وضع داكن
18-04-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 081 - منزلة التوكل - 1 من لوازم مقام التوكل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

منزلة التوكل :


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الواحد والثمانين من دروس مدارج السالكين, في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة التوكُّل. 

 

الآيات التي وردت في هذه المنزلة :


هذه المنزلة وردت في القرآن الكريم في آيات كثيرة جداً، فالله سبحانه وتعالى ربط التوكل مع الإيمان . 

الآية الأولى :

فقال تعالى:

﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) ﴾

[ سورة المائدة ]

فمن علامة إيمانكم، ومن لوازم إيمانكم، بل من خصائص إيمانكم: أن تتوكلوا على الله.

 الآية الثانية :

﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾

[ سورة إبراهيم ]

فإن كنت متوكلاً على جهةٍ ما، ينبغي أن تتوكل على الله. 

الآية الثالثة :

يقول الله عز وجل:

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)﴾

[ سورة الطلاق ]

قد تتوكل على إنسان فيقصِّر، أو لا يستطيع، أو ينسى، أما إن توكلت على الواحد الديان فهو حسبك؛ يكفيك، ويحميك، ويغنيك. 

الآية الرابعة :

﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) ﴾

[ سورة الممتحنة ]

 الآية الخامسة :

﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)﴾

[ سورة الملك  ]

الآية السادسة :


﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) ﴾

[ سورة النمل  ]

يا محمد: ( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) وفي هذه الآية ملمحٌ رائع: حينما تكون على الحق، تتوكل على الله, وإن توكلت على الله فهو حسبك، يكفيك، ويغنيك، ويؤيِّدك، وينصرك، ما دمت على الحق، فتوكل على الحق وهو الله عز وجل:( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ )   

الآية السابعة :

قال تعالى:

﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)  ﴾

[ سورة النساء ]

هو الذي يكفي ولا يكفي سواه، إن توكَّلت على حيٍ يموت فقد يخيب ظنك، وقد تصاب بالإحباط، أما إن توكلت على الحي الذي لا يموت، أنت الفالح والناجح، فإذا عزمت وتولدت عندك إرادة جازمة في فعل شيء, توكل على الله، لأن الله قادر على أن يحبط عزيمتك، وقد قالوا: 

عرفت الله من نقض العزائم

فمهما درست الموضوع وأحكمته, ومهما غطَّيت كل الاحتمالات، ومهما تمكَّنت من السيطرة عليه، فإن لم تأتك معونة الله عز وجل، لن تنجح في عملك، وتوكل على الحي الذي لا يموت. 

الآية الثامنة :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾

[  سورة آل عمران ]

كل آيةٍ تتحدَّث عن التوكل من زاوية. 

الآية التاسعة :

﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾

[ سورة إبراهيم ]

الآية العاشرة :

فالله عز وجل بيَّن ووضَّح السبيل إلى التوكل عليه، وقد وصف المؤمنين بأنهم، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾

[ سورة آل عمران ]

علامة المؤمن: الثبات, مهما أوهمه خصومه أنهم سيدمّرونه، أو سيغلبونه، أو يكيدون لأنه متوكل على الله عز وجل:(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)) .

 

وفي آيةٍ أخيرة يصف الله المؤمنين :


فيقول:

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾

[ سورة الأنفال ]

أستخلص من هذه الآيات: 

أنك لن تستطيع أن تتوكل على الله إلا إذا كنت على الحق وكنت مؤمنًا، وإذا توكلت عليه يكفيك، وإذا أحكمت أمرك ولم تتوكل على الله، فكل هذا الجهد الكبير ضائعٌ, لأن الله هو الموفِّق: ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ )


من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام :


من أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- المتوكِّل . وتوكله أعظم توكل، لأن التوكل يتبع الإيمان، فكلما ازداد إيمانك ازداد توكُّلك، لذلك آية كريمة خاصةٌ بالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول الله فيها: ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ )


مما يدعو إلى العجب!! :


والذي يدعو إلى العجب: أن تجد إنساناً مستقيماً، وهو خائف، لماذا الخوف؟ ألا تعبد إلهاً قوياً؟ ألا تعبد إلهاً بيده كل شيء؟ ألا تعبد إلهاً هؤلاء الأقوياء بيده؟ في قبضته؟:

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

كيف تعبده ولا تثق بقدرته؟! كيف تعبده ولا تثق بعدله؟! كيـــف تعبده ولا تثق بحمايته لأوليائه؟!!. 


من لوازم مقام التوكل :


وفي الصحيحين: 

(( عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ, قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ, وَلَا يَتَطَيَّرُونَ, وَلَا يَكْتَوُونَ, وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))

 مقام التوكل مقام كبير جداً، مقام التوكل من لوازمه: أنه يملأ قلب الإنسان أمناً.

وفي صحيح البخاري: 

(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيـــْهِ السَّلَام, حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ, وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا, وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ  ))

فإن كنت مستقيماً، وكنت في مرضاة الله، وكنت في مظلة الإسلام والمنهج، فالتوكل سهل جداً، أما حينما تنحرف تخجل أن تتوكل على الله، لأنّك محجوب، والحجاب كما أنه يمنع الصلاة يمنع التوكل، والتوكل يحتاج إلى قرب من الله، وإلى إخلاص, وصدق, واستقامة، فإن كنت على الحق فلست توكل على الله.

 

من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :


ومن أدعية النبي -عليه الصـلاة والسلام-: 

(( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ, وَبِكَ آمَنْتُ, وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ, وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ, وَبِكَ خَاصَمْتُ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي, أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ, وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ  ))

[ أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح ]

(( لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ )) ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الإمام الترمذي .

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ, تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ))

قبل أنْ يسافر أحدُنا, يهيّئ كل شيء في البيت، يهيئ طعامًا يكفيه مدة سفره، ويعطي الأهل مبلغًا من المال، ويوصي بهم, مَن يمدُّ لهم يد العون عند الحاجة، ويعطيهم رقم هاتفه في السفر، وهو على صِلة دائمـة بهم، ويقول: توكلت على الله، وسلمتهم إلى الله، ما تركت سببًا من أسباب الرعاية إلا اتّخذته، بعد ذلك يتوكل على الله، وسيِّد المتوكلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك توكل غريب جداً: هو توكل سيدنا إبراهيم, حينما أمره الله عز وجل أن يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرعٍ، وأن يغادر، فقالت له زوجته: إلى أين؟! تعجبت, ماء ما في، لا ماء ولا طعام، أرض جرداء قاحلة جافة، إلى أين؟ ثم استدركت، قالت: آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم, هذا التوكل المطلق، من دون أي سبب، والعبودية المطلقة أيضاً فعلها سيدنا إبراهيم، حينما قال له ربه أن يذبح ابنه:

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) ﴾

[ سورة الصافات  ]

(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ, تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ))

تروي الكتب أن رجلاً صالحاً اسمه حاتم الأصم : هذا الرجل أراد أن يحج بيت الله الحرام، ويبدو أنه لا يملك ما يكفي للنفقة على عياله، وتاقت نفسه إلى الحج، فاستأذن أولاده وزوجته فلم يأذنوا له: إلى أين؟ إلى مَن تتركنا؟ إلا أن بنتاً له صالحةً, قالت له: يا أبتِ اذهب فأنت لست برازق، الله يرزقنا، فيبدو أنهم سكتوا، وكأن كلمتها ألقت على قلبه طمأنينةً, فرحل، وذهب إلى بيت الله الحرام حاجاً، بعد أيامٍ نفد الطعام والشراب، فدخل أولاده وزوجته على هذه البنت الصالحة الطيِّبة ليعنِّفوها: أين الطعام؟ مَن يأتينا بالطعام؟ أنت قلتِ لأبيكِ: اذهب وحج بيت الله الحرام فإنك لست رزَّاقاً، ماذا نفعل؟.

تروي القصة: أن هذه البنت دخلت إلى غرفتها، وتوسلت إلى الله عز وجل أن يرزقها ، فالذي حصل أن أمير المدينة كان في جولة تفقدية، وصل إلى بيت حاتم الأصم, فشعر بعطشٍ شديد، فقال لأحد رجاله: آتوني بكأسٍ من الماء، طرقوا باب حاتم الأصم, وقالوا: الأمير يطلب كأس ماء، أهل البيت اجتهدوا أن يكون الكأس نظيفاً، والماء بارداً, هذا الأمير شرب حتى ارتوى، وأذاقه الله أطيب طعمٍ لهذا الماء، فلما انتهى من شربه قال: بيت مَن هذا ؟.

قالوا: بيت حاتم الأصم.

قال: هذا الرجل الصالح؟.

قالوا: نعم.

فقال: لنسلم عليه.

قالوا: هو في الحج.

قال: إذاً له علينا حق، معه صرة من ذهب فأعطاهم إياها، ولم يكتفِ بهذا، قال لمَن حوله: من أحبني فليفعل فعلي.

فجأة انهالت الدنانير الذهبية على أهل هذا البيت، واغتنوا لعام تقريباً، دخلوا على هذه البنت الصالحة، فإذا هي تبكي، قالوا لها: ما لكِ تبكين، وقد أغنانا الله عز وجل؟!.

قالت: أبكي لأن إنساناً نظر إلينا فأغنانا، فكيف لو نظر إلينا خالق الأكوان؟ ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) .

 

دعاء الخروج من البيت :


(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ, تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ, يُقَالُ له حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ, فَيتَنَحَّى لَهُ الشيطان, فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ  ))

[  أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما ]

كلما خرجت من بيتك لاقتْك أخطـارٌ؛ حادث سير، طغيان ظالم، صفقة خاسرة, جُهِل عليك، ضللت، عصيت، كذبت، فإذا قلت قبل أن تخرج من البيت: (( بِسْمِ اللَّهِ, تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ, لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ, يُقَالُ له حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ, فَيتَنَحَّى لَهُ الشيطان, فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟)) .

 

ما قاله العلماء عن التوكل:


وقال بعض العلماء: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني هو الإنابة، ذلك أن الدين استعانةٌ وعبادة، جُمع القرآن في الفاتحة، وجمعت الفاتحة في إيّاك نعبد وإياك نستعين, فالدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، التوكل نصف الدين.

لبعض العلمـاء قول رائع يقول: العلم كلـه باب من التعبُّد، والتعبُّد كله باب من الورع، والورع كله باب من الزهد، والزهد كله باب من التوكل.

 

منزلة التوكل من أوسع المنازل وأجمعها :


قال: هذه المنزلــة من أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورةً بالنازلين لسعة متعلَّق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، فأهل السموات والأرض المكلفون, وغيرهم في مقام التوكل, وإن تباين, متعلَّق توكلهم, فأولياؤه وخاصَّته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصر الدين,  وإعلاء كلمة الله، وجهاد أعدائه، وفي محابه, وتنفيذ أوامره.

إنسانٌ يتوكل على الله لنشر الدين، لإقرار الحق، لتفريج غمِّ المسلمين، لهداية الناس, وإنسان يتوكل على الله لشراء بيت مثلاً، أو لزواج، وإنسان يتوكل على الله لشيء صغيرٍ جداً ، كلهم متوكلون، ولكن التفاوت بين المتوكلين في مضمون التوكّل, ومن دون هؤلاء، إنسان يتوكل على الله في استقامة، وحفظ حاله مع الله، تعنيه نفسه فقط، فتوكُّله متعلّق بذاته، يرجو الله أن يبقيه مستقيماً منيباً خاضعاً، الأنبياء والصديقون يتوكلون على الله من أجل عموم الناس، من أجل هداية الناس، من أجل ترسيخ الحق، وإبطال الباطل.

ومن دون هؤلاء أناسٌ يتوكلون على الله في شؤون الدنيا؛ من رزقٍ، أو عافيةٍ، أو زوجةٍ، أو ولدٍ ونحو ذلك.

 

أفضل أنواع التوكل؟ :


العلماء قالوا: أفضل أنواع التوكل على الإطلاق التوكل في الواجب، أي واجب الحق ، واجب الخَلق، واجب النَفس، وأوسعه التوكل في التأثير في مصلحةٍ دينية، أو دفع مفسدةٍ دينية، أعلى أنواع التوكل: أن تتوكل على الله لجلب مصلحةٍ دينيةٍ للخلق، أو لدفع مفسدةٍ عنهم ، هذا أعلى توكل، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هِمَمِهِم ومقاصدهم, فمن متوكل على الله في حصول مُلْكٍ، ومن متوكل على الله من أجل رغيف.

ثم قالوا: ومَن صَدَقَ توكُّله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوباً له كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كانت العاقبة مفسدة كبيرة له.

الفكرة هنا دقيقة: إنسان يتوكل على الله في معصية, ذلك إنسان جاهل، همُّه أن ينجح في هذا الدور في التمثيل، أو همها أن تنجح في هذا الدور في التمثيل: تدعو ربَّها وتتوكل عليه, في أمر لا يحبه الله، فقد تنجح، لكن هذا الشيء إذا نجحت فيه، حصل من نجاح توكلها على الله مفسدةٌ لها كبيرة، وهذا شيء مشهور بين مَن يعمل في حقل الفن، وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعة، والله أعلم.

والخلاصة: توكل في شأن سامٍ واجب ديني، الواجب الديني إما عام أو خاص,  الأنبياء والمرسلون ومَن ينوب عنهم في إبلاغ الحق، يتوكلون على الله لترسيخ الإيمان في قلوب الناس، ولدفع المفسدة الدينية عنهم، دون هؤلاء؛ مَن يتوكل على الله من أجل سلامة استقامته وحسن خاتمته وحده، أما الذين يتوكلون على الله في شأن من شؤون الدنيا، فإن كان طاعة، أو كان مباحاً نجوا، وإن كان مفسدة هلكوا.

 

العلماء قالوا: التوكل من أعمال القلب.


ومعنى ذلك: أنه عمل قلبي, ليس بقول اللسان, ولا بعمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات، فالقلب حينما يعبد الله يتوكل عليه,  وهلك المسلمون, لأن التوكل نُقِلَ من القلب إلى الأعضاء، لا، التوكل داخلي، الأعضاء يجب أن تأخذ بالأسباب، أما القلب يفوِّض أمره إلى الله، أما إذا عكست الآية، نُقِلَ التوكل من القلب إلى الأعضاء، صار تواكلاً.

أناس كسالى سألهم عمر -رضي الله عنهم-: من أنتم؟. 

قالوا: نحن المتوكلون.

قال: كذبتم, المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.

 

من تعاريف التوكل :


من الناس مَن يتوهم أن التوكل بابٌ من أبواب المعارف والعلوم, فيقول: هو علم القلب بكفاية الرب.

ومنهم من يفسره بالسكون، وخمود الحركة ، اجلس، تدبر ألا تدبر، توكّل على الله, لا تفعل شيئاً، يأتيك رزقك إليك، هذا أسوأ أنواع التوكل، توكل الكسالى، توكل الحَمْقى, توكل العاطلين عن العمل.

وقال بعضهم: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب، وهو ترك الاختيار  والاسترسال مع مجاري الأقدار.

هذا أسوأ نوع من أنواع التوكل، يتوكل بأعضائه وأجهزته لا بقلبه، التوكل مكانه القلب، والأعضاء من أجل العمل والحركة والسعي. 

قال بعضهم -ولهذا القول معنى-: التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد.

هذا معنى جيد.

وقال بعضهم الآخر: التوكل هو الرضا بالمقدور.

وقال بعضهم -وعلى هذا القول تحفُّظ-: التوكل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق.

يعني لا يتزوج، ولا يعمل، ولا يسعى، هجر العلائق ومواصلة الحقائق. 

 

حقيقة التوكل :


أما الحقيقة: أن التوكل حالٌ مركبة من مجموع أمور، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها,  وكل إنسان عرَّف التوكل من زاوية, أشار إلى أحد عناصر التوكل، ولم يشر إلى كل شروط  التوكل، قال: أولى هذه الشروط: معرفة بالرب وصفاته؛ من قدرته، وكفايته، وقيومته, وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

أول شيء في التوكل أن تعرف الله الذي ينبغي أن تتوكل عليه، أن تعرفه قوياً، وأن تعرفه قادراً، وأن تعرفه غنياً، وأن تعرفه رحيماً، وأن تعرفه سميعاً، وأن تعرفه بصيراً، وأن تعرفه مجيباً، وأن تعرف أن الأمر كله بيده، إن عرفت هذا توكلت عليه.

لا يصح التوكل من فيلسوف، ولا ممَّن يؤمن بأن للإنسان فعل، فالله عز وجل هو الفعَّال، لا يقع شيءٌ في كونه إلا بأمره، فإذا توهَّمت أن إنساناً ما، له قدرة على أن يفعل شيئاً, دون أن يرجع إلى الله, أو دون أن يريد الله، فهذا شرك، كل مَن ينسب الفعل للمخلوق فقد أشرك، فقال: هذا لا يتوكل على الله، ما يربط بين أفعال العباد وبين مشيئة الله عز وجل.

وهناك مَن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، هذا الإنسان لا يمكن أن يتوكل على الله، فلا بد من أن تصح عقيدتك، حتى يصح توكلك.

شيء دقيقٌ جداً ينبغي أن تعلمونـه: لا يمكن أن يتناقض التوكل مـع الأخذ بالأسباب ، بل يتكاملان، ليس معنى المتوكل أنه لا يأخذ بالأسباب، المتوكل يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، الموقف الكامل للمؤمن، وما أندر هذا النموذج، أنت ماذا تجد؟ تجد مؤمنًا يتوكل ولا يأخذ بالأسباب، أبسط شيء: يأكل فاكهة دون غسيل، فإن قيل له: يا أخي اغسلها, قال: سمِّ الله، لا يضر مع اسمه شيء، هذا جهلٌ، يتوكل دون أن يأخذ بالأسباب, إنسان آخر يأخذ بالأسباب ولا يتوكل.

الغرب مثلاً: يأخذون بالأسباب بأروع ما تكون ولا يتوكلون على الله، يتوكل عليها، وقع في الشرك، الشرق لا يأخذ بها ويتوكل، الأول أشرك والثاني عصى، وكلاهما لا يوفـق، ينبغـي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.

ففي الهجرة لم يدع سبباً إلا أخذ به، فلما وصلوا إلى الغار, توكل على الله، واستسلم له.

(( فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا, فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ ))

سافر صلى الله عليه وسلم مساحلاً واختبأ في غار ثـور، وكلَّف إنسانًا يمحو الآثار,  وإنسانًا يأتيه بالأخبار، وإنسانًا يأتيه بالطعام، واستأجر خبيرًا مشركًا، ولم يترك حيلةً إلا وأخذ بها، هذا التعبُّد، هذا الأخذ بالأسباب، ولما وصلوا إليه توكل على رب الأرباب، هذا الكمال، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، تريد أن تسافر، لا بـد من فحصٍ دقيق للسيَّارة؛ العجلات، ضغط العجلات، الزيـت، المكبح, جهاز التوازن، ثم تقول: يا رب سلِّمني، يا رب أنا بحفظك ورعايتك، أخذتَ بالأسباب وتوكّلت على الله، أما إذا لم تفحص المركبة وقلت: يا من لا يوجد غيرك، فقد اختل شرط التوكل، لم تأخذ بالأسباب. 

إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، وإن لم تأخذ بها فقد عصيت,  والمؤمن الكامل يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.

 

خلاصة القول :


نصف الدين: إياك نعبد وإياك نستعين، العبادة إنابة إلى الله اتصال، ونستعين توكل, فإن تحدثنا عن التوكل نتحدث عن نصف الدين، ولن تستطيع أن تتوكل على الله إلا إذا كنت على الحق المبين، أما إنسان شارد، ولا يخطر في باله أن يتوكل، بل لو خطر في باله أن يتوكل, يستحي أن يتوكل، يتوكل على من يعصيه!؟ يتوكل على من يغضبه!؟ مستحيل.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين, اللهم أعطنا ولا تحرمنـا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثــر علينا، أرضنا وارض عنا,   وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور