- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (017)سورة الإسراء
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الجهل أخطر شيء في الحياة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الإسراء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
الإنسان بلا علم كالبهيمة تماماً ، الإنسان بلا علم إلى أن يكون حيواناً أقرب منه من أن يكون إنساناً ، يأكل ، ويشرب ، وينام ، ويعطي نفسه ما تشتهي ، ويتكلم ما يحلو له ، فيؤذي ، ويفرق ، ويخرب البيوت ، وهو لا يدري ماذا يفعل ، يتمحور حول ذاته ، يجر الأمور كلها لمصلحته ، يعيش على أنقاض الآخرين ، يبني مجده على رفاتهم ، يبني غناه على فقرهم ، يبني سعادته على شقائهم ، يبني حياته على موتهم ، يبني أمنه على قلقهم ، الإنسان من دون علم ، من دون هدى ، إنسان يدمر نفسه ، ويدمر مجتمعه ، يدمر ذاته ، ويدمر الآخرين ، لا تعنيه إلا ذاته .
من يقرأ كلام الله بفهمٍ وتبصرٍ وتدبرٍ تزول عنه كل أمراضه :
لذلك ربنا عز وجل قال :
﴿
هذا نصٌ قرآني ، هذا كلام رب العالمين ، يجب أن يبدد هذا الكلامُ كلَّ خوف ، كل قلق ، كل شعور بالمستقبل المظلم ، يجب أن يبدد هذا القول وهو كلام رب العالمين كل شعور بالظلم ، كل شعور بعدم الإنفاق ، كل شعور بأن الحياة تحتاج إلى إنسان شرس ، إلى إنسان قوي ، لا ،
﴿
انتهى الأمر ، الله عز وجل يعجب ، أيعقل يا عبادي أن أعامل المسيء كالمحسن ؟! أن أعامل المؤمن كالكافر ؟! الكافر كالمؤمن ؟! أن أعامل الذي يعلم كالذي لا يعلم ؟! أن أعامل المحسن كالمسيء ؟! أن أعامل من عرفني كمن لا يعرفني ؟! أيعقل هذا ؟! إذا قرأت القرآن :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) ﴾
الإنسان أحياناً لجهله بقواعد الحياة ، لجهله بكتاب الله يستنبط حقائق مضحكة ، أن الإنسان مهما عمل من الصالحات هذا لا يجدي إلا أن يكون مؤذياً للناس ، يخرج بحكمةٍ خرقاء ، استنبطها من الناس ، من تعامله مع الناس ، ولو أنه قرأ كلام الله عز وجل :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
هذه الآية تضفي على قلبه الطمأنينة والسكينة ، فالإنسان من دون قرآن يضيع ، يقلق ، يختل توازنه ، أحياناً ييئس ، يأتيه يأسٌ قاتل ، هذا الذي ينتحر ، لماذا انتحر ؟ يئس من العدالة في الأرض ، يئس من الفرج ، يئس من أن يكون له طريق إلى السعادة فانتحر . لو أنه قرأ كتاب الله عز وجل لشفيت نفسه من هذه الأمراض .
الذي أراه من خلال قراءتي لهذا الكتاب الكريم أنه ما من مرض نفسي ، ما من حالةٍ نفسيةٍ صعبة ، ما من شعورٍ مملّ ، ما من تمزقٍ نفسي ، إلا بسبب البعد عن هذا الكتاب ، ولو أن الإنسان قرأ كلام الله بفهمٍ وتبصرٍ وتدبرٍ لزالت عنه كل أمراضه .
من يقرأ القرآن ينعدم الخوف والحزن من حياته :
قد يقول قائل : العالم سيصاب بظاهرة اجتماعية اسمها : التفجر السكاني ، وسوف تقلّ المواد عن حاجة الناس ، وسوف يأكل الناس بعضهم بعضاً ، وسوف تصيب المجاعة معظم الدول المتخلفة ، وسوف ، وسوف . . . تجلس معه ساعةً لا تستطيع أن تقف على قدميك ، تحس أن الحياة قد انتهت ، وأنه لا حياة للفقير ، اقرأ قوله تعالى :
﴿
الرزق إذاً مُنْتهٍ أمره ، لكن ربنا عز وجل أحياناً يجعل هناك بعض الضيق من أجل أن يمتحن العباد :
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(23)﴾
أحياناً يُعرض على الإنسان عمل صالح يحتاج إلى إنفاق مال فيمتنع خشية الفقر ، يقول : دخلي محدود ، لا أتمكن من الدفع ، أنا عندي أولاد ، لو أنه قرأ كلام الله عز وجل ، أنه ما من نفقةٍ ينفقها العبد في سبيل الله إلا عوضها الله عليه أضعافاً مضاعفة :
﴿
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ
كلام الله عز وجل ، أي من أراد أن يشفي نفسه من كل الأمراض ، من أمراض الهم والحزن ، من أمراض القلق ، من أمراض الشعور بعدم العدالة ، من أمراض الحرمان ، من أمراض التمزق ، هذه الأمراض النفسية إذا قرأت القرآن شفيت نفسك .
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
كلام رب العالمين ، الإله يقول هذا الكلام لعباده جميعاً ، في أي عصرٍ ، في أي مصرٍ ، في أي مكانٍ ، في أي زمانٍ ، في أي بيئةٍ ، في أي ظرفٍ ، في أي معطياتٍ ،
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
هؤلاء لا يجزعون عند المصائب ، ولا يبخلون عند الرخاء ، في الرخاء يعطون مما أعطاهم الله عز وجل ، وفي الشدائد يصبرون على حكم الله عز وجل :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)﴾
إلى آخر الآيات ، فإذا كنت مصلياً لا تحس بالقلق ، ولا تحس بالخَوَر ، ولا الجبن ، ولا الشعور بأنك دون الناس ، ولا الشعور بأنك غير منصَف ، هذا كله يبتعد عنك ، هل من صحةٍ نفسيةٍ تفوق صحة المؤمن ؟ شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغنائه عن الناس .
القرآن الكريم يشفي العقل من داء الجهل والنفس من داء القلق :
أول شيء في هذه الآية أن كل من يعاني من مرض نفسي ، وساوس ، خوف ، قلق ، ضعف شخصية ، شعور بالحرمان ، شعور أن العدالة مفقودة ، شعور أن الحياة للقوي فقط ، أو للغني فقط ، لأنه ما تبقى لا حياة لهم ، هذا الشعور يسحق الإنسان سحقاً ، إذا قرأ هذا القرآن :
القرآن الكريم شفاء ورحمة :
أما الرحمة فالله سبحانه وتعالى يتجلى على قلب المؤمن تجلياً يجعل الحياة نعيماً ، يجعل حياة المؤمن قطعة من الجنة ، يجعل المؤمن في سعادة لا توصف ، هذا كله تؤكده الآيات الأخرى :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) ﴾
﴿
له البشرى ، له الطمأنينة ، له التجلي ، فالشفاء والرحمة كأن تقول : التحلية والتخلية ، التخلية أولاً ، والتحلية ثانياً ، أنت تنظف أولاً ، وتفرش البيت ثانياً ، تنظف الإناء ، وتملؤه عطراً ، أو شراباً لذيذاً ، فالمرحلة الأولى مرحلة الشفاء من السوى ، من الأغيار ، من الشرك ، من كل ما يقلق النفس ، والمرحلة الثانية هي مرحلة ملء هذه النفس بما لذّ وطاب من قيم ، ومن خلق كريم ، ومن تجليات ظاهرة ، و من تجلياتٍ تُكسب الإنسان سعادة لا توصف .
القرآن الكريم لا يقرؤه إنسان إلا ازداد إيماناً أو ازداد بعداً عن الله عز وجل :
إذاً :
عندئذٍ تأتي العقوبة الصارمة من الله عزَّ وجل ، خسر الدنيا والآخرة ، لا يوجد حالة ثالثة ؛ إما أن تتقيد بهذا القرآن الكريم ، وتسير فيه على بيّنة من أمرك ، وإما أن تنطلق وفق ما يمليه الهوى ، والمصلحة ، والنزوات .
إذاً لا بد من فعل السيئات ، ولكلّ سيئة عقاب ، يأتي العقاب تباعاً ، إذاً أنت وقعت في مشكلة كبيرة ، حينما أدرت ظهرك لهذا الكتاب ، وانطلقت من شهوتك ونزوتك في حياتك اليومية ، طبعاً وقعت في الحرام شئت أم أبيت ، والحرام له عقاب ، أَحَلْتَ حياتك إلى جحيم ، لذلك ربنا عز وجل قال :
﴿
بعضهم قال : القرآن الكريم اعتصم به ، ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبداً ، فعَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا ، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ . ))
القضية ليست قضية أنني أنا سوف أتبارك بالقرآن الكريم ، لأن بعض الناس يسمّونه تبركاً ، يقول لك : أخي اقرأه فيه بركة ، هذا الكلام ليس له معنى عند الناس ، القرآن مجموعة قوانين دقيقة ، حتمية الحدوث ، تبدأ بالمقدمات تصل للنتائج ، أمرك بِغَضّ البصر هذا قانون ، إذا فعلت هذا الأمر ضمنت الوفاق الزوجي إلى نهاية الحياة ، وإذا خالفته انقلب البيت إلى جحيم ، أخي ما معنى تباركت ؟ ما معنى تبرّكت به وأنت تعصيه ؟ هذا الذي يعصي كلام الله عز وجل يعصي أمر الله عزَّ وجل ، ما معنى لو قرأه تبركاً ؟ رُبَّ تالِ للقرآن والقرآن يلعنه ، البركة الحقيقية تأتيك من تطبيقه ، إذا طبقته تحلّ عليك بركات الله عز وجل بالمعنى المادي ، إذا طبقت أوامر الله في البيع والشراء أحبك الناس جميعاً ، وأقبلوا عليك ، وكثر المشترون ، وربحت أرباحاً جيدة ، لأنك كنت مستقيماً ، قال تعالى :
﴿
أمرك بالاستقامة ، أمرك بالصدق ، نهاك عن الخيانة ، لو طبقت هذه الثلاثة الاستقامة والصدق وابتعدت عن الخيانة والغش يثق الناس بك ، فدخل عليك مال وفير ، عشت في بحبوحة ، هذه بركة الله عز وجل ، طبقت أحكامه فبارك الله لك بمالك ، طبقته في أمر الزواج :
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
رزَقَك المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها أسرتك ، وإن غبت عنها حفظتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، طبقته في زواجك بحثت عن الدَّيّنة ، من تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله ، من تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، من تزوجها لمالها أفقره الله ، فعليك بذات الدين تَرِبَت يداك ، إذا اهتديت بهدي الكتاب في زواجك سعدت في زواجك ، إذا اهتديت بالكتاب في أولادك ، قال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
همك أمر أولادك ، أمر دينهم ، أمر صلاحهم ، أمر إيمانهم ، أمر صلاتهم ، أمر صومهم ، أمر معرفتهم بالله عز وجل ، كان أولادك قرة عين لك ، سعدت بهم ، فهذه البركة ، البركة أن تطبق أوامر الله ، فإذا طبقتها حلّت عليك البركة ، أما هذا الذي يعصي القرآن ، يعصي أمر الله عز وجل ، يأكل مالاً حراماً ، يفعل ما يشتهي ، يبيح لنفسه كل المعاصي ، إذا قرأ هذا الكلام وكان عاصياً لمضمونه فأيّ بركة هذه ؟ عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ . ))
الحياة دقيقة جداً ، والله وضعنا المصحف في بيت فخم من المخمل ، وزينّاه ، وعلّقناه بغرفة الضيوف ، أو بيتنا كله آيات قرآنية : الحمد لله ، نحن مسلمون ، نحن نريد استقامة ، نريد بيتًا إسلاميًّا ، وليس آيات قرآنية فقط ، ندخل محلاًّ تجاريًّا فنقرأ :
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) ﴾
المحل كله غش ، وكذب ، وأيمان كاذبة ، فأين تطبيق آية :
العاقل من يعرف الله في الرخاء :
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)﴾
بعد أن بلغ الإنسان في الدنيا مرتبة في المال ، أو العلم ، أو الجاه ، أو القوة نسي أصله :
﴿
إنسان حصل على شهادة عليا من دولة أجنبية ، عاد إلى بلده احتل منصباً رفيعاً ، وله زوجة من ذلك البلد الأجنبي أتى بها من هناك ، سكن في أرقى حي ، وركب أفخم سيارة ، وعاش حياة حديثة غربية قائمة على المتع ، والملذات ، والانغماس في الشهوات ، فجأة أصابه مرض في إحدى عينيه ، فعمي بعين واحدة ما هي إلا أشهر عدة حتى فقد الثانية ، دخل عليه صديقه قال له : والله يا فلان أتمنى أن أجلس على الرصيف ، وأتسول ، وأن يعيد الله إليّ عينيّ
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ مَقَامِي بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ ، فَكَانَ يَقُولُ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَوْمَ أَلْقَاكَ . ))
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) ﴾
لكلّ إنسان نفس يتحرك بموجبها :
يا نفسي إلا تُقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضـــيت وإن تولــيت فقــــد شقـــــــــيت
***
وأخذ الراية فقاتل بها حتى قُتِل ، النبي عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة حدّث أصحابه فقال :
(( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، وسكت النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، فقال أصحابه : يا رسول الله ! ما فعل عبد الله ؟ قال : ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله ، فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه . ))
أيْ هذا التردد جعل مقامه عند الله يهبط درجة ، إذا تردد في بذل نفسه هذه شاكلته ، فأين نحن من هذه القصة ؟ ماذا بذلت لله عز وجل ؟ ماذا فعلت ؟ هل استزدت بكل عمل صالح ؟ إذا دعيت إلى خير ماذا كان موقفك ؟ نرجو الله عز وجل أن نكون في نظر الله عزَّ وجل كما يحب ويرضى :
أحياناً يقف الإنسان موقفاً لئيمًا من والدته ، لو كشف له الغطاء ، لو عاد إلى فطرته لذاب من الله خجلاً ، هذه التي رَبَّتك حين تزوجت استغنيت عنها ؟ رأيتها عَقَبة في حياتك؟ أردت الخلاص منها ؟ تمنيت موتها ؟ أهكذا الوفاء ؟ الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا ، المشكلة أن الإنسان وهو في الدنيا الشهوات مخدرات ، أي الأكل ، والشرب ، واللقاء مع الناس ، والرحلات ، والسهرات ، والندوات ، والاجتماعات ، والنزهات ، والحفلات ، والولائم . . . هذه كلها مخدرات ، في غفلة ، فإذا انقطعت عنه فجأة لمرض أصيب به ، أو لموت ألمّ به ، انكشفت حقيقته ، وانكشفت له نفسه ، وظهرت على حقيقتها ، فإما أن تُسعده إلى الأبد ، وإما أن يشقى بها إلى الأبد
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
هناك من قال : هناك ارتباط بين الآيتين ، هذا الذي لا يزيد الظالمين إلا خساراً ، هؤلاء الظالمون الذين لا يزدادون مع تلاوة هذا القرآن إلا خساراً من شأنهم أنه إذا أنعم الله عليهم أعرضوا ، واستكبروا ، واستعلوا ، وإذا مسهم الشر يئسوا ، هؤلاء الذين لا يزدادون عند تلاوته إلا خساراً ، هذه شاكلتهم :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
الروح من أمر الله عز وجل :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾
أي هناك أشياء فوق مدارك الإنسان ، هذه الروح - هذه التي نسميها سودة هي لحم تأكلها - أي إذا كان فيها روح أي الكبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة ، أنت تأخذ الطحال شطيرة ، إذا كان فيها روح فهذا الطحال يقوم بأخطر الوظائف ، معمل لكريات الدم الحمراء ، مقبرة للكريات ، تحليل الكريات ، وتأخذ المواد المعدنية الحديد والهيموغلوبين ، وتبقي الفضلات ترسلها إلى مكان آخر ، معمل دم احتياط ، مقبرة ، مستودع للدم ، أي أقرب شيء لنا أعضاؤنا ، هذه الأعضاء بالروح لها وظائف خطيرة جداً ، العين مثلاً ؛ عين إنسان ميت ما قيمتها ؟ قطعة لحم لا تؤكل ، لكن عين إنسان حيّ يرى بها العالم ، يرى بها الألوان ، ثمانمئة ألف لون أخضر يراها بالعين ، الشبكية فيها مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط ، جسم بلّوري يقوم بأعظم وأدق عمل ، وهو المطابقة ، شيء لا يصدق ، حينما يأتي الخيال وراء المحرق فهذا الجسم نفسه يتحسس إذا جاء الخيال خلف المحرق ، يرسل أمرًا للدماغ ، الدماغ يأمر خلايا العضلات الهدبية المحيطة بهذا الجسم البلوري فتُضيّق أو تزيد من احتدابها إلى أن يقع على الشبكية ، وإذا جاء الخيال قبل المحرق يوجد جهاز آخر يعطي أوامر معاكسة من أجل أن يستطيل فيقع الخيال على الشبكية ، العين بالروح هكذا تفعل ، من دون روح كتلة لحم لا طعم لها ، الكبد هذه سودة من أجل أن تأكلها ، لكن إذا كانت كبداً يقوم بأخطر وظيفة ، يوجد خمس وظائف أساسية في الحياة ، الإنسان بلا كبد يموت بعد ثلاث ساعات ، بعض العلماء قال : للكبد خمسمئة وظيفة ، وبعضهم قال : خمسة آلاف وظيفة ، بالروح ، من دون روح أصبح سودة .
الكلية يمر فيها الدم في النهار خمس مرات ، يمشي الدم بالكلية مئة كيلو متر تقريباً في اليوم ، دم الإنسان يقطع في الكليتين مئة كيلو متر ، إذا مات الإنسان أصبحت قطعة لحمة ، أخي هل يوجد عندك كلاوي ؟ قبل قليل كان جهازاً خطيرًا جداً .
الدماغ ، خذ دماغ إنسان طبيب ، كل الطب موجود في هذا الدماغ ، كل معلوماته ، كل خبراته ، كل أنواع الأمراض ، أعراض الأمراض ، التشخيصات ، الأدوية ، كلها في هذه الذاكرة ، بعدما يموت خذ نخاع الخروف ، أخي عندك نخاع ؟ بالروح ماذا كان ؟ وبلا روح ماذا أصبح ؟ صار كتلة لحم ، فهذه العين ، الأنف ، الأذن ، اللسان ، يمكن أن يلتقي في هذه الذاكرة علم الأولين والآخرين ، بعدما يموت الإنسان لا يبقى شيء ، فما هي الروح ؟ إذا أوقفنا إنساناً على ميزان وهو واقف على الميزان فقد مات ، هل يقل وزنه ؟ لا يقل غرامًا ، أين الروح ؟ ما طبيعة الروح ؟ عندما يتجلى ربنا عز وجل على الإنسان بالروح يتحرك ، انظر إلى الإنسان الحي تراه مؤنساً ، إذا مات يخاف الناس من غرفته كلها ، يبقون شهرين أو ثلاثة وغرفة المتوفى يتجنبها أهله خوفاً ، يقولون لك : هنا مات ، لكنه قبل ساعة كان أبًا لطيفًا ، الأولاد يأنسون به ، يتهافتون عليه ، يقبلون عليه ، يرون الجلوس معه مغنماً كبيراً ، بعدما تمدد ميتاً أصبح مخيفاً موحشًا ، يقولون : إكرامه ترحيله بسرعة ، ما هذه الروح ؟ بالروح لك شأنك ملء السمع والبصر ، لك مكانتك ، توقيعك يقدر بملايين ، بعدما يموت الإنسان أي توقيع هذا ؟ أخي هذا توقيعه هنا ؟! مات ، وللورثة الكلام كله ، لما ربنا عز وجل يوقف هذا الإمداد كل أملاكك لم تعد لك ، ما هذه الروح ؟ مادام لك حركة ، البيت لك ، الأرض لك ، المعمل لك ، كل شيء لك ، فإذا قطع الله عنك الإمداد أصبح كله لغيرك ، بالروح ، ما هذه الروح ؟
موضوعنا طويل جداً ، موضوع الذاكرة ، موضوع الدماغ ، موضوع العين ، السمع ، البصر ، العضلات ، هذه الحركة ، الميت لا يتحرك ، فإذا رأى أحدنا ميتاً يتحرك يمكن أن يجن ، شخص يسير في الطريق ، مرّت حافلة ، قال له : لا يوجد أماكن ، اصعد على الظهر ، وعلى الظهر تابوت ، كان ينقل ميتًا في الذهاب ، وفي العودة التابوت فارغ ، صعد قبله راكب وجد نفسه مصابًا بالبرد فجلس في التابوت ، هذا الثاني وجد تابوتاً قال : سأجلس فيه ، فتحه فتحرك الميت فوقع من الحافلة ومات فوراً ، لا يألف الإنسان ميتاً يتحرك ، إذاً موضوع الروح شيء عظيم جداً .
كلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهله :
قل لمن يدّعي في العلم فلسفة حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
***
الإنسان يتخذ من هذه الآية دليلاً على وجود الله عز وجل ، الميت والحي ، الميت انتهى أمره ، انظر للإنسان كيف يتحرك ، ينتقل ، مؤنس ، محبب ، لطيف ، تفضِّل الجلوس معه ، كيف أنه نظيف ، ورائحته نظيفة، إذا مات الإنسان ؟! هناك رجل اهتدى إلى الله عز وجل عن طريق صديق له من الأغنياء ، رجل ضمن الأصول ، وليس خلاف الأصول ، مات ، أصبح هناك شبهة بموته ، يا ترى مات موتاً طبيعياً أم أن إحدى زوجاته دسّت له السم ؟ قصة قديمة ، فتحوا القبر بعد يومين هذا الذي شاهد الجثة كان سبب توبته هذا الرجل ، يقول : إن كل رِجلٍ من جهة ، البطن منفوخ ، والدود عليه ، رائحة نتنة ، سبحان الله ! قبل أيام الحمام والنعيم ، إذا نام الإنسان على سريره ، وكان فخماً جداً فلا ينس القبر ، سيسحب من هذا السرير إلى القبر ، إذا دخل الحمام ونظّف نفسه فلا ينسَ آخر غسل ، إذا ذهب من بيته واقفاً أفقياً فآخر خروج له يذهب مضطجعاً ميتاً ، إذا دخل المسجد فآخر دخول له ليصلى عليه ، وليس ليصلي ، فعلى الإنسان أن يعرف المقام ، حينما تغادر الروح الجسد ، حينما يتوقف إمداد الله لهذا الإنسان ، انتهى ، فالبطولة أن تكون قد عرفت الله في هذه الساعة ، البطولة أن تعرف الله في الرخاء كي يعرفك في الشدة .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين