- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (048)سورة الفتح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الفتح المُبين هو صلح الحديبية:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من دروس تفسير سورة الفتح، وفي الدروس السابقة الثلاث التي كانت في رمضان توضحت لكم تفاصيل صلح الحديبية، وأردت من هذه المقدمة في السيرة أن تتضح الآيات المتعلقة بهذا الصلح في هذه السورة، فبعض آيات القرآن الكريم متعلقة بحوادث وملابسات وقعت في عهد النبي، فالطريق إلى فهم هذه الآيات هو دراسة هذه الأحداث وتلك الملابسات، وقد تمّ هذا في رمضان بفضل الله عز وجل، وهذه الآيات في سورة الفتح وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾
في أرجح الأقوال هذا الفتح المُبين هو صلح الحديبية، ذلك أن المسلمين بعد هذا الصُلح برز لهم كيانٌ مستقلٌ، واعترف الخصوم بهم كقوةٍ مستقلةٍ في الجزيرة العربية، ودخل في دين الله في سَنَتي صلح الحديبية ما لا يدخل في الإسلام منذ نشأته.
كلكم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما خرج مع أصحابه في صلح الحديبية كانوا لا يزيدون عن ألفٍ وأربعمئة رجل، أما في فتح مكة صاروا عشرة آلاف رجل، كل هذا في هذه السنوات المعدودة التي كان فيها صلح الحديبية، لذلك الله جلَّ جلاله عدَّ هذا فتحاً مبيناً.
الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور ويتولى أمر هذا الدين:
أحياناً تمر الدعوة الإسلامية بمراحل، من مراحلها الأولى القتال والحماس، وهناك مرحلة تحتاج إلى سلمٍ، وإلى طمأنينة، وإلى استقرار، كي ينشط الدعاة إلى الله عزَّ وجل في نشر معالم هذا الدين، لذلك ربنا سبحانه وتعالى عدَّ هذا الصلح صلح الحديبية فتحاً مبيناً:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)﴾
الله جلَّ جلاله هو الذي يدبِّر الأمور، وهو الذي يربي نبيه وأصحابه الكرام، وهو الذي يتولى أمر هذا الدين، فالإنسان إذا آمن أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه إليه يُرجع الأمر كله، وأن أفعاله كلها فيها حكمةٌ ما بعدها حكمة، وعلمٌ ما بعده علم، إذا أيقن الإنسان بهذه الحقائق عندئذٍ يستسلم لقضاء الله وقدره، ولتدبيره وتسييره.
النصر الذي أكرم الله به نبيه كان نصراً عزيزاً:
المشكلة أن النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما فعله في صلح الحديبية كان يستلهم التوجيه من الله عزَّ وجل، لذلك قال: إني رسول الله ولن يضيِّعَني، لكن الصحابة الكرام حينما تألموا لبعض الشروط في صلح الحديبية انطلقوا من أن الأمر الذي تمّ بين النبي وبين الأعداء كان عن اجتهادٍ أو عن رأيٍ ومكيدة، الأمر خلاف ذلك، النبي عليه الصلاة والسلام كان يتلقَّى الأوامر التفصيلية من الله عزَّ وجل، لذلك كان الذي حدث من أن بعض الصحابة تألم لهذه البنود، النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفذ أمر الله عز وجل، وأوضح مثالٍ على ذلك أن ناقته حينما وقفت قالوا: خلأت، قال: ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل.
والذنب في حقّ النبي له معنى خاص، قال بعضهم: ترك الأولى، على كل لعظم شأن النبي الشيء الذي يُعدّ حسنات عند الصحابة ربما عدّه الوحي في حق النبي ذنباً، وهناك تفسيرات كثيرة أفضنا في شرحها في دروس سابقة حول ذنب النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)﴾
الحقيقة وصِفَ النصر هنا بأنه عزيز، أحياناً الإنسان ينتصر نصراً غير عزيز، نصر لجهاتٍ معيَّنة يدٌ في هذا النصر، هناك تدخلات في هذا النصر، هناك منة في هذا النصر، لكن النصر الذي أكرم الله به نبيه كان نصراً عزيزاً.
نزول السكينة على قلب المؤمن يشعره بالسعادة والطمأنينة:
ثم قال تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ
هذه السكينة تحدثنا عنها كثيراً، هذه السكينة إذا نزلت على قلب المؤمن شعر بسعادةٍ ما بعدها سعادة، وشعر باستقرارٍ وطمأنينةٍ ما بعدها طمأنينة، والذي يعين المؤمن على سلوك طريق الإيمان ليست قناعاته الفكرية فحسب بل تلك السكينة التي ينزلِّها الله على قلبه، هذه السكينة تحول بينه وبين الضعف، والوهن، والنفاق، والتملُّق، وضياع الذات، كل أعراض الإعراض تبدو مقيتةً في حياة الإنسان، لكن الإنسان إذا تنزَّلت على قلبه السكينة صار إنساناً آخر.
الإنسان خُلِقَ لجنةٍ عرضها السماوات والأرض وجميع المصائب ردعٌ له:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)﴾
أي هناك جنود لا نراها، أحياناً الله جلَّ جلاله ينزِّل ملائكةً يثبِّتون الذين آمنوا، هناك تصرفات كثيرة جداً لا نعلمها ولا نراها، وهذا من قبيل:
﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية هي علة وجود الإنسان، خُلِقَ الإنسان لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وجميع المصائب التي على وجه الأرض إنما هي ردعٌ للإنسان عن طريق هلاكه، ودفعٌ إلى طريق سعادته.
الفوز العظيم أن تنتهي من الدنيا إلى جنة الله التي أعدَّها لعباده المؤمنين:
﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا(5)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ما الفوز العظيم في نظرك؟ إن لم يكن الفوز العظيم في نظرك مُطابقاً للفوز العظيم في هذه الآية فأنت بعيدٌ عن الإيمان، الفوز العظيم أن تدخل الجنة، لهذا يقول سيدنا علي كرم الله وجهه:
مهما تمتَّعت في الدنيا، مهما نِلْتَ من مالها، ومن شهواتها، ومن مغانمها، ومن مكاسبها، إذا انتهت الدنيا بالإنسان إلى النار فهذا ليس بخير، ومهما ساق الله للإنسان من مصائب، مهما تحمَّل من مشاق، إذا انتهت به الدنيا إلى الجنة فهذا ليس بشر، لذلك المؤمن حينما يأتيه ملك الموت ويريه الله مقامه في الجنة، يقول: لم أر شراً قط، ينسى كل متاعب الحياة، ينسى كل المَشاق التي تحمَّلها، ينسى كل الهموم التي عاناها، وحينما يرى الكافر مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، فلذلك الفوز العظيم أن تنتهي من الدنيا إلى جنة الله التي أعدَّها لعباده المؤمنين، والآية واضحة جداً،
الآخرة شيء عظيم على الإنسان أن يسعى لها:
كل أفعال الله، وكل تصرُّفاته، وكل تدبيراته، من أجل أن يدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.
يا أيها الإخوة الكرام؛ يقول عليه الصلاة والسلام: عن المستورد بن شداد:
(( ما أَخذتِ الدُّنيا من الآخرةِ إلَّا كما أخذ المِخْيَطُ غُمِسَ في البَحرِ من مائِهِ. ))
هذا كلام النبي، والنبي لا ينطق عن الهوى، أحياناً الإنسان يستمع إلى النص، لا يقف عند دقائقه، يفهمه فهماً إجمالياً، أي الآخرة شيء عظيم، لا، يقول عليه الصلاة والسلام:
﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
فلذلك الفوز العظيم دائماً وأبداً وازن بين تصورك للفوز العظيم وبين الفوز العظيم الذي ذكره الله في القرآن الكريم، إذا كنت تتوهم أن الفوز العظيم بزوجةٍ، أو بمنزلٍ، أو بمكانةٍ، أو بمالٍ، فهذا التصور مناقض لما في كتاب الله.
المؤمن الكامل يُحسن الظن بالله لأن الله جلَّ جلاله لن يدع المؤمنين لخصومهم:
﴿
حينما دعا النبي المنافقين إلى أن يذهبوا معه إلى العمرة قبيل صلح الحديبية ظنوا أن قريشاً لن تدع النبي ستقاتله، والنبي لن يعود إلى المدينة، ولن يعود أصحابه إليها، ظنوا بالله ظن السوء، ظنوا أن الله سيتخلَّى عن هذا الدين العظيم، سيتخلى عن نبيه، سيتخلى عن المؤمنين، هؤلاء المشركون والمشركات:
﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
المؤمن الكامل يُحسن الظن بالله عزَّ وجل، يقول: الله جلَّ جلاله لن يدع المؤمنين لخصومهم، الله جلَّ جلاله لن يُديل الكفر على التوحيد، لن يُديل الشرك على الإيمان، لن يسمح لأعدائه أن يستمروا في قوتهم إلى ما شاء الله، يعطيهم جولةً ليمتحنهم لكن العاقبة للمتقين، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر أن المنافقين حينما دُعوا ليكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العمرة المباركة رفضوا لظنِّهم أن النبي عليه الصلاة والسلام لن يرجع وأصحابه إلى المدينة سالمين، لما بين النبي وأصحابه من جهة وبين كفار قريش من عداوةٍ وحروبٍ طويلةٍ تمَّت من قبل.
ربنا عزَّ وجل القلوب بيده والمخلوقات بيده والملائكة بيده:
ثم يقول تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)﴾
أحياناً يكون مرضاً جلدياً، الفيروس الذي يصيب هؤلاء المنحرفين بنقص المناعة المُكتسب أليس هذا الفيروس من جنود الله عزَّ وجل؟ وهذا الفيروس أضعف مخلوق على الإطلاق، ومع ذلك أوروبا وأمريكا بأكملهما، بكل طاقتهما، وبكل إمكاناتهما، لا يستطيعان أن يوقفا هذا الفيروس عند حدِّه،
النبي الكريم يشهد يوم القيامة أمام رب العالمين على أمَّته استجابتهم أو رفضهم:
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)﴾
أي شاهداً على أمَّتك، أي أنت بلَّغتهم، كلنا إذا وقفنا أمام مقام النبي عليه الصلاة والسلام نقول: أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حقّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد، فكما أنك تشهد أن النبي بلَّغ الرسالة، النبي عليه الصلاة والسلام يشهد يوم القيامة أمام رب العالمين أنه بلَّغ الرسالة، يشهد على أمَّته استجابتهم أو رفضهم، يشهد على أمته إيمانهم أو كفرهم، يشهد على أمَّته استقامتهم أو انحرافهم، يشهد على أمَّته استجابتهم أو عدم استجابتهم:
من طبق شريعة الله عزَّ وجل وسَّع رقعة الحق وضيَّق رقعة الباطل:
﴿
أي تنصرونه، طبعاً تنصرون دينه، الله جلَّ جلاله غنيّ عن أن ننصره، لكنك إذا نصرت دينه فكأنما نصرت الله عزَّ وجل، أي إذا أقمت شرع الله في بيتك، خمس أسر متقاربة في سكناها أو في قرابتها، كلما طبقت الأسرة الإسلام في بيتها قَوِي الدين، أما إذا كل هذه الأسر لم تطبق، لو أن إحدى هذه الأسر طبقت الدين شعرت بأنها مع القلة، أدق معنى لنصر دين الله أنت إذا طبَّقت شريعة الله عزَّ وجل وسَّعت رقعة الحق، فإذا وسَّعت رقعة الحق ضيَّقت رقعة الباطل، هذا هو النصر.
أمثلة كثيرة جداً، تجار في سوق، لو أنهم جميعاً ما تعاملوا بالربا، صار الذي يتعامل بالربا شاذاً، صار مضيقاً عليه، أما لو أنهم تعاملوا جميعاً بالربا خذلوا دين الله عزَّ وجل، لو أراد أحدهم أن ينزه علاقاته المالية عن الربا صار شاذاً، نصر دين الله عزَّ وجل أي تطبيقه، إذا طبَّقت دين الله عزَّ وجل اتسعت رقعته وتنامت، وضيَّقت الباطل وحاصرته، أما إذا المسلمون استنكفوا عن نصرة دين الله عزَّ وجل فالباطل يتسع، والحق ينكمش ويحاصر، وعندئذٍ يصبح الأصل هو الباطل، والحق هو الاستثناء، هذا الشيء واضح جداً في العلاقات الاجتماعية، في الحفلات، في التعامل المالي، في التجارة، في البيع، في الشراء، إذا كل المؤمنين طبَّقوا الدين تطبيقاً صحيحاً أصبح الباطل هو الشاذ، هو الاستثناء، أما إذا المؤمنون قصَّروا وتهاونوا صار الأصل هو الباطل، والاستقامة هي الاستثناء.
من علامات الإيمان أن المؤمن يُعَظِّم شعائر الله وأوامره وكتابه:
لذلك:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
من علامات الإيمان أن المؤمن يُعَظِّم شعائر الله، يُعظّم أوامره، يُعظّم كتابه، يُعظّم رسوله، يُعظّم أصحاب رسوله، من لوازم الإيمان أنه إذا ذُكِر أصحاب النبي عليك أن تُمْسِك، أما هذا الذي يتطاول يقول: فلان وفلان وفلان أخطأ، وفلان عيّن أقرباءه، هذا تطاول، من علامة الإيمان أن توقِّر الله، وأن توقر نبيه، وأن توقر أصحاب النبي الذين أحبوا النبي وأحبهم النبي، هذه من علامات الإيمان، أن تُعظِّم شعائر الله، أن تُعظّم الأوامر الإلهية.
محبَّة النبي هي محبة الله وإرضاء النبي هو إرضاء الله حُكماً:
﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)﴾
﴿
لما الصحابة الكرام نُمِيَ إليهم أن سيدنا عثمان رضي الله عنه قُتِل، لذلك أراد النبي أن يتوثَّق من جاهزية أصحابه للقتال، فأقبل أصحابه وبايعوه كما مرّ بنا قبل درسين، بايعوه واحداً واحداً على الموت في سبيل الله، هذه البيعة في حقيقتها إنما هي بيعةٌ لله عزَّ وجل، القرآن الكريم يذكر كثيراً أن محبَّة النبي هي عين محبة الله، إرضاء النبي هو عين إرضاء الله، إرضاء الله عز وجل إرضاء للنبي حُكماً، لهذا من هذا القبيل يقول الله عز وجل:
الدين أعظم وأجلّ من أن يكون مرتبطاً بأشخاص لأنه مبدأ إلهي:
في الدين لا يوجد أشخاص، هناك مبادئ، والحقيقة كلما عَظُمَت المبادئ صغر الأشخاص، وكلما صَغُرَت المبادئ كَبُر الأشخاص، المؤمن الصادق عاهد الله، وعاهده على الطاعة، وعلى البذل، فلذلك هدفه كبير، من علامات ضعف التفكير ربط الدين بأشخاص، ومن علامات النضْج أن الدين أعظم وأجلُّ من أن يكون مرتبطاً بأشخاص معينين، الدين مبدأ إلهي، منهج من السماء إلى الأرض نسير عليه، فلذلك:
(( إذا سمِعْتُم المُؤذِّنَ فقولوا مِثْلَ ما يقولُ وصَلُّوا علَيَّ فإنَّه مَن صلَّى علَيَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه عَشْرًا،
وكلنا في الصلاة نقول:
الحب في الله توحيد والحب مع الله شرك:
لذلك الله عزَّ وجل في هذه الآية بيَّن أن نصرة النبي هي نصرةٌ لله عزَّ وجل، والبيعة للنبي إنما هي بيعةٌ لله عزَّ وجل، ومحبة النبي هي عين محبة الله عزَّ وجل، ذكرت ذلك سابقاً أنه هناك فرقٌ بين أن تُحِبَّ في الله وأن تحب مع الله، أن تحب في الله هذا عين التوحيد، وأن تحب مع الله هو شرك، لأنك تحب الله تحب نبيَّه، لأنك تحب الله تحب نبيه وصحابته، لأنك تحب الله تحب النبي والصحابة والمؤمنين، فمحبَّتك للصحابة الكرام محبةٌ في الله، محبَّتُكَ للمؤمنين محبةٌ في الله، محبتك للنبي محبةٌ في الله، أما إذا أحببت إنساناً لذاته فهذا حبّ مع الله، الحب مع الله شِرْك، والحب في الله توحيد، في حياة المؤمن لا يوجد تمايز، يحب الله ويحب النبي في الله ويحب أصحاب النبي في الله ويحب المؤمنين في الله ويحب الأعمال الصالحة في الله، فالحب في الله توحيد، والحب مع الله شرك.
(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ:
انظر إلى التوحيد، حتى أنت إذا زُرت أخاك المريض كأنَّك تعود الله عزَّ وجل،
من كرم الله العظيم أنَّ الإنسان إذا عمل عملاً خالصاً يتجلَّى على قلبه بالسكينة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
تصوَّر الصحابة الكرام عندما نزلت هذه الآية لما بايعوا النبي والله عزَّ وجل يقول:
مباركة الله عز وجل بيعة الصحابة للنبي الكريم:
طبعاً كلمة
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
لو نزعت هذه الفقرة من الآية وحدها:
(( يدُ اللَّهِ مع الجماعَةِ ومن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ. ))
عن أسامة بن شريك:
(( يد الله على الجماعة. ))
عليها حفظاً، وعليها دفاعاً، وعليها مباركةً، وعليها تأييداً، وعليها نصراً.
كأن الله سبحانه وتعالى فيما يبدو من هذه الآيات يحبنا أن نكون متعاونين، متباذلين، متناصحين، متحابين، متزاورين، هذا معنى قول النبي الكريم:
(( عليكم بالجماعةِ، وإِيَّاكُم والفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.))
أعظم أنواع البطولة أن الإنسان إذا عاهد الله عزَّ وجل أن يفي بهذا العهد:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
الله عزَّ وجل في آية أخرى يقول:
﴿
من أعظم أنواع البطولة أنك إذا عاهدت الله عزَّ وجل أن تفي بهذا العهد، إنسان عاهد الله وهو يطوف حول الكعبة ألا يعصيه، كلما هَمَّ بمخالفةٍ أو تقصيرٍ عليه أن يذكر ذلك العهد
من نكث فإنما ينكث على نفسه ولا يضر أحداً غيره:
لذلك قال أحد الصحابة: "لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت".
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،
إذ قال موسى لقومه يا قومي:
﴿
لذلك:
زوال الكون أهون على الله من أن يُضَيِّعَ مؤمناً:
﴿
أي أن زوال الكون أهون على الله من أن يُضَيِّعَ مؤمناً، من أن يبخس حَقَّه.
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
لا يظلم ولا ينقص من جزائه شيئاً.
الله تعالى يحول بين المرء وقلبه:
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(11)﴾
أحياناً الإنسان لضعف إيمانه بالله، لجهله، يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه، نفسك مكشوفةٌ أمام الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله يعلَم حقيقة نفوسنا، الله يحول بين المرء وقلبه.
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾
﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾
فالمخلَّفون من الأعراب لما دُعوا إلى أن يذهبوا مع النبي، قالوا:
﴿
الله عزَّ وجل وصفهم بأنهم سفهاء، وقال:
الإنسان إن أصرَّ على شيء ورغب فيه يجد متسعاً من الوقت ليفعله:
هناك آية قرآنية أخرى:
﴿
أحياناً يكون العذر غير مقبول عند الله، الدليل: لو أراد الإنسان شيئاً يفعله، إذا أصرَّ على شيء، ورغب في شيء، وتوجَّه إلى شيء، يجد متسعاً من الوقت ليفعله، يقول لك: مشغول، لماذا تلغي كل المواعيد لأمر تحبه أنت؟ إذا كان الأمر يهمك تلغي كل المواعيد، تنظم أمورك، أحياناً الإنسان يشكل كل نظام حياته وفق منهج معين، فلماذا تدع طلب العلم على الوقت الفارغ، يقول لك: مشغول، فالإنسان أحياناً يلقي الأعذار وهي عند الله غير مقبولة إطلاقاً، يلقي الأعذار وهو يعلم أنه كاذبٌ بهذه الأعذار.
كل إنسان بقبضة الله عز وجل:
﴿
الإنسان عندما يكذب، وينتحل المعاذير، ويقَدِّم الأعذار الواهية، وهو يعلم أن الله يعلم كذبه، هذا الإنسان لو أراد الله أن يعالجه من يستطيع أن يدفع عنه هذه المعالجة؟
المنافق إنسان توعده الله عز وجل بعذاب أليم:
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
﴿
هناك شعور مخيف إذا ارتاحت نفسك لمصاب مؤمن بمكروه، ابك على نفسك، واندب حظك من الإيمان، ليس لك حظّ منه إطلاقاً، لمجرد أن تفرح بمصيبة أصابت مؤمناً، لمجرد أن تفرح بخسارة خسرها المسلمون، لمجرد أن تفرح لاضطراب حلّ بينهم، لمجرد أن تفرح لفحشاء سرت فيما بينهم:
﴿
الله عزَّ وجل توعَّدهم بعذابٍ أليم.
من علامة الإيمان أن يفرح الإنسان لخيرٍ أصاب أخاه المؤمن:
لذلك:
من علامة الإيمان أن تفرح بخيرٍ أصاب أخاك المؤمن، اشترى أخوك بيتاً، هنيئاً له، تهنِّئه من أعماق أعماقك، نال شهادة عالية، أسس مشروعاً ونجح، لأن المؤمن للمؤمنين، علاقة المؤمنين علاقة متميزة، الكل لواحد والواحد للكل، إذا أكرم الله عزَّ وجل أخاً لك، هذا خيره للجميع، كلهم له وهو لهم، هذا هو مجتمع المؤمنين، الفكر وحده لا يكفي، يكون عندنا فكر صحيح، عندنا أفكار إسلامية، نحن بحاجة أن نعيش مجتمعاً إسلامياً، بحاجة إلى أن يشعر كلّ منا بحب حقيقي لأخيه المؤمن.
من لم يؤمن بالله يتفلت من منهجه ونظامه وهذا التجاوز له عقاب عند الله عزَّ وجل:
هؤلاء الذين زُيِّن في قلوبهم أن لن ينقلب النبي والمؤمنون قال:
﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
الحقيقة السعير لا لأنه لم يؤمن فقط، هو حينما لم يؤمن بالله، بكتابه، بوجوده ومنهجه، وبيان رسوله لمنهجه، معنى هذا أنه تفلَّت من النظام، لما تفلَّت أكل ما ليس له، وقع بالانحراف، بالعدوان، فصار السعير لعدوانه، وإساءاته، وتقصيره الناتج عن تفلُّتِهِ من منهج الله عزَّ وجل، هذا هو التفسير الدقيق،
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين