسم إنسان حاد الفكر ، حاد الخاطر ، صافي النفس ، بعيد عن المعاصي ، مطهر عن الدنس ، إذا كنت كذلك يؤتيك الله هذه الفراسة الصادقة .
وقال بعضهم : التوسم هو الاستدلال بالعلامات ، إما علامات ظاهرة ، أو علامات باطنة .
وبعضهم عدّ التوسم إدراكاً دقيقاً جداً عن طريق استدلال دقيق ، سيدنا الصديق رصي الله عنه حينما نزلت هذه الآية صار يبكي ، ماذا في هذه الآية ؟ قال تعالى :
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3) ﴾
صار يبكي ، البكاء ليس له معنى ،
(( عنِ ابنِ عبَّاسٍ قال : لَمَّا نزَلَتْ
هذا إدراك عميق جداً .
آثار قوم لوط تدل على مجدهم وحضارتهم ثم تدمير الله لهم :
أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر أهلكهم الله فكانوا عبرة لكل البشر :
أعرف رجلاً مضى عليه وهو يكسو بيته سنتان بالتمام والكمال لشدة وسوسته ، وشدة حرصه على أن يكون هذا البيت مثلاً أعلى في الأناقة والذوق ، بعد أن سكنه بشهر واحد توفيت زوجته ، وبعد ستة أشهر توفي هو ، إذاً عمل سنتين ، لم يسكن فيه إلا سبعة أشهر بالضبط ، فلذلك :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين