- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (048)سورة الفتح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيّ عذر يقدِّمه الإنسان لربه الله جلَّ جلاله يعلم حقيقته:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة الفتح، ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)﴾
الذين هم حول المدينة المنورة، القبائل التي سَكَنَتْ حول المدينة المنورة دَعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهبوا معه إلى العمرة التي انتهت بصلح الحديبية،
يقول لك مثلاً أحدهم: أنا لا أستطيع أن أستيقظ على صلاة الفجر، لماذا إذا كان هناك رحلة لا تنام الليل؟ لماذا؟ فأية حجَّةٍ، وأي عذرٍ يقدِّمه الإنسان لربه الله جلَّ جلاله يعلم حقيقته، فهؤلاء الأعراب الذين دُعوا إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:
طلب الجنة من غير عملٍ ذنبٌ من الذنوب:
هذا طلب الجنة من غير عملٍ ذنبٌ من الذنوب، وربنا سبحانه وتعالى غفورٌ رحيم لكن مغفرته مقيدةٌ بتوبة العبد.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
لكن متى؟
﴿
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تؤكِّد أن الله يغفر ولكن متى؟
﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(119)﴾
فكلمة استغفر لنا من دون توبةٍ صادقة، من دون إنابةٍ إلى الله عزَّ وجل، نوعٌ من الاستهزاء،
من اشتغل بالخسيس عن النفيس فهو خاسر لا محالة:
يا أيها الإخوة الأكارم؛ إذا كنت مشغولاً عن معرفة الله، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن طلب العلم، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن أداء واجباتك الدينية، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن الأعمال الصالحة، إذا كنت مشغولاً بدنياك عن القُرُبات إلى الله عزَّ وجل، ينبغي أن تعلم علم اليقين أنك خاسرٌ كبير لأنك اشتغلت بالتافه، بالخسيس عن النفيس، اشتغلت بالشيء الرخيص عن الشيء الثمين،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(9)﴾
ربنا عزَّ وجل فضح هؤلاء:
على الإنسان أن يطيع الله لأن الله هو الأقوى:
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا
إذا أراد الله أن يوقِع عقاباً بهذا الإنسان، هذا الإنسان الذي كذب على الله من يستطيع أن يمنع عنه هذا الضر؟ لا أحد، لا تنسوا أن أحد ولاة البصرة كان إلى جانبه الحسن البصري التابعي الجليل وقد تلقى توجيهاً من يزيد بن معاوية، يبدو أن هذا التوجيه لا يرضي الله عزَّ وجل، وقع هذا الوالي في حيرة، إن نفَّذ توجيه يزيد أغضب الله عزَّ وجل، وإن لم يُنفِّذ توجيهه أغضب يزيد، فسأل الحسن البصري: ماذا أفعل؟ هذا هو التوجيه، فقال الحسن البصري كلمةً خالدةً، قال له: إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله، ودائماً وأبداً قِس على هذه المقولة.
لو أجبرك إنسان أن تعصي الله عزَّ وجل، لو أراد الله أن يوقع ضراً بهذا الإنسان، هذا الذي أرضيته وعصيت الله لا يستطيع أن ينقِذك من الله، أما إذا أرضيت الله وعصيت زيداً ولو كان قوياً فإن الله سبحانه وتعالى يمنعُك من زيد، فهذا هو العقل والمنطق أن تطيع الأقوى، الأقوى هو الله، لهذا عن عائشة أم المؤمنين:
(( من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ رضِيَ اللهُ عنه وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه وأسخَط عليه الناسَ. ))
على الإنسان أن يتفادى سخط الله برضوانه وعقابه بالعمل الذي يرضيه:
﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ
الابن الشارد المنحرف العاق لو أقبل على أبيه تائباً يدخل على قلب الأب من السرور ما لا يوصَف بخلاف ابنه المستقيم، لأن رحمة الله عزَّ وجل هي التي تجعل فرح الله بهذا العبد العائد إليه.
لحظة الرجوع إلى الله لحظة لا توصف:
لذلك: إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
إخواننا الكرام؛ الإنسان يشتري بيتاً ويأتيه المهنئون، يقولون له: تهانينا، ينال شهادة عُليا يأتيه المهنِّئون، يتزوَّج يأتيه المهنِّئون، يُنْجِبُ ولداً يأتيه المهنئون، ولكن أيها الإخوة الكرام والله الذي لا إله غيره التهنئة الحقيقية ذات المعنى لا تُقال إلا لمن اصطلح مع الله، وتاب إليه، وسار على منهجه، فأنزل الله عليه سكينته، وأسعده، وحفظه، وأيَّده، ونصره، لحظة الرجوع إلى الله لا توصف، أن تشعر أن خالق الكون يحبُّك، أن خالق الكون يرضى عنك، أن خالق الكون أنت بعينه:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
ربنا جلَّ جلاله يعرف خبايا النفس البشرية وما يعتلج فيها من خواطر:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
أنت مكشوف عند الله عزَّ وجل، حينما تُقْبِل على الله عزَّ وجل هذه الهموم تُبدَّد، هذه المُقلِقات تزول، هذا الخوف ينمحي، هذا الشعور بالضياع يذهب، تجد ذاتك،
﴿
هذا هو السبب الحقيقي، تَخَلَّف هؤلاء الأعراب عن رسول الله لظنِّهم أن النبي لن يرجع إلى المدينة، إنه يذهب إلى أُناسٍ حاربوه مرَّاتٍ عديدة ولابدَّ أنهم سيحاربونه الآن، وربما أبادوا أصحابه ولن يعود إلى المدينة، انظروا إلى هذا الظن!!
من كان مع الله كان الله معه:
في حياتنا المعاصرة أحياناً نرى مؤمناً مستقيماً مخلصاً لله عزّ وجل، يحاط ببعض الأخطار، أهل الدنيا يقولون لك: انتهى، لن تقوم له قائمة، خَسِرَ دنياه، خسِر منصبه، لا، هذا ظن الإنسان الذي لا يعرف الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله لا يتَخَلَّى عن عباده المؤمنين، أحياناً الإنسان يجري حسابات كلَّها مادِّية، ويتغافل عن وجود الله عزَّ وجل، وعن أن الأمر كلَّه بيد الله، يتغافل عن أن الله مع المستقيم، مع الطائع، مع المُنيب، مع المخلص، فربما هذا الإنسان المؤمن قد يكون فقيراً يقول له: أنت لن تتزوج أبداً بحياتك، على حسابات الآلة الحاسبة هذا صحيح لا يوجد أمل، دخله أربعة آلاف لا يكفونه طعاماً وشراباً، أنىّ له أن يشتري البيت وأن يدفع المهر؟ لكن شاباً مؤمناً مستقيماً على أمر الله أيتخلى الله عنه؟ أهل الدنيا حساباتهم كلَّها مادِّية، يتغافلون عن أن الله موجود، وأن الأمر كلَّه بيدِ الله، وأن الله هو الرزَّاق، وهو الموَفِّق، وهو الحافظ، وهو الناصر، وهو المؤيِّد، وهو الستِّير، وهو الرزاق، يتغافلون عن هذا، لا مانع من أن يدرس الإنسان الأمور دراسة موضوعية، ولكن يجب ألا ينسى أن الله موجود، وأن الله لا يتخلَّى عن عباده المؤمنين، وأن الله لا يسمح لأهل الدنيا أن يستطيلوا عليهم، هو يحفظهم، وينصرهم، ويؤيدهم ويرزقهم، وخلاف هذا الظن جهلٌ بالله عزَّ وجل،
﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾
ويجب أن تكون هذه الآية في ذهن كل مؤمن، إنني معك يا عبدي أسمع وأرى، كن معه ولا تبالِ، كن مع الله ترَ الله معك، أخلِص له، استقم على أمره، اطلب رضاه ولا تخش أحداً، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك.
ارتفاع معنويات المؤمن مهم جداً لأنّ همّ الكفار أن يضعضعوا ثقة المؤمن بربه:
أعود وأقول: الحسابات المادية، تجد إنساناً مؤمناً، فقيراً، ضعيفاً، في بداية حياته، لا يوجد معه شيء، بالتعبير الدارج: منتوف، لكنه مستقيم، لكنه مخلص، لكنه يحب الله ورسوله، لكنه يخاف أن يعصي الله عز وجل، هذا الله يوفقه، ويكرمه، ويحفظه، ويرقيه، ويسمو به، أريد من هذا الكلام أن يثق المؤمن بربه لأن ارتفاع معنويات المؤمن مهم جداً، الكُفَّار دائماً همهم أن يُضعضِعوا المؤمنين، أن يُضعِفوا ثقتهم بالله عزَّ وجل، أن يقيِّموهم بما في أيديهم، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاء إليه عدي بن حاتم قال له:
سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة وقد تبعه سُراقة ليأتي به إلى قريش وينال المئتي ناقة، عندما ساخت قدما فرس سُراقة في الرمال، والتجأ إلى النبي عليه الصلاة والسلام المرَّة الأولى، والثانية، والثالثة قال له:
الله عز وجل مع المؤمن بالنصر والتأييد والحفظ والتوفيق:
أنا الذي أريده أنه إذا آمنت بالله، واستقمت على أمره، وتقرَّبت إليه، يجب أن تشعر أن الله لن يتخلى عنك، وأنه معك، وأنه سينصرك، وأنه سيؤيِّدُك، وأن الله سبحانه وتعالى يقول في آياتٍ كثيرة:
﴿ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ
المنافق كالأرض البور لا خير فيه إطلاقاً:
لذلك أيها الإخوة؛ أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحقيقة واضحة لكم، إذا أخوك المؤمن أصابه خير وتضايقت، والله مشكلة، والله مشكلة كبيرة جداً، أخوك المؤمن تزوَّج، نال شهادة، اشترى بيتاً، دعا إلى الله وفقه الله في الدعوة، فطعنت به، وحسدته، وتمنَّيت له أن يُخفِق في عمله، وإذا أصابه مكروه ارتحت لهذا المكروه، يجب أن تعلم علم اليقين أنَّك مع المنافقين هكذا، هذا قرآن يُتلى إلى يوم القيامة،
المؤمن كلّه خير:
تجد المؤمن كلّه خير، كلّه أعمال صالحة، إذا تكلَّم ذكر الله، وإذا تحرَّك نفع الناس، وإذا صَمَتَ فكَّر بآيات الله، هكذا النبي علَّمنا، قال:
﴿
لا تبك عليهم، بالعكس تستريح منهم، النبي عليه الصلاة والسلام: عن أبي قتادة:
(( مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ - لم يفهم أصحاب النبي ماذا قال النبي- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. ))
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح:
الإنسان يعيش ستين أو سبعين سنة، أربعين أو خمسين، ثلاثين أو أربعين، سبعين أو ثمانين، يعيش عمراً، إما أن يكون هذا العمر كلّه خيراً، حتى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بعمر النبي فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
وكل واحد منَّا يسأل نفسه أنا ماذا قدَّمت للإسلام؟ أنا ماذا فعلت؟ ما نوع عملي؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ماذا نفعت؟ هل دعوت إلى الله؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نَهَيْتَ عن المنكر؟ هل أعنت المسكين؟ هل أطعمت الفقير الجائع؟ ماذا فعلت؟
﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ
الدرس الماضي أشرت إلى معنى هذه الآية، الإنسان إذا لم يؤمن بالله موجوداً، وكاملاً، وواحداً، وبالتالي لم يؤمن بمنهجه؛ بكتابه، وسنة رسوله، سيتفلت من هذا المنهج، وحينما يتحرَّك الإنسان حركة عشوائية سوف يعتدي على الآخرين، وسوف يأخذ ما ليس له عندئذِ يستحق النار،
باب التوبة مفتوح أمام كل إنسان:
لكن رحمة الله عزَّ وجل وتربيته تُشير إلى أن هذا الإنسان الشارد باب التوبة مفتوح أمامه، الشيء اللطيف في القرآن الكريم أنه كلَّما وصف الله أهل النِفاق أو أهل الكفر، كلَّما وصف الله مشاهد يوم القيامة يأتي باب التوبة ليُفتَح، قال:
﴿
قال: هذه المُلكية أعلى أنواع المُلكية خَلقْاً، وتصرُّفاً، ومصيراً.
معمل طائرات يصنع طائرةً ويبيعها، صنعها وانتهى الأمر، أما الآن هي في يد جهة أخرى تتصرَّف بها،
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
ملك الله عزَّ وجل ملك خلقٍ ومُلك تصرُّفٍ ومُلك مصيرٍ:
إذاً معنى
﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا
تعذيب تأديب، تعذيب معالجة.
العطاء الإلهي نوعان:
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(14)﴾
كل أفعاله تنطلق من حرصه على مغفرة ذنوب عباده، ثم رحمته بهم، المغفرة تنظيف، هناك تخلية وهناك تحلية، هناك تنظيف وهناك عطاء، العطاء الإلهي نوعان: نوع سلبي يغفر، يُطهِّر، والنوع الثاني يمنح، فربنا عزَّ وجل غفور رحيم، غفور يُطهر الإنسان من ذنوبه، ورحيم يتجلى عليه، هذه الآية تُشير إلى أن هؤلاء الأعراب الجُفاة الذين تخلَّفوا عن رسول الله، والذين ظنوا بالله ظن السوء، والذين زُيِّنَ لهم أن النبي لن يعود إلى المدينة، مع كل ذنوبهم وانحرافهم ومع ذلك باب التوبة مفتوحٌ أمامهم.
الله عزَّ وجل لا يُعطي إلا بعد أن يمتحن:
﴿
بعد صلح الحديبية توجَّه النبي إلى خيبر ليفتحها، وخيبر فيها غنائم كثيرة، المنافقون بحاسَّتهم السادسة شعروا أن هناك في هذه الغزوة مغانم كثيرة، حينما غَلَبَ على ظنّهم أن النبي لن يعود تخلوا عنه، اعتذروا،
الله عزَّ وجل نهى نبيه الكريم عن أن يقبل معه المنافقين:
حينما غَلَبَ على ظنِّهم أن النبي لن يعود إلى المدينة وأنه مقتول هو وأصحابه قالوا:
الغُنمُ بالغُرمِ:
يوجد رأي آخر أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه أن الصحابة الكرام حينما فاتهم فتح مكة فوعدهم بغنائم خيبر حصراً لمن كان مع النبي في الحديبية، على كلٍّ التوجيه الأول قرآني والثاني نبوي، هؤلاء المنافقون يريدون أن يبدِّلوا كلام الله، أي يبتعدون عن المغارم ويقبلون على المغانم، والقاعدة الشهيرة:
الله عز وجل يفتح باب التوبة دائماً لعباده:
لكن ربنا عزَّ وجل رحيم، هؤلاء الذين أرادوا أن يأخذوا المغانم دون المغارم، أرادوا أن يتبعوا النبي في فتحه لخيبر، وأن يبتعدوا عنه في الحديبية، هؤلاء الذين ظنوا أنهم أذكياء يُقبلون على المغانم ويتنصَّلون من المغارم، هؤلاء أنفسهم الله لا يتخلى عنهم يقول:
﴿
توجد عندكم فرصة ثانية، إذا أقبلتم على بذل الجُهْد بعد هذا الجهد غنيمةٌ تأخذونها،
نحن كلنا في رمضان، هذه فرصة للقرب من الله، لو شخص لم يحصل له هذا القرب، السنة كلها فرصة ثانية، هناك يُروى أن رجلاً رأى نملةً صعدت ونزلت ووقعت أربعين مرَّة، وكان عمره أربعين سنة، في الأربعين طلب العلم وتعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ كتاب الله عزَّ وجل، ولم يمت إلا وهو شيخ الأزهر، قال: علَّمتني نملة، وقعت أربعين مرة.
الله عزَّ وجل حينما يعلم من الإنسان الصدق يأتيه بنفحة ينسى بها كل متاعبه:
أنت استقم، وتُب إلى الله، واقرأ القرآن، وغض بصرك، وحرر دخلك، ونفسك تفلّتت فارجع وجرب محاولة ثانية، محاولة ثالثة، رابعة، وخامسة، المؤمن مذنب توَّاب، كثير التوبة والأوبة إلى الله عزَّ وجل، فلا يستسلم الإنسان إذا زلَّت قدمه مرَّة، وغلط مرَّة، وانحجب مرَّة، خلص انتهى، يبرك، هذا إنسان جبان، أيعقل أن تكون النملة أشد تصميماً منك؟ نملةٌ علَّمت رجلاً فصار شيخ الأزهر، الثبات والتصميم.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
* * *
اجلس كل يوم اذكر الله عزَّ وجل، ما شعرت بشيء، أطل بالك، هل هي لمسة نبي؟ باليوم الثاني، الثالث، أول أسبوع، الثاني تشعر بالراحة، أراد الله أن يمتحن صدقك، اقرأ القرآن كل يوم، لم اشعر بشيء، ستأتيك ساعة تأتيك نفحة تنسيك التعب كلَّه، إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرَّضوا لها، أنت عرِّض نفسك للنفحة، اقرأ القرآن، صلِّ صلاة متقنة، اذكر الله عزَّ وجل، استغفر، ادعُ، أنت بهذا تعرِّض نفسك لنفحةٍ إلهية، وربنا عزَّ وجل حينما يعلم منك الصدق تأتيك النفحة فتنسى بها كل المتاعب السابقة.
عُذران دائمان وعذرٌ مؤقَّت هذه الأعذار التي يمكن أن تُقبل عند الله:
﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)﴾
أما هؤلاء الذين عذرهم الله عزَّ وجل في عدم خروجهم مع رسول الله فقال:
﴿
هذا عذر دائم، الأعمى والأعرج،
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نتابع هذه الآيات في الدرس القادم بدءاً من قوله تعالى:
﴿
والحمد لله رب العالمين