- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (008)سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
حاجة الإنسان إلى الدين كحاجته إلى الهواء :
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس السابع والعشرين من دروس سورة الأنفال ، ومع الآية السبعين وهي قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) ﴾
أيها الإخوة ؛ كنت أقول دائماً إن الإسلام منهج كامل ، يبدأ من فراش الزوجية ، ويصل إلى العلاقات الدولية ، فهو كالهواء يحتاجه كل إنسان ، لا تستطيع أمة أن تحتكره ، ولا بلد ، ولا قطر ، ولا مذهب ، ولا طائفة ، حاجة الإنسان إلى الدين كحاجته إلى الهواء ، لذلك هو يغطي كل حركات الإنسان ، بدءاً من أدق علاقاته الخاصة من فراش الزوجية وانتهاء بالعلاقات الدولية .
علاقة المسلمين بالآخرين تقوم على أمور منها :
1 ـ من يعاهد المسلمين ثم يخلف عهده لابدّ من أن يؤدب ردعاً للباقين :
إخواننا الكرام ، يوجد مجموعة أفكار دقيقة مستنبطة من الآيات التي تتحدث عن علاقة المسلمين بالآخرين ، علاقة سلم ، علاقة حرب ، علاقة هدنة ، علاقة معاهدة ، علاقة اتفاق ، أول هذه العلاقات أن الذين يعاهدون المسلمين ثم يخلفون عهدهم لا بدّ من أن يؤدبوا ردعاً للباقين .
أحياناً الإنسان يعطي ويأخذ ، أما حينما يكون اتفاق ومعاهدة وشيء موثق ، ثم يأتي الطرف الآخر فيخونه لابدّ من أن يؤدب الآخر عقاباً على خيانته ، وردعاً من أن يفكر الآخرون بخيانة المسلمين .
أحياناً العالم الآخر يقيم دعوى مطولة على مبلغ ، قد تكون تكاليف الدعوى أكبر من هذا المبلغ ، ما الحكمة ؟ من أجل أن يلقي في روع من يعاملونه أن حقه ثابت .
إذاً من بعض النصوص القرآنية والنبوية ، ومن بعض أحكام السيرة ، نستنبط أن الآخرين - الطرف الآخر - إذا اتفقوا مع المسلمين ، ونقضوا اتفاقهم ، أو خانوا اتفاقهم ، لا بدّ من عقاب أليم أراده رب العالمين ، كي يكون هناك ردع يردع الآخرين عن أن يتلاعبوا باتفاقاتهم مع المسلمين ، هذه حقيقة أولى .
2 ـ السماح للمؤمنين ابتداءً أن يلغوا الاتفاق مع الطرف الآخر بشرط الإعلام :
أحياناً الطرف الآخر يخشى أن ينقض العهد ، سمح الله للمؤمنين ابتداءً أن يلغوا الاتفاق ، إلغاء مع الإعلام ، أنا متفق مع إنسان على قضايا معينة ، فإذا شعرت ، أو غلب على ظني أنه سوف يخونني أنا ابتداءً أنا أبدأ أنهي هذه المعاملة وأبلغه ذلك ، هذا أيضاً حكم آخر ينبغي أن يراعى في العلاقات مع الآخرين .
مثلاً : حينما اتهمت دولة بإسقاط طائرة دفعت دية كل إنسان على الطائرة تقريباً خمسمئة مليون ليرة سورية ، دفعت هذه الدولة مليارين وسبعمئة مليون دولار ، بالمقابل هناك يقول لك : خطأ في القصف ذهب ضحيته مئة إنسان ، خطأ ، لأننا ضعاف ، كل القتل بالمئات بل بالألوف ، بالعراق مليون قتيل ، مليون معاق ، خمسة ملايين مشرد ، ولا شيء عليهم ، وضع طبيعي ، أحدث الأسلحة ، أحدث الطائرات ، قتلت النساء والأطفال في غزة ، ألف وخمسمئة طفل وامرأة قتلوا بأرقى الأسلحة ، تماماً كمصارع كبير يمسك طفلاً رضيعاً ويضربه ، ويقول : انظروا قوتي شيء مضحك !
جاءت أوروبا إلى شرم الشيخ تصريحها الوحيد أنها جاءت من أجل أن تمنع تهريب السلاح إلى الفلسطينيين فقط ، أما هذه الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية حينما أراد الله من خلال القرآن الكريم ، ومن خلال السنة المطهرة ، أن الطرف الآخر إذا عاهدناه ، ونقض عهده معنا ، وخان العهد ، وانقلب علينا ، وطعننا في ظهورنا ، ينبغي أن نؤدبه ، لأن الحق له أظافر ، والحق ينبغي أن يكون قوياً .
أنا لا أقول كما يقول أهل الغرب : أنت قوي أنت إذاً على حق ، هذا كلام شيطاني ، الحق ما جاء به وحي السماء ، لكن الحق يحتاج إلى قوة ، دقق ، بين أن يكون القوي على حق هذا اعتقاد أهل الغرب ، القوي هو على حق ، ما دمت قوياً انهب ثروات الشعوب ، أفقر الشعوب ، خذ ثرواتهم .
والله مرة استمعت إلى إنسان في أعلى منصب في العالم ، قال : لقد تمّ في رواندا قتل ثمانمئة ألف - في أسبوع قُتلوا ذبحاً ، في بلد إفريقي في الجنوب - قال : وكان بإمكاني أن أتدخل وأن أنقذ أربعمئة ألف ، لكنني لم أتدخل ، هكذا قال ، لأنه لا يوجد هناك نفط .
إن لم يتفوق الإنسان في دنياه فلن يُحترم دينه :
أنا أقول كلمة : ما لم تصدق كلام الله عز وجل .
﴿
ما لم نصدق كلام الله فالمعاناة معهم صعبة جداً ، لكن سمعت كلمة رائعة ، هم لا يحبوننا ، لكن إذا كنا أقوياء يحترموننا ، وإذا كنا ضعافاً مع عدم محبتهم لنا يحتقروننا ، هذا شأن القوي ، القوي لا يعظم إلا القوي ، هم لا يحبوننا قطعاً ، لكن فرق كبير بين ألا يحبوننا ويحترموننا ، وبين ألا يحبونا ويحتقروننا .
فلذلك أنت حينما تعاهد مسلماً ، وتنقض العهد ، تطعنه في الظهر ، فهناك عقاب شديد تأكيداً لقيمة المسلمين ، ولثمن حياتهم ، وثمن سلامتهم ، أما إذا غلب على ظنك أن هذا الذي عاهدته ربما نقض العهد أنت أنهِ الاتفاق ابتداءً وأعلمه ، لكن دائماً الله عز وجل قال :
لذلك جاء على الدنيا مليارات ممليرة ، مليارات ولدوا ، وكبروا ، وتزوجوا ، وأنجبوا ، وماتوا ولم يدرِ بهم أحد ، أنا أنصح إخوتي الحاضرين لا تكن رقماً سهلاً ، كن رقماً صعباً ، إما أن تُخطط ، وإما أن يُخطط لك ، تفوق في دراستك ، هذا التفوق قوة لأمتك ، تفوق في صناعتك ، هذا التفوق قوة لأمتك ، تفوقك في تجارتك هذا التفوق قوة لأمتك ، تفوق في اختصاصك ، هذا الاختصاص قوة لأمتك .
أنواع الجهاد :
1 ـ جهاد النفس والهوى :
أيها الإخوة ،
﴿
ما كلفك الله إلا أن تقيم الإسلام في نفسك ، وفي بيتك ، وفي عملك ، لو فعل كل منا هذا لكنا في حال آخر .
فلذلك
2 ـ الجهاد الدعوي :
ثم هناك الجهاد الدعوي ، أن تبحث عن الحقيقة فأنت مجاهد ، أن تأتي من مكان بعيد إلى مسجد ، تجلس على الأرض من دون ضيافة لتتعلم كلام الله ، هذا جهاد ، هذا اسمه جهاد دعوي تؤكده آية كريمة :
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ
الهاء تعود على القرآن ،
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ . ))
خيركم على الإطلاق ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾
لا تجد على وجه الأرض إنساناً أفضل عند الله
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾
شاب يخطط ليتزوج امرأة مؤمنة ، يخطط لينجب أولاداً مؤمنين ، يخطط ليخفف متاعب أمته ، يخطط ليحمل عبء هموم أمته ، هذا شاب عند الله كبير جداً ، وهناك شاب يخطط ليستمتع بالحياة فقط ، هو صغير .
أبواب البطولة مفتوحة على مصارعها إلى يوم القيامة :
يا أيها الإخوة الكرام ؛ لولا أن أبواب البطولة مفتوحة على مصارعها إلى يوم القيامة لما أقيمت الحجة على المؤمنين ، أبواب البطولة مفتوحة على مصارعها إلى يوم القيامة .
﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) ﴾
ممكن أن تكون في آخر الزمان :
وددت أني لقيت إخواني ، قال: فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أوليس نحن إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني
نحن في آخر الزمان ، أية حركة معها معصية ، بالانترنيت يوجد معصية ، بالفضائية يوجد معصية ، بالصحيفة يوجد معصية ، بالمجلة يوجد معصية ، بالطريق يوجد معصية ، بالجامعة يوجد معصية ، أبداً ، لذلك :
من حديث أبي ثعلبة عند الترمذي (3058) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ))
(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، قيل : ومَن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس . ))
3 ـ الجهاد البنائي :
أيها الشاب ! ما الذي يمنعك أن تكون بطلاً ؟ تعلّم ، فعلمك خدمة لأمتك ، أحياناً نأتي بخبير يأخذ مئة ضعف عما يأخذه المواطن ، يستغلون جهلنا ، فإذا تعلم الإنسان في الطب ، في الهندسة ، في أي اختصاص ، وسدّ ثغرة لهذه الأمة معنى هذا أنه مجاهد هذا الجهاد الثالث ، الأول : جهاد نفسي :
﴿
والجهاد الثاني : الجهاد الدعوي
ألقوا قنبلة قبل سقوط بغداد تفني البشر ، وتبقي الحجر ، عشرة آلاف إنسان أصبحوا كالهباء ، والأبنية كما هي ، النوم مدمر ، أنا أخاطب كل واحد منكم ، تعلم ، أتقن اختصاصك لتكون دعماً لأمتك ، أتقن اختصاصك ، أتقن تجارتك ، أتقن صناعتك ، أتقن دراستك ، أتقن حرفتك .
اسمعوا هذه الكلمة : الأمة بحاجة إلى من يموت في سبيل الله ، والله لكن أقول : هي في ألف حاجة إلى من يعيش في سبيلها ، كما أن الأمة هي بحاجة إلى من يموت في سبيلها هي بحاجة إلى من يعيش في سبيلها ، إذاً هذا الجهاد البنائي
فأنا أقول : أنت كمواطن عادي تستطيع أن تجاهد نفسك وهواك أولاً بحضور ، درس علم تقوم بالجهاد الدعوي ، تتعلم ، وبإتقان عملك تقوم بالجهاد البنائي ،
4 ـ الجهاد القتالي :
إذا نجحنا في الجهاد النفسي ، وفي الجهاد الدعوي ، وفي الجهاد البنائي ، يُنتظر أن ننجح في الجهاد القتالي ، المعركة معركة مصير ، معركة بمصطلح معاصر نكون أو لا نكون .
والله يُخطط للمسلمين ، لإفقارهم ، ولإضلالهم ، ولإفسادهم ، ولإذلالهم ، وهناك واحد غير معلن ولإبادتهم ، تجد يموت الملايين ، ولا تصريح ، ولا تعليق ، ولا احتجاج ، ولا استغراب أبداً ، مهما قُتل من المسلمين ، الكل ساكت ، أسير واحد يأتي رئيس أمريكي إلى المنطقة في برنامج زيارته زيارة الأسير ، ولنا عند اليهود أحد عشر أسيراً وثمانمئة ، لم يخطر في باله أن يزور أسرة واحدة للتوازن .
اعلم علم اليقين حينما قال الله تعالى عز وجل :
الآن لا زلنا في الأحكام المتعلقة بالعلاقة بالآخر ، انطلاقاً من أن منهج الله عز وجل منهج شمولي ، يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، إذا جنح فريق من غير المسلمين إلى مسالمة المسلمين نحن معهم ، من مركز قوي ، لكن نحن معهم ونحن يقظون ، كان عليه الصلاة والسلام يحذر الناس ، ويحترس منهم من دون أن يطوي بشره عن أحد ، أرادوا السلام ؟ نحن مع السلام ، لكن سلام مشرف ، سلام مع الكرامة ، سلام مع الاعتزاز .
الإيمان من دون طاعة لله عز وجل لا قيمة له إطلاقاً :
أما النقطة الدقيقة جداً إذا قال الله عز وجل :
مرة سألني طفل : أنا ماذا أفعل ؟ قلت له : ادرس ، تعلم ، خذ شهادة ، لأنه كلما كثُر المتعلمون باختصاصات متنوعة تنهض الأمة ، أنت احمل همّ الأمة ، لا تحمل همّ نفسك ، احمل همّ الأمة ، الأمة بحاجة إلى شباب يعيش في سبيلها .
مرة التقيت مع شخص بكل معمل الآن معمل يعمل على الكمبيوتر تقريباً ، يوجد قطعة بالكمبيوتر معقدة جداً ، والله أطلعني على خارطة لهذه القطعة طولها ستة أمتار ، يكون فيها قطعة تتلف ، تذهب الأجهزة إلى بلاد بعيدة ، الوقت يستغرق شهراً ، ترجع الأجرة بعشرة ملايين ، أحد الإخوة الكرام في هذا البلد الطيب استطاع أن يحل هذه المشكلة ، الآن يأخذ عشرة آلاف ، عوض مليونين أو ثلاثة ، أتقن صناعة المازربورد بالكومبيوتر ، يكون الكومبيوتر صناعياً ، المعمل متوقف ، يدفع صاحب المعمل أي مبلغ ، هم يتقصدون وضع قطعة ضعيفة تتعطل كل سنة مرة يقبضون ملايين مملينة ، شاب مؤمن وفقه الله واستطاع أن يحل اللغز ، والله الخريطة رأيتها ، طولها ستة أمتار ، هناك قطعة تالفة وضع محلها قطعة جيدة انتهى الأمر ، فالعلم الآن ضروري ، العالم الآن صار قرية واحدة ، كان خمس قارات صار قارة ، صار بلداً ، صار مدينة ، صار الآن قرية صغيرة ، قرية ، بيت ، غرفة ، سطح مكتب .
أيها الإخوة ، لابدّ من أن نتعرف إلى الحقيقة ، لابدّ من أن نطلب العلم ، لابدّ من أن نلقى الله بعمل يرضي الله عز وجل .
الحكمة من أمر النبي الكريم عدم قتل عمه العباس :
أخواننا الكرام ، هذه الآية التي ذكرتها في بداية الدرس :
هذا الصحابي بعد أن علم أن العباس كان مسلماً يقول : ظللت أتصدق عشر سنين رجاء أن يغفر الله لي سوء ظني برسول الله .
قصة خيبر وإسلام العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم :
القصة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر الحجاج بن علاط السلمي فأسلم ، وكان غنياً كثير المال ، فقال : يا رسول الله ، إن مالي عند امرأتي أم شيبة بمكة ، ومتفرق في تجار مكة ، فائذن لي يا رسول الله أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي ، عندئذٍ لا أقدر على أخذ شيء منه ، يبدو أنه كان غنياً كبيراً ، وأمواله كلها متفرقة في مكة ، في تجار مكة ، عند امرأته أم شيبة ، فائذن لي أن أذهب إلى مكة قبل أن يعلم أهل مكة بإسلامي لآخذ مالي ، عندئذٍ لا أقدر على أخذ شيء منه ، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم .لكن هناك سؤال محرج ، ثم قال الحجاج : يا رسول الله لابدّ من أن أقول ، أي أن أتقول شيئاً بخلاف الواقع ، أتسمح لي حتى أحتال به لأخذ مالي ؟ فقال عليه الصلاة والسلام رحمة به وكماله : قل ما شئت ، قال الحجاج فخرجت ، حتى إذا قدمت إلى مكة وجدت بثنيتي البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار ، لم يكن هناك فضائيات ، كانوا يخرجون إلى ظاهر المدينة يتلقون الركبان ليسألوهم عن الأخبار ، وكانوا يسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر ، وهي من أقوى قرى الحجاز ، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان ، وكان بينهم تراهن عظيم على مئة بعير حول من سيغلب ، هناك مراهنة بين أطراف قريش حجمها مئة بعير على من سيغلب أهل خيبر أم رسول الله ؟ فلما رأوا الحجاج ، ولم يكونوا قد علموا بإسلامه ، قالوا : الحجاج والله عنده الخبر اليقين ، يا حجاج ! إنه قد بلغنا أن القاطع - لعنهم الله - يعنون رسول الله قد سار إلى خيبر ؟ فقال الحجاج : عندي من الخبر ما يسركم ، هو معه إذن من رسول الله ، فاجتمعوا عليه يقولون : إيه يا حجاج ، تكلم ، قال الحجاج : فقلت لهم : لم يلقَ محمد وأصحابه قوماً يحسنون القتل مثلهم ، فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها ، وأسر محمد ، وقالوا : لا نقتله حتى نبعث فيه إلى مكة فنقتله بين أظهرهم ، بمن كان أصاب من رجالهم ، فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشد الفرح إلى أهل مكة فقيل لهم : قد جاءكم الخبر ، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم ، ثم قال لهم الحجاج :
أعينوني على غرمائي – المدينين - أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك ، فجمعوا لي مالي على أحسن ما يكون - استرد كل ديونه - ففشا ذلك بمكة ، وأظهر المشركون الفرح والسرور ، وانكسر من كان بمكة من المسلمين ، الآن الشاهد : وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب ، فجعل لا يستطيع أن يقوم - لم يعد يستطيع أن يقف من شدة حزنه بهذا الخبر - ثم بعث العباس إلى الحجاج غلاماً ليقول له : يا حجاج ! انظر حسن الظن بالله ، الله أعلى وأجلّ من أن يكون الذي جئت به حقاً ، غير معقول .
وصدقْ إذا أنت مؤمن مستقيم لا تخاف ، لم يقبل ، فقال الحجاج للغلام : اقرأ على أبي فضل السلام ، وقل له : ليُخلِ لي بعض بيوته لآتيه – ألا يكون هناك أحد – لآتيه بخبر على ما يسره ، واكتم عني ، فأقبل الغلام وقال : أبشر أبا الفضل ، فوثب العباس - من فرحه قفز - فرحاً كأن لم يمسه شيء وأخبره الغلام ، أعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله من فرحه ، وقال : لله عليّ عتق عشر رقاب على هذا الخبر السار .
فلما كان الظهر جاء الحجاج فناشد العباس أن يكتم عنه ثلاثة أيام ، وقال : إني أخشى الطلب ، فإذا مضت ثلاثة فأظهر أمرك ، أي اكتم خبري عنهم ثلاثة أيام حتى أسافر ، أخذ أمواله كلها ، فإذا مضت ثلاثة فأظهر أمرك ، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاث كأنها سنوات ثلاثة ، وبعد مضي هذه الأيام الثلاث قال عمد العباس رضي الله عنه إلى حلة فلبسها ، وتخلق بخلوق - تعطر - وأخذ بيده قضيباً ، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش ، وهم يقولون إذا مرّ بهم : لا يصيبك إلا الخير يا أبا الفضل ، عرفوا أن الخبر مؤلم جداً ، هو يتحمله ، هذا والله من التجلد بعد المصيبة ، قال : كلا والله الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله ، أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله عز وجل على يد رسوله ، وجرت فيها سهام الله ، وسهام رسوله ، وتزوج رسول الله صفية بنت ملكهم ، وإنما قال لكم ذلك ليأخذ أمواله منكم ، وإلا فهو ممن أسلم ، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين ، فقال المشركون : ألا يا عباد الله انفلت عدو الله - يعنون حجاجاً ، أي ضحك عليهم - أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر الآخر أن النبي انتصر على أهل خيبر وتزوج صفية بنت ملكهم ، والأمر على عكس ما يكون .
معنى ذلك نريد أن نقول لكم : العباس كان مسلماً ، لذلك قال :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين