وضع داكن
29-03-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 042 - أحاديث تتعلق بإكرام الضيف وصلة الرحم – قصة الصحابي الجليل سيدنا ثابت بن قيس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تمهيد :


أيها الإخوة المؤمنون؛ بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، الشيء الذي ألفه المسلمون في هذا العيد, هذه الزيارات فيما بينهم، فبحثت عن بابٍ في رياض الصالحين, يتناسب مع عيد الأضحى المبارك، فما وجدت من بابٍ أقرب من باب إكرام الضيف، ومن باب صلة الرحم.

فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)﴾

[ سورة الذاريات ]

كما هي العادة، كل باب يعقده الإمام النووي رحمه الله تعالى، يفتتحه بالآيات الكريمة التي لها علاقةٌ بالباب، فالآية التي تناسب إكرام الضيف قوله تعالى :

﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)﴾

[ سورة الذاريات ]

(أَهْلِهِ) : هنا بمعنى زوجته وأولاده، ومعنى كلمة (رَاغَ) : أسرع، هل هناك معنى آخر لـ: راغ؟.

علماء اللغة قالوا: أسرع خفيةً، لو وقف إنسان من بيننا وركض، هذا الفعل ليس من معناه راغ، ركض على مرأى من الحاضرين، أما راغ من معانيها: أنه أسرع مختفياً. 

إذاً هذا الذي يسأل ضيفه: 

أتحب أن تأكل حتى أحضر لك الطعام؟ خالف آداب الضيافة، إذا أردت أن تكرمه, فلا داعي أن تسأله، إنك إذا سألته لن يرضى، وقد يكون في أعلى درجات الجوع ، ويقول لك: لا.

أما راغ فتعني: أنه تسلل، أو أسرع مختفياً من ضيوفه، كي يعطي إشارة إلى أهله لإعداد الطعام.

قال: هذا أول أدب من آداب الضيافة، فلا ينبغي أن تقول للضيف: هل تأكل؟ لعلك لمْ تأكل، لعلك أكلت، قل لي: ما شأنك؟ ماذا تحب أن تأكل، حتى أحضر لك الطعام؟ ويحدث جلبة وضجيجًا، لا، هذا ليس من كرم الضيافة، من تمام كرم الضيافة: ألا تشعر الضيف أنك ذاهب لإعداد الطعام, قال تعالى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) .

أولاً: هذه الفاء الأولى والثانية: تفيدان الترتيب على التعقيب، طبعاً الواو تفيد العطف، وثم تفيد الترتيب على التراخي.

لو أن ربنا عز وجل قال: فراغ إلى أهله، ثم جاء بعجل ثمين، أي جاء بعد ساعتين، أو ثلاثة، أيضاً من آداب الضيافة: سرعة إعداد الطعام, قال تعالى: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ) خرج، فلم يلبث إلا قليلاً, حتى عاد بالطعام، إذاً: عدم استئذان الضيف لإعداد الطعام، وعدم الإطالة بإعداد الطعام، هذا أدب ثانٍ من آداب الضيافة, قال تعالى: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل إلا طيباً ولا تضع إلا طيبا ))

[ أخرجه النسائي والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه ]

عندنا ثلاثة آداب: عدم إعلام الضيف، والسرعة في الخروج لإعداد الطعام، وسرعة إعداد الطعام، وتهيئة الطعام الذي يروق لك، تطيب به نفسك.

أحياناً الضيف يستحي، المائدة طويلة جداً، هناك صحن يحب أن يأكل منه، ربنا عز وجل أعطانا أدبًا رابعًا: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) يجب أن تلاحظ توزيع الطعام على المائدة، هذا الطبق فيه طعامٌ, يحبه هذا الضيف, بعيد عنه، قد يستحي أن يمتد إليه، قد يستحي أن يمد يده، قد يستحي أن يقول لك: قرب لي هذا الطبق، الإنسان الضيف يغلب عليه الحياء، هذا على صاحب البيت, قال تعالى: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) قرب الطعام، وسكت الضيف، أحياناً يأتي المضيف بصحن الفاكهة، ولا يقول للضيف: تفضل، يمضي ربع ساعة، عشر دقائق، ثلث ساعة، المضيف مشغول بموضوع، وقدم الفاكهة ، أو قدم الطعام، ولم يقل للضيف: تفضل، كلمة تفضل من لوازم الإضافة، عدم الاستئذان، عدم الإعلام، السرعة في إحضار الطعام، اختيار أطيب الطعام، تقريب الطعام، الدعوة إلى الطعام، خمسة آداب من آداب الضيافة, تضمنتها هذه الآية الكريمة، قال تعالى:

﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)﴾

[ سورة الذاريات ]

إذاً: تعلمنا من هذه الآية, خمسة آداب في إكرام الضيف، وقد تعلمون جميعاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( إنكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم بَسْط الوجه وحسنُ الخلق ))

[ أخرجه أبو يعلى والبزار في مسنده ]

ليس معنى هذا أنك ملزم أن تكرم كل ضيف، ولكن أحياناً ترحيبك الشديد، واستقبالك للضيف، وتواضعك له، هذا يدخل على قلبه السرور, أضعاف ما تقدم له من طعام وشراب ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم, فسعوهم بأخلاقكم)) .

شيء آخر من آداب الضيافة بين المؤمنين: ألا يتكلف المفقود، وألا يجود إلا بالموجود.

لو أن هذا طبق، صار ظل الضيف خفيفًا، وعبئه قليلا، ألاّ نتكلف المفقود، وألا نجود إلا بالموجود، والنبي عليه السلام في أحاديث كثيرة وجه السيدة عائشة، وأمرها ألا تتكلف للضيف، لأن الإنسان إذا تكلف للضيف, ربما استثقل حضوره.

فإذا طرق بابك أخ كريم, فالذي عندك قدمه له، إذاً: إتيان الضيف لا يشكل عبئاً عليك، أما إذا كان لا بد من التكلف، وتكليف الإنسان ما لا يطيق، فعندئذٍ يصبح الضيف ثقيلاً على المضيف.

شيء آخر: إذا صار اجتماع بين الإخوة الأكارم، مثلاً لقاء على حفظ قرآن كريم، أنا أرجح أو أفضل, ألا تكون الضيافة مكلفةً، لأن الحاضرين أنواع؛ بعضهم الموسر، بعضهم أقل يسارًا، بعضهم له دخل محدود، فإذا ارتفع مستوى الضيافة, ربما لا يستطيع هذا الذي حضر هذه الوليمة أن يجري مثلها، لذلك اللقاءات التي فيها بذْخٌ وتكلف شديد قد تنتهي سريعاً، فإذا كان هذا اللقاء لله عز وجل فسر بسَيْرِ أضعف الحاضرين.

وقال تعالى :

﴿ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)﴾

[ سورة هود ]

هذه إشارة ثانية: إلى أن الإنسان يحب أن يكون أمام ضيفه في شكل جيد؛ في مظهر البيت، في تربية الأولاد، في كل شيء, قال تعالى: (وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أما كما يفهم عامة الناس من قوله تعالى : (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) هذا لا يعني أن سيدنا لوط عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قدَّم لضيوفه بناته، هذا ليس صحيحاً، لكن لأنه نبي كريم، فبنات المؤمنين كأنهن بناته، أي يا أيها الضيوف لماذا تبغون الشيء الذي نهى الله عنه؟ هؤلاء البنات في هذه البلدة، هؤلاء الذين يمكن أن تكون العلاقة مشروعةً فيما بينكم وبينهن، فهنا بناتي, بمعنى كل بنات القرية بمثابة بنات سيدنا لوط ، أما أن يقدم بناته، وليس المقصود بنتًا بالذات، عليكم أن تحيدوا عن هذا الانحراف إلى الطريق المشروع الذي سنه الله عز وجل. 

 

أحاديث تتعلق بإكرام الضيف وصلة الرحم:

 

الحديث الأول:

الآن: 

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث الدقيق: 

ربط إكرام الضيف، وصلة الرحم، والقول الطيب الحَسَن.

ربط هذه كلها بالإيمان بالله واليوم الآخر.

لأن الإيمان بالله, كل هؤلاء الناس عباده، فإذا آمنت بربك، آمنت بخالقك، عرفت ما عنده من عطاء، وما عنده من عقاب.

الآن التقرُّب إلى الله يتم عن طريق إكرام عباده. 

إذاً: من لوازم الإيمان أن تكرم عباده، هذا معنى دقيق جداً، بشكل أن الإيمان من دون عمل يتبعه، من دون ثمرة يثمرها، من دون شيء يعطيه هذا المؤمن، فإيمانه مشكوك فيه، ما حقيقة إيمانك؟ ما الدليل على إيمانك؟.

أحد التابعين الكبار سئل: هل أنت مؤمن؟. 

هذا موضوع خلافي، فهل يا ترى يقول: نعم أنا مؤمن، أما أن يقول: إن شاء الله مؤمن؟ هذا موضوع خاض فيه العلماء خوضاً كبيراً.

قال: إن كان الإيمان كما قال الله عز وجل:

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾

[ سورة البقرة ]

إن كان الإيمان وفق هذه الآية, فأنا مؤمن، أما إذا كان الإيمان:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾

[ سورة الأنفال ]

على هذه الآية, فأنا مؤمن إن شاء الله، أما على تلك فأنا مؤمن قطعاً.

هذا من أدق الأجوبة حول هذه الموضوع.

الإيمان نفحات، هذه النفحات قد تأتي، وربما لا تأتي، قد تأتي في وقت دون وقت، كلكم يعلم: قد تقرأ القرآن تشعر بأشواق، تشعر بسرور، تشعر بسعادة، وقد تقرأ أحياناً لا تجد شيئاً، فالإنسان له أحوال، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط عن محمد بن مسلمة ]

لذلك العلماء قالوا: إن يوم الجمعة في ساعة رحمة، فإذا هيأ الإنسان نفسه، واستعد، وتوضأ، وصلى, وجاء المسجد، لعل هذه الساعة تكون في صلاة الجمعة، فتأتي الرحمة، كل واحد له مع الله خبرة عاطفية، ببعض المجالس، ببعض الساعات، إما في صلاة، أو في قراءة قرآن، أو في مجلس علم، أو في تأمُّل في ملكوت السموات والأرض، يشعر أن شيئاً علوياً قد هبط إلى قلبه، يشعر أن سعادة لا توصف شعر بها، هذه ربما لا تعود له مرة ثانية في أسبوع واحد، هذه هي النفحة، يقول لك: والله حضرت درساً لا أنسى طعمه حتى الآن، الدرس الثاني ليس كذلك، هذه نفحة الله عز وجل:

(( ((إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها)) ))

أنت هيِّئ نفسك بالاستقامة، هيِّئ نفسك بالانضباط، هيِّئ نفسك بالعمل الصالح، لكن لا شك أن الله عز وجل حينما قال:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)﴾

[ سورة الكهف ]

هذه الآية مطلقة، والمطلق في القرآن على إطلاقه، لقاء الله عز وجل في الصلاة، لقاء الله عز وجل في الدنيا، لقاؤه في الدنيا، يعني هذا الاتصال بالله عز وجل، هذا الاتصال بالله ثمنه العمل الصالح، قاعدة.

قد تقف على باب إنسان أيام, دون أن يسمح لك بالدخول عليه، وقد تنتظر شهوراً، ولكن الله سبحانه وتعالى فتح باب رحمته على مصراعيه، وقال: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وبعضهم قال: هذه الآية من الآيات القليلة في القرآن الكريم, التي تلخِّص القرآن الكريم, قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) ماذا يوحى إلي؟ هذا القرآن، ما ملخصه؟ قال تعالى: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يجب أن تؤمن بالله واحداً، هذا يسمونه: توحيد الربوبية والألوهية, خالق واحد، ورب واحد، وإله واحد, هو الله سبحانه وتعالى، هذه كلمة، أي إنسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن قد تأتي ظروف، وتأتي مواقف محرجة، وتأتي إغراءات، وتأتي ضغوط، يبدو للمقصر أن هناك إلهاً آخر، لذلك يطيع هذا الذي ظنه إلهاً، ويعصي ربه، إذاً: هذا الإيمان النظري لا يكفي، كلما اجتهدت في معرفة الله عز وجل، ارتقى مستوى توحيدك، إلى أن تشعر أن كل خلية في جسمك، وكل شُعَيْرَة في جسمك تنطق بـ: لا إله إلا الله، لا معطي ولا مانع، ولا خافض ولا رافع، ولا معز ولا مذل، ولا قابض ولا باسط، ولا مسعد ولا مشقي، ولا محيي إلا الله عز وجل.

فأنت الآن بأي تعامل مع جهة، مع دائرة حكومية، تسأل: من بيده التوقيع؟ مَن بيده الموافقة؟ من هو الشخص الأول في هذه المؤسسة؟ من هو الذي بيده الأمر؟ بيده الموافقة وعدم الموافقة؟ أنت بدافع طبيعتك الإنسانية في تعاملك مع جهات متعددة، تحب أن تعرف من هو الشخص الأول؟ من هو الذي بيده كل شيء؟ من هو الذي إذا قال: نعم نعم، لا لا؟

يمكن أن تدخل مستشفى فتجد حجابًا، وتجد ممرضين، وتجد أطباء، وتجد موظفين، ومحاسبين، لكن يا ترى من الذي يسمح لك أن يقبل هذا المريض في سرير بالدرجة الأولى؟ المدير العام، فأي حديث تجريه مع أناس جانبيين مضيعة للوقت، لا يمكن أن يسمح لك بإدخال مريضك إلى هذه المستشفى إلا بموافقة المدير العام، هناك أطباء كُثُر، ورؤساء شُعَب بالأطباء، ومدراء مخابر، ومحاسبون، وممرضون، وحجّاب، وحرس .. إلخ، كل هؤلاء ليس بيدهم شيء.

وإذا كشفت في الدنيا أن الأمر كله بيد الله، خصومك بيد الله، أعداءك بيد الله، أحبابك بيد الله، زوجتك، أولادك، مَن هم دونك، من هم فوقك، صحتك، أجهزتك، قلبك، رئتاك، الكليتان، الدماغ، الأعصاب، إذا عرفت أن كل شيء بيد الله، قطعت علاقاتك مع الخلق، وربطتها مع الحق، هذا هو العلم، بل هذه نهاية العلم، لذلك قالوا: نهاية العلم التوحيد، أي توحيد هذا، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من قال: لا إله إلا الله بحقها, دخل الجنة، قالوا: وما حقها؟ قال: أن تحجزه عن محارم الله))

تكلمت كثيراً في هذا الموضوع، وأحب أن أقول، وأعيد عليكم هذا التشبيه: الشهوات التي أودعها الله في الإنسان قوى كبيرة، فاندفاعك إلى الطعام والشراب، اندفاعك إلى كسب المال، اندفاعك إلى قضاء الملذات، هذه شهوات أودعها الله فيك كأنها محرك، تدفعك نحو تحقيقها، هذه الشهوات قوى، لا تقف في وجهها كلمات.

فلو السيارة منطلقة بسرعة مئة، ضع ورقًا هشًّا في طريقها، هل يستطيع هذا الورق أن يقف في طريقها, أو أن يمنعها عن متابعة السير؟ هذه القوة المندفعة لا يقف في وجها إلا قوة كبرى، العلم قوة، إذا كان ضئيلا, وزنه عشرة غرامات، والشهوات خمسة كيلو، عشرة أخريات، عشرون، إلى أن تتشكل قناعات.

إذا كان الإنسان يسكن مثلاً -لا سمح الله ولا قدر- في طابق مرتفع، ومعه مرض يقتضي أن يكون طابقه أرضيًّا، سأل أول طبيب قال له: والله يجب أن تسكن في طابق أرضي ، وأعطاه تعليلا جيدًا، سأل الثاني، سأل الثالث، الرابع، قرأ نشرة، قرأ مقالة، خلال شهر، كلما سأل طبيب، وأشار عليه أن يسكن هذا الطابق الأرضي، وأن يدع هذا الطابق العلوي، إلى أن تتراكم هذه القناعات، في أحد الأيام ينطلق إلى الدلال، ويسأله عن بيت أرضي، تحرك الآن، ما الذي حركه؟ قناعاته.

أكلة يحبها الإنسان، أكل منها فحدثت له اضطرابات هضمية، سأل الطبيب، فقال له: يجب أن تمتنع عنها، لم يأخذ كلامه على محمل الجد، أعادها مرة ثانية فحدث معه اضطرابات أخرى، المرة الثالثة اضطرابات أشد، الرابعة سيتشكل معه قرحة دائمة، إلى أن تراكمت هذه القناعات، فحملته على ترك هذا الطعام، لاحظ نفسك لن تأخذ موقف عملي إلا بقناعة كبيرة.

أنا مرة ضربت مثلا، مرة جئت من شارع العدوي، في أيام الشتاء الباردة، وجدت إنسانًا يركض في الساعة العاشرة ليلاً، برد شديد، ويرتدي ثياب الرياضة، قلت: ما الذي حمل هذا الإنسان على أن يفعل ما يفعل؟ الناس جميعهم في بيوتهم، في غرفهم الدافئة، مع أهلهم، مستلقون على أرائك وثيرة، يشاهدون، يسألون، يمزحون، يتحدثون، وهذا مَن أمره أن يفعل هذا؟ إنها قناعاته، قناعته أن الرياضة شيء ثمين جداً، فيها وقاية للقلب.

هذه قاعدة مهمة جداً: كل حركاتك وسكناتك أساسها القناعة.

فإذا كنت بطلاً فابحث عن قناعات صحيحة، كي تحملك هذه القناعات على سلوك معين، إذًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) ما العلاقة بين هذا وذاك؟. 

الناس رجلان: إنسان مؤمن بالله عز وجل، أعماله كلها صالحة، يقدم خدمات للناس بلا مقابل، يبذل خبراته، يبذل معلوماته، يبذل وقته في خدمة الخلق، ما الذي جعله يفعل هذا؟ إيمانه بالله عز وجل، أن الله سبحانه وتعالى يحبه إذا فعل هذا ، وهؤلاء عباده، فإذا أكرمهم فكأنما أكرم ربه، هكذا جاء في الحديث: ((من أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه)) الإيمان هو الأساس لهذا, لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ((ماذا ينجي العبد يوم القيامة؟ قال: إيمان بالله)) .

الآن: الإنسان ما الذي ينجيه من الأمراض؟ يكون في عنده قناعات, أن الأمراض تحيل حياته الإنسانية إلى جحيم، والأمراض أسبابها الجراثيم، أسبابها عدم النظافة، فتجد الأطباء يبالغون في النظافة لماذا؟ لقناعات ثابتة عندهم.

فالقضية ليست قضية أننا قرأنا كتابًا، أو سمعنا خطبة، القضية أعمق من ذلك، يا ترى: هل لديك قناعات متراكمة, بحيث تجعلك تأخذ موقفًا معينًا من كل موضوع؟ حتى الواحد لا يغش نفسه، ويمشي في طريق فيه وهم، ويتوهم أنه مؤمن كبير، وهو مؤمن عادي، وأقل من العادي، حتى لا يكون غاشًّا لنفسه، ظالماً لنفسه، يمتحن إيمانه هذا الامتحان: ما الذي قدمته في سبيل الله؟ ما الذي منعت؟ من أرضيت؟ من أغضبت؟ من وصلت؟ من قطعت؟ فما الموقف التي وقفتها بناء على إيمانك بالله؟ وما المواقف الأخرى التي وقفتها بناء على حبك لله؟.

هذا الشيء الأساسي، لفت نظري هذه الصيغة: ((من كان يكرم بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) فالإنسان إذا أكرم ضيفه كما قال سيدنا عمر: ((هذه التفاحة أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت)) الإنسان لا يدري ما هي الثمرة من إكرام الضيف؟ قد يؤمن هذا الضيف على يد هذا الذي أكرمه، الضيف في عنده حساسية، ولا سيما المقصود بالضيف هنا، ليس ضيف البلد، إنسان انتقل من بلد إلى بلد، ولم يكن على عهد النبي الكريم هذه الفنادق، فلما يكون الإنسان مسافرًا، ويدخل على بيت، ويرحبون به، ويقدمون له الطعام والشراب والمأوى والنوم، فهذا إكرام كبير جداً.

((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) كلمة الرحم بمعناها الواسع: الأقرباء من جهة الأب أو من جهة الأم، بمعناها الضيق: أقرباء الأم، بمعناها الواسع: أقرباء الأب والأم ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) .

ومرة ألقيت هذا الموضوع خطبة هنا، فجاءتني أسئلة كثيرة، الرحم، الآن له بنات خالة، له بنات عمة، إذا زار عمته أو خالته, أحرج من بنات عمته أو خالته، وقع في إحراجات، وتعليقات ساخرة، وفي أسئلة وأجوبة، وقد ينساق معهم، قد يألف الجلسة، وقد تحمله هذه المجاملة على ارتكاب معصية، فهو قد يخرج من بيت عمته أو بيت خالته, وقد وقع في إشكال كبير، أهذه هي صلة الرحم؟ لا والله، لذلك قالوا: دع خيراً عليه الشر يربو.

وكلكم يعلم أن سد الذرائع أحد أبواب الأحكام الشرعية.

الأحكام الشرعية مصادرها: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس.

هذه المصادر الأساسية، هناك مصادر فرعية؛ منها الاستحسان، منها العُرف، منها المصالح المرسلة، ومنها سد الذرائع.

فسد الذرائع باب أو مصدرٌ من مصادر الأحكام الشرعية، كإنسان يوجد في بلدة فيها خمور، وفيها معاصر للخمور، فبعض العلماء حرم في هذه البلدة زراعة العنب، لأن هذا العنب بالتأكيد سوف يصبح خمراً، إذاً: ما أدى إلى معصية فهو معصية، فكل ما أدى إلى معصية فهو معصية.

فالإنسان إذا أخذ موضوع الرحم بشكل مطلق؛ ووصل أقرباءه من دون انضباط، من دون تحفظ، من دون ما يعلن عن اتجاهه الديني، من دون أن يرفض الاختلاط، من دون أن يرفض بعض المعاصي، هذه ليست صلة الرحم، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾

[ سورة التوبة ]

((ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) هل واضح ذلك؟ ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فليقل خيراً أو ليصمت)) .

(( يا رسول الله وإنا لنؤاخذ بما نقول بألسنتنا قال ثكلتك أمك بن جبل هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم ))

[ أخرجه الحاكم في مستدركه ]

الحديث المعروف الذي يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))

[ أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك ]

يا إخوان؛ كما قلت لكم سابقاً: الإيمان جهد، الجنة ثمنها كبير، ألا إن سلعة الله غالية، يجب أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، هذا الرأس فيه عينان, قال تعالى:

﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾

[ سورة البلد ]

فهل الذي خلق لك العينين لا يراك؟! قال تعالى: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)) إذاً: اللسان بابٌ كبير من أبواب المعاصي، لذلك قالوا: هناك معاصٍ في الأقوال, ومعاصٍ في الأعمال، واللسان باب كبيرٌ جداً من معاصي الأقوال، الصامت في سلام، والمتكلم إما له أو عليه.

والإنسان قد يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً؛ قد تفرِّق بين زوجين، بين أخوين، بين شريكين، قد تفسد علاقة بين إنسانين، قد تجعل إنسان يتألم من نفسه. 

الحديث الثاني:

(( وعن أبي شريح, خويلد بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته))

[ أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك ]

الضيف المسافر الذي يأتيك من فج عميق ويقصدك، له عندك جائزة، جائزته أن تستضيفه يوماً وليلة، لذلك ثمة أشخاص يحبون أن يكونوا مستعدًا للضيف، يقول لك: هذه الفرش للضيوف، يهيئ غرفة الضيوف، حيث إنه يستقبل بها الضيوف، والإنسان بحسب اتساعه، هناك أشخاص يهيئون طابقًا بأكمله.

أعرف أناسًا ميسورين, عندهم طابق بأكمله للضيوف.

زرت مرة رجلاً في بعض المناطق, قال لي: هذه الشقة كلها للضيوف، خذ حريتك، شيء جميل إذا كان الإخوة في الله صادقة، والإنسان ميسور، لذلك: ((فليكرم ضيفه جائزته قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك, فهو صدقة)) هناك جائزة، وضيافة، وصدقة، يوم وليلة جائزة، من حق الضيف، ثلاثة أيام من حق الضيافة، ما زاد عن هذه الأيام الثلاثة, فهو صدقة على هذا الضيف.

 

تنويه:


نحن بالمناسبة: كل عيد تأتي زيارات الإخوة لبعضهم البعض، قد تأتي أحياناً مخفقة، ينطلق من بيته إلى بيت صديقه بطرف المدينة الثانية ربما لا يجده، يشعر بالإحباط، فنحن في العيد الماضي, والله سبحانه وتعالى تفضل علينا بهذه الطريقة، صارت الزيارة في المسجد، في قاعة المكتبة، عندنا ثاني أيام العيد يوم الثلاثاء، من الساعة العاشرة -إن شاء الله تعالى- وإلى أذان الظهر، ثلاث ساعات تقريباً، فكل الزيارات تكون في هذا الوقت، والإنسان يتفرغ في العيد إلى أقربائه, الذين لا يتاح له أن يتصل بهم، أو أن يزورهم إلا في أيام العيد، أيام العيد, أيام زيارة الأقارب، وأيام صلة رحم.

 

قصة الصحابي الجليل سيدنا ثابت بن قيس.


انظر إلى هذه الكلمات التي خرجت من ثنايا هذا الصحابي أمام رسول الله في هذا الموقف, فمن يكون هذا الصحابي إذاً؟ ولماذا لم يعين النبي غيره؟.

ننتقل إلى قصة صحابي جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صحابي اليوم: سيدنا ثابت بن قيس، هذا خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي عليه الصلاة والسلام له شاعر، وله خطيب، فكان حسَّان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثابت خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الكلمات تخرج من فمه قويةً صادعةً جامعةً رائعةً.

وفي عام الوفود, وفد على المدينة وفد بني تميم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، هكذا كانت العادات في الجاهلية, جئنا نفاخرك، أي جئنا لنفتخر عليك، وهو النبي عليه الصلاة والسلام, فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)) لو أنه طردهم، ما فعل شيئاً، ولكنه حلم عليهم، واستوعبهم، بالتعبير الحديث, واحتواهم.

كلمة كبيرة جداً أن يقول إنسان لرسول الله: جئنا نفاخرك، جئنا نفتخر عليك، نحن كذا ، نحن كذا، مَن من البشر, بإمكانه أن يقول كلمة مدح لنفسه, أمام النبي الكريم؟!.

الآن: إذا زرت المقام النبوي الشريف، لو كان يقف أمام المقام أكبر شخصية معاصرة, لا قيمة لها أمام قبر النبي، أحياناً موسم الحج يأتي وفود من دول كثيرة، يأتي رؤساء، حكماء، وزراء، رؤساء جمهوريات، ملوك، إذا دخل هؤلاء جميعاً الحرم النبوي الشريف، لا ترى لواحد منهم شأناً وهو في الحرم، لمَن الشأن في الحرم النبوي الشريف؟ للنبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا يقول: جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام، أنت أحياناً لا يعرف أحدهم قيمتك، تجاوز حده، كن حليمًا، قد يكون للإنسان رتبة، له مكانة، له وظيفة عالية، له مؤلف.

ذات مرة, شخص لم يكن معي النظارات، كنت في مكان, لا بد أن أوقع توقيعًا، قلت له: والله اقرأ لي ما المكتوب؟ ظنني أميًّا، قال لي: هذه هكذا، قال لي: تحب أوقع أنا عنك؟ قلت له: شكراً، أنا أوقع .

فإذا نسي أحدكم النظارة، واضطررت فسألت: اقرأ لي ماذا كتب, إذا لم يعرفك أحدهم فهل تشتمه؟!.

النبي الكريم بكل تواضع، أنت مخبوء بثوبك، فمَن يعرفك؟ إذا سافر الإنسان فلا أحد يعرفه، الآن في الحج لا أحد يعرف أحدًا، أنت كما قال الله عز وجل:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)﴾

[ سورة الأنعام ]

هذا تعليم لنا، نبينا الكريم، سيد الخلق، حبيب الحق، يوحى إليه، المعصوم، سيد ولد آدم، يقول له شخص: جئت أفاخرك، هذا يجب أن يطرده، يخرجه، أخرجوه عني، النبي تبسَّم عليه الصلاة والسلام، يكون للواحد شهادة بسيطة، وظيفة متواضعة، له مكانة وضيعة، له مؤلف واحد، إذا ظنه الناس غير متعلم، يقول: يا أخي لم يعرفوا قدري، لم يعرفوا مكانتي، لا, ، تعلم من النبي الكريم التواضع.

قال: جئنا نفاخرك, فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: قد أذنت لخطيبكم فليقل.

تفضل فاخرنا يا أخي.

فقام خطيبهم عطارد بن حاجم، ووقف يزهو بمفاخر قومه، ولما آذن بانتهاء، قال عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس: قم فأجبه, ونهض ثابت فقال: 

الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيءٌ قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا أئمة، واصطفى من خير خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأفضلهم حسباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحساباً، وخيرهم فعالاً، ثم كنا نحن الأنصار أول الخلق إجابة، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله.

تكلم ارتجاليًا في حضرة النبي.

بالمناسبة: الإنسان يتكلم، وقد يكون طليق اللسان، أما أن يتكلم بحضرة مَن علّمه، أو بحضرة نبي عظيم، يفقد أربعة أخماس قدراته، انظر إلى طبيب متخرجٍ حديثاً، وقل له: عالج هذا المريض في حضرة أستاذك، يرتبك، هذا الشيء معروف.

الإنسان يجول ويصول مع مَن دونه، أما مع أقرانه، طبيب في بسهرة، يتكلم كما يشاء، لا يوجد من يردّه، أمّا بوجود طبيبين آخرين في السهرة, فقد يخطَّأ، أحياناً أطباء، أحياناً محامون، أحياناً مدرسون، أحياناً مثقفون، أحياناً علماء، فإن تتكلم بطلاقة أمام أنداد لك من مستواك، فالقضية ليست سهلة، أما أن تتكلم أمام النبي الكريم, فهذا الشيء يحتاج إلى قدرات عالية جداً.

هذا الخطيب اللامع، دائماً أهل اللسان بطولاتهم في اللسان فقط، في الخطابة، والتأليف .. إلخ، لكن قلما يجمع الإنسان بين بطولة السنان واللسان. 

 

من بطولاته:


أيها الإخوة؛ هذا الخطيب الصحابي الجليل فبقدر ما هو خطيب مصقع، بقدر ما هو بطل شجاع، ففي معركة اليمامة التي شن فيها مسيلمة الكذاب حرباً شعواء على المسلمين، صاح هذا الصحابي الجليل وخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذهب غير بعيد، وعاد، وقد تحنَّط، ولبس أكفانه، وصاح مرة أخرى: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء.

يعني جيش مسلمة.

وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء.

أي تراخي المسلمين في القتال.

النقطة الدقيقة في هذه الحادثة: أن النبي عليه الصلاة والسلام ربَّى أصحابه على معرفة الله، وعلى الإخلاص له، فكان معهم أو لم يكن معهم.

فأنت إذا كنت داعية لله عز وجل، المفروض أن تبني أخوانك بناء حيث يكونون ورعين معك، وبعيداً عنك، في حلهم وترحالهم، في جدِّهم ولهوهم، في إقامتهم وسفرهم، في يسرهم وعسرهم، في إقبال الدنيا عليهم، وفي إدبارها عنهم، ماذا قال الله عز وجل؟ قال:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[ سورة الأحزاب ]

وانضم إليه سالم مولى النبي عليه الصلاة والسلام, وكان يحمل راية المهاجرين، وحفر الاثنان لنفسيهما حفرة عميقة، ثم نزلا فيها قائمين، وأهالا الرمال عليهما, حتى غطت وسط كل منهما، وهكذا وقف طودين شامخين، نصف كل منهما, غائص في الرمال, مثبت في أعماق الحفر، بينما نصفه الأعلى, صدره وجبهته وذراعاه, يستقبلان جيوش الوثنية والكذب، وراحا يضربان بسيفيهما, كل من يقترب منهما من جيش مسيلمة, حتى استشهدا في مكانهما.

خطيبٌ، ولكنه بطل، هكذا كان السلف الصالح، بقدر ما هو عالم, بقدر ما هو شجاع، بقدر ما هو منطقي, ونظري، وفكري, بقدر ما هو عملي، ويضحي.

قال: وكان مشهدهما رضي الله عنهما هذا أعظم صيحة أسهمت في رد المسلمين إلى مواقعهم، حيث جعلوا من جيش مسيلمة الكذاب تراباً تطأه الأقدام.

 

بماذا بشره النبي صلى الله عليه وسلم:


هذا الخطيب المصقع كما يقولون, لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) أغلق ثابت باب الدار، وجلس يبكي، وطال مكثه على هذه الحال, حتى نمي إلى النبي عليه الصلاة والسلام أمره، فدعاه وسأله, فقال ثابت: ((يا رسول الله، إني أحب الثوب الجميل، والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالين)) الإيمان الحقيقي، إذا قرأت كتاب الله عز وجل, ورأيت وصفاً من أوصاف المؤمنين لا ينطبق عليك، أو رأيت وصفاً من أوصاف المنافقين ينطبق عليك، يجب ألا تنام الليل، هذا الحد الأدنى في الإيمان، أما أن تقرأ أوصاف المؤمنين، وأنت بعيد عنها، أن تقرأ أوصاف المنافقين، وبعضها متلبِّس بها، وتنام مطمئن البال مرتاحاً، ليس هذا من صفات المؤمنين، ((قال يا رسول الله, إني أحب الثوب الجميل، والنعل الجميل، وقد خشيت أن أكون بهذا من المختالي)) .

فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك راضياً: ((إنك لست منهم، بل تعيش بخير، وتموت بخير, وتدخل الجنة)) فبشره النبي عليه الصلاة والسلام.

حادثة مشابهة: لما نزل قوله تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)﴾

[ سورة الحجرات ]

أغلق ثابت عليه داره، وطفق يبكي، كان خطيب مفوه، صوته جهوري، مرتفع، يبدو أنه كان قد يعلو صوته فوق صوت النبي، فظن أن هذه الآية قد تنطبق عليه، فجلس يبكي, ويندب حظه، فلما سأله النبي عن غيابه, قال: ((يا رسول الله, إني امرؤ جهير الصوت, وقد كنت أرفع صوتي فوق صوتك يا رسول الله، وإذاً: فقد حبط عملي، وأنا من أهل النار أيضاً)) النبي الكريم أجابه: ((إنك لست منهم، بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة)) .

 

من كراماته:


آخر قصة من قصص هذا الخطيب الصحابي الجليل: لما استشهد سيدنا ثابت رضي الله عنه، مر به واحد من المسلمين, الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، ورأى على جثمانه درعاً ثمينة، فظن هذا الرجل الحديث العهد بالإسلام, أن من حقه أن يأخذها، فأخذها، ولندع راوي الواقعة يرويها بنفسه:

 بينما رجل من المسلمين نائم, أتاه ثابت في منامه، فقال له:

((إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لما استشهدت بالأمس، ومر بي رجل من المسلمين, فأخذ درعي، وإن منزله في أقصى الناس، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأتِ خالدًا, فمره أن يبعث فيأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إني عليَّ من الدين كذا وكذا, فليقم بسداده))

هذه كرامة.

((فلما استيقظ الرجل من نومه, أتى خالد بن الوليد, فقص عليه رؤياه، فأرسل خالد من يأتي بالدرع، فوجدها كما وصف ثابت تماماً، ولما رجع المسلمون إلى المدينة، قص المسلم على الخليفة الرؤيا، فأنجز وصية ثابت، وقالوا: هذه ليس في الإسلام كله, وصية ميت أنجزت بعد موته على هذا النحو, سوى وصية ثابت بن قيس, فكرامة له, لأنه بذل روحه في سبيل الله، هذا الدين الذي عليه))

سيدنا النبي كان إذا مات أحد أصحابه يقول: ((أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم)) لا يصلي على أحد من المسلمين, إلا إذا برّأ الساحة من الدين، لذلك: إذا كان الصحابة الكرام إذا توفي أحد أخوانهم يقول أحدهم: عليّ دينه يا رسول الله، أنا أدفع دينه، صل عليه، علي دينه لعظم حق الدين، فهذا المنام أحياناً يكون كرامة من الله عز وجل.

أنا سمعت عن رجل صالح جداً من أولياء الله، يسكن بيتًا صغيرًا، وصاحبه طلبه منه، وبطريقةٍ أو بأخرى أخرجه منه، فصار بلا مأوى.

أحد الأشخاص الميسورين, رأى في المنام النبي عليه السلام, وقال له: ((اشتر لفلان بيتاً)) القصة وقعت ببلدة عربية، فالمنام أحياناً يكون كرامة من الله عز وجل، فهذه رؤيا واضحة تماماً، إنسان استشهد في عليه دين، وعنده درع أخذت منه بلا حق، فقال لمسلم: استشهدت وعلي درع ثمينة أخذها فلان، بيته في المكان الفلاني، وضعها في المكان الفلاني، خذها وأعطها لسيدنا خالد، وقل لأبي بكر: علي دين فلينفذ وصيتي، وهذه أول وصية لميت أنجزت بعد موته.

 و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور