- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠9العقيدة والإعجاز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من فروع الشهوة: العدالة والضبط:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع عشر من دروس العقيدة والإعجاز، وكنا في اللقاء السابق في موضوع الشهوة، والآن نتحدث عن بعض فروع هذا الموضوع.
(1) العدالة:
بادئ ذي بدء يقول عليه الصلاة والسلام:
(( مَن عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته ))
لكن من عامل الناس فظلمهم، وحدثهم فكذب عليهم، ووعدهم فأخلفهم، فقد سقطت عدالته.
1 – مفهوم العدالة:
العدالة هي الصفة التي لا بد من توافرها في المؤمن، فالمؤمن مستقيم، المؤمن لا يكذب، المؤمن لا يحتال، المؤمن لا يتكبر، المؤمن ليس بذيء اللسان، عدالته واضحة، ودائماً وأبداً الفرق بين المؤمن وغير المؤمن فرق كبير، في التفكير، في التصورات، في المشاعر، في الرؤية، المؤمن يرى ما لا يراه الآخرون، يرى الآخرة، يرى ما بعد الموت، يرى عظمة الله عز وجل، يرى الشقاء الذي يصيب الإنسان لو عصى الله، يرى النعيم المقيم الذي يكافئ الله به عبده المؤمن، يرى الآخرة الأبدية، يرى أن قيمته في الحياة أن يؤمن، يرى أن أثمن شيء في الحياة أن يعمل صالحاً، يرى أن ذكاءه في العطاء لا في الأخذ، وفي خدمة الخلق لا في استخدامهم، يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون.
2 – هذا ليس من العدالة في شيء:
المؤمن ليس عنصرياً، ما معنى عنصري ؟
أكاد أقول لكم: العالم كله يصنف وفق هذين التصنيفين، إنساني أو عنصري، فهناك بلد يعامل شعبه معاملة تفوق حد الخيال، ويعامل بقية الشعوب معاملة بالقتل والقهر، والإذلال ونهب الثروات، معاملة سيئة تفوق حد الخيال، نقول: الذين في هذا البلد وطنيون، وقد يكونون قوميين، لكنهم حينما عاملوا بقية الشعوب معاملة وحشية كانوا غير إنسانيين، كانوا عنصريين، لو دققنا في هذا الموضوع، الزوج إذا توهم أن له ما ليس لزوجته فهو عنصري، وأن عليها ما ليس عليه فهو عنصري، لقوله تعالى:
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (228) ﴾
الأب الذي عامل زوجة ابنه في البيت معاملة لا يرضاها لابنته عند بيت زوجها فهو عنصري.
الموظف الذي يعامل المواطن معاملة لا يرضاها لنفسه لو كان مكانه فهو عنصري.
حينما تتوهم أن لك ما ليس لغيرك، وأن عليهم ما ليس عليك فأنت عنصري.
البلد الذي يعامل شعبه معاملة راقية جداً، ويعامل بقية الشعوب معاملة ظالمة جداً بلد عنصري.
البلد الذي يعطي حرية مطلقة لمواطنيه، ويمنع الحجاب في بلده الأوربي فهو عنصري، الحريات مطلقة.
البلد الذي يسمح للفتاة أن تتعرى، ولا يسمح لها أن تتحجب بلدٌ عنصري.
أكاد أقول لكم: العالم الآن منقسم قسمين: إنساني وعنصري، في أي موقع أنت، مدير معمل، مدير مؤسسة، صاحب شركة، إذا كان هذا الإنسان الذي عندك تعامله معاملة لا ترضاها لابنك فأنت عنصري.
الأم التي تعامل زوجة ابنها معاملة لا ترضاها لابنتها هي عنصرية.
وما دامت هناك في الأرض عنصرية، فإن أعمال العنف لا تقف، ولن تقف.
النبي عليه الصلاة والسلام تفقد امرأة تقمُّ المسجد فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابًّا فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ:
(( أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ ))
حينما تشعر أن أي إنسان هو أخ لك فأنت إنساني، وحينما ترحم شاباً في محلك التجاري كما ترحم ابنك فأنت إنساني، وحينما ترحم زوجة ابنك كما ترحم ابنتك فأنت إنساني.
لو صعدنا إلى مستوى أعلى، حق الفيتو عنصري، الحصار الاقتصادي عنصري، منع بلد نامٍ من تطوير حياته هذا منع عنصري، فلذلك المؤمن يتصف بالعدالة، معنى عدالة أي أنه مستقيم، وإنساني، وصادق، وأمين، وعفيف، ومتواضع، ومنصف.
إنسان قال لسيدنا عمر في حضرة أصحابه: " والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله ـ يا لطيف غلط غلطة كبيرة ـ فأحدّ فيهم النظر، وخافوا، إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خير منك، قال له: من ؟ قال: أبو بكر الصديق، قال سيدنا عمر: لقد كذبتم جميعاً وصدق ـ عد سكوتهم كذباً ـ قال: والله كنت أضل من بعيري، وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك ".
(( من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته ))
3 – مما يجرح العدالة:
أيها الإخوة، لو أنه عاملهم فظلمهم سقطت عدالته، وحدثهم فكذب عليهم سقطت عدالته، ووعدهم فأخلفهم سقطت عدالته، هذا اسمه سقوط العدالة، وعند الفقهاء مصطلح اسمه جرح العدالة، هذا الكأس لو أتيت بمطرقة، وحطمته أكون قد كسرته، وأحياناً يقع من يدي، فنرى فيه خطًّا، العوام يقولون: انشعر، هناك حالة ليست سقوط عدالة، ولكن جرح.
من مشى حافياً في الطريق جرحت عدالته، من بال في الطريق جرحت عدالته، من أكل في الطريق جرحت عدالته، من أطلق لفرسه العنان، الآن هناك سيارة، السرعة الزائدة تجرح عدالته، من قاد برذوناً، من مشى مع حيوان مخيف ككلب عقور، والكلب يخيف الصغار جرحت عدالته، من علا صياحه في البيت، وهناك بيت هادئ، يقول لك: ثلاثا وعشرين سنة ما سمعنا صوتهم، من علا صياحه في البيت حتى سمعه مَن في الطريق جرحت عدالته، من طفف بتمرة جرحت عدالته، إذا وزنتم فأرجحوا. أو يسلِّط المروحة على كفة معينة، أو الميزان عالٍ لا ترى ماذا فيه، فالتطفيف بتمرة يجرح العدالة، لقمة من حرام، أكل لقمة من حرام يجرح العدالة، تطفيف بتمرة يجرح العدالة، من علا صياحه في البيت حتى سمعه من في الطريق يجرح العدالة، من مشى حافياً في الطريق جرحت عدالته، من بال في الطريق جرحت عدالته، من أكل في الطريق جرحت عدالته.
صحبة الأراذل تجرح العدالة، إنسان منحرف، إنسان شارب للخمر، إنسان زانٍ كيف تذهب معه في نزهة طويلة ؟ كيف يكون انسجام بينكما، إنسان متفلت لا يعبد الله أبداً، وأنت إنسان ملتزم، فصحبة الأراذل تجرح العدالة.
من تنزه في الطرقات، وهناك طرقات في الصيف مليئة بالكاسيات العاريات المائلات المميلات، كل يوم في نزهة في هذا الطريق يمتع عينيه بهؤلاء.
حدثني أخ صديق له جار متقاعد، زوّج بناته، وزوّج أولاده، ليس له عمل، قال: أنا لي في الصيف سوسة، بالتعبير الدارج، يذهب إلى طريق من أوجه طرقات دمشق عصراً، طريق فيه باعة نسائية من أعلى مستوى، فهذا الطريق مفعم بالنساء، ينطلق من مكان إلى مكان، ويرجع، ومرة ثانية، ويرجع، ويملأ عينيه من محاسن هؤلاء النساء، حدثني هذا الأخ قال: والله أصابه مرض اسمه ارتخاء الجفون، حتى ينظر إلى إنسان يجب أن يفتح جفنه بيده، التنزه في الطرقات من أجل أن تملأ العين بمحاسن الكاسيات العاريات هذا يجرح العدالة.
عدّ الفقهاء حالات كثيرة قد تصل إلى ثلاثين حالة كلها تجرح العدالة.
(2) الضبط:
الضبط صفة عقلية:
يا ترى المؤمن يتمتع بهذه الصفة وحدها أم معها صفة أخرى ؟ صفة العدالة صفة نفسية، فالمؤمن صادق، أمين، عفيف، يغض بصره، يضبط لسانه، إذا حدثك فهو صادق، وإذا عاملك فهو أمين، وإذا استثيرت شهوته فهو عفيف، فهناك صفة تلازم العدالة هي الضبط، فالمؤمن يتمتع بصفتين: الأولى عقلية هي الضبط، والثانية نفسية هي العدالة.
لا ينقل حديثا موضوعا، بل يتأكد منه، وإذا قرأ آية يتأكد من ضبطها، فهو واعٍ، مدقق، يطلب الدليل، المؤمن المنضبط لا يقبل شيئاً إلا بالدليل، ولا يرفض شيئاً إلا بالدليل، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
(( ابن عمر، دينك دِينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
فالعدالة شيء، والضبط شيء آخر، الضبط صفة عقلية، والعدالة صفة نفسية، فالمؤمن من لوازم إيمانه أنه يتمتع بصفة الضبط وصفة العدالة، هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
(( ابن عمر، دينك دِينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
أيها الإخوة، كما أقول لكم دائماً: بين الطاعة ونتائجها علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، والطاعة مطلوبة.
الأمر يفيد الوجوب ما لا تصرفه قرينة عن ذلك:
الله عز وجل حينما قال:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾
الأمر الإلهي فاتبعوني، هذا الأمر له لوازم ؟ إذا قال لك الله عز وجل :
﴿ َأَقِمِ الصَّلَاةَ (45) ﴾
الصلاة لها شيء من لوازمها ؟ ما لوازمها ؟ الوضوء، لأن الصلاة لا تتم إلا بالوضوء، فما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، هذه قاعدة أصولية.
أوضح من ذلك إذا قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7) ﴾
كلمة خذوه هل لها ما يلزمها ؟ أنا أقول متى يمكن أن تعالج ضغطك المرتفع ؟ الضغط المرتفع القاتل الصامت، الجواب بسيط جداً حينما تعلم أن الضغط مرتفع، من لوازم معالجة الضغط المرتفع أن تعلم أن الضغط مرتفع، وكيف تعلم ؟ أنت بحاجة إلى مقياس ضغط، من لوازم معالجة الضغط المرتفع أن تقتني جهاز ضغط، تقيس الضغط من حين إلى آخر، دققوا:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(7) ﴾
من لوازم وما آتاكم، ما الذي آتانا ؟ كيف تأخذ شيئاً لا تعلمه ؟ إذاً لا بد من معرفة سنة رسول الله، فرض عين، وللأصوليين قاعدة، وهي: كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، الله عز وجل حينما قال:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ﴾
هذه اللام ما إعرابها في الفعل الثاني فليكفر ؟ هل هذه لام الأمر ؟ أيعقل أن يأمرنا الله بالكفر ؟ نقول: هذا أمر تهديد، هذا أمر خرج عن أصل الأمر، أصل الأمر يقتضي الوجوب، أما هذا الأمر فيقتضي التهديد والتخويف لا الوجوب.
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ﴾
قال تعالى:
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾
هذا أمر، لكن قد لا يأكل الإنسان، نقول: هذا أمر ندب لا أمر وجوب، فما كل أمر يقتضي الوجوب، لكن أيّ أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.
كلمة زهرة ماذا تعني ؟ نبات، إذا قلت: في بيتنا زهرة تلعب، فهناك قرينة تمنع تصور المعنى الحقيقي ـ فمادامت هذه الزهرة تلعب إذاً هي طفل جميل في البيت، نقول: هناك قرينة مانعة من تصور المعنى الحقيقي، كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، الله عز وجل قال:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(7) ﴾
معرفة سنة رسول الله من لوازم الضبط والعدالة:
من لوازم هذا الأمر أن تعلم ما الذي آتاك، وعن أي شيء نهاك، من هنا يمكن أن نقول: إن معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم، لأنها من لوازم تطبيق هذه الآية، وإذا قال الله عز وجل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) ﴾
كيف يكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوة لنا إن لم نعرف كيف عاش ؟ كيف كان في بيته ؟ كيف عامل زوجته ؟ كيف ربى أولاده ؟ كيف عامل أصحابه ؟ كيف كان في وقت السلم ؟ كيف كان في وقت الحرب ؟ كيف تصرف وهو فقير، وهو غني، وهو منتصر، وهو مضطهد في الطائف ؟ فلا بد ليكون النبي عليه الصلاة والسلام أسوة لنا من أن نقرأ سيرته، إذاً: معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان.
نحن في موضوع الشهوة وأحد فروع هذا الموضوع العدالة والضبط، العدالة صفة نفسية، والضبط صفة عقلية، من لوازم أن تكون عادلاً، وضابطاً أن تعرف سنة النبي القولية وسنة النبي العملية، أيْ سيرته.
العلمُ من لوازم الضبط والعدالة:
الآن كلكم يعلم أن هذه الطاولة جماد، ما معنى جماد ؟ شيء أولاً يشغل حيزاً في الفراغ، له حجم، طول وعرض وارتفاع و وزن، فالجماد يشغل حيزاً في الفراغ، له أبعاد ثلاثة، وله وزن، أرقى من الجماد النبات، وهو شيء يشغل حيزاً في الفراغ، له أبعاد ثلاثة، له طول، وارتفاع، وعرض، وله وزن، لكنه ينمو، يمتاز النبات على الجماد بالنمو، والحيوان يشغل حيزاً في الفراغ، له أبعاد ثلاثة، له طول وارتفاع وعرض، وله وزن، لكن يمتاز عن النبات أنه يتحرك ويمشي، النبات ينمو، أما الفيل فينمو ويمشي، الإنسان وزنه ثمانية وثمانين كيلوًا، له وزن، ويشغل حيزاً في الفراغ، وله أبعاد ثلاثة، وينمو كالنبات، ويتحرك كالحيوان، لكنه يفكر، إذاً: أودع الله في الإنسان قوة إدراكية، إذاً: هو بحاجة إلى علم، هذه القوة الإدراكية تحتاج إلى علم، إذاً: الإنسان أودع الله فيه قوة إدراكية، هذه القوة تدعوه إلى المعرفة، فإن لم يطلب العلم هبط هذا الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به، إذاً: طلب العلم فرض واجب على كل مسلم، ومجيئك إلى الدرس كي تتعرف على الله، وإلى منهجه، مجيئك هذا ليس ناشئًا من فراغ،وما عندك حل لهذا الفراغ إلا حضور الدرس
المعنى أعمق بكثير، حضور الدرس كي تعرف الله، فأنت تحقق الهدف الذي من أجله خلقت، أنت خلقت لمعرفة الله، والله عز وجل خلقك لتعرفه، وأنت إذا عرفته عبدته، وإن عبدته سلمت وسعدت في الدنيا والآخرة، وحققت الهدف من وجودك، إذاً: من لوازم موضوع الشهوة أن تطلب العلم كي تعرف الحلال والحرام، وما ينبغي وما لا ينبغي، والخير والشر، والحق والباطل، والدنيا والآخرة والمادة والروح، أما هذا الإنسان الجاهل الذي يتوهم أن الإنسان هكذا:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)﴾
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ (116) ﴾
تعالى الله أن يخلق إنساناً عبثاً.
أيها الإخوة الكرام، لا زلنا في موضوع الشهوة، فالشهوة قوة اندفاع، هناك شهوة إلى الطعام والشارب، شهوة إلى الجنس، شهوة إلى العلو في الأرض، هذه الشهوة تحتاج إلى منهج، إذاً: لا بد من طلب العلم كي تكون ضابطاً، ولا بد من أن تتصل بالله كي تكون عادلاً، فالضبط صفة عقلية والعدالة صفة نفسية، لا بد من أن تعرف سر وجودك، وغاية وجودك، ولا بد من أن تزكو نفسك باتصالك بالله، فمن أجل أن تكون هذه الشهوة منضبطة وفق منهج الله عز وجل لا بد من هذا وذاك.
لكن أحياناً لما ينحرف الإنسان، ويقصّر في طلب العلم يرتكب الموبقات، ويقصر في أداء الواجبات، وينتهك حرمات الله عز وجل، رب العالمين مُرَبٍّ كيف يؤدبه ؟ عن طريق المصائب بالضبط، السيارة لماذا صنعت في الأصل ؟ من أجل أن تسير، وفيها مكبح، ويبدو أن المكبح يتناقض مع علة صنعها، المكبح ضمان لسلامتها، والمصائب في الدنيا تماماً كالمكبح ضمان لسلامة هذه المركبة.
المتابعة والمعاقبة الربانية:
عندنا شيء اسمه متابعة، وشيء اسمه معاقبة، فالإنسان القوي الظالم يعاقب فقط، أما الإنسان الرحيم فيتابَع، المتابعة شيء والمعاقبة شيء آخر، الله عز وجل قال:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
هناك متابعة من الله عز وجل، أقول لكم هذا الكلام: حينما تشعر أن الله يتابعك في الخطأ يسوق لك مصيبة، وفي العلو في الأرض يسوق لك موقفاً حجّمك، وفي الإسراف في إنفاقك يضيق عليك، وفي التقصير في المعاملة ينشب خلاف بينك وبين أهل بيتك، وفي التقصير في بر والديك تطاول ابنك عليك، الله عز وجل يعالج، هذه المعالجة إذا فهمها الإنسان على الله فقد قطع أربعة أخماس الطريق إليه.
إذا أحب الله عبده ابتلاه، وكنت أقول لكم دائماً: فرق كبير بين مريضين:الأول معه التهاب معدة حاد، هذا المرض قابل للشفاء التام، لكن يحتاج إلى حمية قاسية، والورم الخبيث المنتشر هذا مرض عضال غير قابل للشفاء، مرض قاتل، لو أن الأول سأل الطبيب: ماذا آكل ؟ يقول له: الحليب فقط، لو أن الثاني سأل: ماذا آكل ؟ يقول له: كُلْ ما شئت، لا أمل، فما دام الله عز وجل أدخلك في العناية الإلهية، مادام تابعك، ما دام حاسبك، ما دام نبهك، ما دام أيقظك، ما دام ضيق عليك، ما دام شدد عليك، ما دام ساق لك بعض المصائب، ما دام خوفك، ما دام لا سمح الله أمرضك أو أفقرك، هذه المصائب رسائل من الله عز وجل، إذاً: الله عز وجل رب العالمين، لذلك علماء العقيدة لا يرون من المناسب أن تقول: الله خافض، هو خافض، ولا أن تقول: الله ضار، هو ضار، ولا أن تقول: الله مذل، هو مذل، ينبغي أن تقول: هو المذل المعز، والضار النافع، والخافض الرافع، والمعطي المانع، يمنع ليعطي، يخفض ليرفع، يذل ليعز، هذه الأسماء الحسنى ينبغي أن تذكر معاً، الضار النافع، والخافض الرافع، والمعطي المانع، لذلك قال ابن عطاء الله السكندري: " ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء ".
أحياناً بلد فيه ثروات طائلة، وغنى فاحش، الغنى يتوهمه الناس نعمة، وأحياناً يكون نقمة، ليس في هذا البلد حضارة ولا تفوق علمي، بل فيه أناس يستهلكون، لا عندهم علم ولا حضارة، ولا تفوق ولا ألمعية، بل إن وفرة المال منعتهم أن يتابعوا العلم.
أحيانا ترى ابن يتيم ليس أمامه إلا العلم، يجتهد من شدة الحاجة للمال، فيتفوق وينال الدكتوراه، ويحتل منصبا رفيعا جداً، يأتيه دخل وفير، له قريب والده غني جداً، السيارة موجودة، والطعام الطيب موجود، والبيت موجود، ليس له دافع إلى الدراسة إطلاقاً، أليس هذا الفقر للأول نعمة باطنة جعلته عالماً كبيراً ؟ و أليس هذا الغنى للثاني نقمة ؟ " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء ".
الشر المطلق ليس له وجود في الكون:
فقرة أخيرة مهمة جداً، وهي أن الشر المطلق ليس له وجود في الكون، لأن الشر المطلق يتناقض مع وجود الله.
إذا ركب رجل مركبة، وكان مخمورا، ونزل في الوادي، والمركبة أصابها العطب، منظرها مخيف، صورناها، هل تعتقد أن هناك معملا صنعها هكذا ؟ مستحيل، المصنع يصنعها كاملة، خطوطها انسيابية، ألوانها زاهية أنيقة، أما هذا الوضع فلا يحتاج إلى معمل، يحتاج إلى سائق مخمور فقط، فالشر ليس إيجابيا، الشر سلبي، الشر ناتج عن سوء استخدام فقط، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))
الشر لا يحتاج إلى خالق، يحتاج إلى سوء استخدام، الملح مادة نفيسة جداً، لكن لا يوضع في الحلويات، هذا سوء استخدام.
عندك مسحوق تنظيف غالٍ جداً، ضعه في الطبخ انتهى الطبخ.
لسكر له استعمال، والملح له استعمال، ومسحوق التنظيف له استعمال، أحياناً سوء الاستخدام ينتج عنه شر، هذا الشر لا يحتاج إلى خالق، سببه سوء استخدام فقط، ينبغي أن تفهم الشر هكذا في الكون، سائق مخمور قاد المركبة، وهو مخمور نزل في الوادي، أصبح لها شكل مخيف، لا تقل لي: مَن صنعها هكذا ؟ لا تحتاج إلى معمل إطلاقاً، ولا إلى مصمم، ولا تصور إطلاقاً، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))
أيها الإخوة، لهذا الموضوع متابعة في درس قادم إن شاء الله، وننتقل اليوم إلى موضوع في الإعجاز العلمي.
من الإعجاز العلمي: ثقب بوتال :
الحقيقة في اللقاء السابق بينت لكم أن خاصة في الماء لولاها لما كان هذا الدرس، ولما كان هذا المسجد، ولما كانت دمشق، ولما كانت سوريا، ولما كانت حياة على وجه الأرض إطلاقاً، لولا أن هذا الماء يمتاز وحده بخاصة أنه عند التبريد إلى درجة زائد أربع يتمدد بدل أن ينكمش.
في قلب الإنسان بين الأذينين وهو في بطن أمه ثقب كشفه عالم فرنسي اسمه بوتال، سمي هذا الثقب ثقب بوتال، لأن الجنين وهو في بطن أمه لا يتنفس هواء، الرئتان معطلتان، لكن كيف يجدد دمه ؟ كيف يكتسب الجنين الأكسجين ؟ عن طريق دم أمه عن طريق المشيمة.
عن طريق المشيمة يذهب دم الجنين الأزرق، ويعود، ويصفى عن طريق رئتي أمه، ويعود الدم إلى المشيمة أحمر اللون، ثم إلى الجنين محملاً بالأوكسجين.
في الجنين وضع استثنائي، لذلك الرئة معطلة، والقلب لا يضخ إلى الرئة، نحن الآن القلب يضخ إلى الرئة، فهناك تنفس الأوكسجين، يأخذه الدم، ويطرح ثاني أوكسيد الكربون، فإذا غطى إنسان رأسه في الليل بالغطاء يشعر بضيق لوجود ثاني أوكسيد الكربون، إلى أن يستنشق الأوكسجين فيعود إلى وضعه الطبيعي.
ليس عند الجنين هواء، والرئة معطلة، لذلك القلب لا يضخ إلى الرئة، فلا بد من وضع استثنائي، فهناك فتحة بين الأذينين ينتقل الدم من أذين إلى أذين، الطفل وُلِد.
والله مرة كنا في الجامعة قال الأستاذ: تأتي جلطة فتغلق هذا الثقب، يا رب يد من هذه ؟ من ساق هذه الجلطة حتى أغلقت هذا الثقب، ولمجرد أن يغلق هذا الثقب الطفل يبكي، استنشق هواء، وهذا الثقب لو لم يغلق يصاب الطفل بمرض اسمه داء الزرق، يموت بعد سنوات، يبقى دمه أزرق اللون، لأنه في أثناء عمل القلب هناك طريق طويل للرئة و طريق قصير، إذا كان عندك مضخة، وأمامها أنبوب طويل وفي الأنبوب ثقب، الماء يقترب، أو يرى أن الثقب أقرب له من نهاية الأنبوب، ما دام الثقب مفتوحا فالدم لا يذهب إلى الرئتين، إذاً لا يأخذ الأوكسجين.
إن المشيمة انتهت، والجنين أصبح خارج الرحم، يد مَن تأتي وتغلق هذا الثقب ؟ ثقب بوتال.
والله أيها الإخوة، هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته، إغلاق ثقب بوتال، ولحكمة بالغة، ولحالة نادرة مهمتها فقط تأكيد القاعدة أن الله عز وجل كل أربعمئة أو خمس مئة ألف طفل يسمح لطفل واحد أن لا يسدّ هذا الثقب، فيحتاج إلى عملية تكلف أربعمئة ألف ليرة، ونجاحها بالمئة خمسون، لإغلاق ثقب بوتال.
مرة أخ حدثني قال لي: إذا أكرم الله عز وجل إنسانا بغلام سليم قال: هذا الغلام معه هدية مليون ليرة، ما فهمت عليه، كيف ؟ أين المليون ؟ قال لي: ابن ابنتي ولد بشريان عكس الوريد، وفي ببلد عربي مجاور طبيب واحد مختص بإجراء هذه العملية، قال: طلب أربعمئة ألف، والمستشفى ثلاثمئة ألف، والسيارة من دمشق إلى بيروت بخمسين ألفا، قال: دفعت سبعمئة وخمسين ألف ليرة خلال ساعتين في الولادة، أو يموت الطفل.
هناك أشياء دقيقة جداً، هذا الثقب لو ما أغلق لما كان درس، لو كان كل الصغار بثقب مفتوح لا يبقى أحد على قيد الحياة، أنا آتي بأفكار يسمونها حدية، كيف هذه الخاصة بالماء تلغي الحياة، وثقب بوتال إذا لم يسد تلغى الحياة، ولا يعيش إنسان.
آلية المص عند المولود:
شيء أخير، الطفل ولد الآن، في أثناء تنظيفه تمر أصبع الممرضة أمام شفتيه فيمصها، المص آلية معقدة جداً، يضع الطفل الذي ولد لتوه شفتيه على حلمة ثدي أمه، ويحكم الإغلاق، ويسحب الهواء فيأتيه حليب.
بالمناسبة أول يومين يأتيه حليب أسود، يأتيه حليب هو ليس بحليب، بل مادة مذيبة للشحوم في جهازه الهضمي، لأنه ممتلئ بالشحوم، هذه الشحوم تقي أن تلتصق الأمعاء ببعضها، الأمعاء أنبوب، إذا لم يكن فيها شحوم تنمو مع بعضها، ويصبح الموت محققا، فهذه المادة تمنع التصاق الأمعاء، أول أربع وعشرين ساعة مادة مذيبة للشحوم، الطفل الذي ولد لتوه لونُ برازه أسود، هذا من الشحوم، ثم يأتي الحليب.
الآن سؤالي: هل هناك قوة في الأرض، أو أكبر جامعة في العالم بإمكانها أن تعلم طفل المص ؟ إنها آلية معقدة جداً، هذه يسميها علماء النفس منعكسا، كيف أنك أحياناً تمشي في الطريق، ومع أحدهم دخينة، تمس الدخينة بيدك فتسحبها، تسحبها قبل أن تفكر.
مرة كنت أمشي بسيارتي في شارع ضيق فيه مزاريب، والمطر غزير، وركب إلى جانب أخ، لما نزل المزراب على البلور رجع إلى الوراء، هناك بلور، لكن هذا منعكس، المنعكس الشرطي أسرع من التفكير.
الإنسان يولد معه منعكس واحد، منعكس المص، ولولا هذا المنعكس لما كان هذا الدرس، ولا جامع النابلسي، ولا دمشق، ولا سوريا، ولا أي مكان في العالم.
خاتمة:
ثلاث خواص، خاصة الماء، ثقب بوتال، منعكس المص، هذه من نعم الله الكبرى، وأحياناً يأتي طفل واحد من كل خمسمئة ألف طفل ليس معه هذا المنعكس فيموت ولا يعيش، يموت من الجوع، علّمه كيف يمص ثدي أمه !!! إنها آلية معقدة جداً تولد مع الطفل، وهذه آيات الله عز وجل:
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) ﴾
التفكر في خلق السماوات والأرض يعد أقصر طريق على الله، وأوسع باب ندخل منه على الله.