- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (048)سورة الفتح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أعظم هدفٍ يسعى إليه الإنسان رضا الله عزَّ وجل:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع من سورة الفتح، ومع الآية الثامنة عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾
أيها الأخوة؛ ما منا واحدٌ إلا وله هدفٌ يسعى إليه، الأهداف على تنوِّعها إن كانت متعلقةً بالدنيا تنتهي عند الموت، فلو حَصَّلت مالاً وفيراً، أو منصباً رفيعاً، أو مكانةً اجتماعية، أو انغمست في متعٍ أرضيةٍ، كلُّ هذه المكاسب تنتهي عند الموت، لكن أعظم هدفٍ على الإطلاق يُمكن أن تسعى إليه، ويمكن أن يستمر مكسبه إلى أبد الآبدين هو أن تطلب رضاء الله عزَّ وجل، لأن الله إذا رضي عنك نِلْتَ كل شيء، وكنت الفائز الأكبر، والرابح الأكبر، والمُفلح الأكبر
رضا الله عز وجل في متناول كل مؤمن:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
أبلغ كلمة قالها سيدنا عمر لسيدنا سعد، قال له: "يا سعد لا يَغُرَّنَك أنك خال رسول الله".
النبي كان كلما دخل سيدنا سعد يقول: عن جابر بن عبد الله:
(( أقْبَلَ سَعْدٌ ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ :
يداعبه، والنبي لم يفدِ أحداً بأمه وأبيه إلا سيدنا سعد، قال له:
(( عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: نَثَلَ لِيَ النَّبِيُّ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ:
ومع أن النبي فدّاه بأمه وأبيه، ومع أن النبي كان يرحِّب به كلما دخل عليه ويقول: هذا خالي فليُرِني امْرؤ خَالَهُ، قال له سيدنا عمر:
عدم استواء من كان في سخط الله ومن كان في رضوان الله:
أحياناً يكون الإنسان له شأن كبير، أقرباؤه في الدرجة الأولى، القرابة ليس لها علاقة بالكسب، لأن قريبه له مكانة عالية، أما الله عزَّ وجل ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له، فلا أعتقد أنه يوجد هدف أسمى، ولا أنبل، ولا أعظم، ولا يوجد هناك شيء يقدِّس حياتك ويرفعك من المستوى التافه إلى المستوى الراقي إلا أن تطلب رضوان الله، أي لا يستوي من كان في سخط الله ومن كان في رضوان الله، لا يستوي من لا يتأثر لو كان في سخط الله.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
هناك إنسان يَتِّبع ما يُسْخِطُ الله ويكره رضوانه، وهناك إنسان آخر رضاء الله عنه يحرَص عليه حرصاً لا حدود له، فلذلك لا تنظر إلى صِغَرِ الذنب ولكن انظر على من اجترأت، الدنيا تفنى، مالها يفنى، نساؤها تفنى، مناصبها تفنى، وجاهتها تفنى، شهاداتها تفنى، ملذَّاتها تفنى، بيوتها تفنى، قصورها تفنى، بساتينها تفنى، أما إذا كنت مع الله فالله هو الباقي، أول ليلة يوضع فيها الإنسان في قبره يقول الله عزَّ وجل:
شعور المؤمن لا يعرفه إلا من ذاقه:
أخواننا الكرام؛ هذه الآية كلَّما قُرِئتْ الإنسان يتأثَّر:
طاعة الله عزَّ وجل هي الشيء الوحيد الذي ينال به الإنسان رضوان الله:
الإنسان في النهار يتحرَّك وقد يغفل عن حالته النفسية، أما إذا أوى إلى الفراش فتظهر عيوبه ونواياه، الإنسان متى يتألَّم؟ إذا خلا مع نفسه، فإذا كنت تطلب مرضاة الله عزَّ وجل فأنت أسعد الناس، ألا تحفزك هذه الآية إلى أن تكون على منهج الصحابة سائراً؟
على كل إنسان أن يتوخى مرضاة الله عزَّ وجل:
بقي المؤمن الصادق في كل حركة، في كل سكنة، في نومه، في يقظته، في كل حركة يسأل: ما الذي يرضي الله؟ أنا حلفت يميناً ألا أزور أختي، أيرضي الله أن أحنث بهذه اليمين وأن أزورها وأن أُكَفِّرَ عنها؟ هكذا يرضي الله، أنا حلفت ألا أتكلم مع فلان، أيرضي الله أن أسلم عليه؟ المؤمن قال:
لو قال تيهاً قف على جمر الغضا لوقفت ممتثلاً ولم أتوقــــف
أو كان من يرضى بخدي موطـئاً لوضعته أرضاً ولم أستنكف
* * *
إذا كان الله غالياً عليك من أجل أن ترضيه تفعل كل شيء، التبر يستوي عندك والتراب في مرضاة الله عزَّ وجل، يستوي عندك رضوان الناس عنك أو سخطهم، الأبيات التي يقولها بعض العارفين بالله:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
* * *
لو أن الأنام كلهم غضبوا عنك والله جلَّ جلاله راضٍ عنك هذا يسعدك.
فليتك تحلو والحـيـاة مريــرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بينك وبينك عامرٌ وبيني وبين العالميــن خـراب
* * *
أحياناً تكون هناك علاقات عامرة بينك وبين الله ومع الناس في أسوأ حال فلا يوجد مانع، الأصل أن تتوخى مرضاة الله عزَّ وجل، ولك في الصحابة أسوةٌ حسنة:
على الإنسان ألا يعظِّم إلا الله عزَّ وجل:
شيء آخر؛ يا ترى سيدنا الصديق ألم يكن مع الصحابة في هذه البيعة؟ سيدنا عمر ألم يكن مع الصحابة في هذه البيعة؟ فإذا كان الله رضي عن أُنَاسٍ أيحق لك أن تغضب عليهم أنت؟ من أنت أساساً؟ إذا الله عزَّ وجل رضي عن المؤمنين وفيهم الصحابة الكرام الأربعة الراشدون فهل يحق لإنسانٍ كائناً من كان ألا يرضى عنهم؟ وما يزنُ عدم رضائك عنهم؟
أكمل موقف أن نمسك ألسنتنا ولا نخوض بالحديث عن الصحابة الكرام:
من لوازم الآية السابقة مادام الله عزَّ وجل في القرآن الكريم، وفي آيةٍ قطعية الدلالة، يبيِّن أنه رضي عن المؤمنين الذين كانوا مع النبي، والذين كانوا مع النبي التاريخ يعرف أسماءهم واحداً واحداً، لذلك إذا نشِبَ خلافٌ بينهم ينبغي أن تسكت أنت:
(( عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أنت لست في مستوى أن ترى الحق مع من:
لا يعني هذا أنهم معصومون كالنبي، إلا أن الله سبحانه وتعالى رضي عنهم، ورضاء الله عنهم يكفينا أن نصمت وأن نمسك ألسنتنا عن أن نخوض فيما بينهم.
على الإنسان أن يستهلك وقته فيما يرضي الله لا في القيل والقال:
شيء آخر؛ لا يعنينا أن نسترجع من التاريخ مشكلات نعانيها الآن، هذه القضايا مضت وعفا الزمان عنها، وكل واحد انقلب إلى رحمة الله، وكل واحد له مكان عند الله، بحسب إخلاصه، بحسب صدقه، بحسب بذله، تضحيته، هذا الشيء لا يعنينا أبداً، يعنينا أن الله سبحانه تعالى أخبرنا أنه رضي عنهم أجمعين، لذلك النبي الكريم قال:
(( عن أبي سعيد الخدري: لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه. ))
ونحن لسنا في مستوى أن نحكم بينهم، ولا أن ندخل في التفاصيل التي كانت بينهم، ولا يعنينا إلا أن الله رضي عنهم، ويعنينا أن نسير على منهجهم، وأن نقتفي أثرهم، لأن الله رضي عنهم، والآية التي أذكرها كثيراً:
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)﴾
وَفِّر وقتك، الوقت ثمين جداً، والهدف كبير، والرسالة كبيرة، والزمن قصير، والموت على الأبواب، فهذا الوقت الثمين لا تستهلكه في قيل وقال، والحق مع مَنْ؟ والخلاف مِن حق مَنْ؟ هذا الوقت الثمين لا تستهلكه في هذه الموضوعات، استهلكه في القُرُبات من الله عزَّ وجل، استهلكه فيما يرضي الله،
معاني قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين﴾:
والمعنى الرابع أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لا على شيءٍ فعلوه بل على نيةٍ عَقَدوها، ما حاربوا، هذا أبلغ شيء.
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «
ما فعلوا شيئاً، عاهدوا النبي على بذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، والله عزَّ وجل ما حمَّلهم هذه الحرب، إذاً يمكن أن تصل إلى رضوان الله بالنية الصادقة فقط، لذلك هنيئاً لمن كانت نواياه طيبة للناس، هنيئاً لمن ينوي الخير للناس جميعاً، لمن يحب عباد الله، لمن لا يحسدهم، لا يطعن بهم، لا يوقع بينهم العداوة والبغضاء، نِيَّتُكَ وحدك سبب رضوان الله عنك.
نية المؤمن خير من عمله:
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يعلم ما أسررت، وما يخفى عنك يعلمه،
إخواننا الكرام ورد:
يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل، سيدنا الصحابي الجليل زيد الخيل لما التقى النبي قال:
سحرة فرعون في ثوان أصبحوا من كبار المؤمنين، الإنسان إذا صدق لا توجد مرحلة أمامه، يحرق المراحل كلها، فلذلك رضي الله عن الصحابة الكرام.
حاجة الإنسان إلى فهم كلام الله:
كأن الإسلام هرم، والله أعلم، أول قسم القرآن الكريم، القسم الثاني السنة القولية، الأحاديث بيان لكتاب الله، القسم الثالث السنة العملية، سلوك النبي أوضح في الدلالة على فهمه لكلام الله من كلامه، لذلك أنت بحاجة إلى فهم كلام الله، وفهم سنة النبي القولية، وفهم سنته العملية، آخر قسم سِيَر الصحابة، لأن الصحابة فيهم كل النماذج، فيهم الشاب، والكبير، الفقير، والغني، فيهم جميع النماذج، لابدَّ من أن ترى نموذجاً مشابهاً لك من الصحابة فاقتدِ به، هذا بجماله، هذا بشبابه، هذا بدعوته، هذا بلسانه، هذا بعلمه، هذا شاب، هذا كبير، هذا غني، هذا فقير، فأنت بحاجةٍ ماسَّة إلى أن تفهم كلام الله، وأن تفهم تفسيره من رسول الله، سنته القولية، وأن تفهم دقة فهم النبي لكلام الله من سنته العملية، ثم أن تقف على سِيَرِ الصحابة الكرام لترى لماذا رضي الله عنهم هؤلاء؟
المؤمن حينما يرضي الله تتنزَّل على قلبه السكينة والطمأنينة:
﴿
هذه السكينة فيها آيات كثيرة، شَهِدَ الله أنها أثمن شيءٍ تناله في الدنيا من الله، الله عزَّ وجل قد يُعْطي المال للناس، قد يعطي الصحة يقول لك: صحته مثل الحصان، أو يعطي شيئاً ثانياً، أو يعطي الذكاء لكنه لا يعطي السكينة إلا بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينة خاصة بالمؤمنين، يمكن أن ترى كافراً غنياً، وقوياً، ووسيم الطلعة، وذكياً، أما المؤمن فيتميَّز عطاء الله له بالسكينة، فتجده مطمئناً، الكافر قلبه يغلي قلقاً، يغلي حسداً، يغلي كَمَداً، يغلي ضجراً، يغلي تمزُّقاً، يغلي ضياعاً، المؤمن مستقر لأنه شعر أن خالق الكون راض عنه، شعور جندي راض لقائد الجيش، ما شعوره؟ شعور لا يقدَّر بثمن، لا يخاف من أحد، لا يوجد عنده وقاحة لكنه أديب ومحمي، لا يجرؤ إنسان في كل هذا السلك أن يناله بأذى، وهذا مثال للتقريب، فلذلك المؤمن حينما يرضي الله عزَّ وجل تتنزَّل على قلبه السكينة، تسميها حالاً هي الحال، تسميها سعادة هي السعادة، تسميها الأمن هي الأمن، الطمأنينة الطمأنينة، الله أسماها السكينة.
المؤمن مقدَّس أحواله الداخلية راقية جداً:
إذا كنت في كل حـالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى
* * *
وإذا العناية لاحظتك جفونها نَمْ فالمخاوف كلهن أمـان
* * *
الحياة كلها مقلقة، والله إذا الإنسان ترك الإيمان، وترك طاعة الرحمن، والله يعاني من آلام ومن مخاوف لا يعلمها إلا الله، ألف سيف مسلط فوق رقبتك، هكذا الحياة الحديثة، هذه الحياة المعاصرة هكذا، مقلقات بالصحة، مقلقات بالدخل، مقلقات بالتجارة، راكب مركبتك تنام فجأة فتصاب بحادث يصيب عمودك الفقري فتصبح مشلولاً، أخطار، كيفما تحركت هناك أخطار، أما إذا تعرَّفت إلى الواحد الديان، ورضي الله عنك، أول ثمرة من ثمار الإيمان ينزل على قلبك السكينة، ساكن في بيت صغير أنت أسعد الناس، عندك دخل وسط أسعد الناس به، عندك أولاد وسط، وزوجة وسط، كله وسط، وأنت أسعد الناس بهم، والذي عنده الدرجات العليا من كل شيء تجده شقياً، فالله إذا منح السكينة منح كل شيء، وإذا حَجَبَ عنك السكينة حجب عنك كل شيء، الله سماها: رحمة.
﴿
الله إذا حجب عن الإنسان الرحمة، أو السكينة، أو الأمن، حجب عنه كل شيء، وإذا منحه السكينة منحه كل شيء، والسكينة ثمنها طاعة الله عزَّ وجل، وبين الطاعة والسكينة يوجد رضوان الله، وشتَّانَ بين أن تكون في رضوان الله وبين أن يكون الإنسان في سخط الله:
﴿
المؤمن يضحي بالنفس والنفيس والغالي والرخيص مقابل أن يرضى الله عنه:
المؤمن يقول لك: أنا أريد رضا الله عزَّ وجل، يضحي بالدنيا كلها، يضحي بالنفس والنفيس والغالي والرخيص مقابل أن يرضى الله عنه، المال تحت قدمه إذا كان إنفاقه يرضي الله، والمال تحت قدمه إذا كان تَرْكه يرضي الله، لذلك المؤمن تجده كريماً لأنه يعرف ما عند الله، أحدهم قال للنبي: لمن هذا الوادي؟ قال له: هو لك، قال: أتهزأ بي؟! واد من غنم بالملايين، قال: هو لك، فقال: أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، لذلك لا يجتمع في قلب مؤمن بُخل ولا جبن أبداً، البخل والجبن من علامات ضعف الإيمان، إذا كان ضعف الإيمان فتجد هناك بخل، يحرص.
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
من آثر الآخرة على الدنيا كسبهما معاً:
﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)﴾
حتى الدنيا الإنسان إذا طلب مرضاة الله أتته وهي راغمة،
من آثر الآخرة على الدنيا كسبهما معاً-ربحهما معاً- ومن آثر الدنيا على الآخرة خسرهما معاً، هم ضَحّوا بأرواحهم في البيعة، عاهدوا الله على بذل كل شيء، الله عزَّ وجل ما أخذ منهم شيئاً، كَفَّ أيدي الناس عنهم، وأثابهم فتحاً قريباً،
(( عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
دنيا، ومال، وصحة، ومكانة، ومرضاة الله، وذكر عريض، أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمكٍ فاستخدميه ومن خدمني فاخدميه.
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
من يصطلح مع الله عز وجل تتبدل حياته تبدلاً جذرياً:
لذلك:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ
عندما تكون ماشياً مع الله عزَّ وجل الخير كله معك، الدنيا كلها، عِزُّ الدنيا، طمأنينة الدنيا، سعادة الدنيا، عِزُّ الآخرة، ما يوجد الآخرة من نعيمٍ مقيم، أنت تمشي مع خالق الكون.
(( عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
الإنسان عندما يرتدي ثيابه، يخرج من بيته ليستمع إلى مجلس علم، هذا طريق الجنة:
إخواننا الكرام؛ أحياناً أسمع من أخ مخلص، صادق، عندما اصطلح مع الله بصدق، وتعامل مع الله بإخلاص، تجد دنياه تبدَّلت، الشيء واضح جداً، واضح كالشمس، الأمور كلها لصالحه، هناك دعم إلهي، هناك دفاع عنه، مَحْمي، إله يدافع عن مؤمن.
﴿
يشعر بود مع الله، فهناك تبدُّل جذري يصيب حياة المؤمن حينما يصطلح مع الله، تبدل جذري.
العطاء الحقيقي لا يكون إلا في الآخرة:
﴿
هذا الصلح الذي دام سنوات عِدَّة، وكَفَّ أيدي الناس عنكم هذه مغانم أولى، ثم جاءت المغانم الأخرى بفتح مكة، وغزو خيبر، وأخذ غنائم خيبر، فالمغانم لا تُحصى في الدنيا والآخرة، لكن العطاء في الدنيا عطاء تشجيعي، لو وزنت ما في الدنيا لا يعدل عند الله جناح بعوضة، العطاء الحقيقي في الآخرة، لكن ربنا عزَّ وجل لابدَّ من أن يُرِيَ المؤمن من آياته الدالة على محبته له، أنت مخلص، مستقيم، تبذل الغالي والرخيص، لابدَّ من أن يريك الله من آياته التي تشعرك أنه يحبك، وأنك في رضوانه، أحياناً شخص -ليس هذا الموقف حكيماً- يكون في أعماقه راضياً عن ابنه، لكنه لا يعطيه وجهاً أبداً، دائماً مقَصِّر، الابن يجهد، أما ربنا عزَّ وجل إذا رضي عن عبد فيُعْلِمُهُ بذلك، كيف يعلمه؟ يريه آية من آياته، أحياناً بالتوفيق، بالتيسير، بالحفظ، بالنصر، بالتأييد، بالإكرام، بالكرامة أحياناً، فالله عزَّ وجل قال:
إذا أخلصت لله عزَّ وجل في طاعتك لابدَّ من أن يريك أنه يحبك:
أحياناً الإنسان يقول لك بلسانه: أنا راض عنك، أحياناً يبتسم لك، أحياناً يصافحك بحرارة، أحياناً يثني عليك، هذا موقف إنسان لإنسان، أما الواحد الديَّان إذا رضي عن عبد فكيف يعلم هذا العبد أن الله راضٍ عنه؟ أحياناً يشعر هذا بالتوفيق، بالطمأنينة، بالتجلِّي في قلبه، بالسكينة، أحياناً يشعر أن الله يدافع عنه، كأنه محمي، الله عزَّ وجل إذا كاد له الناس يكيد الله لهم.
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)﴾
هذا الشيء من آيات الله الدالة على محبته للمؤمنين.
ممكن أن نقول: إذا أخلصت لله عزَّ وجل في طاعتك، وتقرَّبت إليه ببذل ما عندك، لابدَّ من أن يريك الله من آياته التي تطمئِنُك وتشعرك أن الله يحبك، فالله عزَّ وجل أولاً رضي عنهم، أنزل على قلبهم السكينة، أثابهم فتحاً قريباً، مغانم كثيرة، ووعدهم بمغانم أكثر، وكفّ أيدي الناس عنهم قال:
من تقرّب إلى الله تقرب الله منه:
الآن اسأل مؤمناً معاصراً يقول لك: والله الله وفقني بالزواج، وبشراء بيت، ومرتاح والحمد لله، وأموري منتظمة، وعندي أولاد أبرار، تجد المؤمن وهو لا يشعر ينطق بفضل الله عنه، فالله عزَّ وجل أنت قربت منه، فالله أيضاً يقرب منك، هكذا الحديث القدسي يقول:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عزَّ وجلَّ: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، واللَّهِ لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ يَجِدُ ضالَّتَهُ بالفَلاةِ،
أي إذا أنت قرَّبت فالله يقرب، أنت بذلت الله يعطيك، أنفقت يُنفق عليك، ذكرته في نفسك يذكرك في ملائكته، ذكرته في ملأ يذكرك في ملأ خير منهم، تدافع عن دينه يدافع عنك:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾
ادعُ الله وحده، أخلص له وحده، أقبل عليه، امحضه ودك، لأن:
العاقبة أن يكون المؤمن صادقاً في إيمانه:
تقول لي : إنه شيء استثنائي ليس معقولاً، وفقني الله توفيقاً غير طبيعياً، الله يسر لي أموري، قلب لي همي فرحاً، قلب لي ضعفي قوة، قلب لي فقري غنى، قلب لي شتاتي اجتماعاً، قلب لي قلقي طمأنينة، هكذا، هذه آيات الله في الأرض، هذه آيات الله للمؤمنين، هذه الكرامة الحقيقية، أنت قرَّبت يريك الله من آياته الدالة على عظمته:
﴿
أحاط بها، وهيَّأها لكم كي تفتحوها بعد حين، ولا تنسوا أن مكة أخرجت النبي وصحابته، ونكَّلت بهم، وحاربتهم، وناصبتهم العداء، وقست عليهم، وكادت للمؤمنين، لا تتصور عظمة الفرح الذي أصاب المؤمنين حينما دخلوا مكة فاتحين، ومع ذلك فالنبي كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل، إذا أنت مؤمن صادق العاقبة لك، والمصير لك، والفوز لك، والنجاح لك، والتوفيق لك، ورِفْعَةُ الشأن لك، ورضوان الله يحوطُك من كل جهة، العاقبة أن تكون مؤمناً صادقاً.
من رضي الله عنه أعطاه الدنيا والآخرة:
هذه القصة ليست تاريخية، هي لنا، إلههُم إلهنا، وربهم ربنا، الله واحد، كتابه واحد، والدنيا واحدة، فهذه الآيات ليست لأخذ العلم، للاتباع، يجب أن يقول لي الأخ: أنا رأيت من آيات الله الدالة على محبته لي-رأيت هذه الآيات- لا يوجد إنسان إلا وعنده عدد من القصص، وفقني، أكرمني، شبح مصيبة أزيح عني، أسكت خصومي، الله دافع عني:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾
الله إذا أعطى أدهش، إذا رضي عنك أعطاك الدنيا والآخرة، رفع لك ذكرك، هل هناك إنسان في الأرض على وجه الإطلاق أكرم من النبي عليه الصلاة والسلام؟ اذهب إلى مقامه، انظر إلى هذه العظمة، انظر إلى هؤلاء الملايين الذين يقفون أمامه وقد مضى على وفاته ألفٌ وخمسمئة عام، يقفون خاشعين، يبكون، ما هذه المكانة العلية؟ الله عزَّ وجل قال:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
المشقة وصعوبة الانضباط في آخر الزمان هذه عند الله مقدرة ولها جزاء مضاعف:
أنا أقول لكم أيها الأخوة: ربنا وربُّهم واحد، النبي يقول: اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك؟ قال: لا، أنتم أصحابي أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، أجره كأجر سبعين، قالوا : منا أم منهم؟ قال: بل منكم، قالوا: و لمَ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون، الأجر الآن ضرب مليون، ضرب سبعين من أجر الصحابة، لأن الطرُقات فيها مفاسد، فيها نساء كاسيات عاريات، أصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، أمر الناس بالمُنكر ونهوا عن المعروف، يؤتمن الخائن، يخوَّن الأمين، يصدَّق الكاذب، يكَذَّب الصادق، هناك علامات للساعة كثيرة جداً بعضها تحقق، فلذلك: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ. ))
(( إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم، قالوا: يا نبي الله أو منهم؟ قال: بل منكم. ))
شجاعة المؤمنين ودعم الله لهم أصل في الدين:
﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)﴾
أي الله عزَّ وجل أظهر في هاتين الآيتين شجاعة المؤمنين، ودعم الله لهم، أي أنتم الأقوياء وهم الضعفاء، أنتم الشجعان وهم الجبناء، أنتم المتحدون وهم المتفرِّقون، هذا شأن المؤمنين، هذا هو الأصل في الدين.
الله عزَّ وجل قال:
﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
على كل إنسان أن يسعى ويتخذ الأسباب ثم يتوكل على رب الأرباب:
﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)﴾
هذه الآيات- تحدثت في رمضان عن قصة صلح الحديبية بالتفصيل- وكيف أن الصحابة تألَّموا لهذا الصلح، وكانوا يتمنَّون أن يفتحوا مكة، هم أقوياء، ولكن الله كفهم عن فتح مكة، وكفّ أهل مكة عن حربهم، لحكمةٍ سوف نراها بعد آياتٍ عدة في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، لذلك الملخص:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
دائماً استسلم لله عزَّ وجل، أنت اسعَ واتخذ الأسباب ثم توكَّل على ربِّ الأرباب.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين