وضع داكن
26-04-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 007 - حديث الطهور -1- المعنى الحقيقي للطهور والتحميد والتسبيح – صور من سيرة التابعي عمر بن عبد العزيز.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

 

حديث الطهور شطر الإيمان.


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع من دروس الحديث النبوي الشريف، ومن كتاب رياض الصالحين، ومن باب الصبر.

(( عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآانِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ, وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ))

[ أخرجه مسلم ]

 

المعنى الحقيقي للطهور .


هذا هو حديث اليوم: الطُهُور.

هناك فرق بين الطُهُور وبين الطَهُور، كما أن هناك فرقاً بين الغِشِ والغُشِ، والشِقِ والشَقِ، والسِترِ والسَترِ.

فالطُهُور مصدر، والطَهور هو الماء الذي نتوضأ به، المصدر يدل على حدوث عمل، بينما الاسم يدل على شيء.

فالستار الذي ترخيه على النافذة اسمه: سِتْر، لكن عملية إرخاء الستار اسمها: سَتْر.

عملية تمزيق الورقة اسمها: شَق، أما هذا الخط الذي في الورقة اسمه: شِقْ.

عملية الاستيقاظ بعد منتصف الليل لتناول الطعام، هو طعام سَحُور، أما الاستيقاظ في هذا الوقت اسمه: سُحُور.

فهناك حركات دقيقة في الكلمات تغير بنيتها، من مصدرٍ إلى اسم، على كلٍ الطُهور، (( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ )) ومعنى شطر: أي نصف, لكن لا يذهبن بكم الظن إلى أن: الطُهُور هو نظافة البدن.

الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين, عقد بحثاً دقيقاً حول الطهور، فقال:

الطهور أربعة أنواع: 

1- طهارة البدن من الحدث والخبث.

2- وطهارة الجوارح من المعاصي والآثام.

3- وطهارة النفس من الصفات المذمومة.

4- وطهارة القلب مما سوى الله.

فالقلب له طهارته، طهارة القلب ألا يكون فيه إلا الله (( عبدي طهرت منظر الخلق سنين، أفلا طهرت منظري ساعة؟)) القلب بيت الرب، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوف، وحينما قال الله عز وجل:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون ]

فسر العلماء أن اللغو: هو كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، لذلك القلب لا يطهر إلا إذا أخرجت منه ما سوى الله، طهارة القلب ألا يكون فيه إلا محبة الله عز وجل، وطهارة النفس أن تبتعد عن الصفات المذمومة؛ من البخل, والحسد, والحقد, والضغينة, والكبر, والأثرة، هذه الصفات الدنيئة التي تحطم أو تنقص من قدر النفس, طهارة النفس أن تكون بعيدة عن هذه الصفات المذمومة.

وأما طهارة الجوارح, فهذه العين طهارتها ألا تنظر إلا ما حرم الله أن يُنظر إليه, قال تعالى:

﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾

[ سورة النور ]

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ؛ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))

[ أخرجه الترمذي ]

فطهارة العين ألا تنظر إلى ما حرم الله النظر إليه، والعلماء قالوا: ما حرُم فعله حرُم استماعه، وما حرُم استماعه حرُم النظر إليه, طهارة الأذن ألا تستمع بها ما حرم الله أن تستمع إليه، طهارة اللسان ألا ينطق بالغيبة، ولا بالنميمة، ولا بالكذب، ولا بالفحش، ولا بالمزاح الرخيص، ولا باللعن، ولا بالإيقاع بين الناس .

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))

[ أخرجه الإمام أحمد ]

طهارة اليد ألا تأخذ بها ما ليس لك، وألا تفعل بها إثماً، وألا تأذي بها مخلوقاً، فاليد لها طهارة، والعين لها طهارة، والأذن لها طهارة، واللسان له طهارة، والرجل لها طهارة، ألا تحركها إلا إلى طاعة الله، تمشي بها إلى المسجد، تمشي بها إلى مكان شريف، إلى إصلاح ذات البين، إلى صلة الرحم، إلى التوفيق بين شريكين، إلى عملك الذي تكسب منه رزقك، فلذلك الإمام الغزالي رحمه الله عنه قسّم الطهارة إلى أربعة أنواع: طهارة القلب ألا يكون فيه سوى الله, صدق القائل:

وما مقصودهم جنات عدن       ولا الحور الحسان ولا الخيام

سوى نظر الحبيب كذا مناهم           وهذا مطلب القوم الكرام

وطهارة النفس ألا تكون متلبثة بالصفات المذمومة، وهذه الصفات المذمومة لا تبرأ النفس منها إلا باتصالها بخالقها، جوهر الدين اتصالٌ بالخالق، وانضباط بالسلوك، وإحسان إلى المخلوق: سعادة, والبعد عن الدين: انقطاع عن الخالق، تفلت من القواعد الشرعية، إساءة للآخرين: شقاوة, هذه كلمات ثمانية، فيها ملخص كل شيء.

إن كان لك صلة بالله، من لوازم هذه الصلة: الانضباط في التعامل مع الآخرين؛ هذا يجوز, وهذا لا يجوز، هذا حرام, وهذا حلال، من لوازم الانضباط: الإحسان، من نتائج الإحسان: السعادة في الدنيا والآخرة, قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) ﴾

[ سورة الانفطار  ]

المقطوع عن الله عز وجل من خصائصه: أنه متفلت لا يضبطه شيء، يقول ما يشتهي ، يأخذ ما ليس له، يقتحم ما ليس في ملكه، يعتدي على أعراض الناس، متفلت، ومسيء، وشقي.

(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ, وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلانِ؛ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ))

[ أخرجه الترمذي ]

وأما طهارة البدن، فالإسلام نظيف، والنظافة من الإيمان، وكان عليه الصلاة والسلام يُعرف من مظهره, قال عليه الصلاة والسلام:

أصلحوا رحالكم، وحسنوا لباسكم، حتى تكونوا شامة بين الناس

كان عليه الصلاة والسلام يعرف بريح المسك، وكان عليه الصلاة والسلام له ثياب جديدة, يرتديها إذا جاءته الوفود، وأيام الأعياد والجمع، وكان يأمر عليّة أصحابه بذلك، فالإسلام نظيف.

إذاً: (( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ )) فالإيمان فيه عمليتان: 

1- عملية التخلية. 

2- وعملية التحلية.

فالتخلية التنظيف، تنظيف القلب، تنظيف النفس، تنظيف الجوارح، تنظيف البدن.

يقول لك: فرشنا البيت، أول عملية تنظيف البيت، ثم يأتي وضع الأساس فيه، فكأن الإيمان شطران؛ شطر فيه طهارة بكل أنواعها ومستوياتها، وشطر فيه تحلية بالكمالات الإنسانية، فالمؤمن لا يكذب, وهو صادق، لا يخون, وهو وفي، لا يفعل سوءاً بل هو يحسن، من هنا العلماء ميزوا بين الفطرة وبين الصِبغة.

الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ: أي الطهارة؛ من طهر نفسه, وقلبه, وبدنه, وجوارحه، فقد قطع نصف الطريق, النصف الآخر بإقباله على الله، واتصاله به، وبإتقان صلواته الخمس، قال تعالى:

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾

[ سورة العنكبوت ]

  فالتخلية أولاً، والتحلية ثانياً، الطهارة أولاً، واصطباغ النفس بصبغة الله ثانياً، تحقيق الفطرة أولاً، وتحقيق الصبغة ثانياً.

 

ماذا تعني كلمة الحمد لله؟.


 (( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ )) لو أمضيت كل حياتك في معرفة الله، في نهاية النهاية تصل إلى هذه الكلمة: الحمد لله، لأنك ترى إذا دققت، وإذا تأملت، وإذا كشف الله عن بصيرتك، ترى أن كل شيء وقع في الكون يحمد الله عليه, قال تعالى:

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾

[ سورة آل عمران ]

أفعاله سبحانه وتعالى كلها متعلقة بحكمته، وحكمته متعلقة بالخير المطلق، فالذي وقع محض خير، قد يبدو لنا خيراً، وقد يبدو للناس شيئاً آخر، لكنه في حقيقته خير، فلذلك منتهى العلم أن تقول: الحمد لله رب العالمين, قال تعالى:

﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾

[ سورة يونس ]

فعلامة معرفة الله: أنك تحمده على كل حال، فإذا انتقدت تصرفات الله عز وجل، وإذا نسبت الظلم إلى الله، وإذا نسبت العجز إليه، وإذا قلت كلمات يقولها العامّة, فهذا يعني أنك لا تعرفه, إذا نسبت إليه الظلم, فأنت لا تعرفه، وإذا نفيت عن أفعاله الرحمة, فأنت لا تعرفه، وإذا نفيت عن أفعاله الحكمة, فأنت لا تعرفه، وإذا نفيت عنه العدل, فأنت لا تعرفه، لذلك إذا عرفته حق المعرفة، من لوازم معرفته؛ أنك تحمده، لذلك أول كلمة في الفاتحة:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) ﴾

[ سورة الفاتحة ]

فهذه الكلمات يقولها المسلمون في صلواتهم، ولكن لو عرفوا قيمتها, ما تسرب إلى قلوبهم الألم والحزن أبداً، يتألمون من أنفسهم، ولكن لا يتألمون من قضاء الله وقدره، إن قضاء الله وقدره كله خير، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( الإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ))

[ أخرجه الترمذي ]

والإيمان بالقضاء والقدر نظام التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد, هذا مقياس دقيق جداً: إذا كنت تحمد الله على كل شيء, فقد عرفته, وإن كان هناك نقص, أو شك, أو حيرة, أو ريب في تصرفاته, وصفاته, وأسمائه، فهناك نقص كبير في المعرفة, لذلك الحمد لله إن كانت صادقة، إن صدرت عن قلب موقن بها، فهذا القلب قطعاً يعرف الله سبحانه وتعالى، لذلك كلمة الحمد لله, إذا كانت صادقة من فم قائلها, تملأ الميزان, أي عرفت كل شيء.

أحياناً يعطى الطالب مسألة رياضيات معقدة جداً، فالمدرس لديه الجواب، فالطالب يطلعه على أول صفحة، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، يقلب الصفحات المدرس، آخر صفحة الجواب كم؟ فإذا جاء الجواب مطابقاً لما عند المعلم, فالحل صحيح، جواب كلمة، لكن هذه الكلمة إلى أن توصل إليها هذا الطالب, أولاً: على مستوى في الرياضيات رفيع، ثانياً: متقن لهذه المادة، ثالثاً: متمرن عليها جداً، رابعاً: يملك فكر رياضي، خامساً: يملك ذاكرة جيدة، سادساً: مهيِّئ نفسه، سابعاً: إلى أن كتب هذا الحل في صفحات عشر، نهاية النهاية قال: ثلاثمائة وسبع وثمانون، قلت: صح عملك.

فكلمة الحمد لله, تعني أن كل إيمانك جيد، ما دمت تقول: الحمد لله في السراء والضراء، فأنت مؤمن ورب الكعبة.

(( عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))

[ أخرجه مسلم ]

هي كلمة، لكن هذه الكلمة تعني أشياء كثيرة، كما قلت قبل قليل: كل الدراسة السابقة، وكل الجهد الكبير، وكل المتابعة، والمذاكرة، والكتابة، والتدريب، والتمرين، والتدريس، والملخصات، وتأدية الامتحان على هذا الرقم, ما دام هذا الرقم, جاء مطابقاً لما عند المدرس، فحله صحيح، ومستواه جيد, وقد نجح.

طبعاً في كلمات, أحياناً: كلمة صغيرة تنبئ عن أشياء كثيرة، لو أنك اطلعت على كتاب عن دمشق، حوالي ألف صفحة، ورق من أرقى أنواع الورق، تجليد من الدرجة الأولى، خرائط، بيانات، إحصاءات، مراجع، مصادر، فهارس، مقدمات، تعليقات، أبواب فصول، أنت أُخذت من هذا الكتاب، إذا قرأت في هذا الكتاب كلمة من ثلاثة حروف أو عشرة حروف، تقع دمشق على ساحل البحر المتوسط، هذه ليس غلطة، هذه غلطة بكفرة, هذه معناها أن المؤلف لا يعرف الشام إطلاقاً، هذا الذي كتبه نقله عن الآخرين، أما هو ما عرف الشام إطلاقاً، والدليل هذه الكلمة.

فإذا رجل مثلاً سبّ الدين، كلمة كان غضبان، لا يعرف الله إطلاقاً، كان عليه الصلاة والسلام فيما تروي السيدة عائشة:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه, فإذا حضرت الصلاة, فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه

لو يعلم المصلي من يناجي ما فُتِن، وما التفت إلى شيء آخر، فكلمة الحمد لله تعني شيئاً كثيراً، تعني أنك تعرف الله، جهد كبير بذلته في تفكرك في مخلوقات الله، دروس كثيرة حضرتها، جهود كبيرة قدمتها، جهاد كبير بذلته، أوقات كثيرة صرفتها في معرفة الله، في النهاية تقول: الحمد لله رب العالمين .

 فهذا الذي يقف في صلاته ويقول: الحمد لله رب العالمين، وفي نفسه اعتراض على بعض تصرفات الله عز وجل، فهو لم يقل الحمد لله رب العالمين، ولو قالها بلسانه ألف مرة, ما دام هناك شك ببعض أسمائه، إن لم ترى في أفعال الله الحكمة التي ما بعدها حكمة، والرحمة التي ما بعدها رحمة، والحلم الذي ما بعده حلم، والعدالة التي ما بعدها عدالة، فأنت لا تعرفه.

كيف يقول عليه الصلاة والسلام: (( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ )) هذه كلمة، لكن مدلولها كبير جداً, مدلولها أن هذا المؤمن, قد عرف الله عز وجل، ونهاية المعرفة قوله: الحمد لله رب العالمين.

لذلك أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يقولون كلمة واحدة هي ملخص معرفتهم بالله عز وجل, قال تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فعندما يصلي الإنسان، يجب أن يكون هناك انسجام بينما يتلوه في صلاته، وبين أحواله القلبية, هل هو يحمد الله؟ هل هو مستسلم له؟ هل هو راض بقضائه وقدره؟ هل أنت راض عنه فيما أعطاك؟.

الإمام الشافعي رضي الله عنه, كان يطوف حول البيت، فسمع أعرابياً يناجي ربه، ويقول: يا رب, هل أنت راض عني؟ -فأراد الإمام الشافعي أن يلفت نظره- قال: يا هذا, هل أنت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا الشافعي، قال: وكيف أرضى عنه، وأنا أتمنى رضاه؟ فقال الإمام الشافعي: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة, فقد رضيت عنه, وإذا رضيت عن الله رضي عنك.

 

ماذا تعني كلمة سبحان لله؟.


قوله: (( سُبْحَانَ اللَّهِ )) هذه سبحان: اسم مصدر، سبّح يسبح تسبيحاً، تسبيحاً مصدر، أما سبحان: اسم مصدر، كأن تقول: سلّم, يسلم تسليماً: مصدر، أما سلّم, يسلم سلاماً: هذه اسم مصدر، وأحياناً ينوب اسم المصدر عن فعله, فسبحان: أي أسبح الله، ومعنى أسبح الله: تعني أنزه ذاته عن كل نقص، وأنزه أفعاله ، وأنزه صفاته، عن كل نقص، وعن كل مشابهة، ليس كمثله شيء، ومن معاني التسبيح أيضاً: التنزيه والتمجيد، فربما كانت نفسك مفعمة بتسبيح الله وبتمجيده، فكلمة سبحان الله: تعبر عن كل ما في نفسك، لكن الناس في هذه الأيام, قد يستخدمون هذه الألفاظ القدسية في خصوماتهم، إذا قال رجل: سبحان الله، وكأنه يعجب من هذا التصرف، لكن هذه الكلمة لها معنى كبير جداً ((وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآانِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))

أول استنباط: سبحان الله! أينما ذهبت بها فهي رائجة، إذا ذهبت بها إلى عالم النبات، كل النبات يسبح بحمد الله، يسبح الله، ينزهه ويمجده, قال تعالى:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)﴾

[ سورة الإسراء ]

بعض الأفكار في بلد معين، لو خرجت بها إلى خارج الحدود تكون مرفوضة، في هذا المكان مقبولة هذه الأفكار، خارج هذا البلد غير مقبولة، لكن سبحان الله أينما ذهبت بها، لأنه ليس في الكون إلا الله، وليس في الكون إلا خلق الله، وليس في الكون إلا آيات دالة على عظمة الله، والكون كله تجسيد لأسماء الله الحسنى، فسبحان الله من معانيها: أنه لا إله إلا الله، أينما ذهبت بهذه الكلمة، فهي رائجة, وصحيحة, ومقبولة, ومقدسة.

سبحان الله: هذا معنى أنه تملأ ما بين السموات والأرض، لأن كل ما في السموات والأرض من خلق الله، كل ما في السموات والأرض ينطق بحمد الله، ينطق بعظمة الله، ينطق برحمة الله، ينطق بحكمة الله، ينطق بقوة الله، ينطق بلطف الله، إذاً: معنى تملأ ما بين السموات والأرض: أي لا إله إلا الله، هذا هو المعنى الأول.

هذا الحديث حديث غني، كل كلمة فيه تحتاج إلى درس خاص، فأنهينا في هذا الدرس قول النبي عليه الصلاة والسلام: (( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآانِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) .

 

سيرة التابعي وخامس الخلفاء الراشدين سيدنا عمر بن عبد العزيز.


الآن إلى قصة عن تابعي كما هي الخطة التي درجنا عليها في دروس سابقة.

عمر بن عبد العزيز : هذا الرجل معدود عند أهل العلم من العلماء العاملين، وهو خامس الخلفاء الراشدين، والحديث عن هذا الخليفة العَبّاد، أي كثير العبادة، خامس الخلفاء الراشدين، حديث أطيب من نشر المسك، وفي الأثر: (( عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة )) كل رجل منا, يعوّد نفسه إذا جلس مع إخوانه، مع أهله، مع أصحابه, لا يتحدث عن غير الصالحين، لأنهم يعكرون المجالس، الحديث عن الطالحين يعكر المجالس، والحديث عن الصالحين يعطر المجالس، فكم من سهرة أمضاها أصحابها في الحديث عن الصالحين, فكانت قطعة من الجنة، لذلك: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ, لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ، إِلا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً ))

[ أخرجه أبو داود  ]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون ]

اللغو: كل ما سوى الله , أي موضوع تبحثه, وأي موضوع تطرحه، في سهرة, في نزهة, في جلسة, في ندوة, في أي مكان، إذا كان الموضوع دنيوي, يقوم الناس عن هذه الجلسة منقبضين متشائمين، كأن كابوساً جاثماً على صدورهم، كأن جبلاً كاد يقع عليهم، فإذا ذكرت الصالحين تعطرت المجالس، وتفاءل الإنسان، ووثق بأخيه الإنسان، ورأى الواحد الديّان، بيده كل شيء.

فالحديث عن هذا الخليفة العبّاد الزهّاد، خامس الخلفاء الراشدين، حديث أطيب من نشر المسك، وأزهى من قطع الروض، وسيرته الفذّة الغراء واحة معطار، أي كثيرة العطر، على وزن مِفعال، مصدار مكثار، واحة معطار، أينما حلّلت منها, ألقيت نفساً طرياً، وزهراً بهياً، وثمراً جنياً.

 

صور من سيرة التابعي والخليفة الراشد سيدنا عمر بن عبد العزيز.


هناك ثلاث صور ننتزعها من حياة هذا الخليفة العظيم:

أول هذه الصور ما رواها لنا سلمة بن دينار .

سلمة بن دينار, عالم المدينة, وقاضيها، وشيخها أبو حازم، والعهد به قريب، فقال:

قدمت على خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، وهو ببلدة من أعمال حلب، وكانت قد تقدمت بي السن، وبعد بيني وبين لقائه العهد، فوجدته في صدر البيت ، غير أني لم أعرفه, لتغير حاله عما عهدته عليه, يوم كان والياً على المدينة, فرحبّ بي، وقال: ادن مني يا أبا حازم.

هذا الخليفة العظيم من خصائصه: أنه قرّب العلماء، وأبعد الشعراء، بل إنه عيّن عالماً جليلاً مستشاراً، ومرافقاً له، وكانت وظيفة هذا العالم كما قال له الخليفة سيدنا عمر:

كن معي، وانظر في أحكامي، فإن رأيتني ضللت، فأمسكني من تلابيبي، وهزّني هزاً شديداً، وقل لي: اتق الله يا عمر, فإنك ستموت

هذه وظيفتك.

فلما دنوت منه قلت: ألست أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؟.

فقال: بلا.

فقلت: ما الذي حلّ بك؟ ألم يكن وجهك بهياً, وإهابك طرياً؟.

فقال: بلا.

فقلت: ما الذي غير ما بك، بعد أن غدوت, تملك الأصفر والأبيض.

الأصفر هو الذهب، والأبيض هو الفضة. 

وأصبحت أمير المؤمنين؟.

 فقال: وما الذي تغيّر بي يا أبا حازم؟ .

 فقلت: جسمك الذي نحل، وجلدك الذي اخشوشن، ووجهك الذي اصفر، وعيناك اللتان خابتا، فبكى. .

فقال: يا أبا حازم, فكيف لو رأيتني في قبري بعد ثلاث, وقد سالت حدقتاي على وجنتي, وتفسّخ بطني وتشقق, وانطلق الدود يرتع في بدني, إنك لو رأيتني آنذاك يا أبا حازم, لكنت أشد إنكاراً لي من إنكارك هذا؟.

يقال: إن سيدنا عمر بن عبد العزيز ما دخل إلى مجلس الخلافة إلا تلا هذه الآية:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾

[ سورة الشعراء ]

ثم رفع بصره إلي وقال: ألا تذكر حديثاً كنت حدثتني به في المدينة يا أبا حازم؟.

فقلت: لقد حدثتك بأحاديث كثيرة يا أمير المؤمنين، فأيها تقصد؟.

فقال: إنه حديث رواه أبو هريرة.

فقلت: نعم, أذكره يا أمير المؤمنين.

فقال: أعده علي، فإني أريد أن أسمعه منك.

فقلت: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( إن بين أيديكم عقبة كؤوداً ضروساً، لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول ))

هذا يذكرنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً:

يا أبا ذر, جدد السفينة, فإن البحر عميق، وخفف الأثقال، فإن في الطريق عقبة كؤود، لا يجتازها إلا المخفون، وأخلص النية, فإن الناقد بصير، وأكثر الزاد, فإن السفر بعيد

فبكى عمر بكاء شديداً، خشيت معه أن تنشق مرارته, ثم كفكف دموعه، والتفت إلي وقال: فهل تلومني يا أبا حازم, إذا أنا أهزلت نفسي بتلك العقبة, رجاء أن أنجو منها, وما أظنني بناج؟

 

وأما الصورة الثانية من صور حياة التابعي عمر, فيرويها لنا الطبري، عن الطفيلي بن مرداس :


يقول: إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز, حين ولي الخلافة، كتب إلى سليمان كتاباً قال فيه: اتخذ في بلادك فنادق لاستضافة المسلمين، فإذا مرّ بها أحد منهم، فاستضيفوه يوماً وليلة، وأصلحوا شأنه، وتهدوا دواها، فإذا كان يشكو نصباً, فاستضيفوه يومين وليلتين، وواسوه، فإذا كان منقطعاً؛ لا مؤونة عنده, ولا زاد, فأعطوه ما يسد حاجته، وأوصلوه إلى بلده ، فطبع الوالي بأمر أمير المؤمنين، وأقام الفنادق التي أمره بإعدادها، فسرت أخبارها في كل مكان، وطفق الناس في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها, يتحدثون عنه, ويشيدون بعدل الخليفة وتقواه، فما كان من وجوه أهل سمرقند، - وهي مدينة هي الآن في الاتحاد السوفييتي - إلا أن وفدوا على واليها سليمان، وقالوا:

إن سلفك الوالي الذي قبلك، قتيبة بن مسلم الباهلي, قد دهم بلادنا من غير إنذار، ولم يسلك في حربنا ما تسلكوه معشر المسلمين، فقد عرفنا أنكم تدعون أعداءكم إلى الدخول في الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى دفع الجزية, فإن أبوا أعلنتم عليهم القتال، وإن قد رأينا من عدل خليفتكم وتقاه, ما أغرانا بشكوى جيشكم إليكم, والاستنصار بكم على ما أنزله بنا قائد من قوادكم، فأذن أيها الأمير بوفد منا أن يفد على خليفتكم، وأن نرفع ظلامتنا إليه، فإن كان لنا حق أُعطيناه، وإن لم يكن عدنا من حيث ذهبنا، فأذن سليمان لوفد منهم بالقدوم على الخليفة في دمشق.

فدمشق كانت تحكم مناطق, هي الآن في الاتحاد السوفييتي, طبعاً ربنا عز وجل قال:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[ سورة النور ]

شرط واحد على العباد ( يَعْبُدُونَنِي ) قال تعالى: ( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) فالخلافة في دمشق، وهذه سمرقند, جاء أهلها إلى الخليفة, يشتكون على الجيش الإسلامي، فلما صاروا في دار الخلافة ، رفعوا أمرهم إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز ، فكتب الخليفة كتاباً إلى واليه سليمان يقول فيه:

أما بعد: فإن جاءك كتابي هذا, فاجلس إلى أهل سمرقند قاضياً, ينظر في شكواهم، فإن قضى لهم، فأمر جيش المسلمين, بأن يغادر مدينتهم.

وضع المسلمين المقيمين بينهم من النزوح عنهم، وعودوا كما كنتم، وكانوا قبل أن يدخل ديارهم قتيبة بن مسلم الباهلي.

فلما قدم الوفد على سليمان، ودفع إليه كتاب أمير المؤمنين, بادر فأجلس لهم قاضي القضاة جميع بن حاضر الناجي، هذا القاضي نظر في شكواهم، واستقصى أخبارهم، واستمع إلى شهادة طائفة من جند المسلمين، وقادتهم، فاستبان له صحة دعواهم، وقضى لهم، حكم هذا القاضي أن يخرج هذا الجيش الكبير من سمرقند إلى خارجها، بناءً على حكم قاض من قضاة أحد ولاة عمر بن عبد العزيز، عند ذلك أمر الوالي جند المسلمين, بأن يخلّوا لهم ديارهم، وأن يعودوا إلى معسكراتهم، وأن ينابذوهم كرة أخرى، فإما أن يدخلوا بلادهم صلحًا، وإما أن يظفروا بها حرباً، وإما ألا يكتب لهم الفتح لو انهزموا.

فلما سمع وجوه القوم, حكم قاضي القضاة, قال بعضهم لبعض: ويحكم! لقد خالطتم هؤلاء القوم، وأقمتم معهم، ورأيتم من سيرتهم, وعدلهم, وصدقهم ما رأيتم، فاستبقوهم عندكم.

هذا هو الإسلام، فالعدل, والرحمة, والإحسان, جعل أهل سمرقند, يطلبون إلغاء الحكم، وأن يبقى هذا الجيش في بلادهم.

وطيبوا بمعاشرتهم نفساً، وقروا بصحبتهم عيناً.

الشريعة عدل كلها, ورحمة كلها, مصالح كلها، فإذا خرجت الشريعة من العدل إلى الجور، أو من المصالح إلى ضدها، أو من الرحمة إلى القسوة، فليست من الشريعة، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل, هذه هي الشريعة.

 

الصورة الثالثة من صور حياة التابعي عمر يرويها لنا ابن عبد الحكم.


الصورة الثالثة من صور حياة هذا الخليفة الراشد رضوان الله عليه، يرويها لنا ابن عبد الحكم في كتابه النفيس المسمى: سيرة عمر بن عبد العزيز فيقول:

لما حضرت عمر الوفاة، دخل عليه عكرمة بن عبد الملك, وقال: إنك يا أمير المؤمنين, قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال، حرمتهم هذا المال الذي بين يديك، فحبذا لو أوصيت بهم إلي، أو إلى من تفضله من أهل بيتك، فلما سهى من كلامه, قال عمر: أجلسوني فأجلسوه، فقال: قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: إني قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال، فإني والله ما منعتهم حق هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئاً ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت بهم إلي, أو إلى من تفضله من أهل بيتك, فإنما وصيي ووليي فيهم الله, الذي نزّل الكتاب بالحق، وهو يتولى الصالحين.

يقولون في بعض الأحاديث القدسية:

إن الله سبحانه وتعالى يوقف عبدين يوم القيامة، يقول لأحدهم: عبدي أعطيتك مالاً, فماذا صنعت به؟ يقول هذا العبد: يا رب, لم أنفق منه شيئاً على أحد، مخافة الفقر على أولادي من بعدي، فيقول الله عز وجل: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك, قد أنزلته بهم، ويسأل العبد الآخر يقول له: عبدي أعطيتك مالاً, فماذا صنعت فيه؟ فيقول هذا العبد: يا ربّ, أنفقته على كل محتاج ومسكين، لثقتي بأنك خير حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، فيقول الله عز وجل: أنا الحافظ لأولادك من بعدك 

قال: واعلم يا مسلمة, أن أبنائي أحد رجلين؛ إما رجل صالح متق، فسيغنيه الله من فضله، ويجعل له من أمره مخرجاً، وإما رجل طالح, مكبّ على المعاصي، فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى، ثم قال: ادع لي بنَّي، فدعوهم، وكان عددهم بضعة عشر , فلما رآهم ترقرقت عيناه، وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم، وبكى بكاءً صافياً، ثم التفت إليهم وقال: أي بني، إني قد تركت لكم خيراً كثير، فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين، أو أهل ذمتهم, إلا رأوا أن لكم عليهم حقًا.

يا بني، إن أمامكم خياراً بين أمرين؛ فإما أن تستغنوا، -أن تصبحوا أغنياء- ويدخل أبوكم النار، وإما أن تفتقروا، ويدخل الجنة، ولا أحسب إلا أنكم تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى, ثم نظر إليهم برفق، وقال: قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله، فالتفت إليه مسلمة، وقال: يا أمير المؤمنين, عندي ما هو خير من ذلك, فقال: وما هو؟ قال: لدي ثلاثمائة ألف دينار، وإني أهبها لك, ففرقها أنت, أو تصدق بها إذا شئت، فقال له عمر: أو خير من ذلك يا مسلمة؟ فترقرقت عينا مسلمة وقال: رحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً, فقد ألنت منا قلوباً قاسية، وذكرتها, وقد كانت ناسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً، ثم تتبع الناس أخبار أبناء عمر بن عبد العزيز من بعده، فرأوا أنه ما احتاج أحد منهم، ولا افتقر

والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)﴾

[ سورة النساء ]

 

الخلاصة.


هذا الدرس لنا، كل واحد له أولاد، اكسب مالا حلالا، واتق الله، واستقم على أمره، والله سبحانه وتعالى يقول لك: أنا الحافظ لأولادك من بعدك، لا تحفظ لهم المال من الحرام، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

إن روح الميت, ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي, يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم, فأنفقته في حله, وفي غير حله، فالهناء لكم, والتبعة علي

لذلك الإنسان لا يوجد منا أحد إلا له أولاد، وشيء يضيقه جداً, مصير أولاده من بعده ، فالقرآن، وهذه سير الصحابة الكرام، اتق الله، واكسب مالاً حلالاً، وأنفق من هذا المال في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى يتولى أمر أولادك من بعدك.

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية، وطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وسلم.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور