الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ترتيب الآيات في القرآن الكريم فيه حكمة بالغة جداً :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة الإسراء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(88)﴾ الله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن الكريم معجزة خالدة للنبي عليه الصلاة والسلام ، بينما معجزات الأنبياء تنقضي بانقضاء عصرهم ، معجزات الأنبياء السابقين تصبح أخباراً يصدقها المصدقون ، أو يكذبها المكذبون ، ولكن القرآن الكريم الذي جُعِل معجزة خالدة للنبي عليه الصلاة والسلام هو بين أيدي كل المسلمين ، فربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ في بعض الآيات :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)﴾
[ سورة الرحمن ]
في هذه الآية بدأ الله بالجن : ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ ، أما في الآية التي نحن في تفسيرها : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ هل هناك حكمة من تقديم كلمة الإنس في هذه الآية وتقديم كلمة الجن في تلك الآية ؟ العلماء قالوا : لأن الجن أقدر على النفوذ في أقطار السماوات والأرض فبدأ الله بهم ، ولأن الإنس أقدر على صياغة الكلام فبدأ الله بهم ، فأية كلمة ترتيب الكلمات في القرآن شيء يلفت النظر ، مثلاً ربنا سبحانه وتعالى قال :
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)﴾
[ سورة النور ]
وفي آية أخرى :
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
[ سورة المائدة ]
في السرقة بدأ الله بالسارق ، في الزنا بدأ بالزانية ، لأن المرأة أقدر على إغراء الرجل إلى الزنا من الرجل ، بينما في السرقة الرجل أقدر على السرقة من المرأة ، ترتيب الكلمات في القرآن الكريم بحث دقيق جداً ، في سبع عشرة آية قُدِم السمع على البصر :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)﴾
[ سورة المؤمنون ]
لأنه فعلاً يبدأ تكوّن السمع في الجنين ، بينما البصر لا يبدأ إلا بعد الولادة ، إلا في آية واحدة :
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
[ سورة السجدة ]
هذه الآية تشير إلى أن سرعة الضوء أشد من سرعة الصوت ﴿أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية ، أما السمع فثلاثمائة وثلاثون مترًا بالثانية ، في أكثر الآيات القرآنية ربنا عز وجل يبدأ ببذل المال قبل بذل النفس .
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾
[ سورة الحجرات ]
لأن بذل المال أسهل ، إلا في آية واحدة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
[ سورة التوبة ]
هذه الآية في معرض البيع القطعي ، وفي البيع القطعي تكتب الأهم فالمهم ، تكتب البيت ثم الدكان ، فترتيب آيات القرآن الكريم فيها حكمة بالغة جداً ، هنا : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ ، في آية خرق السماوات والأرض: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ وشتان بينهما ، الإنس أقدر على صياغة الكلام ، والجن أقدر على عبور السماوات والأرض .
القرآن الكريم كلام الله عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ الحقيقة فضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على خلقه ، المخلوق ضعيف ، عاجز ، يخطئ أحياناً ، يَضلّ ، لكن كلام الله عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أي إذا حصل اليقين بأن كل كلمة في هذا الكتاب مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة عندئذٍ يتمسك الإنسان به ، ويرى مصداقيته ، الإنسان دائماً يتمسك بالكلام بحسب شعوره بصدقه أو كذبه ، فإذا كان صادقاً ... أحياناً خبر صادق يهبط الأسعار مئة ألف لكل حاجة ، خبر في خمس كلمات ، لماذا تهبط الأسعار ؟ لثقة الناس أن هذا الكلام صحيح ، إذا وثقت من أن كلام الله عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه الإنسان ولا من خلفه عندئذٍ يكون التمسك به تمسكاً منقطع النظير ، حينما يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
[ سورة النور ]
أمر إلهي ، حينما يقول الله عز وجل :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
[ سورة الجاثية ]
يعجب الله عز وجل كيف يظن الإنسان الذي يجترح السيئات أنه سيسلم في الدنيا أو أنه سيعامل كما يعامل المؤمن ؟! هذا شيء مستحيل .
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
[ سورة القصص ]
حينما تقرأ هذه الآية :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) ﴾
[ سورة النحل ]
يجب أن تشعر بطمأنينة ما بعدها طمأنينة ، لأن خالق السماوات والأرض يعدك بهذه الحياة الطيبة ، حينما تقرأ قوله تعالى :
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
لا يضلّ عقله ، ولا تشقى نفسه ، يجب أن تطمئن ، إذاً هذا الكلام كلام الله رب العالمين ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، أي واقع لا محالة ، فضل كلام الله على كلام عبيده أو عباده كفضل الله على خلقه ، فربنا عز وجل قال : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(88)﴾ بإحكامه ، بنظام صياغته ، بشموله لكل حاجات الإنسان ، هناك أشياء القرآن تكلم عنها هي مهمة جداً ، هناك أشياء سكت عنها رحمة بنا ، فهذا القرآن الكريم مضامينه ؛ فيه مضمون تربوي ، فيه مضمون صحي ، فيه مضمون اجتماعي ، فيه مضمون اقتصادي ، فيه مضمون من كل ما نحتاجه ، فيه صياغة معجزة ، لا ترقى إليها صياغة ، وفيه مفتاح سعادتنا في الدنيا والآخرة ، وفيه أخبار الأمم السابقة ، وفيه أخبار ما سيكون بعد مضي الأيام ، وفيه إشارات إلى الحياة الآخرة ، وتوضيح وصور ، لذلك الله عز وجل جعل هذا القرآن دستوراً لنا .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾
[ سورة الأنعام ]
مضمون الحمد خلق السماوات والأرض ، آية ثانية :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ﴾
[ سورة الكهف ]
الكون في كفّة ، وهذا الكتاب في كفة ، أي هذا الكتاب هو المنهج ، الله عز وجل خلق الكون وخلق الإنسان ، وخلق له المنهج ، لذلك قالوا : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد .
إعجاز القرآن الكريم في مصداقيته :
العلماء بعضهم تحدث عن إعجاز القرآن الكريم فقالوا : هناك إعجاز ، ومعنى الإعجاز أن البشر لا يستطيعون مجتمعين أن يأتوا بمثله .
شيء آخر ؛ هناك إعجاز في نظم القرآن الكريم ، في صياغته ، هناك إعجاز في جزالة ألفاظه ، هناك إعجاز في أسلوبه ، هناك إعجاز في الإخبار عن الأمم السابقة :
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)﴾
[ سورة الشورى ]
هناك إعجاز في وعده ، فيه وعد مطلق ، ووعد مقيّد ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾
[ سورة النور ]
هذا وعد مقيّد ، وعد الله الذين آمنوا . .
﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) ﴾
[ سورة المائدة ]
في الوعد إعجاز ، في الوعد المطلق ، وفي الوعد المقيّد ، وفي أخبار الأمم السابقة إعجاز ، وفي تشريع الحلال والحرام إعجاز ، وفي الحكم الكثيرة العالية المستوى إعجاز ، وفي عدم الاختلاف وعدم التناقض إعجاز ، وأول ما في القرآن من إعجاز أنك إذا طبّقته قطفت ثماره ، في اللحظة التي تطبق بعض آيات القرآن الكريم تقطف ثمارها ، إذاً إعجازه في مصداقيته ، كيف تتأكد أن هذا الكلام كلام الله رب العالمين ؟ أن الوعد الذي وعدك الله إياه إذا قمت بما عليك قطفت الثمار التي وعدت بها .
من المستحيل أن يأتي الجن والإنس بمثل هذا القرآن ولو كان مجتمعين متكاتفين :
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾ الإنس كلهم ، والجن جميعاً مجتمعين ، متكاتفين ، متعاونين ، متضامنين ، على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ، هناك آيات أخرى :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)﴾
[ سورة هود ]
في آية أخرى :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) ﴾
[ سورة يونس ]
لا القرآن بكامله ، ولا عشر سور ، ولا آية واحدة .
المال وسيلة وليس هدفاً :
ربنا عز وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)﴾
[ سورة النساء ]
قرآن ، لا تأكلوا أموالكم ، لم يقل : لا تأكلوا أموال الناس ، بل أموالكم ، أي مال أخيك هو مالك ، يجب أن تحافظ عليه من التلف والضياع ، فلأن تمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى .
شيء آخر ؛ ﴿أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ إذا كانت الأموال متداولة بين أفراد الأمة كان الناس في بحبوحة ، وفي يسر ، فإذا أُكِلت الأموال بالباطل أصبحت الأموال متداولة بين فئة قليلة ، هذا من كلمة ﴿أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ .
أما كلمة ﴿تَأْكُلُوا﴾ لأن المال ليس هدفاً بذاته ، قيمته لا في ذاته ، بل في غيره ، إنه وسيلة ، وأولى أهداف كسب المال الأكل والشرب ، فربنا عز وجل لم يقل : لا تغتصبوا ، لم يقل : لا تضموا ، قال : لا تأكلوا ، إشارة إلى أن أول أهداف المال شراء الطعام ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ فكل مال من دون عوض فهو بالباطل ، المال الحلال هو مال اكتسبته بعِوَض أو بخدمة ، ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ النبي الكريم فهم من هذه الآية معاني دقيقة جداً ، التجارة يجب أن تكون عن تراض ، أي أن يكون المشتري راضياً فيما لو كُشِف الغطاء ، هذا إعجاز ، كلمات محدودة بيَّنت أصول كسب المال ، وحكم التجارة الصحيحة ، وكيف يكون الفقر من تداول المال بين الأيدي القليلة ، وكيف يكون أكل مال الناس بالباطل ، وكيف أن المال وسيلة ، وليس هدفاً ، وكيف أن الحياة الاجتماعية للمؤمنين كتلة واحدة ، إذا أكلت مال أخيك فكأنما أكلت مالك ، لأنك حينما أكلته بالباطل ضعّفته ، وإذا ضعف أخوك ضعفت أنت معه .
الآية التالية تبين إعجاز القرآن في صياغته :
آية ثانية :
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾
[ سورة هود ]
في القرآن إعجاز في صياغته : ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ الدابة نكرة ، والتنكير يفيد الشمول ، تقول : إنسان ، أي : ستة آلاف مليون ، إذا قلت : الإنسان العربي تقصد مئة مليون ، التنكير يفيد الشمول ، ربنا قال : ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ بمعنى أيّة دابة على وجه الأرض على الله رزقها ، أما ( من) فتفيد استغراق أفراد النوع ، أي : الدواب على الله رزقها ، أما (مامن دابة ) كل نوع ، كل فرد من كل نوع على حِدة تحديداً وتنصيفاً على الله رزقها ، إذاً كلمة ( دابة ) النكرة أفادت الشمول ، وكلمة (مِن ) أفادت استغراق أفراد النوع ، لو ربنا قال : الدواب على الله رزقها ، ما كان في هذه الدقة من المعنى ، لو قال : الدواب الله يرزقها ، لم نقل على الله رزقها ، يرزقها أو لا يرزقها لا على وجه الإلزام ، أما ( على ) فتفيد الإلزام ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ ، لو قال : الدواب على الله رزقها ، لا يوجد قصر ، الله يرزقها ، أو غيره يرزقها ، لكن ما من دابة إلا ، النفي والاستثناء أفاد القَصر ، والتنكير أفاد الشمول ، ومن أفادت استغراق أفراد النوع ، وعلى تفيد الإلزام ، معنى الإلزام مع القصر مع استغراق أفراد النوع مع الشمول ، كل هذه المعاني في كلمات ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ هذا إعجاز ، لو أن في الوقت مُتَّسَعاً لضربنا أمثلة كثيرة كيف أن صياغة القرآن لا يمكن أن تتغير ، نقل أيّ كلمة من مكان إلى آخر يختلف المعنى اختلافاً كلياً .
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
[ سورة النور ]
(من ) للتبعيض ، لأن هناك نظراً مباح إلى المرأة ، إلى الزوجة ، لك أن تنظر إليها ، الزوجة أو المحارم ، هذه (من ) أن تغض بصرك عن الأجنبيات فقط ، من أبصارهم .
شيء آخر ؛ ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ جُعلت آية غض البصر قبل آية حفظ الفرج تأكيداً إلى أن حفظ الفرج سببه غض البصر ، نظرة ، فابتسامة ، فموعد ، فلقاء ، ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ هناك ترتيب .
إعجاز القرآن الكريم في الأحوال الشخصية :
عندنا إعجاز بلاغي ، عندنا إعجاز رياضي ، عندنا إعجاز حسابي ، عندنا إعجاز تشريعي ، عندنا إعجاز يتعلق بالأحوال الشخصية ، ربنا عز وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)﴾
[ سورة الطلاق ]
بيوتهن ، البيت ملكك ، ثمنه ثلاثون مليونًا ، ملكك ، الله جعل البيت ملك المرأة ، ملكية اجتماعية ، بمعنى أن الإنسان يؤكد شخصيته في عمله خارج البيت ، لكن المرأة بحاجة ماسة إلى إرواء هذه الرغبة ، تأكيد الذات ، إبراز الأهمية ، جُعِل البيت ملكاً لها ملك إدارة ، أي دع البيت للمرأة ترتبه كما تشاء ، هذا معنى قوله عز وجل : ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ حينما نسب البيت إلى المرأة أي نسب إليها نسبة إشراف وإدارة تأكيداً لشخصيتها ، ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ إشارة ثانية إلى أن الزواج لا ينجح إلا في بيت مستقل ، بيوتهن لها بيت خاص .
المعنى الثالث ؛ أن أيّة مشكلة مهما كانت كبيرة إذا بقيت المرأة في بيتها تصغر إلى أن تتلاشى ، وأصغر مشكلة إذا أخرجتها من بيتها تكبر ، أدق قانون في التعامل الزوجي ، لو أحصينا حالات الطلاق لوجدنا في كل مئة حالة طلاق سبعين حالة من الطلاق سببها أنه في ساعة الغضب أخرج الرجل امرأته إلى بيت أهلها ، تفاقم الأمر ، جاءت مُغذّيات ، جاء أطراف أخرى تدخلوا في الأمر ، أما لو أن المرأة بقيت في بيت الزوجية ، أو أبقاها في بيت الزوجية لحُلّت هذه القضية بعد يومين ، لذلك : ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ .
شروط قوامة الرجل على المرأة :
قد يشكو الرجل ضعف قوامته على المرأة ، ربنا وضع قانونًا قال :
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)﴾
[ سورة النساء ]
يجب أن تكون أعلى منها ثقافة ، أعلى منها ورعاً ، أعلى منها علماً ، أعلى منها خلقاً ، إن لم تكن أعلى منها لا تستطيع أن تقودها ، ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ شرطان للقوامة ؛ أن تكون أعلى منها ، وأن تنفق عليها ، عندئذٍ مركب الزوجية يسير ، هذه أمثلة وشواهد على إعجاز القرآن ، الإعجاز في التشريع ، في البلاغة ، في البيان ، الإعجاز في ذكر أخبار الأمم السابقة ، الإعجاز في ذكر ما سيكون .
النبي الكريم تمثّل فيه القرآن تمثلاً صحيحاً :
والله لو أمضى الإنسان حياته كلها في الحديث عن إعجازه لا ينتهي ، كلام الله رب العالمين ، الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، وبعضهم يضيف على ذلك أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قرآن يمشي ، قرآن صامت هو الكون ، كون ناطق هو هذا الكتاب ، أما إذا أردت أن ترى إنساناً تمثّل فيه القرآن تمثلاً صحيحاً فهو النبي عليه الصلاة والسلام :
(( عن عائشة أم المؤمنين : أتَيْتُ عائشةَ ، فقُلْتُ : يا أُمَّ المُؤمِنينَ ، أخْبِريني بخُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، قالت : كان خُلُقُه القُرآنَ ، أمَا تَقرَأُ القُرآنَ ، قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم : 4] ، قُلْتُ : فإنِّي أُريدُ أنْ أتبَتَّلَ ، قالت : لا تَفعَلْ ، أمَا تَقرَأُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] ؟ فقد تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وقد وُلِدَ له . ))
[ شعيب الأرناؤوط : تخريج المسند لشعيب : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
سيدنا عمر كان وقافاً عند كتاب الله ، وقاف . .
الإعجاز في القرآن الكريم أنواع منوعة :
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)﴾
[ سورة المعارج ]
انظر لهذا الأدب الرفيع ، أحياناً تفتح كتاب فقه تخجل أحياناً ، يوجد ذكر لبعض الحالات لا ترغب أن يقرأ الكتابَ ابنُك ، يقولون : لا حياء في الدين ، لا ، الدين كله حياء ، والحياء من هذا الكتاب مأخوذ .
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) ﴾
[ سورة المعارج ]
﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ كل أنواع الانحرافات اللا أخلاقية في الأرض منطوية تحت قوله تعالى : ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ ، يقول لك الله عز وجل :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾
[ سورة النحل ]
يأتي شاب يعيش في سنة 1986 راكب سيارة فخمة ، أو ركب طائرة ، أو ركب باخرة سياحية ، ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ هو يركب سيارة ثمنها مليون ، يقول الله لك : ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾ هذه الكلمة غطَّت كل المستقبل ، فإذا ركبت طائرة كبيرة نفاثة كأنها مدينة متنقلة ، ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾ وكيف أن الله عز وجل عزا خلق الطائرة إلى ذاته ، لأن الفكرة من الله عز وجل ، هو الملهم ، يقولون : الاختراع قفزة المجهول ، الاختراع إشراق ، وهو الذي خلق المواد التي صنعت منها الطائرة ، وهو الذي خلق الوقود ، يوجد آية عن الوقود السائل :
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) ﴾
[ سورة يس ]
أحدث نظرية في البترول تقول : إنه في العصور المطيرة غابات عملاقة طمرت في باطن الأرض فكان منها البترول ، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً﴾ الإنسان يعجب الشجر الأخضر لا يشعل ، يبج أن يكون الشجر يابسًا ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)﴾ .
القرآن الكريم معجزة كاملة :
لذلك القرآن الكريم فيه إعجاز علمي ، إعجاز تاريخي ، إعجاز تشريعي ، إعجاز بياني ، إعجاز بلاغي ، إعجاز حسابي ، إعجاز رياضي ، هو المعجزة التي . .
(( من قرأ القرآن لم يُرَد إلى أرذل العمر . ))
[ أخرجه الحاكم وصححه بدلاً عنه وهو قول لابن عباس ]
يستحيل على مؤمن وعى القرآن أن يخرف في آخر عمره ، ((من قرأ القرآن لم يُرد إلى أرذل العمر)) القرآن غنىً لا فقر بعده ، ولا غنىً دونه ، لو أنك أنفقت كل مالك من أجل أن تفهم هذا الكتاب كنت أنت الرابح ، ولو أنك حصّلت أموال الدنيا وفاتك فهم هذا الكتاب كنت أنت الخاسر ، لأن هذا الكتاب دليلك إلى الله عز وجل ، مثلاً لو أحضرت آلة معقدة جداً أو جهاز كمبيوتر لتحليل الدم ، ثمنه اثنا عشر مليونًا ، يمكن أن تضع نقطة دم في الكمبيوتر تكبس زرًّا فيعطيك سبعة وعشرين تحليلاً فوراً ، وهناك أجهزة هكذا حقاً ، لكنها غالية الثمن ، إذا كان عندك في اليوم مئتا زبون ، وكل زبون خمسمئة ليرة ، اعمل حساباً ، هذا الكمبيوتر استوردته ، ولم يُرسل لك معه نشرة الاستعمال ، أليست هذه النشرة التي لم ترسل معه أهم منه ؟ لو استعملته بلا نشرة لأعطبته ، ولو لم تستعمله لجمدت ثمنه ، فمن أجل أن تستعمله وأن تربح لابد من قراءة هذه النشرة ، كيف أنه ثمين جداً ، وثمنه مرتفع جداً ، لا قيمة له إلا بهذه النشرة ، وكذلك الإنسان فيه غرائز ، فيه حاجات ، فيه ميول ، له نفس ، له قيم ، له أمور معقدة جداً ، لولا هذا الكتاب لكان كالبهيمة ، أَكَلَ ما شاء ، من أي مصدر شاء ، وقضى لذّته بالطريقة التي تحلو له ، فهلك وأهلك ، وشقي وأشقى ، لذلك العلماء يقولون : الإنسان من دون علم بهيمة ، أي يسقط إلى مستوى الحيوان ، وبالعلم يرقى إلى مستوى الإنسان ، فهذا الكتاب : ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(88)﴾ .
السعيد من حفظ كتاب الله وعمل به :
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) ﴾
[ سورة الإسراء ]
قال العلماء : قرآن الفجر القرآن الذي تقرأه في صلاة الفجر ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)﴾ ركعتا الفجر خير لك من الدنيا وما فيها :
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)﴾
[ سورة المزمل ]
هذا الذي يحفظ كتاب الله لو تعلَم كم هو سعيد بحفظ كتاب الله ! كم هو موفق ! كم هو يحقق الهدف من وجوده على وجه الأرض إذا حفظ كتاب الله وعمل به !
ترتيب القرآن ترتيب نفسي لا ترتيب موضوعي :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)﴾ معنى صرّف أي قلّب ، أمر ونهي ، ووعد ووعيد ، وقصة ومثل ، وحكمة وخبر صادق ، ووعد لاحق ، وصورة من عالم الأزل . . أي تنويع دقيق جداً ، تنويع في السورة الواحدة ، لو جمعت القصص في فصل ، والآيات الكونية في فصل ، لما وجدت في نفسك رغبة في قراءتها ، لكن ترتيب القرآن ترتيب نفسي لا ترتيب موضوعي ، بعضهم يقترح أن يصنف كتاب الله تصنيفاً موضوعياً ، لو صنف القرآن تصنيفاً موضوعياً لذهبت قوة تأثيره ، تقرأ السورة تأتي آية الوعيد تخاف ، تأتي آية الوعد تتفاءل ، تأتي الآية الكونية تستعظم الله عز وجل ، تأتي قصة لقوم أهلكهم الله تعتبِر ، يأتي مشهد من مشاهد يوم القيامة تتفاءل ، فهذه السورة تأخذ بيدك من الخوف إلى الرجاء إلى الثقة إلى التعظيم إلى التفاؤل ، هذه الأحوال النفسية تتلوى وترتقي من آية إلى آية .
الآية التالية دليل قطعي على أن الإنسان مخيّر :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)﴾ قال بعض العلماء : إن هذه الآية دليل قطعي على أن الإنسان مخيّر ، أي أبوا ، كان بإمكانهم أن يستجيبوا فأبوا ، إذاً هم مخيرون بين أن يستجيبوا وبين أن يأبوا ، قل لي بربك : لو كنت صاحب محل تجاري ، وعندك موظف ، وقلت لهذا الموظف : تعال غداً باكراً ، أمرته أن يأتي باكراً ، أليس في إمكانه أن يأتي متأخراً ؟ لو لم يكن في إمكانه أن يأتي متأخراً لما أمرته أن يأتي باكراً ، هو مخيّر إذاً ، يقتضي الأمر أن المأمور مخيّر ، ويقتضي النهي أن المنهي مخيّر ، لو نهيته عن أن يخرج قبل أن يعلمك أليس في إمكانه أن يخرج قبل أن يعلمك ؟ طبعاً بإمكانه ، فربنا قال : ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)﴾ هم أبوا ، كان بالإمكان أن يؤمنوا فأبوا .
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾
[ سورة فصلت ]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ – الإنسان - مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
[ سورة البقرة ]
لمجرد أنك تجري سباق دراجات ، ما معنى ذلك ؟ الدراجات مقيدة أم مطلقة ؟ إذا ربّطها بحبال ثخينة وأمرتها أن تستبق أيكون هذا معقولاً ؟ لا تستبق الدراجات إلا إذا كانت حرة طليقة ، فالإنسان مسؤول عن أعماله .
سيدنا عمر جاءه رجل شارب للخمر قال : يا أمير المؤمنين إن الله قدّر عليّ ذلك ، قال : ويحك أقيموا عليه الحد مرتين ، مرة لأنه شرب الخمر ، ومرة لأنه افترى على الله ، قال له : إن قضاء الله عز وجل لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار ، أنت مخيّر .
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) ﴾
[ سورة الأنعام ]
هذا كلام المشركين ، إذاً هذه الآية دليل قطعي على أن الإنسان مخيّر ، ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89)﴾ أبوا ، كان بإمكانهم أن يستجيبوا فأبوا ، هم مخيّرون .
سبب نزول الآيات التالية :
﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (93)﴾ هذه الآية لها سبب نزول ، وفي أغلب الأحيان يكون سبب النزول كاشفاً لخبايا الآية ، فقد ورد في تفسير القرطبي في شرح هذه الآية أن رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة وأبي سفيان وأبي جهل وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة ذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ، ولم يرضوا به معجزة ، اجتمعوا فيما ذكر ابن إسحاق وغيره بعد غروب الشمس عند الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه ، وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فائتهم ، فجاءهم النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدوٌ ، لعلهم أرادوا أن يؤمنوا ، أن يسلموا ، فرح بهذا اللقاء ، وكان النبي الكريم حريصاً يحبّ رشدهم ، ويَعِزُّ عليه عَنَتَهُم ، حتى جلس إليهم فقالوا :
يا مُحَمَد ، إنَّا قَدْ بُعِثْنَا إليكَ لِنُكَلِمَكَ ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلاً مِنَ العَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمَاً مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ ، لَقَد شَتَمْتَ الآبَاءَ ، وَعِبْتَ الدِّينَ ، وَشَتَمْتَ الآلِهَةَ ، وَسَفَّهْتَ الأحْلام ، وَفَرَّقْتَ الجَمَاعَةَ ، فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلا قَد جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أو كَمَا قَالُوا ، فَإِن كُنْتَ إنَمَا جِئْتَ بِهَذَا الحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالاً جَمَعْنَا لَكَ مِن أَمْوَالِنَا حَتَى تَكُونَ أَكْثَرُنَا مَالاً ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَمَا تَطْلُبَ بِهِ الشَرَفَ فِينَا فَنَحْنُ نُسَوِّدُك عَلَينَا ، وَإِنَمَا كُنْتَ إِنَمَا تُرِيِدُ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ عَلَيِنَا ، وَإِنْ كَانَ الذِي يَأتِيكَ رُئيَا مِنَ الجِنِ تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ فَرُبَمَا كَانَ ذَلِكَ بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِبِ لَكَ ، إِذَا كَانَ بِكَ مَسٌ مِنَ الجِنِ نُعَالِجُكَ ، إِنْ كُنْتَ تُرِيِد المَالَ جَعَلْنَاكَ أَغْنَانَا ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الشَرَفَ لا نَقْطَعُ أَمْرَاً دُونَكَ ، إِنْ كُنْتَ تُرِيد المُلْكَ مَلَّكْنَاكَ عَلَيِنَا فَقَالَ عَلَيِهِ الصَلاةُ وَالسَلام : مَا بِيَ كَمَا تَقُولُون ، مَا جِئتُكُمُ بِمَا جِئْتُكُمُ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمُ ، وَلا الشَرَفَ فِيْكُمُ ، وَلا المُلْكَ عَلَيِكُمُ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُم رَسُوُلاً ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابَهُ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً ، فَبَلَغَتُكُم رِسَالاتِ رَبِي ، وَنَصَحْتُ لَكُمُ ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُم بِهِ فَهُوَ حَظُكُمُ فِي الدُنيا وَالآخِرَةَ ، وَإِنْ تَرُدُوهُ عَلَيَّ أَصْبِر لأمْرِ اللَّه حَتَى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيِنِيَ وَبَينِكُمُ ، هذا كان جواب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالُوُا : يَا مُحَمَد إِنْ كُنْتَ غَيِرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئَاً مِمَا عَرَضْنَاهُ عَلَيِكَ فَإِنَكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَهُ لَيسَ مِنَ النَاسِ أَحَدٌ أَضْيَقَ بَلَدَاً ، وَلا أَقَلُ مَاءً ، وَلا أَشَدَّ عَيْشَاً مِنَّا - مكة جبال كلها ، جبال متطامنة كثيفة تضيق الأرض بأهلها ، جافة وقاحلة ، لا نبات فيها - إِنَكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَهُ لَيْسَ مِنَ النَاسِ أَحَدٌ أَضْيَقُ بَلَدَاً ، وَلا أَقَلُ مَاءً ، وَلا أَشَدُّ عَيِشَاً مِنَّا ، فَسَل لَنَا رَبَكَ الذِي بَعَثَكَ فَلْيُسَيِّر هَذِهِ الجِبَالَ عَنَّا – أبعدها - الَتِي قَدْ ضَاقَتْ عَلَيِنَا ، وَلَيَبْسِط لَنَا بِلادَنَا ، وَلِيَخْرِقَ لَنَا فِيهَا أَنهَارَاً كَأَنْهَارِ الشَام ، وَلِيَبْعَثَ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائَنَا ، وَلَيَكُنْ فِيمَن يَبْعَثُ لَنَا قُصَيَ بنَ كِلاب فَإِنَّهُ كَانَ شَيخُ صِدقٍ فَنَسْأَلَهَم عَمَّا تَقُوُل أَحَقٌ هُوَ أَم بَاطِل ؟ فَإِنْ صَدَّقُوكَ بِمَا سَأَلْنَاهُمُ صَدَّقْنَاك ، وَعَرَفْنَا بِهِم مَنْزِلَتَكَ ، وَأَنَهُ بَعَثَكَ اللَّهُ لَنَا رَسُوُلاً ، فَقَالَ لَهُم عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلامُ : مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمُ ، إِنَمَا جِئْتُكُمُ مِنَ اللَّه تَعَالَى بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ فِيهِ ، وَقَد بَلَّغْتُكُمُ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمُ ، فَإِن تَقْبَلُوُهُ فَهُوَ حَظُكُم فِي الدُنِيَا وَالآخِرَة ، وَإِنْ تَرُدُّوُهُ عَلَيَ أَصْبِر لأمْرِ اللَّهَ حَتَى يَحْكُمُ اللَّهَ بَيِنِي وَبَيْنَكُم . قَالُوا : فَإِذَا لَمْ تَفْعَلَ هَذَا لَنَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ ، سَل رَبَكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكَاً يُصَدِقُكَ لِمَا تَقُوُلُ ، وَيُرَاجِعَنَا عَنْكَ ، وَاسأَلْهُ فَلْيَجْعَلَ لَكَ جِنَانَاً وَقُصُوُرَاً وَكُنُوزَاً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُغْنِيكَ بِهَا عَمَا نَرَاكَ تَبْتَغِي فَإِنَكَ تَقُومُ بِالأسْوَاقِ - أنت رجل فقير - وتلتمس المعاش كما نلتمسه - ليس لك شأن عندنا ، لو كان لك بيت فخم ، حدائق غناء ، ذهب وفضة، معارج صدقناك انك رسول ، أما أنت فقير -
من أجل أن نعرفَ منزلتكَ وفضلك من ربك إن كنت كما تزعم رسولاً ، فَقَالَ عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلامُ : مَا أَنَا بِفَاعِل ، وَلا أَنَا بِاَلَذِي يَسْأَلُ رَبَهُ ، وَمَا بُعِثْتُ فِيِكُم بِهَذَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً ، فَإِن لَمْ تَقْبَلُوًا مِنِي مَا جِئْتُكُمُ بِهِ فَهُوَ حَظُكُمُ مِنَ الدُنِيَا وَالآخِرَةَ ، َوإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَ أَصْبِر لأَمْرِ اللَّهَ حَتَى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ .
قَالُوُا : إِذَاً فَأَسْقِط السَمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفَاً - تهددنا بالله ؟ ليفعل بنا ما شاء ، أسقط علينا السماء كسفا كما زعمت أن ربك يفعل ما يشاء - فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ بِكَ إِلا أَنْ تَفْعَل ،
فَقَالَ النَبِيُ عليه الصلاة والسلام لَهُمُ : ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَ وَجَل إِن شَاءَ فَعَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلُه . قَالُوا : يَا مُحَمَد ، أَفَمَا عَلِمَ رَبُكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ إِلَيْكَ ؟ وَنَسْأَلَكَ عَمَا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ ؟ وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلِب ؟ فَلِيَتَقَدَمَ إِلَيْكَ فَيُعْلِمُكَ بِمَا تُرَاجِعُنَا فِيهِ ، وَيُخْبِرُكَ بِمَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذِلِكَ بِنَا ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَهُ يُعَلِّمُكَ رَجُلٌ مِنَ اليَمَامَةَ يُقَالُ لَهُ الرَحْمَن ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لا نُؤْمِنُ بِالرَحْمَنِ أَبَدَاً ، فَقَدْ أَعْذَرْنَاكَ يَا مُحَمَد ، وَإِنَّا وَاللَّه لا نَتْرُكُكَ وَمَا بَلَغْتَ حَتَى نُهْلِكَكَ أَوْ نَهْلَكَ - هذا آخر كلام - وَقَالَ بَعْضُهُم : نَحْنُ نَعْبُدُ المَلائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللَّه ، وَقَالَ قَائِدَهُم : لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَى تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَبِالمَلائِكَةَ قَبِيِلاً - أي نراهم بأعيننا- فَلَمَا قَالُوُا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهَ صَلَى اللَّهُ عَلِيِهِ وَسَلَم قَامَ عَنْهُمُ ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَةَ ، وَهُوَ ابْنُ عَمَتِهِ فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَد ، عَرَضَ عَلَيِكَ قَوُمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمَ تَقْبَلَهُ مِنْهُمُ ، ثُمَّ سَأَلُوُكَ لأنْفُسِهِم أُمُورَاً لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّه فَلَم تَفْعَل ، ثُمَ سَأَلُوكَ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَكَ فَلَم تَفْعَل ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ عَلَيِهِم العَذَابَ فَلَم تَفْعَلَ ، فَوَ اللَّه لا أُوُمِنُ بِكَ أَبَدَاً حَتَى تَتْخِذَ إِلَى السَمَاءَ سُلَمَا – تصعد بسلم - ثُمَ تَرْقَى فِيهِ ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيِكَ ، حَتَى تَأْتِيَهَا ، وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِصَكٍ فِيهِ مِنَ المَلائِكَةَ يَشْهَدُوُنَ لَكَ أَنَكَ نَبِي ، عِنْدَئِذٍ انْصَرَفَ النَبِيُ عَلَيْهِ الصَلاةُ وَالسَلامُ إِلَى أَهْلِهِ حَزِينَاً آسِفَاً لِمَا فَاتَهُ مِمَا كَانَ يصنع بِهِ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِ .
[ تفسير القرطبي ]
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً – نريد أنهاراً كأنهار الشام - (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً – من أجل أن نعرف مكانتك - (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ – بتوقيع الملائكة - قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً(93)﴾ أنا بشر ، هذه فوق طاقتي ، هذه ليست لي ، هذه متروكة لمشيئة الله عز وجل ، ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً(94)﴾ كأن الله عز وجل يعني هو فوق أن يكون رسوله من بني البشر .
وجوب أن يكون الرسول من طبيعة المرسل إليهم حتى تقوم الحجة عليهم :
ربنا عز وجل ردّ عليهم : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)﴾ يجب أن يكون الرسول من طبيعة المرسل إليهم ، لو أن الرسول ملك عظيم ، وأمرهم بغض البصر ماذا يقولون ؟ أنت ملك ونحن بشر ، هذا أمر غير معقول ، أما إذا كان الرسول من طينتهم بشراً فسلوكه حجة عليهم ، سلوكه وانضباطه وطاعته لله عز وجل ، بشريته حجة على من عصاه ، ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)﴾ الملائكة رسولهم مَلَك ، والجن رسولهم جن ، والإنس إنس ، لا بد من أن يكون الرسول من طبيعة المرسل إليهم حتى تقوم الحجة .
أكبر شهادة لله على أن هذا القرآن كلامه أن وعده ووعيده واقع لا محالة :
آخر آية : ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)﴾ الله عز وجل كيف يشهد ؟ سؤال دقيق جداً ، من منكم سمع الله عز وجل يشهد له أن هذا القرآن كلامه ؟ الحقيقة هذه الآية دقيقة جداً ، عندما قال ربنا عز وجل :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾
[ سورة طه ]
هذه آية ، كيف يشهد الله عز وجل لك أيها الإنسان أن هذه الآية من كلامه ؟ يشهد لك بأن الإنسان إذا أعرض عن ذكر الله عز وجل يعيش حياة شاقة ، صعبة ، شقيّة ، هذه الشهادة .
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾
[ سورة البقرة ]
كيف يشهد الله لعباده أن هذه الآية من كلامه ؟ محق المال الحرام شهادة الله عز وجل ، الحياة الطيبة التي يحياها المؤمن شهادة من الله عز وجل على صدق كتابه ، الحياة الضنك التي يعيشها الكافر شهادة من الله عز وجل على صدق كتابه ، أن تزيد الأموال إذا دُفعت منها الصدقات ، ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾ نماء المال على أثر الصدقة شهادة من الله عز وجل ، ومحق المال على أثر الربا شهادة ، فالشهادة تَحقُق الوعد والوعيد ، تَحقُق الوعد والوعيد هو الشهادة .
آلة ضخمة عليها زر تشغيل ، كلمة التشغيل هذه صحيحة أم غير صحيحة ؟ اضغط الزر ، فإذا عملت الآلة بكاملها عمل الآلة شهادة على أن هذه الكلمة صحيحة ، إذا ضغط الزر ولم تتحرك الآلة معنى هذا أن الكلام غلط ، فأكبر شهادة لله عز وجل على أن هذا القرآن كلامه أن وعده ووعيده واقع لا محالة في كل زمان ومكان .
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾
[ سورة يونس ]
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين