- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (048)سورة الفتح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ما من حدثٍ وقع في عهد النبي إلا وله أبعاده الجليلة وحكمته الفَريدة:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الفتح:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ الأحداث التي جرت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام قَدَّرها الله جلَّ جلاله لحكمةٍ بالغة، ولحكمةٍ تعليميةٍ وتشريعية، فما من حدثٍ وقع في عهد النبي إلا وله أبعاده الجليلة، وله حكمته الفَريدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام بشكلٍ موجزٍ مختصر فيما ترويه كتب السيرة أراد أن يعتمر، فتوجَّه إلى مكة معتمراً وساق الهدي وقَلَّدها، أي أشعر أنها هدي تُقدَّم لبيت الله الحرام، وسار معه بعض القبائل ممن حول المدينة، وعلمت قريشٌ بتوجُّه محمد صلى الله عليه وسلَّم مع أصحابه ليعتمروا فأبت واستنفرت ووقفت موقفاً في غاية العداوة والخصومة.
وفي الحديبية النبي عليه الصلاة والسلام القصة طويلة جداً جرت مفاوضات ورسل، وتبادل النبي مع قريش رسلاً عدة، واستقر الأمر على صلحٍ، هذا الصلح مؤَدَّاه أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعتمر في هذا العام بل يرجع، وقد سُمِح للناس أن يؤمنوا بعد أن كان أهل قريش لو عُلِمَ أن أحداً قد أسلم من قريش عذبوه أشدّ التعذيب.
الحكمة من عدم فتح الصحابة الكرام مكة عنوةً في يوم الحديبية:
هناك صلح جرى بين قريش وبين النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهره ليس مما يروي طموح المسلمين، أي ما استطاع المسلمون أن يصلوا إلى مكة المكرَّمة ليطوفوا حول البيت معتمرين، بل ردوا إلى المدينة، وسُمِح لهم أن يعتمروا في العام القادم، وجرت نصوصٌ دقيقةٌ بين النبي وبين قريش لا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه النصوص لأن الدرس يصبح درس سيرة عندئذ لكن أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الصلح بين قريش وبين النبي عليه الصلاة والسلام فتحاً مبيناً، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحقق ما كان يصبو إليه وأصحابه من وصولٍ لمكة المكرَّمة، وطوافٍ حول الكعبة، وقد اتجه أكثر المفسِّرين إلى تفسير هذا الفتح الجليل بصلح الحديبية، بينما قلة منهم فسَّرت هذا الفتح بفتح مكة، والحقيقة فتح مكة كان حدثاً من أبرز أحداث الدعوة الإسلامية، لأن مكة التي ائتمرت على النبي، والتي أخرجت النبي، والتي كادت للنبي، وحاربته قرابة عشرين عاماً، فتحت عنوةً، والله سبحانه وتعالى نصر النبي عليه الصلاة والسلام نصراً عزيزاً، فلك أن تَعُدَّ هذا الفتح المبين هو فتح مكة، ولك أن تعد هذا الفتح المبين هو صلح الحديبية.
لكن الذين عَدُّوا هذا الفتح المبين صلح الحديبية انطلقوا من أن هذا الصلح وإن بدا في ظاهر نصوصه أن المسلمين لم يحققوا أهدافهم، وأن بعض التنازلات قد حصلت لهم في هذا الصلح، لكن النهاية كانت أن هذا الصلح كان سبب خير عميم، من هذه الحكم الإلهية أن نفراً من المؤمنين كانوا قد آمنوا سراً في قريش، وخافوا أن يعلنوا عن إسلامهم وإيمانهم، ولو أن الصحابة الكرام فتحوا مكة عنوةً في يوم الحديبية لقتلوا أناساً عَلِمَ الله أنهم مؤمنون..
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
كنتم قاتلتموهم فأصابتكم من قتالهم معرَّةٌ، أي تحمَّلتم إثم قتل إنسانٍ أسلم.
الإنسان يجب أن يستسلم لأمر الله لأن الله يعلم وهو لا يعلم:
ملخص هذا الموضوع أنه:
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)﴾
أمر هذا الدين بيد الله عزَّ وجل، وهذا الكلام ينفعنا الآن، أمر هذا الدين بيد الله عزَّ وجل، وهذا الدين دين الله، والله سبحانه وتعالى لا يتخلَّى عنه، فإذا رأيت أشياء قد لا ترتاح لها، هذا بتقدير الله، ولحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله عزَّ وجل، فلعل ما يبدو لك أنه غير مُريحٍ للمسلمين هو سبب نصر المسلمين، هو سبب انتشار الدين في العالم، هو بدايات تحقُّق قوله تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
أراد المفسِّرون حينما رجَّحوا أن الفتح المبين صلح الحديبية، أن الإنسان يجب أن يستسلم لأمر الله، سيدنا عمر ضاق ذرعاً ببنود هذا الصلح، فَعَبَّر عن ألمه لسيِّدنا الصديق، فقال الصديق رضي الله عنه: الزم غرزه، أي أنا مستسلم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما فعل ما أمره الله به، فحينما توقَّفت ناقته قالوا: خلأت ناقة رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: عن المسور بن مخرمة:
(( ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ))
النبي عليه الصلاة والسلام تلقَّى توجيهاً من الله عزَّ وجل أن يقبل بهذه الشروط لصالح المسلمين، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، يعلم أن أُناساً مؤمنون في مكَّة لو أن الصحابة قاتلوا أهل قريش لقتلوهم وهم لا يشعرون.
الإنسان عليه أن يسعى ويجتهد وحينما تغلبه الأقدار يكون قد وقع ما أراده الله:
نزلت هذه السورة بعد صلح الحديبية، وقد عَبَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن أنه ما من آيةٍ في كتاب الله أحبُّ إليه من هذه الآية:
أي إجراءٍ يتولّاه الله في شأن المسلمين هو خيرٌ إن في عاجل أمرهم أو في آجله:
من يقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءةً مفصَّلة ولاسيما في ملابسات صلح الحديبية يرى ويعلم علم اليقين أن كل الخير كان من هذا الصلح، لأن الذي يُسلم ممنوع أن ينضم إلى النبي، على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعه إلى قريش، وأن الذي يرتد من المسلمين النبي عليه الصلاة والسلام يسمح له أن ينضم إلى قريش.
شرطان ليسا متوازيين، وليسا متماثلين، لماذا الذي يسلم من قريش لا يُسمح له أن ينضم إلى النبي بينما الذي يرتد من المسلمين يُسمح له أن ينضم إلى قريش؟ هذا البند في صلح الحديبية كان له أثر كبير جداً في أن بعض القُرَشيين الذين أسلموا توجهوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لينضموا إلى المسلمين فردَّهم في ضوء بنود الصلح، فلما ردهم تألموا أشدّ الألم وكَمَنوا لقريشٍ على طريقها إلى الشام، وهددوا مصالحها، فبعثت قريشٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً ترجوه أن يقبلهم، ولكنَّه لم يقبلهم، فالإنسان قد يبدو له أن هذه الشروط فيها تنازلات وليست متماثلة، ولكن لو درستم دقائق الشروط والنتائج التي ترتَّبت عليها هذه الشروط لاستسلمتم، أي أراد الله عزَّ وجل أن يطمئن المسلمين، أن أي إجراءٍ يتولاه الله عزَّ وجل في شأن المسلمين هو خيرٌ إن في عاجل أمرهم، أو في آجله.
على كلٍّ الموضوع يحتاج إلى دراسات طويلة في شرح الحديبية، وفي دراسة الملابسات والبنود، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل بهذه الشروط لأن الله أمره أن يقبل بها، إنما أنا رسولٌ يوحى إليّ، القضية ليست قضية اجتهادية بل هي قضية تنفيذ لأمر الله عز والله هو المدبِّر، أي أنت اجتهد، وتوخَ الخير، وتحرَّك، واسع، وطالب، لكن أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، وفعل الله عزَّ وجل كله حكمة.
الصُلح الذي جرى بين النبي وبين قريش كان سبباً لفتح مكة ولنصر المسلمين:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾
الهدف المباشر من تحرُّك النبي صلى الله عليه وسلم ما تحقق، وسمَّاه الله فتحاً لأن الذي تحقق أن الناس بعد هذا الصلح شعروا بالأمن نوعاً ما، وصار المسلمون الذين لم يُعترف بهم من قبل إطلاقاً صاروا أنداداً لقريش، وصار هناك اتفاق، أي هناك إنجاز لم يكن بادياً لكل ذي عَيْن، إنجاز كبير، حالة الحرب انتهت، ودخل المسلمون في حالة السلم، وحينما تنتهي حالة الحرب يطمئنُّ الناس، وينطلقوا إلى نشر هذا الدين، فنشاط المسلمين بعد صلح الحديبية تضاعف في نشر هذا الدين، كانوا منشغلين بحرب قريش الآن انشغلوا بنشر هذه الرسالة في شتَّى الأنحاء، أيضاً سُمِّي هذا الصلح فتحاً لأنه أعطى المسلمين والمؤمنين راحةً نفسية أتاحت لهم أن ينتقلوا إلى موقعٍ آخر من مواقع الدعوة، وهو موقع نشر الدعوة بالطريقة السلمية، هذا أيضاً فتح.
أعطيت فرصة لمن أسلم في مكة المكرمة أن يتحرَّك أيضاً وفق منهج إسلامه دون ضغطٍ أو تعذيبٍ أو ما شاكل ذلك، الناس عاشوا في راحةٍ نفسية، وتحرَّك المسلمون تحركاً كثيفاً في نشر هذا الدين، وأُنقذ من أنقذ من مسلمي قريش الذين كانوا يُخفون إيمانهم، كل هذا الخير نتج من خلال هذا الصلح الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، والذي كان هذا الصلح سبباً لفتح مكة، ولنصر المسلمين النصر الحاسم.
صلح الحديبية درسٌ على مرّ الأجيال للمسلمين:
﴿
أي هذا الجُهد الجهيد الذي بذله النبي وأصحابه الكرام في عمرة بيت الله الحرام، ثم في الصلح، ثم حينما بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام على الموت في سبيل الله:
﴿
النبي عليه الصلاة والسلام أرسل سيدنا عثمان، قلت لكم قبل قليل جرت مفاوضات عن طريق تبادل الرسل بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين قريش، من سلسلة هذه المفاوضات وهذه المهمات أرسل النبي عليه الصلاة والسلام لحكمة بالغة سيدنا عثمان إلى قريش، تأخَّرت عودته أياماً ثلاث، فغلب على ظن المسلمين أنه قُتل، لذلك بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام بيعة الرضوان، وقد نزل فيها القرآن قال:
شيءٌ آخر: هو أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد الصلح صارت هناك بحبوحة، والناس عاشوا في راحةٍ نفسيةٍ، وسلامٍ، وأمنٍ، وتوجَّهت كل طاقتهم إلى نشر الدعوة بدل توجيه طاقاتهم إلى صَدِّ العدوان، وفرقٌ كبير بين أن تشتغل في صدّ العدوان، وبين أن تشتغل في نشر الدعوة، هذه المعاني التي استنبطت من صلح الحديبية، لكن هذا لا يمنع أن نعود إلى قراءة في صلح الحديبية في كتب السيرة، هناك دقائق وتفصيلات أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتاح لي في الدرس القادم أن نأتي عليها واحدة واحدة، وأن نستنبط منها المواعظ والعبر، وكيف أن الله سبحانه وتعالى لا يتخلَّى عن دينه أبداً، هذا دين الله، وكأن صلح الحديبية بشكلٍ أو بآخر درسٌ على مرّ الأجيال للمسلمين، أي إذا جاءت الأمور على غير ما تشتهون فلا تحزنوا ولا تقلقوا فالعاقبة خير، إذا جاءت الأمور في العالم الإسلامي على غير ما يشتهي المسلمون، إذا توهَّم المسلمون أن المسلمين لن تقوم لهم قائمة فهم واهمون، إذا توهم المسلمون أن هناك كيداً تزول له الجبال، يكاد به للمسلمين ينبغي للمسلم ألا يقلق، لأن هذا الدين دين الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يتخلَّى عن دينه، وسوف يرى الناس جميعاً كيف أن الذي آلمنا من واقع المسلمين ربما كان سبب نصرهم وتقدُّمهم.
الحكم من الأحداث التي جرت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام:
درس الحديبية درس يفيدنا كثيراً في كل الأزمان، قلت لكم عوداً على بدء إن الأحداث التي جرت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الأحداث إنما وقعت لحكمة بالغة، ووقعت لحكمتين، الأولى تعليمية؛ والثانية تشريعية، فالإنسان حينما يقرأ التاريخ يستنبط منه قوانين تعينه على التعامل مع واقعه، لذلك قراءة التاريخ فيها موعظة كبيرة جداً، اقرأ التاريخ ترَ أن التاريخ يعيد نفسه، وترَ أن الإنسان هو الإنسان، وأن الخير هو الخير، وأن الشر هو الشر، وأن الإيمان هو الإيمان، وأن الكُفر هو الكفر، وأن التاريخ يعيد نفسه، وبإمكانك إذا قرأت التاريخ أن تستنبط من قراءة التاريخ المواعظ والعِبَر التي تعينك على فهم الواقع، فصلح الحديبية في ظاهر بنوده تنازلٌ من المسلمين، لكن في حقيقته سببٌ لنصر المسلمين النصر المؤزر، ولفتح مكة الفتح المبين:
مغفرة ذنب النبي مغفرةٌ وقائية:
﴿
قالوا: ذنب الأنبياء له تعريفٌ خاص، أولاً: ترك الأولى، وقد قال بعضهم: إن مغفرة الذنب للنبي مغفرةٌ وقائيَّة، بمعنى أن اتصال النبي بالله عزَّ وجل الاتصال الشديد ينفي عنه الذنب، فإما أن يغفر الذنب بعد وقوع الذنب، وإما أن يحصل الاتصال بالله عزَّ وجل بحيث لا يقع معه ذنب، إما أنه مغفرةٌ وقائية وإما أنه ترك الأولى، لكن الثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ قبل النبوة وبعدها، معصومٌ في كل أقواله وأفعاله وإقراراته، ولأن النبي معصوم معنى أنه معصوم أن كل ما قاله حق، في غضبه وفي سروره، لو أنه غير معصوم في أثناء الغضب ينبغي أن نتحرَّى حالات الغضب التي غضب بها حتى نحذف الأحاديث التي قالها وهو غاضب، لكن علماء العقيدة يؤكِّدون بتصريحٍ من النبي عليه الصلاة والسلام أنه معصومٌ في كل أقواله وأفعاله وإقراره، إذاً المغفرة هنا من نوع آخر، مغفرة ذنب النبي مغفرةٌ وقائية،
القلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء:
﴿
هذه السكينة أيها الإخوة شيء يصعب تعريفه، شعورٌ لا يعرِفه إلا من ذاقه، شعور بالأمن، منقطع النظير، شعور بالرضا، شعور بالسعادة، قال النبي الكريم: عن أنس رضي الله عنه:
(( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. ))
في آية أخرى تقول:
﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا
معنى ذلك أن الرعب شيء يخلقه الله خلقاً ويقذفه في القلب، فالقلب أحياناً يمتلئ رعباً، يمتلئ خوفاً، يمتلئ قلقاً، يمتلئ ضيقاً، يمتلئ ضَجَراً، يمتلئ سَأَماً، من الذي خلق فيه السأمَ والضجر والضيق والقلق والخوف والرعب؟ الله جلَّ جلاله، والقلب يمتلئ طمأنينةً، يمتلئ رضاً، يمتلئ استقراراً، يمتلئ تفاؤلاً، يمتلئ استبشاراً، هذا القلب بيد الله عزَّ وجل، فالإنسان المؤمن المستقيم، الخاضع لله، المنيب إليه، المطبِّق لمنهجه، يملأ الله له قلبَه طمأنينةً، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
السكينة أحد أكبر الحوافز للإيمان بالله:
لذلك أحد أكبر الحوافز إلى الإيمان تلك السكينة التي يتفضَّل الله بها على المؤمن، هذه السكينة تُعْطيه طاقةً على الصبر عجيبة، تعطيه طاقةً في التحرُّك عجيبة، تعطيه حافزاً إلى البذل عجيباً، تعمل له حافزاً، طاقة صبر، طاقة حركة، صبر وحركة وحافز بهذه السكينة، فلذلك إذا رأيت المؤمن متمَكِّناً في طريق الإيمان، ساعياً إلى مرضاة ربه الكريم، منطلقاً إلى طاعته، متحمِّلاً كل الشدائد في سبيله، لا تستغرب، لأن الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبه السكينة، يعبِّر عنه بعضهم بالأحوال؛ لك حال مع الله، استقامتك تنقلك إلى حالٍ مع الله طيِّب، استقامتك تجعلك شُجاعاً، استقامتك تجعلك متماسكاً،
المؤمن مع قناعاته الفكرية هناك مشاعر يشعر بها تزيده صلةً بالله وحباً له:
ثم يقول تعالى :
﴿
الإيمان الأول إيمان القناعة، أما الإيمان الثاني فإيمان السعادة، أنت أحياناً تقنع بالشيء ثم تنتفع به، انتفاعك به يزيدُك على إيمانك الفكري به إيماناً، هذه السكينة ضاعفت من ثقتهم بالله عزَّ وجل، ضاعفت محبَّتَهُم لله عزَّ وجل، ضاعفت بَذْلَهُم وتضحيتهم، لذلك أقول لكم: إذا رأيت مؤمناً متمسِّكاً بأسباب الفَوْزِ في الدنيا، إذا رأيت مؤمناً متمسكاً بهذا الدين، لا تظن أن قناعاته وحدها حملته على هذا التمَسُّك، يجب أن تعتقد أن مع قناعاته سعادةً لمسها في قلبه، النبي الكريم يقول: عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
(( ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. ))
من غضّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوة في قلبه إلى يوم يلقاه، أي المؤمن مع قناعاته الفكرية هناك مشاعر يشعر بها، هذه المشاعر تزيده صلةً بالله وحباً له، هذا معنى الآية:
القلب يملؤه الله بحسب عمل الإنسان وإخلاصه واستقامته:
بالمقابل الكفار:
الله عزَّ وجل له جنود لا يعلمها إلا هو:
الفوز الحقيقي يكون بدخول الجنة:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ
إخواننا الكرام؛ كلمة دقيقة جداً:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ
سبب عدم خروج المنافقين مع الرسول الكريم ليعتمروا:
﴿
المنافقون حينما خرج النبي عليه الصلاة والسلام ليعتمر مع أصحابه الكرام، ودُعِي بعض هؤلاء للخروج معه امتنعوا، لماذا؟ لأنهم ظنوا أنهم حينما يتجِّهون إلى مكة المكرمة فقريش تقتلهم عن آخرهم، ظنوا أن النبي لن يعود، نسوا أن هذا رسول الله، وأن زوال الكون أهون على الله من أن يتخلَّى عن رسوله، قال:
﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)﴾
أيها الأخوة الكرام؛ هذه الآيات فيها إشاراتٌ دقيقة إلى ما جرى للنبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، وأرجو الله سبحانه وتعالى في الأسبوع القادم أن نعود إلى هذا الصلح، وإلى ملابساته، وإلى أسبابه، وإلى نتائجه، فإن دراسة سيرة رسول الله في هذه الآيات بالذات تلقي ضوءاً كاشفاً وضَّاحاً على مدلول هذه الآيات.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين