وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الفتح - تفسير الآيات 18-27 - صلح الحديبية 3-3 نتائج صلح الحديبية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تعلق إرادة الله عز وجل بالحكمة المطلقة:


أيها الأخوة المؤمنون؛ نحن في الدرس الرابع من سورة الفتح، وقد أمضينا أسبوعين في رمضان في الحديث عن صلح الحديبية، ولا يزال في البحث بقية.

أيها الأخوة؛ ختمت الدرس الماضي بقولي إن المسلمين أحياناً تؤلمهم أحداثٌ معيّنة وقد يكون الخير فيها، وقد لا ينجلي خيرها إلا بعد حين، فلعل صُلْحَ الحديبية الذي أَمَضَّ المسلمين وآلمهم أشدّ الألم وقتها، ثم تكشَّفت الخيرات والبركات التي أتت منه بشكلٍ غير متوقع، فلعل في هذا درساً مستمراً للمسلمين:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا ينطبق على مجموع المسلمين، وينطبق على أفراد المسلمين، أنت مسلم مؤمن أنه ما من شيءٍ وقع إلا أراده الله، وما من شيءٍ أراده الله إلا وقع، وأن إرادة الله عزَّ وجل متعلقةٌ بالحكمة المُطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، هذه الفكرة تُلقي على قلبك برداً وسلاماً، تتحرَّك وتسعى دون أن تحقد، دون أن تُسحَق، دون أن تتألَّم، السعي مطلوب ولكنَّك مستسلمٌ لمشيئة الله.

صلح الحديبية نتجت عنه خيراتٌ لا يعلمها إلا الله، مع أن بنوده فيما يبدو كانت مهينةً، هناك تنازلات وكان المسلمون في أوج قوتهم متحمِّسون أعزَّة. 

 

التفكير في شيءٍ أوحى الله به دليل عدم اليقين من حكمة الله:


لكن النقطة الدقيقة هي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفِّذ وحيّ الله من السماء، لذلك أنت عقلك يتحرَّك، ويدرس، ويُحلَّل، ويوازن، ويقيّم، ويقلّد، ويبحث، ويدرس فيما لا وحي فيه من السماء، أما إذا كان هناك وحي من السماء فانتهى كل شيء، لأن الله عزَّ وجل حكمته مطلقة، وعدله مطلق، ورحمته مطلقة، أي كدرس جديد لا تسْمَح لنفسك أن تفكِّر في شيءٍ أوحى الله به، لأن التفكير به دليل عدم اليقين من حكمة الله.

لنستمع الآن إلى ما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى قال: "إن المصلحة المترتبة على هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي علمها رسول الله وخَفِيَت عليهم، فحمله ذلك على موافقتهم، ذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تظهر عندهم أمور رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما هي، ولا يجتمعون بمن يُعلِّمهم بها مفصَّلةً، فلَّما حصل الصلْحُ اختلط المسلمون بأهل مكَّة، صار السفر مباحاً، كفَّار مكة جاؤوا إلى المدينة والمسلمون زاروا أقرباءهم، صار هناك صلح، هذا الاختلاط ثبت تعريفاً بالإسلام، تعريفاً بالنبي، تعريفاً بدلائل نبوَّته، تعريفاً بكمالاته، كل الخير كان في هذا الصلح، المسلمون حينما حلّ الصلح بينهم وبين قريش التفتوا إلى الدعوة، إلى نشرها، إلى توضيحها، اطمأنوا لأن الدماء حُقِنت، صار هناك طمأنينة.

ثم إن أعداداً كبيرةً جداً أسلمت في عهد هذا الصلح في سنتين بحيث لم تسلم هذه الأعداد ولا في تاريخ الدعوة، أي منذ أن ظهرت الدعوة وحتى صلح الحديبية عدد الذين أسلموا أقل من الذين أسلموا فيما بين الصلح وفتح مكة، هذه ثمرة من ثمار الصلح  الكبيرة.

كلامٌ طويل قاله الإمام النووي وفيه تحليلٌ دقيقٌ جداً لنتائج هذا الصلح، لكن الملخَّص أن المسلمين انتقلوا من طور الحرب إلى طور السلم، من طور تجميع الجهود للدفاع عن كيان هذا الدين وأهله، إلى تجميع الجهود لنشر هذا الدين، كان موضوعاً دفاعياً صار موضوعاً دَعَوياً، كانت قريش لا تعترف بالمسلمين، لا تعترف بوجودهم، وإنما تريد أن تستأصلهم، أصبح المسلمون نداً لندّ لقريش، اعترفوا بهم كقوةٍ مستقلَّةٍ وصالحتهم، على كل: ومع ذلك سيدنا عمر حينما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله علام نعطي الدنية في ديننا؟ قال عمر: وما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلَّمت به، حينما رجوت أن يكون هذا خيراً، فهذا الذي عمله عمر بعد موقفه من صيامٍ وتصدّقٍ وصلاةٍ وعتقٍ مخافة كلامه في الحديبية إنما عمله لتأخره في قبوله توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً كان سيدنا عمر بأعلى درجات الورع، كل هذا فعله تكفيراً لموقفه من النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى في بنود الصلح مهانةً للمسلمين. 

 

عمل النبي الكريم بعد الصلح:


الآن: ماذا فعل النبي بعد الصلح؟ بعث النبي صلى الله عليه وسلَّم إلى مكة من الحديبية بعشرين بدنةً مع ناجية بن جندل الأسلمي حيث نحرها بالمروة، وقسَّم لحمها على فقراء مكّة ففتح بذلك باب المودّة وكسب شعور فقراء المكيّين -صار في مجال نبعث الهدايا فبعث النبي عشرين بدنة ذبحت في المروة ووزعت على الفقراء- قبل الصلح ممنوع أن يدخل إنسان من المسلمين إلى مكة، صار هناك صلح، صار هناك زيارات متبادلة، النبي استمال قلوب الفقراء، النبي بعث إليهم بعشرين بدنة نحرت في المروة ووزعت على فقراء مكة وبهذا استمال قلوبهم إليه.

 

الحكمة من قطع الشجرة التي بايع المسلمون النبي تحتها:


شيء آخر؛ في خلافة سيدنا عمر رأى الناس يعظِّمون هذه الشجرة التي بايع الصحابة النبي تحتها، الله عزَّ وجل قال: 

﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾

[ سورة الفتح ]

فصار الناس يُعظّمون هذه الشجرة فسيدنا عمر حفاظاً على التوحيد قَطَعَ الشجرة، لا تقدّسوا غير الله، سيدنا عمر حينما رأى خالد بن الوليد ينتصر من معركة لمعركة، توهَّم الناس أن الناصر هو خالد فعزله، استمر النصر، لماذا عزله؟ قال له: لمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك يا أبا سليمان، قال له: لمَ عزلتني؟ قال له: والله إني أحبك، قال له: لمَ عزلتني؟ قال: والله يا أبا سليمان ما عزلتك إلا مخافة أن يُفتتن الناس بك لكثرة ما أَبْلَيت في سبيل الله، إنقاذاً للتوحيد، فسيدنا عمر إنقاذاً للتوحيد عزل سيدنا خالد، وإنقاذاً للتوحيد قطع الشجرة.

﴿ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)﴾

[ سورة فصلت ]

  

قصة أبي بصير مع قريش والنبي الكريم:


عندنا شيء دقيق جداً؛ جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو بالمدينة أبو بصير وكان ممن حُبِسَ بمكة، وكتب في ردّه- طبعاً عندما هرب وجاء إلى المدينة والصلح قائم، وأول بنود الصلح أن يَرُد النبي إلى مكة من جاء مسلماً- فهذا أبو بصير جاء النبي مسلماً فكتب في ردّه زاهر بن عوف والأخنس بن شُريق كتبا كتاباً إلى النبي أنه قد جاءك فلانٌ أبو بصير مسلماً فردّه إلينا وفق بنود الصلح، وبعثا به رجلاً ليتسلما هذا الذي فرَّ إلى النبي تنفيذاً لبنود الصلح، فقدِما على النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب فقرأه أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه على النبي فإذا فيه: قد عرفت ما شرطناك عليه من رد من قدِم عليك من أصحابنا فابعث إلينا بصاحبنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغَدْر، وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك" قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ موقف يقطِّع القلب، شخص جاءك مسلماً والتجأ إليك، لكن الصلح يقضي بأن ترد من جاءك منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق معهم وسلَّمه لهم حسب الصلح، المسلمون ضجَّوا، صاروا يقولون: الرجل يكون خيراً من ألف رجل، يغرونه بالذين معه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس أبو بصير إلى جدار ومعه صاحباه، فسلَّ أحد الرجلين سيفه ثم هزَّه وقال: لأضربنّ بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، انظر إليه إن شئت، قال: ناولنيه،  انظر إليه، فناوله فلما قبض عليه قتله به، ثم تناوله بفيه وصاحبه نائم فقطع إساره لأنه مقيّد، قطع إساره بفيه، فطلب المولى، فخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد، فلما رآه رسول الله والحصى من تحت قدميه من شدة الخوف، وأبو بصير في أثره حتى أزعجه، قال عليه الصلاة والسلام: هذا الرجل قد رأى فزعاً، قد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو جالسٌ في المسجد قال له: ويحك مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي- قتل صاحبكم أي أبو بصير صاحبي من بني عامر- وأُفْلِت منه ولم أكد وإني لمقتول، واستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أبو بصير بباب المسجد ودخل متوشّحاً السيف وقال: يا رسول الله وفَّت ذمَّتك- أنت وفيت بعهدك واتركني لكي أتصرَّف- وفَّت ذمتك وأدى الله عنك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أُفتن فيه ويُفتَن بي، فقال له النبي الكريم: اذهب حيث شئت- ارجع- فقال أبو بصير: يا رسول الله هذا سَلْب العامري فخمِّسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إذا خمَّسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، اذهب عنا.

 

موقف قريش من أبي بصير:


ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيسى من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق عير قريش وتجارتها التي كانوا يمرّون عليها إلى الشام، واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة، أي إنهم لما بلغهم خبره رضي الله عنه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حقِّه، ماذا قال النبي في حقِّه؟ قال: وايَمْ أمّه مسعِر حربٍ لو كان معه رجال- أي رجل شديد جداً- مُسعِر حربٍ لو كان معه رجال- أي لو كان معه رجال يتسللون إليه- وفطِن أبو بصير من لحن هذا القول أن الله سَيَرُدُّه، وأنه جاعلٌ له فرجاً ومخرجاً، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو- لحق به- وخرج من مكة في سبعين فارساً أسلموا- هذا كلَّه أثناء الصلح- فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على النبي في تلك المُدَّة التي هي زمن صلحٍ وهُدنة- لكيلا يحرجوه- خوفاً أن يردهم إلى أهلهم، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاثمئة- ثلاثمئة يقعدون على طريق القوافل- وكان أبو بصير كثيراً ما يقول وهو بسِيف البحر: الله العليّ الأكبر، من ينصر الله فسوف يُنصَر.

عندئذِ اضطرت قريش أن تُرسل أمام هذا الواقع- واقع خطير لأن حياتها في تجارتها، وتجارتها مقطوعة بسبب أبي بصير وثلاثمئة فارس حوله على طريق القوافل- فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: إنَّا أسقطنا هذا الشرط من الشروط فمن جاءك منهم إليك فأمسكه من غير حرج- اقبله- انظر النبي نفَّذ الوعد، ومن أتاه فهو آمن، فإنا أسقطنا هذا الشرط، فإن هؤلاء الركْب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره. 

الآن استنجدوا بالنبي أن هذا الشرط ألغه لنا، من جاءك مسلماً اقبله ولا حرج عليك، نحن أسقطناه من المعاهدة، شيء جميل.

فكتب النبي عليه الصلاة والسلام إلى أبي جندل وأبي بصير أن أقدما عليّ ومن معكم من المسلمين يلحقون ببلادهم وأهليهم وألا يتعرَّضوا لأحدٍ مرَّ بهم من قريش ولا لعيرهم، فقدِم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأبو بصيرٍ يُحتَضر، فمات رضي الله عنه وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في يده يقرأ به ويبكي من الفرح، لكن الله عزَّ وجل كتب له الشهادة، فدفنه أبو جندل مكانه، وقَدِم أبو جندل على النبي صلى الله عليه وسلَّم مع ناسٍ من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهلِهم، وأمَّنت قريش على عيرها وتجارتها، وعلِم الصحابة الذين عَسرَ عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه سهيل، تذكرون قبل أسبوع، فلما استنجد بالنبي ضربه والده بغصن شائك حتى أدماه، وطرده، وأبى أن يقبل فيه شفاعة أحد، الآن الله عز وجل رده إلى المسلمين، وكان بُعْد نظر النبي واضحاً وضوح الشمس. 

 

النبي الكريم تلقَّى وحياً من الله ومع الوحي لا يوجد تفكير:


اسمعوا الآن ماذا قال سيدنا الصديق في هذا الصلح؟ يقول رضي الله عنه: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية عندما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ أي صلح الحديبية، ولكن الناس قصُر رأيهم عما كان بين محمدٍ وربه، المشكلة كلَّها أن الصحابة ظنَّوا أنه اجتهادٌ من رسول الله، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقَّى وحياً من الله، ومع الوحي لا يوجد تفكير.

تذكرون عندما الحباب بن المنذر رأى الموقع الذي جلس فيه صحابة رسول الله في معركة بدر، قال له: يا رسول الله أهذا الموقع وحي أم رأي؟ قال: بل هو رأي، قال: ليس بموقع، انظر إلى دقة الصحابي، أول شيء سأل: وحي أم رأي؟ إذا كان وحياً لن يتفوه بكلمة، هذه قاعدة، الالتباس بالحديبية أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبي أن افعل كذا وكذا، وتساهل في كذا وكذا، وانتهى، النبي وقف عند أمر الله عزَّ وجل، من كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم جداً؟ سيدنا الصديق، قال لعمر رضي الله عنه: الزم غرزه إني صدقته، سيدنا عمر لم يدرك هذه الناحية فكان في حيرةٍ من أمره.

يقول سيدنا الصديق: ولكن الناس قصُر رأيهم عما كان بين محمدٍ وربِّه والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.

الله عزَّ وجل ناظر إلى أعداد كبيرة جداً من قريش مؤمنة لكنها تُخفي إيمانها خوفاً من قريش، فلمَّا كان الصلحُ أعلنت إسلامها وبقيت في مكانها، فلما عرفوا أن أبا بصير في طريق قريش انضم إليه ثلاثمئة.

 

موقف سهيل بن عمرو رئيس الوفد المُفاوض من النبي الكريم بعد إسلامه:


انظروا إلى هذا المنظر والله لا يصدق؛ سهيل بن عمرو من هو؟ رئيس الوفد المُفاوض، عندما كتب النبي الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم رفض، قال: لا نعرف هذا، نحن نعرف: باسمك اللهمَّ، عندما كتب هذا ما اتفق عليه محمدٌ رسول الله، قال له: امحُ رسول الله لو آمنا بك ما قاتلناك، النبي قال: لا يوجد مانع امحها، اكتب محمد بن عبد الله، هذا الإنسان نفسه، يوجد أشياء كثيرة ذكرناها في الدرس الماضي، كان يعترض على كل قضية، والنبي تساهل معه، احذفها.

سهيل بن عمرو نفسه بعد أن أسلم، يقول سيدنا الصديق: لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند المَنْحَر يقرِّب للنبي صلى الله عليه وسلَّم بُدْنَه- أي يقدِم ناقة وراء ناقة- والنبي ينحرها بيده، ودعا الحلاق لحلق رأسه، كلَّما ينفَض من شعره صلى الله عليه وسلم يضع شعره على عينه، سهيل بن عمرو الذي رفض أن يكتب: محمد رسول الله، وتكلَّم معه بالمفرد نداً لند، عندما عرف مقامه كان إذا قطع الحلاق شيئاً من شعر النبي يأخذ هذه الشعرة ويضعها على عينه تبرُّكاً به، هكذا كانت النتيجة، رئيس الوفد المفاوض أسلم، أعداد كبيرة جداً أسلمت، المسلمون ارتاحوا من الحرب صار هناك دعوة إلى الله، النبي أرسل كتباً إلى الملوك الأعاجم، الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، كل هذا ببركة هذا الصلح.

 

صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام:


يقول أحد العلماء وهو الزُّهْري: "فما فتحٌ في الإسلام كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهُدنة، ووضعت الحرب، وأمِن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تَيْنَك السنتين مثلما كان في الإسلام من قبل". 

وقال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – الآن دققوا- أخذ كل من معه للصلح للحديبية، وأخذ من هم حول المدينة كم كان العدد؟ ألف وأربعمئة، عندما دخل مكة فاتحاً دخلها في عشرة آلاف مقاتِل، كلَّهم آمنوا فيما بين الصلح وبين الفتح. 

 

نتائج صلح الحديبية حسب آراء بعض علماء التاريخ:


بعض النتائج التي ذكرها علماء التاريخ قال: صُلح الحديبية اعترافٌ رسميٌّ مُوَقعٌ من قريش بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قوةٌ متميزةٌ، وصنو قريشٍ زعيمة القبائل، وهذا يعني أن كل قِوى الجزيرة العربية راجعت حساباتها، قريش اعترفت برسول الله، اعترفت به قوة متميزة مستقلة، فكل واحد عاون قريشاً على النبي توقف وراجع حساباته.

أما هذه الهُدنة في هذا الصلح كانت فرصةً ذهبيةً للمسلمين فاتصلوا بالقبائل، واختلطوا بأفرادها فشرحوا لهم الإسلام، وبلَّغوا الرسالة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالحُجَّة والبرهان والعقل والمنطق فأسلم في سنتين اثنتين من الصلح ما يعادل الذين أسلموا قبل الصلح منذ بداية الدعوة، أهل قريش جاؤوا إلى المدينة، رأوا المسلمين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، وألفتهم، والتفاتهم حول النبي، وتعظيمهم له، سمعوا أخبار النبي، أي تعلموا، والمسلمون ذهبوا إلى أهليهم في مكة ذكَّروهم بالنبي، بأخلاقه، بنبوته، بدلائله النبوية، بالإسلام وعظمة الإسلام، أيضاً ارتاحوا .

قريش أدركت بعد صلح الحديبية أن الأمر قد استبان، وأن الإسلام ظاهرٌ منتصرٌ لا محالة، وخاصَّةً بعد أن حشدت أضخم جمعٍ في تاريخها في غزوة الأحزاب وأخفقت، وبعد أن تكرَّرت انتصارات المسلمين أيقنت قريشٌ أيضاً أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عَظُم في جميع أنحاء الجزيرة، وأن العاقبة المحتومة ظَفَر الإسلام وظهوره وفتح مكة ذاتها قريباً.

 

إسلام خالد بن الوليد:


الآن دخلنا في إسلام خالد؛ سيدنا خالد بن الوليد قال لقريش بعد الحديبية-هذا الرجل مفكَّر، الذي كان ألدَّ خصوم رسول الله، الذي كان أحد أكبر الأسباب في مشكلة أحد- قال خالد: لقد استبان لكل ذي عقلٍ أن محمداً ليس بساحرٍ ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فَحُق على كل ذي لب أن يتبعه. هذا كلام سيدنا خالد.

وقال عمرو بن العاص:  والله ليظهرنّ محمدٌ على قريش عرف هذا الحق العرب والعجم. 

يقول عمرو: ابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى مررت على مرِّ الظهران، ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدَّبة فإذا رجلان قد سبقاني بغير سفيرٍ يريدان منزلاً، وأحدهما دَخَلَ الخيمة والآخر يُمسِكُ الراحلتين، قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قلت لسيدنا خالد: أين تريد؟ قال خالد: أريد محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحدٌ به طُعمٌ- لم يبق أحد غيرنا غير مسلمين- والله لو أقمت بمكة لأُخِذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها- أي انتهينا- عمرو قال: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام، فخرج عثمان بن أبي طلحة فرحَّب بي فنزلنا جميعنا في المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة فما أنسى قول رجلٍ لقيناه ببئر أبي عُتبة يصيح: يا رباح! يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله وسِرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين- زعيمان كبيران من فطاحل أهل مكة هما سيدنا خالد وعمرو- ماذا قال هذا الرجل؟ قال: قد أعطت مكة المقادة للنبي بعد هذين- إذا أسلم هذا الرجلان انتهى كل شيء- فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولَّى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه بشَّر رسول الله بقدومنا فكان كما ظننت، أدرك أنه إذا جاء هذان الرجلان ليُسلِما انتهت قريش، وأنخنا بالحرَّة فلبسنا صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا حتى اطلعنا عليه، وإنَّ لوجهه تَهلُّلاً والمسلمون حوله قد سُرَّوا بإسلامنا.

يقول خالد رضي الله عنه: فأسرعنا في المشي فاطَّلعت عليه فما زال يبتسم لي –اللهم صلّ عليه- حتى وقفت عليه فسلَّمت عليه بالنبوة قلت: يا رسول الله، ردَّ عليَّ السلام بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: تعال، ثم قال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلاً رَجَوْت ألا يُسلِمك إلا إلى خير، معنى هذا أن الإنسان إذا الله آتاه ذكاءً وعقلاً ولم يعرف الله صار سؤاله كبيراً، وضع غير مقبول أن إنساناً عاقلاً وذكياً ويتأخَّر عن طاعته لله عزَّ وجل؟ قال: يا رسول الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحق فادع الله أن يغفرها لي، فقال عليه الصلاة والسلام: يا خالد الإسلام يجبُّ ما قبله، سيدنا خالد كم مرَّة حارب النبي؟ في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، طبعاً أمَّن على ذلك فقال النبي: "اللهمَّ اغفر لخالد بن الوليد كلّ ما أوضع فيه من صدٍّ عن سبيل الله" الصلحة بلمحة، قائد عسكري من الطرف الآخر عندما أسلم غفر الله عزَّ وجل له كل ما كان منه من محاربةٍ للدين، وتقدَّم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمانٍ للهجرة.

 

قضية الإسلام هي القضية الأولى في العالم:


طبعاً الصلح أعاد طريق القوافل، والحركة أصبحت سالكة، ولقاءات، واتصالات، ودخل الناس أفواجاً في دين الله، والنبي عليه الصلاة والسلام قَوِي مركزه كثيراً، والتفت إلى الدعوة، وفي العام القادم دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة لعمرة القضاء، وبقوا فيها ثلاثة أيامٍ محققاً نصراً إعلامياً رائعاً، وتمت العُمرة في العام القادم، وهذه بعض ما كتبه كتَّاب السيرة عن صلح الحديبية.

أعتقد الدرس القادم إن شاء الله إذا عدنا إلى الآيات الآن الآيات واضحة جداً، هذا هو صلح الحديبية، وأعيد وأقول مرة ثانية: هذا الصلح الذي جرى بين النبي وقريش، والذي امتعض منه المؤمنون وتألموا أشد الألم، وكان فيه الخير الكثير حتى سماه الله: ﴿فَتْحًا مُبِينًا﴾ هذه الفكرة ربما الإنسان لو شاهد ما يجري في العالم في أقاصي الدنيا من حروب ضد المسلمين لعل في هذا صحوةً لأهل الأرض كلّهم، والشيء الحقيقي الآن قضية الإسلام هي القضية الأولى في العالم، والذين ابتعدوا عن هذا الدين الآن في شوق إلى معرفته لتفسير ماذا يحدث، فإذاً:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[ سورة البقرة ]

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور