- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (008)سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا ابتاعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من يتوهم أنه قادر على إلغاء دعوة الله للدار الآخرة فهو غبي وأحمق :
أيها الإخوة الأكارم ؛ مع الدرس الثاني عشر من دروس سورة الأنفال ، ومع الآية السادسة والثلاثين وهي قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
أولاً :
ذكرت لكم من قبل : كنت في قصر ، ساحة الاستقبال أو قاعة الاستقبال مساحتها تقدر بألفي متر مربع ، مزينة بذهب وزنه خمسة طن ، وفي هذا القصر المنيف يعد من أندر القصور في العالم ساعة توقفت على التاسعة وخمس دقائق ، سألت عن هذا ، فقيل لي : هذا الوقت الذي مات فيه صاحب هذا القصر ، وأراد إلغاء الإسلام كلياً ، لم يدع وسيلة إلا واستخدمها لإنهاء الإسلام في البلد ، والإسلام باقٍ وفي أعلى درجة الآن ، وهذا الإنسان مات ولم يتحقق مراده ، أي من سابع المستحيلات أن تتوهم أنه بنفخة من فمك تطفئ ضوء الشمس .
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾
أيها الإخوة ، أي إنسان يتوهم أنه قادر على إلغاء دعوة الله للدار الآخرة فهو غبي وأحمق ، لأن الله عز وجل بيده كل شيء .
نمو الإسلام في العالم نمواً مذهلاً لأنه دين الحق ودين الله :
لذلك : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ ﴾
لذلك هذا العالم الأمريكي الذي قال :
اقتراب العالم من الدين لا لأنه يعبد الله لكن لأن مصلحته في تطبيق أوامره :
بل إن الله يعطينا جرعات منعشة ، أنا أعلم علم اليقين أن ضعاف الإيمان من المسلمين دخلوا في ثقافة اليأس ، وثقافة الإحباط ، وثقافة الطريق المسدود ، ولكن الله أعطانا جرعات كثيرة .
طبعاً إسرائيل هي العصا الغليظة في المنطقة ، ولها وظيفة واضحة كالشمس ، ردع أي قوة في الشرق الأوسط تفكر أن تقول : لا للغرب ، لكن هذه العصا الغليظة كُسرت مرتين مرة 2006 ، ومرة 2008 ، ولم تعد عصا غليظة ، والذين كسروها أقل منها بمئات المرات لكن الله عز وجل يرينا آياته .
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ
انهيار النظام المالي في العالم أكبر دعم لهذا الدين ، العالم كله ينظر بدهشة للنظام الإسلامي ، الإسلام لا يجيز شراء الدَّين ولا بيعه ، والسبب الأول لإفلاس معظم البنوك أنهم يتعاملون بالديون كسلعة ، تقدم سندات ، بائع بضاعتك بالدين ، البنك يشتريها منك ، ويبيعها عشرات المرات ، المتاجرة بالدَّين في الإسلام ممنوعة ، الربا ممنوع ، وكل تجارة متعلقة بالزنا والخمر ممنوعة ، الآن العالم كله يتطلع إلى النظام الإسلامي المالي ، أليس هذا دعماً من الله عز وجل ؟
قبل أسبوع أُغلقت في روسيا كل النوادي الليلية ، لأنها تسبب فساداً في المجتمع ، وقبل انهيار النظام السوفيتي حرموا الخمر ، كلما تقدم العالم اقترب من الدين لا لأنه يعبد الله لكن لأنه يرى أن مصلحته في أن يقترب من أوامر الدين .
الإقبال على الدين والصحوة الإسلامية سببها الشدائد التي ساقها الله للمسلمين :
أيها الإخوة ، كلام دقيق جداً : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ﴾
إياكم أن تتوهموا أن المسلمين قد انتهوا ، المسلمون في خير عميم ، لأن الله لن يتخلى عنهم ، أنا أخطر شيء يؤلمني أن نُهزم من الداخل ، أن يقول إنسان : انتهينا ، لا ، لم ننتهِ ، الله عز وجل يؤدبنا ، لأن فينا خيراً كثيراً إن شاء الله ، هناك تضييق ، هناك شدة ، نحن تماماً كإنسان معه التهاب معدة حاد ، هذا المرض قابل للشفاء ، إذاً يخضع لحمية شديدة جداً ، وإنسان آخر معه ورم خبيث منتشر في جميع أنحاء جسمه ، الثاني سأل الطبيب : ماذا آكل ؟ قال له : كُلْ ما شئت ، أيهما أفضل أن يقال لك : كُلْ ما شئت والأمل معدوم بالشفاء أم أن تخضع لحمية شديدة جداً والأمل كبير في الشفاء ؟
هذا الإقبال على الدين ، هذه الصحوة الإسلامية ، سببها الشدائد التي ساقها ربنا جلّ جلاله للمسلمين ، هذه الشدائد تحثنا على طاعة الله ، وأحياناً الرخاء ، والبحبوحة ، والدنيا العريضة حجاب بين الناس وبين ربهم ، فلذلك هذا شيء مطمئن .
قوى الأرض مجتمعة لن تستطيع أن تفسد على الله هدايته لخلقه :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ ﴾
احفظوا هذا المثل : إن أردت مكافحة الدين كمن يطفئ النار بالزيت ، الزيت يزيد النار اشتعالاً .
﴿ ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
لذلك أتمنى على الإنسان أن يعتقد يقيناً أنه إذا كان في خندق معادٍ للدين فسوف يهزم قطعاً .
للتقريب : من أنت كمواطن ضعيف لتقف أمام دولة معها جيش ؟ معها قوات أمن ، معها شرطة ، معها أموال طائلة ، معها أجهزة ، معها كل شيء ، هل يستطيع مواطن ضعيف أعزل أن يقف أمام دولة عملاقة ؟ نحن بمنطق الأحداث نرفض هذا ، فكيف إذا أراد عبد ضعيف أن يقف أمام الحق ؟!
لذلك أطمئنكم أن قوى الأرض مجتمعة لا يمكن أن تستطيع أن تفسد على الله هدايته لخلقه ، والدين يزداد قوة في العالم كله ، يزداد تأصلاً ، يزداد انتشاراً ، هذا شأن الدين ، الناس حاجتهم إلى الدين كحاجتهم إلى الهواء ، هل بإمكان أهل الأرض أن يمنعوا عنك الهواء ؟ يمنعون عنك الطعام والشراب ، يمنعون عنك المأوى ، أما يمنعون الهواء ؟ مستحيل ، والدين هواء للنفس ، ولأنه هواء لا يمكن لأحد أن يمنعه ، ولا أن يحتكره ، لا واحد ، ولا فئة ، ولا طائفة ، ولا جماعة ، ولا عصر ، ولا مصر ، الدين دين الله .
من ابتعد عن الله يرى بسذاجة أن بإمكانه أن ينهي الدعوة إلى الله :
لذلك في النفس فراغ ، لا يملؤه إلا الدين ، قد يكون أغنى الأغنياء ،وقد يكون أقوى الأقوياء، لكن هو بحاجة إلى أن يؤمن بالله، ليطمئن، بحاجة إلى أن يؤمن بالله كي يشعر بالأمن، كي يشعر أن إلهاً عظيماً يحميه، أن إلهاً عظيماً يستجيب له، أن إلهاً عظيماً يوفقه، أن إلهاً عظيماً يلجأ إليه، أن إلهاً عظيماً يدعوه، أن إلهاً عظيماً يتوكل عليه.
لذلك من أعجب العجب أن تعرف الله ولا تحبه، كما أنه من أعجب العجب أن تحبه ثم لا تطيعه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
لكن غباءهم تركهم يتوهمون أن إنساناً قوياً بإمكانه أن يلغي دعوة من الله، من خالق السماوات والأرض ، توهموا أن هذه الأموال توقف المد الإسلامي ، توقف انتشار الإسلام ، توقف تألق الإسلام .
﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ﴾
أيها الإخوة ؛ ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
كلام واضح ، ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ ﴾
أيها الإخوة ، الإنسان حينما يبتعد عن الله يصبح في عمى ، لا يرى رؤية صحيحة ، يرى بسذاجة ، وضيق أفق أنه بإمكانه أن ينهي الدعوة إلى الله ، هذا من حمقه ، ومن غبائه ،
﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ وبئس المصير﴾
الله عز وجل طليق الإرادة :
أضرب لكم بعض الأمثلة :
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾
لو أن أبا لهب نفسه فكر قليلاً ، وذهب إلى النبي ممثلاً ، كاذباً ، وشهد أنه لا إله إلا الله ، وأن النبي الكريم رسول الله ، يلغي الآية ، لذلك قال العلماء : الله طليق الإرادة ، هو حيّ وقال الله عنه :
مثل آخر :
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ
الله عز وجل وصف الطرف الآخر بأنهم سفهاء ، وأنتم أيها السفهاء - القرآن يخاطبهم - ستقولون كذا وكذا ، أبو لهب يحتاج إلى أن ينطق الشهادة بلسانه ، هؤلاء لو سكتوا لألغوا الآية
لذلك كيف ربنا عز وجل يؤدب العصاة ؟ إذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبٍّ لبه ، أين عقلك ؟ يكون ذكياً جداً ، حينما يصدر قرار من الله بتأديبه يأخذ عقله ، فيرتكب حماقة ما بعدها حماقة ، القضية دقيقة جداً ، أنت مخير ، أما حينما تختار أن تؤذي الناس ، حينما تختار أن تكفر بالرحمن ، الله عز وجل يؤدبك بعمل سيئ تفعله وقد أخذ منك لبك ، إن ربك إذا أراد إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبٍّ لبه ، أي أن الله طليق الإرادة ، منحك الإرادة الحرة وفي أية لحظة يأخذها منك ، وحينما يأخذها منك يرتكب الذكي حماقة ما بعدها حماقة .
الله عز وجل يميز الخبيث من الطيب بامتحانات عدة :
أيها الإخوة ، ثم يقول الله عزّ وجل :
﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)﴾
الآن عفواً ، أثناء العام الدراسي كل الطلاب يرتدون ثياباً موحدة ، وأي إنسان يراهم في الطريق يعرف أنهم طلاب ، هناك لون للثانوي ، و لون للإعدادي ، أليس كذلك ؟ فطالب يمشي في الطريق يرتدي ثياباً معينة ، هذا من طلاب المرحلة الثانوية ، وطالب آخر مرحلة إعدادية ، أثناء العام الدراسي الأوراق مختلطة ، بعد الامتحان يتميزون ، ناجح وراسب ، هل هذا واضح ؟
الآن : المؤمنون كيف ربنا جلّ جلاله يميز الخبيث من الطيب ؟ حادث الإسراء والمعراج ، بعض ضعاف الإيمان من المؤمنين قال : غير معقول أن يذهب إنسان من مكة إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة واحدة ، هذا كذب ، الإسراء والمعراج امتحن المؤمنين .
أوضح مثل أن الفرق الرياضية تجري مباريات فيما بينها للتصفية ، عندما يهزم الفريق يخرج ، المنتصر الأوحد يدخل في المسابقات الدولية ، اسمها : مباريات التصفية ، فهناك فرق عديدة رياضية يجب أن تختار الدولة فريقاً واحداً للمسابقات الدولية فتجري عمليات تصفية فالضعيف يسقط .
والله عز وجل من حين آخر يجري تصفية للمؤمنين ، امتحاناً ، إذا مُنع الحجاب في بلد معين ضعيفات الإيمان تقلن : ممنوع الحجاب ، والله أعرف أختاً كريمة تُحضر دكتوراه في فرنسا ، فلما منع الحجاب مُنعت من دخول الجامعة وهي محجبة ، لغت الدكتوراه ، وعادت إلى بلدها ، وبحثت عن دولة ثانية ، ولم تنزع حجابها .
القضية امتحان ، أحياناً الله عز وجل يسوق شدة هذه الشدة يفرز بها المؤمنون ، فلذلك أيها الإخوة فعل الله عز وجل لحكمة بالغة . ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
كل إنسان ممتحن بما ناله وبما زوي عنه :
وطن نفسك أنك ممتحن ، ممتحن فيما أعطاك ، ممتحن فيما زوي عنك ، أي شيء نلته من الله ، نلت علماً ممتحن في هذا العلم ، هل تنفقه في سبيل الله أم تتاجر به ؟ ممتحن بالمال هل تنفقه لخدمة المسلمين أم تنفقه للتنعم فقط ولتستعلي عليهم ؟
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
ممتحن بالذكاء ، هل تستخدم ذكاءك لبيان الحق أم تستخدم الذكاء لمصالح شخصية ؟ أي شيء نلته من الله أنت ممتحن به ، وأي شيء زوي عنك أنت ممتحن به ، أنت ممتحن مرتان .
لذلك الإمام الشافعي سُئل : " ندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء ؟ فقال : لن تمكن قبل أن تبتلى "
التأديب والابتلاء والتكريم :
وطن نفسك أيها المؤمن أن هناك مرحلة فيها تأديب ، إذا وجدت المخالفات ، و التقصير ، والتجاوزات ، هناك مرحلة التأديب ، تأتي المصيبة كعقاب ، هناك إنفاق مع تبذير ، يوجد منع إنفاق ، وبخل ، وتقطير ، هناك تقصير بالعبادات ، يمر المؤمن بمرحلة التأديب ، الآن استقام ، بعد التأديب استقام ، المرحلة الثانية مرحلة الابتلاء ، تمتحن وأنت مستقيم ، تأتي المصيبة ماذا تقول ؟ المؤمن يقول :
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا
هذه مرحلة الامتحان ، فإذا نجحت في مرحلة التأديب فتبت ، وإذا نجحت في مرحلة الامتحان فصبرت ، الآن تدخل في مرحلة ثالثة هي التكريم ، فأنت بين التأديب والابتلاء والتكريم ، هذه المراحل قد تكون متداخلة ، أي بيوم واحد تأتي مصيبة عقاب ، تأديب ، مصيبة امتحان وإكرام ، أي تكون متمايزة ، في مرحلة معينة أدبك الله حتى استقمت على أمره ، مرحلة ثانية امتحنك حتى ثبت على الحق ، الثالثة تكريم ، وطن نفسك لا يوجد حياة من دون ابتلاء .
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
أنواع المصائب :
1 ـ مصائب الأنبياء مصائب كشف :
إلا أن المصائب إذا جاءت هي خمسة أنواع ، نوع خاص بالأنبياء ، مصائب كشف ، ينطوي على كمال من أعلى مستوى ، هذا الكمال لا يظهر إلا بمصيبة كالطائف ، يذهب على قدميه مشياً مسافة تقدر بثمانين كيلو متراً في الجبال ، ليدعوهم إلى الله ، يصدونه ، يكذبونه ، يسخرون منه ، يغرون صبيانهم أن يضربوه بالحجارة ، ويسيل الدم من قدمه الشريف ، ويقول يا رب :
(( ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله")) ))
سيد الأنبياء والمرسلين ، سيد ولد آدم ، حبيب رب العالمين ، يُضرب ! والدم يسيل منه ، الآن الامتحان أرسل له ملك الجبال ، قال :
(( ((عن عائشة رضي الله عنها . . . هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ ؟ فقالَ : لقد لقيتُ مِن قومِكِ ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي ، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ ، فرفعتُ رأسي ، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ ، فَناداني فقالَ : يا محمَّدُ ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وما ردُّوا عليكَ ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ : فَناداني ملَكُ الجبالِ : فسلَّمَ عليَّ ، ثمَّ قالَ : يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ ، وأَنا ملَكُ الجبالِ ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ ، وبما شئتَ ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ – الجبلين - فعلتُ ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا )) ))
الآن الله مكنه منهم أن ينتقم منهم ، مكنه أن يلغي وجودهم ، قال : (( لا يا أخي ، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ))
أيها الإخوة ، هذه مصائب كشف .
عندك مركبة ، مئة وعشرون حصاناً ، هذه القدرة المتناهية لقوة المحرك لا تظهر في طريق مستوِ ، ولا في طريق نازل ، تظهر في طريق هذه زاويته ، وتمشي بسرعة عالية ، هذا المحرك لا تظهر قيمته إلا بحالات نادرة جداً .
2 ـ مصائب المؤمنين مصائب دفع و رفع :
مصائب الأنبياء مصائب كشف ، أما مصائب المؤمنين فمصائب دفع ورفع ، مثلاً هناك تهاون بالعبادات ، يوجد عبادات شكلية ، يصلي صلاة صورية ، غض بصره ليس حازماً ، إنفاقه قليل ، يعيش مع الناس ، يلهو معهم ، مؤمن لكن مقصر ، هذا يحتاج إلى مصيبة دفع تدفعه إلى الله ، قال تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾
هذه الآية متعلقة بمصائب المؤمنين :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
بهذه المصيبة ، هذه مصائب دفع .
الحالة الثانية ؛ مصائب رفع ، أي أنت رضيت أن تكتفي ببناء المساجد ، لكن عندك إمكانات كبيرة جداً ، يمكن أن تضيف إلى بناء المساجد أن تكون داعية كبيراً ، فحينما ترضى بعمل صالح متواضع وأنت عندك إمكانات كبيرة جداً يسوق الله لك مصيبة تجعلك ترفع مستوى عملك ، هذه مصائب رفع ، مصائب دفع ، مصائب رفع آياتها : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾
3 ـ مصائب غير المؤمنين قصم و ردع :
أما مصائب الكفار والمنحرفين فمصائب ردع أو قصم ، إذا إنسان فيه واحد بالمليون خير تأتيه مصيبة ردع ، مصيبة كبيرة لكن هناك بقية في حياته ، لعله يرجع ، وإذا انعدم الأمل أبداً :
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) ﴾
تأتي مصيبة القصم ، لذلك :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
إذاً هناك خمسة أنواع ، مصائب الكشف للأنبياء ، مصائب الدفع والرفع للمؤمنين ، مصائب القصم أو الردع للكفار والمشركين ، وفلسفة المصيبة جزء من الإيمان .
ما أنت فيه ليس في الإمكان أبدع مما كان :
لذلك أيها الإخوة ، ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
لا تعلم أنت وضعك لو معك مئة مليون ، لا تعرف , فلذلك الله عز وجل حكيم ، ما أنت فيه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لنطمئنك ، اعلم يقيناً أن مكان ولادتك ، وزمن ولادتك ، وكونك ذكراً أو أنثى , وأمك وأباك ، أكمل شيء لك ، الذي أنت فيه مسير أنت مخير بكل ما كلفت ، أي أمر تكليفي أنت مخير ، إلا أنك مسير في كونك ذكراً أو أنثى ، أحد خيرك ؟ لا ، أنت مسير في أمك وأبيك ، مسير في مكان ولادتك ، مسير في زمن ولادتك ، مكان ولادتك ، وزمن ولادتك ، وأمك وأبوك ، وكونك ذكراً أو أنثى ، هذا أكمل شيء لك ، عبر عنه الإمام الغزالي فقال : " ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني " ، ارتاح ، الذي أنت فيه مسير ، إذا كشف الله لك يوم القيامة الحكمة من كونك ذكراً أو أنثى ، أو فقيراً ، أو غنياً ، أو ابن ملك ، أو ابن فقير ، إذا كشف الله لك وضعك الذي لست مخيراً فيه إن لم تذب كالشمعة حباً بالله فهناك مشكلة ، اطمئن ، ليس في الإمكان أبدع مما كان .
لذلك الإمام سيدنا علي له كلمة رائعة يقول : "والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"
الآن نص آخر : "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي"
أخطر شيء أن الإنسان ممتحن وأن الله تعالى متكفل أن يكشفه على حقيقته :
أيها الإخوة الكرام ، الآية الكريمة : ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
هم أنفسهم ، وهم صفوة البشر ، ومعهم سيد البشر ، في حنين قالوا : نحن كثر .
(( عن عبد الله بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيرُ الصحابةِ أربعةٌ وخيرُ السرايا أربعمائةٍ وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ . ))
اعتدوا بعددهم .
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
وطن نفسك أنك ممتحن ، وأن الإنسان – دقق - قد يستطيع أن يخدع معظم الناس لبعض الوقت ، وقد يستطيع أن يخدع بعض الناس لكل الوقت ، أما أن يخدع الله ، أو أن يخدع نفسه لثانية فهذا مستحيل ، لثانية واحدة :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
بطولة الإنسان إن كُشف أن يكون على حق لا على باطل :
لذلك :
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
أنت مكشوف :
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
مكشوف مئة بالمئة ، فالبطولة أن تكون مكشوفاً وأنت على حق :
﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) ﴾
والحمد لله رب العالمين