- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠9العقيدة والإعجاز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مقدمة تذكيرية:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع من دروس العقيدة والإعجاز، وقد تحدثنا من قبل عن مقومات التكليف، وذكرنا بأن الكون هو الثابت الأول، وهو من أول مقومات التكليف، وأن العقل الصريح هو أيضاً من مقومات التكليف، وأن الفطرة السليمة وأن الشهوة التي نرقى بها مرتين صابرين وشاكرين، وأن الحرية التي منحنا الله إياها تثمن عملنا، وأن الشرع هو ميزان على ميزاني العقل والفطرة، وأن الوقت هو غلاف هذا التكليف، وقد أنهينا في دروس سابقة موضوع الكون، وموضوع الآيات الدالة على عظمة الله من خلال الكون، أما الآيات الدالة على عظمة الله فسوف تكون في كل درس إن شاء الله.
من مقومات التكليف: العقل:
والآن ننتقل إلى موضوع العقل، وهو أصل من أصول الكبيرة في الإنسان.
1 – الآيات الدالة على العقل كثيرة:
بل إنّ الآيات التي تذكر العقل ومشتقاته، وما يتصل به تقترب من ألف آية، قال تعالى:
﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾
﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾
﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)﴾
الآيات التي تتصل بالعقل، وما يلوذ به تقترب من ألف آية.
2 – الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك:
كلكم يعلم أيها الإخوة أن الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وأن الإنسان ينبغي أن يلبي حاجة العقل، وحاجة العقل العلم، وينبغي أن يلبي حاجة القلب، وحاجة القلب الحب، كما ينبغي أن يلبي حاجة الجسم، وحاجة الجسم الطعام والشراب، فالذي يلبي هذه الحاجات الثلاث يتفوق، والذي يلبي حاجة دون الثانية يتطرف، والفرق كبير بين التفوق والتطرف، الإنسان نفس هي ذاته، هي المخاطَبة، هي المعاتبة، هي التي تؤمن، هي التي تكفر، هي التي تسمو، هي التي تسفل، هي التي تحب، هي التي تبغض، هي التي تشكر، هي التي تكفر، هي التي تنصف، هي التي تجهد، نفس الإنسان ذاته، لا تموت، ولكنها تذوق الموت، والموت يعني أن تنفصل ذات الإنسان عن الوعاء الذي هي فيه، وهو الجسد، عن طريق توقف الإمداد الإلهي، وهي الروح، الروح هي الإمداد الإلهي.
للتقريب: كالكهرباء في الآلة، يتوقف الإمداد الإلهي، وتنفصل ذات الإنسان عن الوعاء، وهو الجسم، فيكون الموت، ولا يغيب عن أذهانكم أن هذا المصباح الكهربائي إما أن نقطع عنه الكهرباء فيكون الموت، وإما أن نحطمه، والتيار واصل، فيكون القتل، الموت انقطاع الإمداد، أما القطع فتخريب الجسم بحيث لا يستطيع أن يستقبل الإمداد الإلهي، فيكون الموت.
على كلٍّ، البطولة أن تعتني بنفسك، لأنها خالدة الآبدين، لكنه مع الأسف الشديد الحضارة الغربية بكل إنجازاتها تعتني بالجسد فقط، وتنتهي إنجازات الحضارة الغربية عند الموت، بينما إنجازات الحضارة الإسلامية تبدأ مع الولادة، ولا تنتهي، ولا إلى أبد الآبدين.
هناك حقيقة دقيقة، قال تعالى:
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾
النفس البشرية تذوق الموت.
العقل قوة إدراكية لا بد من تلبية حاجاتها بالعلم:
أيها الإخوة الكرام، أودع الله في الإنسان العقل، وهو قوة إدراكية، وهو حاجة عليا على المعرفة، وما لم تلبَّ هذه الحاجة يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به أبداً، ما لم تلبَّ هذه الحاجة العليا، ما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة، ما لم يبحث عن سر وجوده، ما لم يبحث عن غاية وجوده، ما لم يبحث عن الرسالة التي حمله الله إياها، ما لم يبحث عن التكاليف التي كلفه الله إياها، ما لم يسأل من أين وإلى أين، ولماذا، ما لم يتفرغ لمعرفة الحقيقة، ما لم يطلب العلم يهبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به.
الناس رجلان: عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما، << يا بني، العلم خير من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، يا بني، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة >>.
<< الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم >>.
هذا كلام سيدنا علي.
هكذا تموت النفس:
إذاً: العقل قوة إدراكية، وما لم تلبَ هذه القوة الإدراكية يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته، ويقترب من البهيمية، لذلك قال تعالى:
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
موت النفس، قال تعالى:
﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)﴾
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
أيها الإخوة الكرام، لا يمكن أن تؤكد ذاتك إلا إذا طلبت العلم لا يمكن أن تؤكد إنسانيتك إلا إذا طلبت العلم.
العقل مجموعة مبادئ:
أيها الإخوة، هذا العقل ما هو ؟ هو مجموعة مبادئ.
المبدأ الأول: السببية:
المبدأ الأول: مبدأ السببية، إذ إن عقلك لا يمكن أن يفهم شيئا بلا سبب، إذا أقفلت باب بيتك، وليس أحد يملك مفتاحا آخر، وسافرت، وأطفأت المصابيح، فلما رجعت رأيت عن بٌعد النوافذ وراءها ضوء، تقلق قلقاً لا حدود له، تقول لك زوجتك: لماذا أنت قلق ؟ من دخل إلى البيت ؟ لأن عقلك لا يمكن أن يصدق أن هذه المصابيح تألقت من ذاتها، هذا العقل لا يفهم شيئاً إلا بسبب.
المبدأ الثاني: الغائية:
كذلك لا يفهم شيئاً بلا غاية، لماذا وضع هذا الشيء في هذا المكان، ما الغاية ؟
مرة كنت في العمرة، هناك مكتبة مصاحف في الحرم النبوي، لكن سقف هذه المكتبة مائل، لماذا ؟ تحتوي مصاحف، لئلا يخطئ معتمر فيضع شيئاً لا يليق فوق المصاحف، جعل سقف هذه المكتبة مائلاً، لا تفهم هذا الميل إلا لهذا الهدف، واضرب على ذلك آلاف الأمثلة، لماذا ترى سيارة وراءها سلسلة تجرها على الأرض، لا تفهمها، مع أنه لا علاقة لك بالشاحنات إطلاقاً، إلى أن يأتيك الخبر، إذا جاءت صاعقة هذه السلسلة تفرغها، وتنجو المركبة من الاحتراق، فالعقل البشري لا يفهم شيئاً بلا سبب، ولا يفهم شيئاً بلا غاية.
المبدأ الثالث: عدم التناقض:
ولا يقبل التناقض، هل تصدق أنه في الساعة الثامنة مساءً إنسان موجود في دمشق وفي حلب بآن واحد، مستحيل العقل يرفض التناقض، ولا يفهم شيئاً إلا بسبب، ولا يفهم شيئاً إلا بغاية، لكن الشيء الرائع أن أصل قوانين الكون أصلها سببية وغائية وعدم التناقض، ولولا التطابق التام بين مبادئ العقل وقوانين الكون لتعطل العقل عن مهمته الكبرى، وهي معرفة الله عز وجل، لو أن الكون ليس فيه مبدأ السببية، شيء يخلق فجأة بلا سبب، العقل يرتبك، لو بالعكس، في الكون مبدأ السببية، أما العقل لا يوجد هذا المبدأ، تقول: ما دام السبب ليس ضرورياً لحدوث شيء فهذا الكون بلا خالق، لكن ترى الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، مَن خلق الدجاجة الأولى ؟ من مسبب الأسباب ؟ الله جل جلاله، إذاً: الله عز وجل عن طريق مبدأ السببية يأخذك برفق إلى ذاته، هو مسبب الأسباب، وعن طريق مبدأ الغائية يأخذك برفق إلى الغايات التي تتوخاها مما حولك.
البقرة كمية الحليب التي تقدمها كل يوم تفوق عشرة أضعاف حاجة وليدها، لمن الحليب ؟ لنا، قال تعالى:
﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾
لو تابعت هذا الموضوع مبدأ السببية، مبدأ الغائية، مبدأ عدم التناقض، لرأيت أن العقل أداة معرفة الله، والشيء الرائع أن توافق مبادئ العقل مع قوانين الكون هو الذي جعل للعقل فاعلية عالية جداً.
مهمة العقل محدودة:
لكن العقل مهمته محدودة، كيف ؟ تماماً كمحل تجاري يبيع مواد غذائية، فيه ميزان، لكنه ميزان راقٍ جداً، وغالٍ جداً، فيه ذواكر، هذا الميزان على أنه بمستوى رفيع جداً، لكن مهمته محدودة، يمكن أن تستخدمه بين خمس غرامات وخمسة كيلوات، لو أردت أن تزِن بهذا الميزان مركبتك، وضعته على الأرض، وسرت فوقه لحطمه، هل لك أن تقول: ليس جيداً لأنه تحطم، نقول لك لأنك استخدمته بخلاف ما صنع له مهمته محدودة هذا يقودنا إلى أنه في ميزان .
أدوات اليقين في دائرة المحسوسات والمعقولات والإخباريات:
دائرة المحسوسات، ودائرة المعقولات، ودائرة الإخباريات، المحسوسات أداة اليقين بها الحواس الخمس، المصباح متألق، صوت المروحة مسموع، هذا اللون بني، هذا خشب محفور، أداة اليقين في دائرة المحسوسات الحواس الخمس فقط، أو استطالاتها الميكروسكوب استطالة لحواس، والتلسكوب استطالة للحواس، المجهر، والمرصد باللغة الفصحى المجهر، والمرصد أداتان لاستطالة الحواس، لكن كل شيء مادي أداة معرفته الحواس الخمس، هذه الدائرة لا خلاف فيها إطلاقاً.
ولكن الدائرة الثانية دائرة المعقولات، الدائرة التي أداة اليقين بها العقل، العقل مهمته أن يرى شيئاً مادياً، أو يرى آثار شيء مادي يحكم عليه من دون أن يراه، يرى آثار أقدام فيقول: الأقدام تدل على المسير، يرى جدول ماء فيقول: والماء يدل على الغدير، يرى بعرة يقول: تدل على البعير، يرى دخانا من وراء جدار فيقول: لا دخان بلا نار، هذه مهمة العقل، تعطيه آثار شيء يؤمن بالشيء، شيء غابت ذاته، وبقيت آثاره أداة اليقين به هو العقل، المصابيح متألقة، هذه آثار الكهرباء، صوت مكبر الصوت، آثار الكهرباء، إذاً: مهمة العقل هو أداة يقين في دائرة المعقولات، أي أشياء غابت ذواتها، وبقيت آثارها، هذا مجال العقل مهمته محدودة بهذه الدائرة، فالشيء الذي ظهرت ذاته وآثاره كهذا الكأس ظهرت ذاته وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، باليد الملمس، بالجلد البرودة، والحرارة بالجلد أيضاً، المنظر بالعين، لو لها صوت بالأذن، الشيء المادي ظهرت عينه وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، أما إذا رأينا دخانا، ولم نر النار نقول: عين النار غابت عنا، بقيت آثار النار، وهو الدخان، العقل يحكم ويقول: لا دخان بلا نار.
أما إذا غابت ذات الشيء وآثاره معاً فالعقل يتعطل، لا وظيفة له، هذه الدائرة الثالثة دائرة الإخباريات، الماضي السحيق من دائرة الإخباريات، ما بعد الموت من دائرة الإخباريات، الملائكة، الإيمان بالملائكة من دائرة الإخباريات، الإيمان بالجن من دائرة الإخباريات، شيء ظهرت ذاته وآثاره، هذا تابع للدائرة الأولى المحسوسات، الحواس الخمس أداة اليقين به، شيء غابت ذاته، وبقيت آثاره، هذا تابع لدائرة المعقولات، العقل أداة اليقين به، شيء غابت عينه وآثاره، أداة اليقين به الخبر الصادق، شيء واضح جداً، دخلت إلى بيت فرأيت إبريق ماء، أو كأس ماء، هذه الدائرة الحسية، رأيت الكهرباء متألقة، التألق آثار الكهرباء، تقول: في البيت كهرباء، إما من الشبكة العامة، أو من مولدة، وإذا رأيت خزانة مقفلة فلا يمكن مهما تكن ذكياً وعاقلاً أن تعرف ما بداخل هذه الخزانة، فجاءك صاحب البيت، وقال: هذه خزانة كتب، أضع فيها كتبي الثمينة، فأخبرك بها.
الحكمة تقتضي وضع كل شيء في موضعه المناسب:
هناك شيء ظهرت ذاته وآثاره، أداة اليقين به الحواس الخمس، وشيء غابت ذاته، وبقيت آثاره، أداة اليقين به العقل، وشيء غابت عينه وآثاره أداة اليقين به الخبر الصادق، بطولتك أن تضع أي قضية في الدين مكانها الصحيح، أما حينما تريد أن تناقش الدائرة الثالثة بعقلك فإن عقلك يرتبك.
قد يقول لك إنسان لا يؤمن بالله: ائت لي بدليل على وجود الملائكة، ليس هناك دليل، أريد دليلا علميا على وجود الملائكة، أريد دليلا علميا على وجود الجن، أريد دليلا علميا على وجود الدار الآخرة، هذه قضايا إخبارية.
هناك شيء دقيق جداً، لما يخطئ الداعية، ويعالج موضوعات إخبارية أمام من ينكر أصل هذا الدين فيقع في ارتباك شديد، وليس معه دليل، بطولتك أن تضع أية قضية في مكانها الصحيح، قضية حسية، قضية عقلية، قضية إخبارية.
أيها الإخوة، أنت أحياناً تدخل إلى بناء جامعة، هو بناء فخم بحدائق غناء، ومدرجات رائعة، فيها كواتم للصوت، فيها مقاعد وثيرة، فيها سبورة متحركة، فيها تكبير صوت، فيها جهاز عاكس، فيها أبنية للطلبة، وأبنية إدارية، ومخابر، ومدرجات، وقاعات، ومسرح، هذا كله تدركه بعقلك، ولكن هل تستطيع أن تعرف من هو رئيس الجامعة ؟ مستحيل، مَن هم عمداء الكليات، مستحيل، ما النظام الداخلي في قبول الطلاب وفي نجاحهم وفي طردهم وفصلهم، مستحيل، العقل وحده لا يكفي، لا بد من النقل، فعندنا عقل، وعندنا نقل.
كل ما عجز العقل عن إدراكه أخبرنا الله به:
الفكرة الدقيقة: أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وما دام هذا الميزان ميزان محل لبيع المواد الغذائية فإنه يعجز عن وزن سيارتك، وصانع السيارة وضع لك لوحة داخلية عليها وزن السيارة بالضبط، أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به.
أيها الأخوة يجب أن نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذه العين مهما تكن حادة البصر، أحياناً يفحص المرء عينيه، يقول له الطبيب: اثنا عشر على عشرة، آخر صف يعرفه تماماً من حيث الاتجاهات، الصف قبل الأخير عشرة على عشرة، أما الأخير فاثنا عشر على عشرة، هذه العين مهما تكن حادة البصر فلا قيمة لها إطلاقاً من دون نور يتوسط بينك وبين المرئيات، فلو جلس إنسان أعمى مع إنسان حاد البصر في غرفة ليس فيها نور يستويان تماماً، فكما أن العين لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين المرئيات فالعقل لا قيمة له من دون وحي يرشده، فالضوء للعين كالوحي للعقل، لذلك قال تعالى:
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)﴾
معنى ذلك أن العقل البشري من دون وحي السماء يضل ويزل، وينحرف، وهذا الذي نعانيه مع الحضارة الغربية، عقل فقط، هم يعملون في ظلام دامس، والمسلمون نائمون في ضوء الشمس.
العقل الصريح والعقل التبريري:
الآن هناك عقل صريح، وهناك عقل تبريري، العقل الصريح يقودك إلى الحقيقة، لكن العقل التبريري تستخدمه لغير ما صنع له، كيف ؟
من الممكن أن تقتني آلة تصوير غالية الثمن جداً، ويمكن إذا استخدمتها في تصميم الأغلفة والبطاقات والتقاويم والمذكرات أن تربح أرباحاً طائلة، لكنك استخدمتها لتزوير العملة، فدخلت السجن، الآلة نفسها إما أن تستخدمها في أعمال فنية تجارية رائجة ذات أجر عالٍ جداً، وإما أن تستخدمها في عمل يحرمه القانون، فتكون هذه الآلة سبباً في دخول السجن، فالعقل من دون وحي قد يكون سبباً لهلاك صاحبه، قال تعالى:
﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15)﴾
الناصية مقدمة الرأس، مكان اتخاذ القرار، مكان المحاكمة، ناصية كاذبة خاطئة، فحينما يتخذ الإنسان قرارا خاطئا يكون عقله هو السبب.
للتقريب: عند إنسان بيت غالي الثمن، وباعه بالعملة الصعبة، وفي جيبه جهاز يكشف له العملة الصعبة، الآن هناك أجهزة تضع العملة الصعبة عليه فيظهر على الشاشة لون، إذا كان لونًا برتقاليا فالعملة صحيحة، وإذا كان لونا آخر فالعملة مزيفة، باع هذا الإنسان بيته بسعر غالٍ جداً، وفي جيبه جهاز لكشف العملة المزورة، ولم يستخدمه، هذا العقل، في جيبه الآخر أرقام العملات المزورة، هذا الشرع، فلا استخدم عقله، ولا رجع إلى الشرع، ففوجئ أن العملة كلها مزورة فضاع بيته، وهو السبب في ذلك.
فلذلك أيها الإخوة، العقل الصريح هو العقل الذي يقودك إلى الخير، إلى الفلاح، إلى النجاح، إلى الإيمان بالله، إلى طاعة الله، إلى خدمة الخلق، إلى الإقبال على الله، وأما العقل التبريري فكأن تحتل بلداً، وتزعم أنك احتلته من أجل الحرية والديمقراطية، فإذا الواقع عكس ذلك، نهب للثروات، وقتل للبشر بلا حساب، لذلك أخطر شيء العقل التبريري، هذا عقل ساقط محتقر، يغطي الشهوات، يغطي الانحرافات، يغطي التفلت، وكلما جلست مع إنسان عاص، واستمعت إلى تبرير أعماله فهو يستخدم عقله التبريري، وكلما التقيت مع إنسان عاقل مستقيم مؤمن يستخدم عقله الصريح، لذلك الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط خط النقل الصحيح وخط العقل الصريح وخط الفطرة السليمة وخط الواقع الموضوعي، العقل الصريح النقل الصحيح الفطرة السليمة الواقع الموضوعي.
أيها الإخوة، كما قلت قبل قليل: العقل حينما تستخدمه لخلاف ما خلق له يكون سبب الدمار، قال تعالى:
﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾
لكن العقل يستنير بوحي السماء، ويستنير بتوجيهات الخالق الصانع الحكيم.
أيها الإخوة، حينما يقول الله عز وجل:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
بين العقل والمنهج:
الآن مع العقل والمنهج، أيعقل أن يعلَّم الإنسان القرآن قبل أن يخلق أيعقل ؟ كيف هو تفسير الآية ؟
إنّ ترتيب الآية ترتيب رتبي، وليس ترتيباً زمنياً، فلا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه، لذلك القرآن هو المنهج، كآلة غالية الثمن، عظيمة النفع، معقدة الصنع، الشركة التي اشتريتها منها نسيت أن ترسل لك تعليمات، فأنت إذ استخدمتها من دون تعليمات أعطبتها، وإن خِفتَ عليها جمدت ثمنها، أليست التعليمات أهم من الآلة، هذا معنى قوله تعالى:
﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
جاء تعليم القرآن مقدماً على خلق الإنسان تقديماً رتبياً لا تقديماً زمنياً.
خطوط حمراء لابد من مراعاتها في موضوع العقل:
العقل يمكن أن يصل بك إلى الله، ولكن لا يمكن أن تحيط بعقلك بالله عز وجل:
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
كمركبة أقلتك إلى شاطئ البحر لكنك بهذه المركبة الأرضية لا تستطيع أن تخوض بها عباب البحر، ولا أمواج البحر، والذي قلته قبل قليل: أيّ شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، وكأن العقل حصان تركبه إلى باب السلطان، فإذا دخلت قصر السلطان دخلت وحدك، فأنت بعقلك وصلت إلى الله، أما إذا أمرك الله بأمر فينبغي أن تنصاع له، تماماً كما لو أن إنسانا بحث عن طبيب في أعلى مستوى من العلم والإخلاص والفهم والمراس والتجربة الكفاءة، فلما وصل إلى الطبيب بعقله قال له: إياك وتناول الملح، لن تستطيع أن تحاوره، عقلك أوصلك إليه يجب أن تأخذ أمره بحسب إيمانك بتفوق هذا الطبيب.
لكن العقل كحياتنا فيها خطوط حمراء، كذلك أمام العقل خطوط حمراء كثيرة جداً، لكن أبرز هذه الخطوط:
(( تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا ))
إنّ العقل أعجز من أن يتفكر في ذات الله كما قلت قبل قليل، والعقل موضوعه مادي، وذات الله لا يمكن أن يحيط به عقل، لذلك من أعمل عقله في ذات الله ربما هلك، وربما اختل، وربما أصيب بالجنون، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا ))
إذاً هناك خطوط حمراء لا بد أن تراعى في موضوع العقل.
أيها الإخوة، من البطولة ألا تعرض على المشككين في الدين القضايا الإخبارية، فإن عرضت هذه القضايا الإخبارية وقعت في حرج شديد، لأن هؤلاء لن يدركوا ما معنى أن هذا الموضوع موضوع إخباري، أي أن العقل لا يستطيع أن يخوض فيه إطلاقاً، هذا موضوع إخباري صرف.
من آيات الله الكونية: أمّن جعل الأرض قراراً:
الآن ننتقل إلى شيء آخر، من آيات الله الدالة على عظمته قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
الأرض مستقرة، وهي تدور حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، وفي الدقيقة ألف وثمانمئة، ودرْسنا هذا خمسون دقيقة، الآن اقتربنا من تسعة آلاف كيلو متر، ومن دمشق إلى الرياض بالطائرة ألف ومئة كيلو متر، نحن على الأرض، وهي في دورتها حول الشمس قطعنا تقريباً تسعة آلاف كيلو متر، قال تعالى:
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾
مع هذه الحركة الأرض مستقرة.
مرة زرت مسجدا في استنبول، الدليل السياحي أخذني إلى المحراب، وأطلعني على عمود رخامي، والجامع مبني من سبعمئة عام، وطلب مني أن أدير العمود، العمود له قاعدة، وله غطاء، دار معي في فضاء ميليمتر واحد، سبعمئة عام ما ضغط هذا العمود، لو ضغط لا يتحرك، قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
الأبنية ثابتة، والدليل الزلازل، ففي مدينة أغادير المغربية في ثلاث ثوان غاصت تحت سطح الأرض، حتى إن فندقا من ثلاثين طابقا اسمه بقي الفندق على الطابق الثلاثين، غاص الفندق كله إلى الأرض، فأصبح اسم الفندق شاهدا له، نزل هذا الفندق ثلاثين طابقاً تقريباً، إذاً:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
لذلك ينبغي أن نعرف نِعَم الله بوفرتها لا بزوالها، هذا المعنى الأول.
الآن هذا الكأس لماذا يبقى على الطاولة ؟ لأن له وزناً، ما هو الوزن ؟ هو انجذاب الشيء إلى مركز الأرض.
أيها الإخوة الكرام، نحن نعيش نعمة لا نعرفها إلا إذا فقدناها.
إنّ رواد الفضاء حينما توجهوا إلى القمر من الأرض، والقمر في منطقة اسمها انعدام الجاذبية، هذه المنطقة ليست خاضعة لا إلى الأرض، ولا إلى القمر، إذاً: الإنسان هناك لا وزن له، ينام على فراشه فيستيقظ وهو في سقف المركبة، يمسك حاجة فتبقى في الهواء، قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
من جعل الأشياء تستقر على سطح الأرض ؟ هذه نعمة، الأثاث ثابت، المكتبة ثابتة، الحاجات ثابتة، لها وزن، وأنت ثابت، لو انتقل الإنسان إلى سطح القمر لكان وزنه تقسيم ستة، إن كان وزنه ستين كيلوا في الأرض فوزنه في القمر ستة كيلوات، لو ركب رائد فضائي المركبة، ودخل منطقة انعدام الوزن ليس له وزن أبداً، ورحلات الفضاء تؤكد ذلك، الوزن هو انجذاب الشيء إلى مركز الأرض، وهذه نعمة كبرى، الأشياء لها وزن، وهناك استقرار.
معنى امن جعل الأرض قراراً:
المعنى الأول:
أول معنى: من جعل الأرض قراراً مستقرة، هذا العمود الرخامي في المسجد يدور، لماذا يدور ؟ لأن هناك فراغا لا يزيد على ميليمتر، ولو ضغط البناء ميليمترا لما دار، هذه علامة إتقان البناء، والأرض مستقرة، أما بالزلازل فيقول لك: سبعة على سُلّم ريختر، انتهى كل شيء، وهناك زلازل تدمر كل شيء، إذاً: المؤمن يعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها، نعمة استقرار الأرض.
أحيانا يركب إنسان طائرة فيتوهم الأرض أكثر أمناً، الأرض نفسها حينما تضطرب لا تبقي ولا تذر، وقبل سنوات عدة زلزال في القاهرة، والزلازل موجودة في الأرض، فإذا كانت منطقة فيها استقرار فهذا من نِعم الله عز وجل، قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني:
المعنى الثاني: من جعل الأشياء لها وزن، تضعها هنا فتبقى في مكانها، لو ما كان هناك وزن فإنك تغادر البيت وترجع فتجد كل حاجة بمكان آخر، لكنك ترجع وتجد كل شيء ثابتا، هذا أيضاً من نِعم الله عز وجل، والآية الكريمة:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾
الزلازل، أو كما يحدث في بعض البلاد المجاورة.
إذاً: أيها الإخوة، حينما يتفكر الإنسان في خلق الله عز وجل، حينما يتأمل في عظمة الله يزداد تعظيماً لله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
أنت واقف مستقر.
المعنى الثالث:
لكن هناك معنى آخر: كيف أنت مستقر، وأنت واقف، مع أن قاعدة استناد جسمك عن طريق قدميك لا تكفي، فأي مجسّم للإنسان يحتاج إلى قاعدة استناد تزيد على سبعين سنتيمترا، القدم لطيفة جداً، هذا الاستقرار، هذا الوقوف، هذا التوازن بفضل جهاز بالغ التعقيد، اسمه جهاز التوازن، ففي الأذن قنوات فيها سائل، والسائل سطحه أفقي، فإذا مال الإنسان، وبقي السائل أفقياً وصل إلى مكان في القناة لم يكن فيها سائل، فيدرك الإنسان أنه مال فيصحح وضْعَه، لولا هذه القنوات الثلاث لما استطاع إنسان أن يقف على سطح الأرض، بل يقع، والدليل: الميت يقع، ولا يقف، لتعطُّل هذا الجهاز.
لما يفكر الإنسان أن استقراري على الأرض بفضل نظام الجاذبية، واستقراري على الأرض بفضل سكون الأرض مع حركتها، مع أنها تسير، وكما قلت قبل قليل: نحن قطعنا في هذا الدرس تسعة آلاف كيلو متر، ومحيط الأرض أربعون ألفا، قطعنا تسعة آلاف كيلو متر بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، والأرض مستقرة، والأشياء لها وزن أيضاً، والإنسان جهز بقنوات التوازن، وهذا من حكمة الله عز وجل، قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾
التفكر في الكون أقصر طريق لمعرفة الله تعالى:
أيها الإخوة، دائماً وأبداً أردد هذه المقولة: التفكر في خلق السماوات والأرض أوسع باب ندخل منه على الله، والتفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله، لأنه يضعك أمام عظمة الله، وإذا قلت: العقل، ولعلي أقصد به الفكر، فتفكرك في خلق السماوات والأرض سبب معرفتك لله، فلذلك هذا اللقاء الطيب عنوانه: العقيدة والإعجاز، والإعجاز أن تتفكر في هذه الآيات، واستقرار الأرض شيء آخر.
حينما تذهب إلى أستراليا، على الكرة أستراليا في الأسفل، تذهب إلى هناك فترى السماء فوقك، والأرض من تحتك، شيء يحير، إذاً: ما هو العلو ؟ هي الجهة المقابلة لمركز الأرض، هذا نظام، قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
تنعم بالاستقرار، أمن جعل الأشياء لها وزن، إذًا: أنت على الأرض أضعاف مضاعفة وزنك وحجمك، ولكان وزنك مئتي كيلو، ولو لم يكن هناك قنوات توازن لاحتجت إلى قنوات كأقدام الفيل، فيصبح المشي أشغالاً شاقة، هذا التفكر يعرفك بالله عز وجل، وبدقة صنعك، قال تعالى:
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)﴾
أيها الإخوة الكرام، إلى متابعة موضوع العقل في اللقاء القادم.