- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (008)سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الله عز وجل لم يخاطب النبي باسمه إطلاقاً إنما خاطبه بمرتبته النبوية :
أيها الإخوة الكرام ؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سورة الأنفال ، ومع الآية الخامسة والستين وهي قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) ﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ الله عز وجل لم يخاطب النبي باسمه إطلاقاً كما خاطب بقية الأنبياء :
﴿ يَا يَحْيَى
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ
لكن خاطبه بمرتبته النبوية : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
فالأمر إذا كان متعلقاً بالدعوة ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾
هنا ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
خطاب الله يتجه تارة إلى قلب الإنسان وتارة إلى عقله وتارة إليهما معاً :
إخواننا الكرام ؛ الإنسان عقل وقلب ، من أجل أن تحدث فيه قناعة ينبغي أن تخاطبه بالعلم ، ومن أجل أن تحدث عنده موقفاً ينبغي أن تخاطب قلبه ، فالإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، فالخطاب تارة يتجه إلى العقل ، وتارة يتجه إلى القلب ، وقد يتجه معاً إلى العقل والقلب معاً .
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ﴾
يخاطب القلب .
﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) ﴾
يخاطب العقل ، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرض المؤمنين على القتال ، لماذا ؟ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق النفوس ، وهو الذي يعلم حقيقتها ، فالإنسان من دون ردع ينحرف ، الردع أي الحق يحتاج إلى قوة ، إلا أن الحق عند الآخر هو أن تكون قوياً ، أما عند المؤمنين الحق ما جاء به الوحي السماوي ، والحق الذي جاء به الوحي السماوي يحتاج إلى قوة ، فرق كبير بين أن تعد الحق هو القوة - ومنطق هذا العصر إذا كنت قوياً فأنت على حق- الحق أن تكون قوياً وأن تفرض ثقافتك على الآخر لأنك قوي .
الباطل إن لم نقف أمامه تتسع دوائره ويضيق على الحق دوائره :
حينما تعيش البشرية أن القوي ، أي قوي هو صاحب الحق ، وأن الضعيف هو المبطل ، عندئذٍ البشرية تسير في طريق الهاوية ، أي القوي يحتل البلاد ، ينهب الثروات ، يقتل الشباب ، قد يقتل مليوناً ، ويعيق مليوناً ، ويشرد خمسة ملايين من أجل الحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، ما من عصر انتهكت فيه حقوق الإنسان كهذا العصر ، تحت مسميات فارغة ، تحت طروحات باطلة ، فالمسلم مادام ضعيفاً يوم يذوب قلب المسلم في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يغير ، إن سكت استباحوه ، وإن تكلم قتلوه .
(( عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لَتُمْلَأَنَّ الأرضُ ظلمًا وعدوانًا ، ثُمَّ لَيَخْرُجَنَّ رجلٌ مِنْ أهلِ بيتِي ، حتَّى يملأَها قِسْطًا وعدلًا ، كما مُلئَتْ ظلمًا وعدوانًا ))
فالباطل إن لم تقف أمامه ، إن لم تشعره أنك قوي ، تتسع دوائره ، ويضيق على الحق دوائره ، وهذا ما يجري في العالم .
مثلاً : فتاة في أمريكا ارتدت ثياب السحاقيات ، والسحاق ؛ شذوذ بين الإناث ، محرم قطعاً في الشرائع الإلهية ، وفي القوانين الأرضية ، فتاة بمدينة نيويورك بمدرسة ثانوية ارتدت هذه الثياب ، يبدو أن المدير على بقية مروءة ففصلها ، أقام أبوها دعوى على المدير وربح الدعوى وكلفه بمبلغ كبير ، لأنه اعتدى على حرية الفتاة ، واضح ؟ هذا في نيويورك .
في باريس فتاة وضعت على رأسها خرقة تنفيذاً لدين يدين به ربع سكان الأرض قامت الدنيا ولم تقعد ، لا يوجد منطق أبداً .
طائرة سقطت في لوكربي ، دُفع دية كل راكب خمسمئة مليون بالليرة السورية ، مجموع الركاب ملياران وسبعمئة مليون دولار ، مئات القتلى يموتون كل يوم عندنا ، مئات يومياً ولا شيء !
الحق قوة والباطل ضعف :
لذلك الحق إذا كان ضعيفاً التطاول ، والاحتلال ، ونهب الثروات ، وسحق المنجزات ، وتدمير كل شيء ، هذا الذي يجري في البلاد الإسلامية ، خمس دول إسلامية محتلة ، هناك دولة تملك أكبر احتياطي نفط في العالم ، 450 مليار برميل ، وهذا البلد أرخص بلد في العالم بتكلفة استخراج البرميل ، خمسة وثمانون سنتاً ، في بلاد أخرى ثمانية ونصف دولار كلفة استخراج البرميل ، ثروات طائلة ، بلاد شاسعة ، مركز جغرافي مذهل ، فالحق ضعيف ، الأقوياء يحتلون ، ويسفكون الدماء ، وينهبون الثروات لأن الحق ضعيف ، يجب أن يكون الحق قوياً ، لكن إن كنت قوياً ليس معنى هذا أنك على حق ، أما عندهم مادمت قوياً فأنا على حق ، مايك مترايت ، ما دمت أنت قوي فأنت على حق .
من لم يكن متفوقاً في دنياه فلن يحترم دينه :
لذلك : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
أيها الإخوة ؛ هذا معنى قول الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
إعداد القوة التي أمر الله بها موجهة إلى أعداء الله وإلى من أنكر أحقية هذا الدين :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) ﴾
هناك دول الآن كبيرة جداً ، لم تدخل حرباً من الخمسينات ، لكنها مرهوبة الجانب ، لا أحد يفكر أن يعتدي عليها .
شيء آخر ؛
القراءات في القرآن الكريم :
1 ـ قراءة البحث والإيمان :
أساساً أيها الإخوة الله عز وجل حينما قال :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ﴾
هذه قراءة البحث والإيمان .
2 ـ قراءة الشكر والعرفان :
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) ﴾
ربك الأكرم هذه قراءة الشكر والعرفان .
3 ـ قراءة الوحي والإذعان :
﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾
هذه قراءة الوحي والإذعان .
4 ـ قراءة العدوان والطغيان :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) ﴾
هذه قراءة العدوان والطغيان ، هناك قراءة الإيمان ، وقراءة الشكران ، وقراءة الوحي والإذعان ، وقراءة الطغيان .
قوم عاد نموذج للأقوام المستعلية التي طغت في الأرض :
حينما يستخدم الإنسان العلم ليطغى به ، ليفرض إباحيته على شعوب الأرض ، ماذا فعلت عاد ؟ قال :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)﴾
عاد تفوقت في شتى الميادين ، وما أهلك الله قوماً إلا وذكرهم أنه هلك من هو أشد منهم قوة إلا عاداً حينما أهلكها قال :
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)﴾
تفوقت في العمران :
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) ﴾
وتفوقت في الصناعة :
﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) ﴾
وتفوقت في الناحية العسكرية :
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) ﴾
وتفوقت في العلم :
﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ
ومع التفوق العمراني ، والعلمي ، والعسكري ، كانوا متغطرسين ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ ماذا فعلوا ؟
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
الطغيان بالقصف ، والفساد بالأفلام .
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف :
أيها الإخوة ، إذاً ينبغي أن تكون قوياً ، ما علاقة المؤمنين بهذه الآية ؟ إذا كنت طالباً في الجامعة ينبغي أن تكون متفوقاً ، فإذا كنت متفوقاً وديّناً اقتنع الناس بالدين ، أما إذا كنت كسولاً وديّناً ربطوا بين الدين وبين الكسل ، إذا كنت متفوقاً في التجارة أقنعت الآخر بأن يكون تاجراً مؤمناً مستقيماً ، أما إذا تخلفت في التجارة عزوا تخلفك إلى دينك .
لذلك الآن ما لم تكن متفوقاً في الدنيا لا يحترم دينك ، أو ما لم تكن قوياً لا يحترم دينك ، من هنا عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ ))
هذا كله تحت قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
الله تعالى أعطى المؤمن قوة تحمل كبيرة فإذا حارب يفوز بإحدى الحسنيين :
لذلك أيها الإخوة البلاد الإسلامية التي اُحتلت ، والتي قامت فيها مقاومة كبيرة جداً ، ثلاثون دولة احتلوا دولة بالمقياس الحضاري متخلفة ، هؤلاء المقاتلون واجهوا ثلاثين دولة واستطاعوا أن يحتلوا 74% من بلادهم ، وأعادوها إلى حوزتهم ، لذلك الطرف الآخر يعد للمليون الآن قبل أن يقرر أن يحتل بلداً إسلامياً آخر ، هذا إنجاز كبير ، هذه المقاومة .
يقول أحد كبار الموظفين في دولة عملاقة في الناحية العسكرية ، قال : ماذا نفعل بحاملة الطائرات والصواريخ العابرة للقارات وليس هناك دولة على وجه الأرض تجرؤ أن تحاربنا؟ لكن ماذا نفعل بهذا الإنسان الذي أراد أن يموت باختياره ليهز كياننا ؟ هذا ليس له حل .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) ﴾
إما الشهادة أو النصر .
المؤمن رقم صعب لا يباع ولا يُشترى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
ومرة ثانية أخاطب الإخوة الشباب ، معنى أن تكون قوياً أنت أن تكون متفوقاً ، الطالب الأول ، الموظف الأول ، المهندس الأول ، الطبيب الأول ، المدرس الأول ، المحامي الأول ، الصانع الأول ، التاجر الأول .
أقول لكم دائماً : لِمَ ترضى أيها الأخ الكريم أن تكون رقماً بسيطاً من دهماء الناس؟ من عامتهم ؟ من سوقتهم ؟
مرة سألت طلابي : من يذكر اسم تاجر كبير عاش في دمشق عام ألف وستمئة و ثلاثة وثمانين وله علامة تامة ؟ الطلاب فكروا ، فكروا ، فكروا ، لم يستطع أحد الإجابة ، قلت لهم : وأنا لا أعلم ، لكن من منا ينسى صلاح الدين الأيوبي ؟ من منا ينسى عمر بن الخطاب؟ هؤلاء القادة العظام الذين فتحوا البلاد ، العلماء الكبار ، لِمَ ترضى أن تكون رقماً بسيطاً ؟ لِمَ لا تكون رقماً صعباً ؟
أقول لكم هذه الكلمة : لك قناعة معينة ، إذا غيرت مقابل مبلغ من المال انتهيت عند الله ، هناك إنسان يغير قناعته بمئة ليرة ، وإنسان بألف ليرة ، وإنسان بمئة ألف ، وإنسان بمليون ، لو غيرت قناعتك بمئة مليار انتهيت عند الله ، معنى هذا أنت إنسان لك رقم تُشترى به وانتهيت ، أما المؤمن رقم صعب .
(( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه . ))
العلاقة بين الحرية والقوة علاقة متداخلة :
أيها الإخوة ؛ لأن المسلمين يعانون ما يعانون من ضعفهم ، من تفرقهم ، من شتاتهم ، من خصوماتهم ، بأسهم بينهم شديد ، وسلمهم لأعدائهم ، يشترون كل شيء .
ويل لأمة تأكل ما لا تزرع ، ويل لأمة تلبس ما لا تنسج ، ويل لأمة تستخدم آلة لا تصنعها ، بل ويل لأمة تشتري السلاح .
كنت مرة في مصر فقال أحد العلماء في الخطبة - كنا في مؤتمر - قال : إذا أردت أن يكون قرارك من رأسك فلا تأكل إلا من فأسك ، إذا كان هناك اكتفاء ذاتي ، الثروات صنعناها ، الأراضي استصلحناها ، اكتفينا من الناحية الغذائية ، آلاتنا من صنعنا ، عندئذٍ لنا قرار ، أنت حر بقدر ما أنت قوي ، وأنت قوي بقدر ما أنت حر ، العلاقة بين الحرية والقوة علاقة متداخلة ، أنت قوي إذا كنت حراً ، وأنت حر إذا كنت قوياً ، أقول لكم هذا الكلام من معاناة ، المسلمون يعانون ما يعانون ، لأنهم ضعاف ، ولأن بأسهم بينهم ، ولأن سلمهم لأعدائهم ، ولأنهم متفرقون ، ولأنهم يتنازعون ،
المؤمن مع خالق السماوات والأرض الذي يؤيده وينصره ويلقي في قلبه الثبات :
إخواننا الكرام ، صدقوا ولا أبالغ أنه من يتابع الإعلام المعادي في حرب غزة يفاجأ أن الذي يقع في أيديهم من الأسرى يسألونهم : ماذا يرتدي جنودكم ؟ يقولون : المبرقع ، قالوا : لا ، أنتم تكذبون ، ترتدون ثياباً بيضاء ، هي الملائكة بنص القرآن الكريم ، أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ الطرف الآخر جبان يخاف ، المؤمن شجاع ، لأن الموت الذي ينخلع له قلب الطرف الآخر هو محبب عند المؤمن .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾
أي المؤمن مع خالق السماوات والأرض ، الله عز وجل يؤيده ، ينصره ، يلقي في قلبه الثبات ، يلقي في قلب عدوه الخوف .
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا
هناك قصص مؤداها أنه يستحيل أن يُنتصر على المسلمين في الحرب إذا كانوا مؤمنين طبعاً .
لذلك هناك ملك فرنسي وقع أسيراً في المنصورة في عام ألف ومئتين وخمسين ، قال هذه الكلمات وهي محفوظة في المتحف في باريس ، قال : لا يمكن أن ننتصر على المسلمين في الحرب ، ولكن ذكر الفرقة ، والفساد ، والرشوة ، والنساء ، والنزاعات الداخلية ، بهذا ينتصرون علينا ، أما في الحرب فالمؤمن قوي .
والدليل العدو خلال حربين عام 2006 ، و 2008 ، أي حرب جنوب لبنان ، وحرب غزة ، انتقلت أهدافه من الأمن إلى البقاء ، كان الحديث عن الأمن فقط ، الآن الحديث في الصحف صحف العدو عن البقاء ، وصار هناك توازن رعب ، كانت حروبهم نزهة ، أما نحن نضطرب ، ندخل الملاجئ ، الآن يَقصفون ويُقصفون ، نخاف ويخافون ، ننطلق إلى الملاجئ وينطلقون ، هذا اسمه : توازن رعب ، لم يكن من قبل ، والحسم انتهى ، هم يبدؤون الحرب وهم ينهونها ، الآن لا ، يبدؤونها أما النهاية ليست بيدهم ، إلا بتدخل أجنبي لصالحهم طبعاً.
أيها الإخوة ، المقاومة فكر وليست أشخاصاً .
قضية لغوية دقيقة جداً تُحرض المسلمين على أن يكونوا أقوياء :
إخواننا الكرام ، هناك قضية لغوية دقيقة جداً ، عندنا أفعال إذا شدّدنا وسطها ، أي وضعنا شدة على الحرف الوسطي بها ، أو أضفنا لها همزة ينعكس معناها ، مثلاً : قشّر التفاحة أي أزال قشرها ، القشر ملازم الفاكهة ، قشّرتها أي أزلت قشرها ، مرّض جلب المرض أم أزال المرض ؟ أزال المرض ، بالشدة ، مَرِض أي أصابه المرض ، مرّض شفاه من مرضه ، نص من دون تشكيل ، أو من دون تنقيط ، هذا نص معجم ، أي مبهم ، أعجمه أي أزال عجمته ، السن باء ، والسن الثاني نون ، هذه تاء مربوطة ، عندما نقطناه كان مبهماً أعجماً فبالتنقيط أزلنا عجمته .
إذاً يوجد عندنا أفعال حينما نضعف وسطها ، أو نضيف عليها همزة ينعكس معناها ، صار المعنى مناقضاً لأصل اشتقاقها ، أوضح مثل قشّر ، أي أزال القشرة ، مرّض ؛ أزال المرض ، أعجم ؛ أزال العجمة ، أقسط .
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) ﴾
الظالمون ، أقسط عدل أي أزال الظلم ، الآن :
﴿ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا
أي حتى تهلك نفسك ، حَرَضاً ؛ أي هالكاً ، حرّض أبعد الهلاك ، أي إذا كنتم أيها المؤمنون ضعافاً فأنتم هالكون كما حالنا اليوم ، متى يزول هلاككم ؟ إذا كنتم أقوياء .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ . ))
فرص العمل الصالح المتاحة أمام القوي لا تعد ولا تحصى :
بل إنني أقول لكم : إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً ، ينبغي بل يجب ، لأن فرص العمل الصالح المتاحة أمام القوي لا تعد ولا تحصى ، والقوة أنواع ثلاث ، قوة المنصب ، فأنت بجرة قلم تحق حقاً وتبطل باطلاً ، توقيع . وقوة العلم ، فأنت بالعلم تبدد الظلام ، تبدد الجهل ، تبعد الخرافات ، الترهات ، الأباطيل ، الضلالات . وقوة المال ، أنت بالمال تبعد شبح الفقر .
(( عن أنس بن مالك : وكاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسدُ أن يكونَ سَبَقَ القَدَرَ ))
وكاد الفقر أن يكون إرهاباً ، وكاد الفقر أن يكون جريمة ، وكاد الفقر أن يكون لا مبالاة ، فلذلك بالمال الحلال تبعد شبح الفقر ، والفقر والتخلف ، والفقر والجريمة متلازمان .
على الإنسان أن يكون قوياً لا على حساب مبادئه و قيمه بل وفق منهج الله :
ملخص هذا الدرس ينبغي أن تكون قوياً ، لكن أن تكون قوياً لا على حساب مبادئك ، ولا على حساب قيمك ، أن تكون قوياً إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ، لكن من يمنعك أن تكون قوياً في علمك ؟ هل يمنعك أحد ؟ لا ، من يمنعك أن تكون قوياً في بيتك ؟ بيت مسلم مؤمن ، من يمنعك أن تكون قوياً في عملك ؟ لا أحد ، فكأن علاقتنا بهذه الآية علاقة مفهوم القوة بأوسع معانيه ، يحب أن تكون قوياً .
الصدق والأمانة والعفة صفات تلفت نظر الآخر إلى الدين الإسلامي :
أنا أذكر أن أحد الإخوة الكرام كان طالباً يحضر هذه الدروس ، وكان أبوه يعارضه معارضة كبيرة جداً ، فلما نجح بتفوق في الشهادة الإعدادية قال لأخيه : خذ أخاك معك إلى المسجد ، اختلف الوضع ، عندما رآه متفوقاً قال : خذ أخاك معك إلى المسجد .
أنا أقول لكم أيها الإخوة ؛ ما دمت منتمياً إلى مسجد ينبغي أن تكون قوياً بدراستك ، بتجارتك ، باختصاصك ، طبيب مسلم لك مسجد ينبغي أن تكون الطبيب الأول ، لأنك عندئذٍ تقنع الناس بالدين ، أنت لا يمكن أن تقنع بالدين إذا رأيت المتدين ضعيفاً ، خنوعاً ، متكلاً ، غير متقن لعمله ، لا تقنع بالدين ، أي إذا رأيت إنساناً له ديانة أرضية من شرق آسيا ، قذر ، يتسول ، هل يخطر في بالك لساعة واحدة أن تشتري كتاباً عن ديانته فتقرأها ؟ مستحيل ! ما الذي يلفت النظر في المسلم ؟ قوته ، أمانته .
لذلك : عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها :
(( مَّا نزَلْنا أرضَ الحَبَشةِ جاوَرْنا بها خَيرَ جارٍ ، النَّجاشيَّ ، أمِنَّا على دِينِنا ، وعَبَدْنا اللهَ لا نُؤْذى ، ولا نَسمَعُ شَيئًا نَكرَهُه ، فلمَّا بلَغَ ذلك قُرَيشًا ائْتَمَروا أنْ يَبعَثوا إلى النَّجاشيِّ فينا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وأنْ يُهدوا النَّجاشيَّ هدايا ممَّا يُستَطرَفُ مِن مَتاعِ مكةَ ، وكان مِن أعجَبِ ما يأتيهِ منها إليه الأدَمُ ، فجَمَعوا له أدَمًا كَثيرًا ، ولم يَترُكوا مِن بَطارِقَتهِ بِطريقًا إلا أهدَوْا له هَديَّةً ، ثم بَعَثوا بذلك مع عَبدِ اللهِ بنِ رَبيعةَ بنِ المُغيرةِ المَخزوميِّ وعَمرِو بنِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْميِّ ، وأمَّروهما أمْرَهم ، وقالوا لهما : ادفَعوا إلى كُلِّ بِطريقٍ هَديَّتَه قَبلَ أنْ تُكَلِّموا النَّجاشيَّ فيهم ، ثم قَدِّموا لِلنَّجاشيِّ هداياه ، ثم سَلوهُ أنْ يُسَلِّمَهم إليكم قَبلَ أنْ يُكَلِّمَهم . قالت : فخرَجا ، فقَدِما على النَّجاشيِّ ونحن عِندَه بخَيرِ دارٍ ، وعِندَ خَيرِ جارٍ ، فلم يَبقَ مِن بَطارِقَتِه بِطريقٌ إلا دفَعا إليه هَديَّتَه قَبلَ أنْ يُكَلِّما النَّجاشيَّ ، ثم قالا لِكُلِّ بِطريقٍ منهم : إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلمانٌ سُفَهاءُ فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكم ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ لا نَعرِفُه نحن ولا أنتم ، وقد بعَثَنا إلى المَلِكِ فيهم أشرافُ قَومِهم؛ لِيَرُدَّهم إليهم ، فإذا كَلَّمْنا المَلِكَ فيهم فتُشيروا عليه بأنْ يُسَلِّمَهم إلينا ، ولا يُكَلِّمَهم؛ فإنَّ قَوْمَهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم . فقالوا لهما : نَعَمْ . ثم إنَّهما قَرَّبا هَداياهم إلى النَّجاشيِّ ، فقَبِلَها منهما ، ثم كَلَّماهُ ، فقالا له : أيُّها المَلِكُ ، إنَّه قد صَبا إلى بَلَدِكَ مِنَّا غِلمانٌ سُفهاءُ ، فارَقوا دِينَ قَومِهم ، ولم يَدخُلوا في دِينِكَ ، وجاؤوا بدِينٍ مُبتَدَعٍ ، لا نَعرِفُه نحن ولا أنتَ ، وقد بعَثَنا إليكَ فيهم أشرافُ قَومِهم مِن آبائِهم وأعمامِهم وعَشائِرِهم؛ لِتَرُدَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه . قالت : ولم يَكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إلى عَبدِ اللهِ بنِ أبي رَبيعةَ وعَمرِو بنِ العاصِ مِن أنْ يَسمَعَ النَّجاشيُّ كَلامَهم . فقالت بَطارِقَتُه حَولَه : صَدَقوا أيُّها المَلِكُ ، قَومُهم أعلى بهم عَيْنًا ، وأعلَمُ بما عابوا عليهم؛ فأسْلِمْهم إليهما ، فليَرُدَّاهم إلى بِلادِهم وقَومِهم . قال : فغَضِبَ النَّجاشيُّ ، ثم قال : لا ها اللهِ ايْمُ اللهِ إذَنْ لا أُسَلِّمُهم إليهما ، ولا أكادُ قَومًا جاوَروني ، ونَزَلوا بِلادي واختَاروني على مَن سِوايَ حتى أدعُوَهم فأسألَهم ما يَقولُ هذان في أمْرِهم ، فإنْ كانوا كما يَقولانِ أسلَمْتُهم إليهما ، ورَدَدتُهم إلى قَومِهم ، وإنْ كانوا على غَيرِ ذلك مَنَعتُهم منهما ، وأحسَنتُ جِوارَهم ما جاوَروني . قالت : ثم أرسَلَ إلى أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فدَعاهم ، فلمَّا جاءَهم رَسولُهُ اجتَمَعوا ، ثم قال بَعضُهم لِبَعضٍ : ما تَقولونَ لِلرَّجُلِ إذا جِئتُموهُ . قالوا : نَقولُ واللهِ ما عَلِمْنا وما أمَرَنا به نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، كائنٌ في ذلك ما هو كائنٌ . فلمَّا جاؤُوهُ وقد دعا النَّجاشيُّ أساقِفَتَه فنَشَروا مَصاحِفَهم حَولَه ، سألَهم ، فقال : ما هذا الدِّينُ الذي فارَقتُم فيه قَومَكم ، ولم تَدخُلوا في دِيني ولا في دِينِ أحَدٍ مِن هذه الأُمَمِ؟ قالت : فكان الذي كَلَّمَه جَعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ ، فقال له : أيُّها المَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أهلَ جاهِليَّةٍ ، نَعبُدُ الأصنامَ ، ونأكُلُ المَيْتةَ ، ونأتي الفَواحِشَ ، ونَقطَعُ الأرحامَ ، ونُسيءُ الجِوارَ ، يأكُلُ القَويُّ مِنَّا الضَّعيفَ ، فكُنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رَسولًا مِنَّا ، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَهُ وأمانَتَه وعَفافَهُ ، فدَعانا إلى اللهِ لِنُوَحِّدَه ، ونَعبُدَه ، ونَخلَعَ ما كُنَّا نَعبُدُ نحن وآباؤنا مِن دُونِه مِنَ الحِجارةِ والأوثانِ ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ ، وأداءِ الأمانةِ ، وصِلةِ الرَّحِمِ ، وحُسْنِ الجِوارِ ، والكَفِّ عنِ المَحارِمِ والدِّماءِ
لذلك إن أردت أن تكون داعية صامتاً فكن قوياً ، بأوسع معاني القوة التي لا تحتاج إلى عنف ، كن قوياً بعلمك ، كن قوياً باختصاصك ، قوياً في بيتك ، قوياً بإرادتك ، قوياً بالتفوق.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين