- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
معالجة القرآن الكريم لمسألة الخَلق :
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(11) ﴾
1 – كل سورة تعالج قضية الخَلق من زاوية محددة :
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية والتي تليها تعالج مسألة الخَلق، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة البقرة، وعُولِجت في سبعة مواضع من القرآن الكريم، في سورة البقرة، والأعراف، والحج، والإسراء، والكهف، وطه، وص، ولكن في كل سورة تُعالَج هذه المسألة من زاوية، هناك من يتوهّم أن في القرآن تكراراً، والحقيقة لو تتبّعت الموضوعات المتكررة في القرآن الكريم لوجدت أن كل رواية في كل سورة لها زاوية خاصة، فهذا من إعجاز القرآن الكريم، وفوق ذلك هناك قضايا أساسية جداً في العقيدة، القرآن الكريم من أسلوبه الحكيم أنه يأتي بها في أماكن كثيرة كي تترسخ .
لا يُعقل أن يقول الأب لابنه في كل عمره: اجتهد مرة واحدة، هذا الكلام يقوله له كل يوم، وفي كل مناسبة، وعقب كل حادثة، وإبّان كل تصرف، يا بني انتبه، اجتهد .
2 – تكرار القصص في القرآن لفائدة بلاغية :
أولاً: التكرار في القرآن الكريم له تفسير بلاغي، أن كل رواية أتت على الموضوع من زاوية، وبمعنى آخر أن التكرار من مهمته القصوى البلاغية أن يؤكد المعنى الذي هو أساسي .
الموضوعات الأساسية والموضوعات الثانوية :
كلكم يعلم أيها الإخوة أن في حياتنا موضوعات أساسية، وهناك موضوعات ثانوية، بتعبير آخر هناك موضوع مصيري، فالإنسان مثلاً صحته موضوع مصيري، لأن خللاً خطيراً في قلبه ينهي حياته ، الصحة موضوع خطير، لأنه قد ينهي حياة الإنسان، الإيمان موضوع خطير، قد ينهي سعادته .
فالموضوعات الخطيرة التي لها أثر مستقبلي، أو الموضوعات المصيرية، هذه موضوعات يعتني بها القرآن كثيراً، لذلك في حياتنا موضوعات برأي الفقهاء فرائض، يعني تتوقف سعادتنا على تحقيقها، بل تتوقف سعادتنا وسلامتنا على تحقيقها، إذاً هي فرائض، وهناك موضوعات تحت باب المحرمات، هذه سبب شقائنا وهلاكنا في الدنيا والآخرة، إذاً على طرفي الأحكام الفرائض والمحرمات، بينهما في الوسط المباحات، يعني موضوع حيادي، طريقة جلوسك في البيت، على الأرض، على الكرسي، على فرش معين، ألوان ثيابك، هناك ملايين الموضوعات حيادية، ليس لها أثر إيجابي ولا سلبي في إيمانك.
لذلك الأنبياء والمرسلون عليهم صلوات رب العالمين الموضوعات التي لها أثر إيجابي أو سلبي في علاقتك بالله عز وجل جاء ذكرها بشكل واضح، والأشياء التي سُكت عنها هي الأشياء التي ليس لها أثر إيجابي ولا سلبي في حياتك الإيمانية .
لذلك الأنبياء ما من شيء يقرب إلى الله عز وجل إلا وأتوا على ذكره، وما من شيء يبعد عن الله عز وجل إلا أتوا على ذكره، والذي أُغفل ذكره هناك حكمة من إغفال ذكره لا تقل عن حكمة الذي ذكره الله عز وجل، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
الإتمام عددي، والإكمال نوعي، أي أن مجموع القضايا التي عالجها القرآن الكريم، والسنة المطهرة تامة عدداً، وأن طريقة المعالجة التي عالجها القرآن الكريم في القضايا التي عرضها كاملة نوعاً، فهذا الدين توقيفي، لا يُضاف عليه، ولا يُحذف منه، لأنه من عند الخالق، الخالق الذات الكاملة، من عند الحكمة المطلقة، والرحمة المطلقة، والعلم المطلق، والعدل المطلق .
إذاً: الدين لا يضاف عليه، ولا يُحذف منه، وهو عند بعض المشككين تراث، الدين ليس تراثاً، الدين وحي، وحي من السماء والمعصوم بيّنه، وحي من عند الله، والنبي الكريم بيّنَ دقائق هذا الوحي، أما الحضارة والثقافة والتراث فهذه أشياء أرضية، أما أن يُوصَف الدين بأنه تراث فلا، الدين وحي، ووحي السماء هو خطاب السماء للأرض، هذا الخطاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكن الذي يقول: لا بد من تجديد الدين، الدين لا يُجدد، الدين توقيفي، لعل الخطاب الديني يُجدّد، الخطاب، الخطاب الدعوي يجدد، وإذا أصررنا على أن هناك تجديد في الدين فهو كما يلي :
أن ننزع عن الدين كلما علق به مما ليس منه .
لذلك يقولون: الأشياء الأصل فيها الإباحة، ولا يُحرَّم شيء إلا بالدليل القطعي الثبوت والدلالة، بينما العبادات والعقائد الأصل فيها الحظر، ولا يُضاف على العبادات والعقائد أشياء إلا بالدليل قطعي الثبوت والدلالة .
حقيقة معترف بها عند الجميع : الله هو الخالق :
أيها الإخوة الكرام،
قصة الخَلق وردت في القرآن الكريم، في سور عديدة، وفي مواضع عديدة، ومن زوايا عديدة، ولكن يعنينا من هذه القصة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
الجهة الوحيدة المستحقة للعبادة هي الجهة الخبيرة بالخلق كلِّهم :
من هي الجهة الوحيدة في الكون التي تستحق العبادة؟ إنها الجهة الخبيرة، قال تعالى :
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
فالإنسان حينما يتوجه إلى الله يكون عاقلاً، أما إذا توجه إلى غير الله يكون غير عاقل، لأنه قد قيل: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .
لكن أنت في حياتك اليومية إذا اقتنيت آلة بالغة التعقيد، غالية الثمن، عظيمة النفع، وأصابها عطبٌ أو عطلٌ، لا يمكن أن تذهب إلى من تحبه، تذهب إلى من هو الخبير في إصلاحها، وفي صيانتها، وفي معرفة أسباب سلامتها، وحسن مردودها .
إذاً الله عز وجل يخاطبنا ويقول :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
هذا عالم الذر، النفوس مُجرَّدة من الصور، في عالم الذر بعض من في هذا العالم قبِلَ حمل الأمانة، وبعض من في هذا العالم أشفق من حمل الأمانة، لأننا بشر، لأننا من صنف الإنسان نحن حتماً قبلنا حمل الأمانة .
الأمانة والإنسان :
أيها الإخوة الكرام ،
الإنسان قبِل حمل الأمانة.
متى يتحقق هدفُ الإنسان ؟
من هنا يمكن أن أقول: متى تحقق الهدف؟
الجواب إذا صح عملك، ومتى يصح عملك؟ إذا عرفت سبب وجودك في الدنيا، كلام دقيق، الآن الناس في ضياع، هناك من يتوهم أنه يعيش ليأكل، أو يعيش ليستمتع، أو يأكل ليعيش، أو يعيش ليعرف الله عز وجل، اسأل نفسك هذا السؤال، والسؤال دقيق وخطير، وسؤال فلسفي، لماذا أنت في الدنيا؟ يعني أنت سافرت إلى بلد وسألتنا ماذا أفعل؟ نقول لك: سؤالك عجيب ، لماذا جئت لهذا البلد؟ إن جئت طالب علم الطريق واضح إلى المعاهد والجامعات، إن جئت تاجراً الطريق واضح إلى المعامل والمؤسسات، إن جئت سائحاً الطريق واضح إلى المقاصف والمتنزهات، أي أنه لا تصح حركتك في مكان ما إلا إذا علمت لماذا أنت في هذا المكان بالضبط.
معنى فرعي، أنت حينما تعلم يقيناً لماذا أنت في الدنيا؟ أن تعرف الله، أن تستقيم على أمره، أن تتقرب إليه بالأعمال الصالحة، الآن ما دام الهدف واضحاً جداً تختار له ملايين الوسائل التي تعينك على بلوغ الهدف، ولأضرب على هذا مثلاً :
أنت في باريس تحمل شهادة ثانوية، وقد أُرسلت ببعثة لنيل الدكتوراه، هذا الهدف، كل حركاتك، وسكناتك، ونشاطاتك، واهتماماتك متعلقة بهذا الهدف، الآن أنت مضطر أن تستأجر بيتاً، الهدف وهو الدراسة يُحتّم عليك أن تختار بيتاً إلى جانب الجامعة يوفر لك المال والجهد والوقت، إذاً: اختيار البيت متعلق بالهدف، الآن تشتري مجلة متصلة باختصاصك، من أجل أن تحقق الهدف، تصاحب طالباً يتقن اللغة المحلية، كي يعينك على الحديث بهذه اللغة، تأكل طعاماً يعينك على الدراسة، تحتاج إلى دخل تعمل عملاً بوقت قصير جداً حتى يتيح لك هذا العمل وقتاً كافياً للدراسة، كلامي دقيق جداً .
حينما تعرف لماذا أنت في الدنيا، أنت في الدنيا من أجل أن تعرف الله، ومن أجل أن تستقيم على أمره، ومن أجل أن تتقرب إليه، ومن أجل أن يكون إعدادك لنفسك تمهيداً وثمناً لدخول الجنة.
فيا أيها الإخوة، ولا أبالغ إذا قلت: إن الذين يعرفون أهدافهم في الحياة الدنيا لا يزيدون بحسب الإحصاءات الرسمية على 3 %، يعرف هدفه، الآن يختار آلاف الوسائل لتحقيق الهدف، أما الذي لا يعرف هدفه فهذا هو الإمّعة، والإمّعة ؛ هو مع الناس، إن أحسن الناس، ومع الناس إن أساؤوا، هو تابع لصرعات الأزياء، تابع للمفاهيم السائدة، تابع للكلام المطروح، تابع للإعلام، تابع لكل مؤثرات البيئة، هذا على هامش الحياة .
الحكمة من خلق البشر هي العبادة :
أما المؤمن حينما يُعمِل عقله، ويقرأ كتاب ربه، ويعرف سر وجوده، فيكتشف أنه مخلوق للعبادة.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
وأن العبادة سر وجوده، وأن الإنسان يرقى إلى أعلى مقام حينما يكون عبداً لله، فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى قال تعالى :
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) ﴾
وحينما جاءته الرسالة، وهي أعلى مهمة ينالها إنسان لقول النبي الكريم :
(( سَلُوا اللّه لِي الوَسِيلَةَ ، فإنها مَنْزِلَةٌ في الجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبادِ اللّه وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هُو ))
هذا المقام هو العبودية :
﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ﴾
إذاً العبودية سر وجودنا، وغاية وجودنا، والعبودية خضوع لله خالص، ومحبة لله خالصة، وحرية خالصة، وطاعة خالصة، وعمل صالح خالص، وتضحية خالصة، فالعبودية علة وجودنا، وغاية وجودنا، قال تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
هناك جانب معرفي، وهناك جانب سلوكي، وهناك جانب جمالي، تعرفه فتطيعه، فتسعد بقربه في الدنيا والآخرة، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، تعرفه فتعبده فتسلم، وتسعد بقربه في الدنيا والآخرة .
العبادة بين المفهوم الضيق والمفهوم الواسع :
أيها الإخوة، هذه العبادة، لكن الذين يفهمون العبادة فهماً ضيقاً يتوهمونها صلاةً فقط، وصياماً وحجاً وزكاة، العبادة منهج كامل يغطي كل حياتك، وكل أطوار حياتك، وكل شؤون حياتك، وكل اهتماماتك، يبدأ من فراش الزوجية، إلى العلاقات الدولية، أكاد أقول: المنهج العبادي في القرآن الكريم وفي السنة فيه مئات ألوف الموضوعات .
أما نصلي، ونصوم، ونحج، وانتهى الأمر، وبيوتنا كسب أموالنا، إنفاق أموالنا، علاقاتنا المالية، والنسائية، وأفراحنا، وأتراحنا، وسفرنا وفق المنهج الغربي، وعلى التقليد الغربي، هذا ليس هو الإسلام.
فلذلك حينما طبقنا ظاهر الإسلام خسرنا قيمة الإسلام، وخسرنا ثمار الإسلام، وخسرنا وعود الواحد الديان
مِن مقومات حملِ الأمانة :
الآن هناك موضوع من لوازم هذا الموضوع، ما كلفنا الله حمل الأمانة إلا وأعطانا مقوماتها، ما مقومات حمل الأمانة ؟
1 ـ الـكـون :
أعطاك الكون، الدليل :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
تسخير تعريف وتكريم، الكون مسخر للإنسان، وأنت أيها الإنسان علمت أو لم تعلم أكرم المخلوقات على الله، أنت المخلوق الأول رتبة، لأنك قبلت حمل الأمانة
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ
يعني أنتم إذا شكرتم وآمنتم، أو آمنتم وشكرتم فقد حققتم علة وجودكم، وحققتم الغاية من وجودكم، أما عامة الناس وهذا شيء مؤلم جداً فتغطيهم آية كريمة :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104) ﴾
متى يسعد الإنسانُ ؟
1 – السعادة والسلامة مطلبان أساسيان لجميع الخَلق :
موضوع ثانٍ أيها الإخوة، من لوازم هذا الموضوع، يعني متى يسعد الإنسان؟ لأن السلامة والسعادة مطلبان أساسيان لكل الخلق، يعني على وجه الأرض ستة آلاف مليوناً، أنا متأكد أنه ما منهم واحد إلا وهو يتمنى السلامة والسعادة .
2 – الشقاء سببُه الجهلُ :
فلماذا الشقاء؟ قالوا: الشقاء بسبب الجهل، والدليل أن علة وجود الناس في النار الجهل:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10) ﴾
والجهل أعدى أعداء الإنسان، نحن كأمة من أعداؤنا؟ إياكم أن تظنوا أعداءنا هؤلاء الأعداء التقليديون، الذين نصفهم بالغدر والبطش، والغطرسة، والتدمير، والإبادة، والإفساد، والاستغلال، نحن أعداء أنفسنا .
أؤكد لكم مرة ثانية أن مصيرنا ليس بيدهم، بيدنا .
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
من شأن الأعداء أن يعتدوا، من شأن الأعداء أن يستغلوا، أن ينهبوا الثروات، أن يفرقوا، أن يشتتوا، هذا شأنهم، لكن قوتهم أتت من ضعفنا، من جهلنا، من تفرقنا .
3– السعادة تأتي مِن تحقيق الهدف :
أيها الإخوة ، أضرب لكم مثلاً بسيطاً: أنت طالب جامعي في السنة الأخيرة وفي اختصاص جيد جداً، عليه طلب، وبأهم مادة بالاختصاص، وامتحانك بعد يومين، ولك أصدقاء تحبهم حباً جماً، أخذوك عنوة قبل الامتحان بيومين إلى الساحل، ونزلت بأفخر فندق، وتناولت أطيب الطعام، واستمتعت بأجمل المناظر، كل شروط السرور محققة، أصدقاء تحبهم، مكان جميل، إطلالة جميلة، طعام طيب، لماذا تشعر بانقباض شديد؟ لأن هذه الحركة لا تحقق هدفك، لو جلست في غرفة قميئة ذات رطوبة عالية، والإضاءة خافتة، ومعك الكتاب المقرر، وقرأته واستوعبته، وشعرت أنك جاهز لأداء امتحان في هذه المادة يأتيك شعور بالفرح لا يوصف، وأنت في غرفة قميئة ذات رطوبة عالية والإضاءة خافتة، لا مناظر فيها أبداً، والجدران ليست مطلية، أنت المسرور، إذاً : السعادة تأتي من تحقيق الهدف، هناك دليل آخر :
التاجر إذا كان هناك بيع كثيف، وإقبال شديد على البضاعة، يمكن يمضي 12 ساعة لا يجلس، ولا يأكل، وهو في نشوة السعادة، إذا انعدم البيع، وما من إنسان يقول لك: ماذا عندك؟ وتجلس على مقعد وثير، ومشروبات، وقهوة، وشاي، وصحف، ومجلات، وأصدقاء، تشعر بانقباض شديد، لأن هذا المحل لا يحقق هدفه، أما إذا حقق هدفه يغدو هذا المكان الضيق في سوق مزدحم، في ظروف صعبة، لا يوجد تدفئة، ولا يوجد تكييف، ولا الجلوس مريح، ولا يوجد طعام، وأنت في قمة السعادة .
لذلك نحن لا تصلح حركتنا في الحياة إلا إذا عرفنا سر وجودنا، كما أنه لا نسعد إلا إذا جاءت حركتنا مطابقة لهدفنا
2 ـ العقــل :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) ﴾
الآن البند الثاني: أعطاك عقلاً، العقل ميزان .
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) ﴾
هذا العقل إذا أعملته أعطاك النتائج، تماماً: عندك بيت ثمنه خمسون مليونًا، ودُفع لك ثمنه بالعملة الصعبة، وفي الجيب الأيمن جهاز إلكتروني يكشف العملة المزورة، وفي الجيب الأيسر أرقام أوراق العملة المزورة، في الجيب الأول جهاز إلكتروني، وفي الثاني أرقام أوراق العملة المزورة، وأنت قبضت ثمن هذا البيت بالعملة الصعبة، لم تستخدم الجهاز الأول الإلكتروني، ولم تدقق في أوراق العملة التي بجيبك، وكان المبلغ كله عملة مزورة، من هو الخاسر؟ أنت، أنت السبب، معك عقل باليمين، ومعك منهج قرآني باليسار، فلا استخدمت عقلك، ولا استخدمت القرآن الكريم، فشقي الإنسان .
الله عز وجل قال لك: افعل ولا تفعل، تحب أنْ تحكم عقلك، العقل ينطبق مع النقل، لأن العقل مقياس أودعه الله فينا، والنقل كلامه، فمعك عقل لو أعملته بتجرد من دون انحياز، من دون أسلوب تغطية، تبرير، تسويغ، لهداك عقلك إلى الله عز وجل، لأن الآيات التي تتحدث عن العقل، وعن التفكر، وعن العلم تقترب من ألف آية، أعطاك القرآن فيه الحلال والحرام.
فلذلك الشقاء بسبب جهل الإنسان، وعدم استخدام العقل والنقل معاً، والعقل والنقل متطابقان والحمد لله.
3 ـ الـفـطـرة :
أعطاك فطرة، لو أنك لم تعمل عقلك كما أنه لم تقرأ كتابك، أعطاك بنية نفسية جِبلّة، فطرة تكشف لك الخطأ ذاتياً .
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) ﴾
(( الحَلالَ بَيِّنٌ ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ ))
(( والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس ))
هل هناك إنسان يغش الحليب أمام الشاري؟ يقول له: لحظة لأصب عليه الماء، مستحيل، بالفطرة تعلم أن هذا العمل غير صحيح أبداً .
فلذلك أعطاك كوناً، أعطاك عقلاً، أعطاك فطرة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا﴾ حينما تفجر أنها فجرت، وألهمها حين تتقي أنها اتقت ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
4 ـ الشـهـوة :
الآن: أعطاك شهوة هي ثمن الجنة، ما أودع الله في الإنسان الشهوات إلا ليرقى بها مرتين، مرة صابراً، ومرة شاكراً إلى رب الأرض والسماوات، هذا الميل نحو المال، نحو المرأة، نحو العلو في الأرض، نحو الطعام، أودع فيك الشهوات، قال تعالى :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أعطاك الشهوات لترقى بها، وهي حيادية، وما من شهوة أودعها الله فيك إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، فلا حرمان بالإسلام.
لكن المحرمات ليست قيوداً لحريتك، بل هي ضمان لسلامتك، المحرمات تماماً كلوحة كتب عليها: حقل ألغام ممنوع التجاوز، لا تشعر بحقد أبداً على من وضع اللوحة، بل تشكره من أعماق أعماقك، لأنه ضمن لك بهذه اللوحة سلامتك، كما لو وُضعت لوحة أمام تيار توتر عالٍ: " ممنوع الاقتراب خطر الموت "، هذه اللوحة رحيمة، اللوحة فيها علم، فيها حكمة، فيها رحمة، فيها قيادة حكيمة للمواطنين، ممنوع الاقتراب خطر الموت، لذلك أودع فيك الشهوات لترقى بها صابراً، أو شاكراً إلى رب الأرض والسماوات .
أعطاك كوناً سخره لك تسخير تعريف وتكريم، رد فعل التعريف أن تؤمن، ورد فعل التكريم أن تشكر، أعطاك عقلاً كي تتأكد به من صحة النقل، وكي تفهم به النقل، دون أن تلغي النقل بعقلك، العقل ليس حَكَماً على النقل، ولكن للتأكد من صحة النقل قبل النقل ولفهم النقل بعد النقل، أعطاك فطرة تكشف لك الخطأ ذاتياً .
الآن في أرقى الطائرات ما فيها عدادات أبداً، فيها لوحات عاتمة، إذا حدث خللٌ يظهر على الشاشة، أن هناك خللاً في المكان الفلاني .
وأنت عندك شاشة، حينما تخطئ تشعر أنك مخطئ، وحينما تصيب تشعر أنك مصيب، لذلك الفطرة متوافقة توافقاً تاماً مع منهج الله عز وجل، سواء عليك أأطعت الله عز وجل، أم استجبت لنداء الفطرة، الأمر سيان، لأن منهج الله متوافق تماماً مع فطرتك، فأي شيء أمرك الله به نفسك تتوق إلى تطبيقه دون أن تشعر، أعطاك كوناً، وعقلاً، وفطرة، وشهوة .
5 ـ حــرية الاختيار :
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
ما لم تكن حراً لا يُثمّن عملك، ما لم تكن حراً فلا يمكن أن ترقى إلى الله عز وجل، أنت حر فيما كُلفت به، لكن الذي لست حراً فيه ما إذا كنت ذكراً أو أنثى، ومن أبوك وأمك، وفي أي مكان ولدت، وفي أي زمان ولدت، هذه لمصلحتك، ومحض خير لك، وليس في إمكانك أبدع مما أعطاك .
إذاً: أعطاك حرية الاختيار ليُثمّن عملك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم همَلاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، أنت حر، مخير، وأية آية يُشم منها رائحة الجبر يجب أن تحملها على الآية المحكمة التي هي أصل في الاختيار .
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148) ﴾
هذه الآية أصل في أنك مخير، وأنه لا يقول بالجبر إلا مشرك، لا يقول في الجبر فيما كُلِّفنا إلا مشرك.
إذاً: أعطاك كوناً، وعقلاً، وفطرة، أعطاك شهوة، أعطاك اختياراً
المنهج الإلهي :
وفضلاً عن كل ذلك أعطاك منهجاً، لو أن الأمور التبست عليك، هناك منهج، هناك كتاب، هناك سنة، هناك كتاب عقائد، هناك كتاب سيرة، هناك كتاب أحكام فقهية، افعل ولا تفعل، هذا المنهج قال عنه العلماء: الحسن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، والشريعة عدل كلها، والشريعة رحمة كلها، والشريعة حكمة كلها، والشريعة مصلحة كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، ومن الحكمة إلى خلافها، ليست من الشريعة، ولو أُدخلت عليها بألف تأويل وتأويل.
إذاً: نحن قد خلقنا ربنا ، ولأنه خلقنا أمرنا أن نعبده ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾
أيها الإخوة الكرام، الآية الكريمة :
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
إذاً :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين