- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (048)سورة الفتح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ضعف قريش واستعطاف النبي عليه الصلاة والسلام في الصلح:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة الفتح، وأحبّ أن أنوه إلى أن سورة الفتح وبعضاً من سورة محمد صلى الله عليه وسلم متعلقتان -هاتان السورتان- بصلح الحديبية، آيات كثيرة في السورتين تشيران إلى صلح الحديبية وقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية فتحاً حينما قال الله تعالى:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾
ورأيت قبل درسين أنه لا سبيل إلى فهم الآيات فهماً دقيقاً عميقاً إلا أن نقف على هذا الصلح الذي سماه الله فتحاً عظيماً، مبيناً أن أسباب النزول تلقي ضوءاً كاشفاً على حقيقة الآيات، وقد كان الدرس الماضي فيما تعلمون عن جانب من صلح الحديبية وأنهينا بيعة الرضوان التي قال الله فيها:
﴿
وهذا الرضا تقريري وكنت قد بينت سابقاً أنك إذا قلت: فلان الفلاني رضي الله عنه، هذه دعائية، أما إذا قلت: الصحابي فلان رضي الله عنه، فهذه تقريرية، وشتان بين الدعاء وبين التقرير.
الآن محمد بن سلمة رضي الله عنه كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية، بعثت قريشٌ أربعين أو خمسين رجلاً عليهم مِكْرَز بن حفص-قائد هذه الحملة الصغيرة- وقال عليه الصلاة والسلام في حقّ مِكْرز:
﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام رحيمٌ بالخلق عامةً حتى الكُفَّار:
إذاً هذا الصلح من فعل الله مباشرةً، كفّ أيدي قريش عن النبي وأصحابه، وكفّ أيدي النبي وأصحابه عن قريش، لحكمةٍ سوف نراها بعد قليل، ما مغزى هذه القصة إلا أن نوقن أن الأمر كله بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى بيده الخير في كل الأحوال، وأن الشيء الذي يُزْعِجنا ونكرهه ربما كان خيراً لنا.
النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سهيل بن عمرو فَهِم كل شيء، كان عليه الصلاة والسلام فطناً، لما رأى سهيل بن عمرو رئيساً الفوج في الوفد المفاوض فَهِم كل شيء، قال:
هناك نقطة أيها الإخوة؛ النبي عليه الصلاة والسلام رحيمٌ بالخلق عامةً حتى الكُفَّار، لا يريد قتالهم بقدر ما يريد هدايتهم، وكلما اشتدت الرحمة في قلب الإنسان صارت رحمته تَنْصَبُّ على أعدائه، هو لا يريد إبادتهم، الحروب الحديثة الآن حروب إبادة، حروب منافع، حروب مكاسب، لكن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
﴿
إزالة الفتن وإقامة شرع الله هو الهدف الشريف والنبيل من الحروب الإسلامية:
الهدف الشريف والنبيل من الحروب الإسلامية إزالة الفتن، وإقامة شرع الله، الشيء الذي يَلْفِت النظر أن أبا سفيان لم يرد ذكره إطلاقاً في صلح الحديبية، إذ أنه كان غائباً في بعض تجاراته، والأرجح في اليمن لتعطُّل طريق تجارة قريش إلى الشام- كان أبو سفيان مسافراً إلى اليمن- الآن دخلنا في المفاوضات.
كان من تعليمات قريشٍ إلى رئيس وفدها جليةً واضحة، ائت محمداً وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، أول شرط أصرَّت عليه قريش أن يرجع محمدٌ عن العمرة في هذا العام، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوةً أبداً، أي حفاظاً على ماء الوجه، إن قريشاً لا تحتمل أن يأتيها محمدٌ عليه الصلاة والسلام وهي التي أخرجته من مكة أن يأتيها ليعتمر البيت عنوةً وقسراً، فالرؤية واضحة في فكر ونفس سهيل بن عمرو، وهي أوضح في نفس النبي عليه الصلاة والسلام.
الغاية التي سعى سهيل بن عمرو لتحقيقها هي الصلح وإبعاد الحرب:
أقبل سهيلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: أراد القوم الصلح حينما بعثوا هذا الرجل، وكلكم يعلم أن من صفات الأنبياء الفطانة، والفَطِن سريع الإدراك، يدرك السطور وما بين السطور وما خلف السطور، يدرك الوقائع وما خلف الوقائع، يدرك البواعث العميقة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى سهيلاً، قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، سهيل بن عمرو قال: يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك- عثمان والعشرة- وما كان من قتال من قاتلك- مكرز- لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولاً وثانياً، هذا الذي حدث من حجز عثمان وأصحابه ومن كتيبة مكرز ومن فعل الذين جاؤوا بعده هذا لم يكن من رأينا بل كان من رأي سفهائنا، يقول لك: سوء تصرف، ممارسات خاطئة، وهنا يُلْمَسُ في كلام سهيل المدخل اللطيف ففيه لينٌ وتوددٌ حتى وتراجعٌ، وغاية سهيل تحقيق الهدف الذي جاء من أجله ألا وهو الصلح وإبعاد الحرب، يبدو أن قريشاً أيقنت –كما قلت قبل قليل- إن بيعة الرضوان كان لها تأثير كبير معنوي سلبي في نفوس قريش، أصحاب النبي كرجلٍ واحد وقفوا معه صفاً واحداً، وبايعوه على الموت.
الشيء الثاني ما ذكره الرسل الثلاث من أخبارٍ طيبة، من أن أصحاب رسول الله ما جاؤوا يبتغون حرباً، والشيء المهم أن أسر الخمسين وأسر الباقين جعلهم يشعرون أنهم فيما لو التحم الفريقان فالنصر للمسلمين، وقد أشارت الآية الكريمة:
﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ
أولاً: سهيل أراد إطلاق سراح الأسرى القرشيين، لكن هؤلاء الأسرى كانوا ورقةً رابحةً بيد النبي عليه الصلاة والسلام، وأمام مطلب سهيل بن عمرو قال عليه الصلاة والسلام: "غير أني لا أرسلهم حتى ترسلوا أصحابي"، فقال سهيل: نفعل، إذاً صار تبادل أسرى، فبعث إلى قريشٍ بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم، عثمان والرجال العشر، فأطلق عليه الصلاة والسلام أسرى قريش ولم يسلبهم- لم يأخذ منهم شيئاً- بل مَنَّ وعفا عنهم وصَفَح، فمن دخل مكة من المسلمين لا يؤسَرْ ولا يحتجز لأنهم وفدٌ مفاوض.
حنكة النبي وانصياعه لأمر الله عزَّ وجل:
الآن سوف ترون معي حنكة النبي، ورحمة النبي، وحكمة النبي، وبُعد نظر النبي، وأدب النبي مع الوحي، وانصياعه لأمر الله عزَّ وجل، وهذا الصلح يكاد يكون أمراً من الله، فيه استسلامٌ لمشيئته، لكن الخير كله فيما كان بعده، قال: جثا سهيلٌ على ركبتيه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون حوله جلوس، وتكلَّم وأطال، وكان عَبَّاد بن بشر يقول: اخفض صوتك عند رسول الله، أحياناً الكافر لا يعرف قدر النبي، ولا يعرف مكانته العظيمة، فيكلمه كلام ندٍ لند، قد يرفع صوته، فقال له عروة: اخفض صوتك عند رسول الله، يقول عليه الصلاة والسلام لسهيل: خلّوا بيننا وبين البيت نطوف به، فقال سهيل: لا والله لا تتحدث العرب بنا أنَّا أُخذنا ضغطة ولكن ذلك في العام القابل، النبي عليه الصلاة والسلام امتاز ببعد النظر، ودقة التقدير، ثم حينما أراد سهيلٌ أن يكتب العقد كما يراه ويتصوَّره لا كما يراه النبي فتساهل عليه الصلاة والسلام معه.
أحياناً الإنسان يتساهل بشيء، هذه ملاحظة، أحياناً في الصلح بين الزوجين، الإنسان كبير العقل والنفس والقلب يهمُّه التئام الزوجين، يهمه الأولاد، يخاف من تشريد الأولاد، لذلك المُفاوض في شؤون الصلح بين الزوجين قد يتساهل في بعض الأمور فيُلام على تساهله، هدفه كبير جداً، هدفه عالٍ جداً، هدفه أن يتَّفِق الزوجان، والأمور المادية لا قيمة لها، أما حينما ندقق بالتفاصيل، ونجعل من هذه التفاصيل عقبةً كؤوداً فعندئذٍ لا يعنينا هذا الهدف النبيل، يعنينا الانتصار، والتحدي، وتنفيذ القول، فحينما نرى أن النبي عليه الصلاة والسلام تساهل كثيراً مع سهيل بن عمرو لا لضعفٍ به، ولا لضعفٍ في أصحابه، ولا لضعفٍ في تأيِيده في قتالهم، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد هداية قريش، أراد أن يريح أصحابه سنواتٍ طويلة، وأن يلتفت إلى الدعوة إلى الله عزَّ وجل، وأراد أن يُلَيِّن قلب القُرَشيين.
موقف عمر بن الخطاب من العقد بين النبي الكريم وكفار قريش:
سيدنا عمر كما تعلمون كان شديداً، هو عملاق الإسلام، ولكم كما قال عليه الصلاة والسلام: أعزَّ الله به المُسلمين حينما أسلم، فدائماً يمَثِّل الجانب القوي، يمثل الصقور بالتعبير الحديث، سيدنا عمر حينما رأى أن العقد سيكتب وفق ما يمليه سهيل لا وَفْقَ ما يمليه رسول الله عليه الصلاة والسلام تألم أشدّ الألم ووثب، فأتى أبا بكر رضي الله عنه وقال:
شروط العقد الذي أبرم بين النبي عليه الصلاة والسلام وسهيل بن عمرو:
ثم دعا النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب ليكتب فقال:
يروي التاريخ أنه لما صار صلحٌ بين عليّ رضي الله عنه وكان أمير المؤمنين ومعاوية، رفض كاتب الصلح أن يكتب: هذا ما اتفق عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال له: ولك مثلها، هذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم اتفق النبي عليه الصلاة والسلام وسهيل بن عمرو على أن تضع الحرب أوزارها عشر سنين تأمن فيه الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريشٍ ممن هو على دين محمدٍ بغير إذن وليِّه رُدَّ إليه ذكراً كان أو أنثى، ومن أتى قريشاً ممن كان مع محمدٍ مرتداً ذكراً كان أو أنثى لن تردَّه قريش، لا توجد معاملة بالمثل، وشرطوا أنه من أحبَّ من القبائل أن يدخل في عقد محمدٍ وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريشٍ وعهدها دخل فيه، وأن بيننا وبينكم هُدنةً.
وقال سهيل:
كُتب الكتاب فأخذه رسول الله ونُسخ مثله لقريش، نسخه محمد بن سلمة رضي الله عنه لسهيل لأن سهيلاً قال:
وعند كتابة هذا العقد عَقْد الصلح بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين سهيل بن عمرو قال المسلمون: سبحان الله! كيف نرد للمشركين من جاء مسلماً وعَسُر عليهم هذا الشرط، وكان مما قال عمر رضي الله عنه: أترضى بهذا يا رسول الله؟ فتبسَّم عليه الصلاة والسلام وقال:
قصة أبي جندل مع النبي صلى الله عليه وسلم:
وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمروٍ يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذ أبو جندل، ولهذا قصة رائعة جداً، وهذه إن شاء الله في درس قادم نأتي على تفاصيلها، من أبو جندل؟ ابن سهيل بن عمرو، جاء مسلماً، يرسف في القيود، قد أُفلت إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فجعل المسلمون يرحِّبون به ويهنئونه، فلما رأى سهيلٌ ابنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه بغُصنٍ من شجرةٍ بها شوكٌ ضرباً شديداً، حتى رَقَّ عليه السلمون وبكوا، وأخذ سهيل بتلابيب أبي جندل وقال: يا محمد هذا أول ما أقاضيك به -شروط جديدة- وأن ترده إليّ، لقد لَجَّت القضية بيني وبينك، أي انتهت، وقّعنا وانتهينا، يجب أن تنفذ العقد، فقال عليه الصلاة والسلام:
﴿
النبي قَصَّ عليهم رؤياه، أيقنوا جميعاً أنهم داخلون مكة، الآن لا توجد مكة، ولا يوجد عمرة، وسوف يعودون إلى المدينة، وهذا الذي جاء مسلماً عليهم أن يردوه، تألَّم السلمون أشدّ الألم ودخل عليهم همٌ عظيم، رُد أبو جندل إلى قريش بعد أن ضربه أبوه ضرباً مبرحاً، فقال عليه الصلاة والسلام لأبي جندل:
ولما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من الصلح أشهد عليه رجالاً من المسلمين، هم: أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن سلمة، ورجال من قريش، حويطب ومكرز، وقام إلى هديه صلى الله عليه وسلم وفيه جملٌ لأبي جهل، كان نجيباً في رأسه حلقةٌ من فِضَّة غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ونفر هذا الجمل ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي سفيان، وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يردّوه، لم يدخل الجمل في العقد، حتى أمرهم سهيل بن عمرو بشرائه، فدفعوا فيه عدة ثياب، فقال عليه الصلاة والسلام:
المشاورة من السنَّة:
الآن بقي في هذا الصلح شيءٌ دقيق، لما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من كتابة الصلح أمر المسلمين بالنحر والحلق وذلك ثلاث مرات، يبدو أن الصحابة الكرام تألَّموا أشدّ الألم من هذه البنود، ورأوا فيها إحباطاً لطموحهم بدخول مكة والطواف حول البيت فتلكؤوا في تنفيذ هذا الأمر قليلاً، النبي عليه الصلاة والسلام دخل على أم سلمة وهو شديد الغضب فاضطجع، فقالت:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وقال:
﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وقال الله عزَّ وجل:
﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
إذاً المشاورة من السنَّة، وها هي أم سلمة تشير على النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقف منها الموقف المشرِّع، هو حينما استشارها شرع لنا ذلك.
تسمية الصلح مع قريش بالفتح المبين:
خرج النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ حربةً وقصد هديه، وأهوى بالحربة إلى البُدن رافعاً صوته: بسم الله الله أكبر، ثم دعا خُراش بن أمية الخُزاعي فحلق رأسه الشريف ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وحلقوا وقَصَّر بعضهم، فدعا عليه الصلاة والسلام للمحلِّقين ثلاثاً قال: عن عبد الله بن عمر:
(( رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ، قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: رحمَ اللَّهُ المحلِّقينَ، قالوا: والمقصِّرينَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: والمقصِّرين. ))
عندئذٍ أقام المسلمون في الحديبية بضعة عشر يوماً، وقيل: أقاموا عشرين يوماً، ثم انصرفوا إلى المدينة، وكان عمر بن الخطاب يسير مع رسول الله ليلاً فسأله عمر عن شيءٍ فلم يجبه النبي، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر يخاطب نفسه:
بنود الصلح ليست في صالح المسلمين فيها تنازلات كثيرة ولكنه أمر من الله:
على أن الصحابة تضايقوا وتألَّموا وأحبطوا، وشعر أحدهم أنه لم يعتمر، ولم يطف بالبيت، وعاد خائباً، وأن الصلح بنوده ليست في صالح المسلمين، فيها تنازلات كثيرة جداً، ولكن النبي قال: أنا عبد الله ورسوله، أفعل ما يأمرني الله به. ثم جاء قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(10)﴾
ثم يقول الله عزَّ وجل في الطريق إلى المدينة بعد صلح الحديبية:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾
الحكمة من الصلح:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)﴾
﴿
الهدي كان معكم، وأنتم أردتم بيت الله الحرام، صدّوكم عن المسجد الحرام، انظر إلى الحكمة:
﴿
عدم فهم سورة الفتح إلا بقراءة أسباب النزول:
النبي كان هادئاً جداً، شرط مهين لا يوجد مانع، تنازل، محو اسمه من الرسالة لا يوجد مانع، من جاء مسلماً يُرَد، من جاء مرتداً لا يُرَد، كل هذه الشروط لم يفهمها الصحابة:
﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)﴾
أرأيتم إلى أن هذه الآيات يَصْعُب تفسيرها من دون أن نعلم القصة على حقيقتها، لذلك أحياناً هناك آيات لا تُفهم إلا بأسباب النزول، سورة الفتح بأكملها وبعضاً من سورة محمد عليه الصلاة والسلام لا نفهمها إلا إذا قرأنا أسباب النزول.
صلح الحديبية من أعظم الفتوح:
لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: نُهَنِّئُك يا رسول الله، وهنَّأه المسلمون، وتكلم بعض الصحابة وقالوا: ما هذا بفتحٍ – الله سماه فتحاً- لقد صددنا عن البيت؟! فقال عليه الصلاة والسلام لَمَّا بلغه ذلك:
الآن النبي حلّ هذا الموضوع، أن قريشاً أصبحت نداً لكم، طلبوا منكم الصلح، وهادنوكم، وخضعوا لكم، ولانوا لكم، وعُدتم سالمين غانمين، ثم قال النبي: أنسيتم يوم أحد؟
﴿
أنسيتم يوم الأحزاب؟
﴿
أنسيتم ذلك؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكَّرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا، هذا هو الملخص، عندئذٍ الصحابة استسلموا، ما فكرنا فيما فكرت أنت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
الله سبحانه وتعالى ناصر دينه وناصر المؤمنين ولو بعد حين:
هناك رواية في ختام الدرس، لما صُدوا قال سيدنا عمر: أين الرؤيا يا رسول الله؟ كيف نفسِّر الرؤيا إذاً؟ وهذا يمثل منتهى الجرأة والحرية الفكرية، فأنزل الله عزَّ وجل:
﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)﴾
سيدنا عمر قال:
على كلّ حال هذا درس بليغ، أحياناً يكون الوحي هو الذي يأمر وينهى، ملخص الموضوع كله:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
قد يقول أحدكم: لماذا الإسلام مُحارب في العالم كله؟ والله الذي أراه أن الخير في النهاية للمسلمين، وأن هذا الدين سوف يظهره الله على الدين كله، وأن الإسلام يكسبُ أضعاف ما يخسر الآن، ألا ترى إلى أن الإسلام أصبح القضية الأولى في العالم؟ الأولى، ألا ترى أن العالم كله فرز فريقين؟ مسلم وغير مسلم، الذي نقيسه على هذا الصلح أن الله عزَّ وجل لا يتخلى عن دينه، وله حكمةٌ قد نعرفها وقد لا نعرفها، ينبغي أن نستسلم، والله سبحانه وتعالى ناصر دينه وناصر المؤمنين.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين