- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة الإيثار .
أيها الأخوة ؛ مع الدرس الثاني والعشرين من دروس مدارج السالكين , في منازل إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين , ومنزلة اليوم منزلة الإيثار .
هذه المنزلة مأخوذةٌ من قولهِ تعالى :
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
السمة والصفة والفرق بينهما .
يعني إذا قُلت :
إنَّ في المؤمنِ سِمةً , ومعنى السِمة غيرُ الصِفة ، قد تعود عشرات الصفات إلى سِمةٍ واحدة ، فالسِمةُ أعمقُ وأوسعُ شمولاً .
فإذا قُلت :
إنَّ من سِمات المؤمن ، من خصائصهِ ، من كُليّاتهِ ، من الصفات الكبرى التي يتصفُ بها .
يعني بالتعبير الحديث جداً من مواقفهِ الأساسية : الإيثار .
ومن صِفات الكافر والفاسق والفاجر : الأَثَرَةَ , الكافر يؤثِرُ ذاتهُ على كلِّ نفس ، يبني حياتهُ على موت الناس ، وغِناهُ على فقر الناس ، ومجدهُ على أنقاض الناس ، وأَمنهُ على خوف الناس .
بينما المؤمن من خصائصهِ الكُبرى وصِفاتهِ العُظمى وسِماتهِ الأساسية : أنهُ يُؤثِرُ الآخرين على نفسه , والدليل :
هؤلاء الأنصار أثنى الله عليهم , فقال :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
طبعاً : إذا آثرتَ الآخرين وأنتَ في بحبوحةٍ كبيرة فهذه مؤاثرة ، فهذا كرم ، أما أن تكونَ في خصاصة , هذا يُذكّرُنا بالحديث القُدسيّ :
((أحبُ الأسخياء وحُبي للفقير السخيّ أشد، أُحبُ الكُرماء وحُبي للفقير الكريم أشد))
لأنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول :
((رُبَّ دِرهمٍ سَبَقَ ألفَ دِرهم))
فالإيثارُ : لاحظ الآية :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾
أمّا الخصاصة تُضاعِفُ قيمة إيثارهم .
القسم الثاني من الآية :
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
يُقابل الإيثار الشُح .
الإنسانُ بينَ شُحٍ وإيثار ، إن كانَ مؤمناً فهو يؤثر ، وإن كانَ غير مؤمنٍ فهو شحيح .
الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ ، يُنفق لَلامَهُ لماذا تُنفق يا رجل ؟ هذا المال دعهُ لكَ , ادخره لوقت الشِدة , لماذا تُنفق !!؟ أمجنون أنت ؟
الشحيحُ حريصٌ على ما ليسَ في يدهِ ، فإذا حصلَ هذا في يدهِ , كانَ بهِ أشح , وبَخِلَ بإخراجه , والبخلُ صِفةٌ ماديّةٌ أساسُها الشُح ، من الداخل شُح ، من الخارج بُخل ، ومن يوقَ مرض الشُح ، هذا مرض عُضال :
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
فالبخلَ سلوكُ النفسِ الشحيحة ، والعطاءُ سلوكُ النفسِ المؤاثِرة الكريمة . يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ , فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِّ , أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا , وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا , وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ))
مرة ثانية : السِمةُ الأساسيةُ ، الصِفةُ الثابتة ، الحركة اليومية لغير المؤمن هي الشُح ، والصفة البارزة للمؤمن هي المؤاثرة والإيثار.
مراتب العطاء :
قالَ عبد الله بن المبارك : سخاء النفسِ عمّا في أيدي الناسِ أفضلُ من سخاء النفسِ بالبذل .
الإنسان إذا تعففَ عن أموال الناس - هذا أولُ مراتب الإيثار - فإذا أعطاهم كانَ أرقى , العطاء لا يُبنى إلا على التعفف , تتعففُ أولاً وتُعطي ثانياً .
الحقيقة في ثلاث مراتب متعلّقة بالعطاء :
المرتبة الأولى : الإيثار .
أعلى هذه المراتب هي الإيثار ، الإيثار سُمي إيثاراً ؛ لأنهُ يُعطي الكثير ويُبقي القليل .
المرتبة الثانية : السخاء .
أما إذا أعطيتَ القليل وأبقيتَ الكثير , فهذه منزلة هي أقلُّ من منزلة الإيثار بكثير اسمها السخاء , سخت نفسُكَ بهذا العطاء , أعطيت القليل وأبقيتَ الكثير .
المرتبة الثالثة : الجود .
فإذا أعطيتَ بقدرِ ما أبقيت فهذا هو الجود .
فإذا أعطيتَ الكثير وأبقيتَ القليل فهذا هو الإيثار .
الإيثارُ ، الجودُ, السخاءُ ، ثلاثُ صفاتٍ أساسيةٍ للمؤمن .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَلا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا ؟
قَالَ :
(( سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً , فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ ))
الأنانية , فالإنسان بينَ الأثرةِ والمؤاثرة ، بينَ أن يُفضّلَ ذاتهُ وبينَ أن يُفضّلَ غيره ، المؤمن دائماً يبتغي رِضوان ربهِ , يُفضّلُ رِضوانَ ربهِ ، هو المؤمن لا يؤثر الآخرين إلا ابتغاءَ مرضاة رب العالمين ، إذاً ماذا يفعل ؟ يتخذُ من إكرام الناسِ ومن إيثارهم على نفسهِ سبيلاً إلى الله عزّ وجل ، فالطريقُ إلى اللهِ أساسه الإيثار ، والقطيعةُ مع الله أساسُها الأثرة , الشُح , فأنتَ بينَ الأثرةِ والإيثار ، بينَ الجودِ وبينَ الشُح ، بينَ أن تُعطي وبينَ أن تأخذ , وقد صدقَ من قال :
إذا أردتَ أن تعرِفَ مقامك أمن أهل الدنيا أنت أم من أهل الآخرة دقق :
ما الذي يُفرِحُك ؟ ما الذي يُسعِدُك ؟ أن تُعطي أم أن تأخذ ؟
إذا كانَ الذي يُفرِحُكَ أن تُعطي , فأنتَ وربِّ الكعبةِ من أهل الآخرة , وإذا كانَ يُفرِحُكَ أن تأخذ فأنتَ قطعاً من أهل الدنيا .
صِفتان أساسيتان ، سلوكان عامّان ، حركتان ثابتتان : إمّا أن تكونَ من أهلِ الأثرة , وإمّا أن تكونَ من أهل المؤاثرة .
سيدنا قيس بن سعد بن عُبادة رضي الله عنهُما كانَ من الأجواد المعروفين , حتى إنه مَرِضَ مرةً , فاستبطأَ أخوانهُ في العيادة , فسألَ عنهم ، فقالوا : إنهم كانوا يستحيون مما لكَ عليهم من الدين , الدين الذي عليهم حالَ بينهم وبينَ أن يعودوك ، فقالَ سيدنا سعدُ بن عبادة : أخزى الله مالاً يمنعُ الأخوان من الزيارة ، ثم أمر مناديّاً يُنادي من كانَ لقيسٍ عليهِ مالٌ فهوَ مِنهُ حِلٌ , فما أمسى حتى كُسِرت عتبةُ بابِهِ , لكثرةِ من عاده .
مراتب الجود :
1-الجود بالنفس :
عشرة أنواع أو مراتب للجود , سأُفصّلُ فيها إن شاءَ الله تعالى , فلعّلَّ أحدنا يتخلّقُ ببعضها أو بأكثرِها أو بأقلِها ، فقالوا :
أحد هذه المراتب ربما كان أعلاها على الإطلاق : الجودُ بالنفس .
هذا الذي يُقتلُ في ساحة المعركة شهيداً، هذا الذي قدّمَ للهِ ذاتهُ, قدّمَ نفسهُ، والجودُ بالنفسِ أقصى غاية الجود.
النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكرَ للشهيدِ صفاتٍ تكادُ لا تُصدّق, أُولى هذه الصفات: أنَّ الله سبحانه وتعالى يجعلُ طريقةَ قتلِهِ ليست مؤلِمةً أبداً, ويجعلُ دَمَهُ له رائحةُ المِسك، ويرى منزلتهُ بالجنةِ قبلَ أن يُقتل:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
ولكن بقوانين لا علاقةَ لها بقوانين الدنيا، لذلك الجودُ بالنفس وهو أعلى مراتِبهِ، وكم من حفرياتٍ تمت في بلاد الرافدين فعُثِرَ على جُثث الصحابة بعدَ ألفٍ وثلاثمائة عامٍ كما هي؟ وكم من حفريات تمت في اليرموك فعُثِرَ على أجساد الصحابةِ كما هي؟ والشهداءُ الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله, هؤلاء لهم أعلى الدرجات، أعلى درجة في الجود أن تجودَ بنفسك.
2-الجود بالرياسة :
في درجة ثانية عاليةٌ جداً, وهي الجودُ بالرياسة:
لك مكانة رفيعة ضحيّتَ بها في سبيل الله, إنسان يكون لهُ منصب رفيع أو مكانة معينة, فإذا أرادَ أن يستقيمَ على أمر الله, وإذا أراد أن يرضي الله عزّ وجل, لا بدَّ من التخلّي عن هذا المنصب, أو عن هذه المكانة, أو عن هذه المنزلة، المكانة التي يحتلّها الإنسان شقيقةُ الروح, فلذلك كثيرٌ من الذين كفروا واستكبروا وكابروا, وأبَوا أن يؤمنوا أو يُسلِموا, حِفاظاً على مكانتهم, وحفاظاً على مركزهم, وحفاظاً على رياستهم, فإذا ضحى الإنسان بمكانتهِ أو برياستهِ أو بمنصِبهِ أو بمنزِلتهِ في سبيل ربه, فقد آثر الله على مكانتهِ.
أمّا هُنا المُشكلة, المُشكلة وكما أقول دائماً: رُبما تأخذون عليّ أنني أستخدمُ هذه العبارة كثيراً: زوالُ الكونِ أهونُ -هذه العبارة ما رأيت عبارةً تُعبّرُ عمّا في نفسي خيراً منها - على الله من أن يُضيّعَ مؤمناً آثَرَ رِضاه.
آثرتَ رِضاه ويُضيّعُك؟ آثرت رِضاه ويُخزيك؟ آثرتَ رِضاه ويجعلُكَ في مؤخرة الركب؟ آثرتَ رِضاه ويُفقِرُك؟ آثرتَ رِضاه ويُشقيك؟ هذا شيء مستحيل في ذات الله عزّ وجل, لأنهُ الكريم، إنه الشكور، فأكثرُ الناس يقولون: إذا فعلتَ كذا وهو طاعة يُصيبُكَ كذا وكذا، أهكذا؟ لأنكَ أطعتَ الله عزّ وجل دفعتَ هذا الثمن الباهظ؟ لكن ما الذي يحصل؟ قد يتراءى لكَ: أنكَ إذا أطعتَ الله, جاءكَ ضررٌ كبير، وشقاءٌ طويل, لكنكَ لشدةِ حُبِكَ لله عزّ وجل تؤثِرُ ما عِندَ الله من سعادة وتُضحّي، الذي يحصل أنَّ الله سبحانه وتعالى يُبدّلُ القوانين من أجلك وهي الكرامة، فهذا الذي كانَ من الممكنُ أن يثورَ ويغضب لهذا الموقف الذي وقفته, يعطِفُ ويُقدّرُ ويُبجل هذا الموقف, ويعودُ الموقف الخطير موقِفاً مُسعِداً.
أحد أخواننا الكِرام له عمل مع شركة أجنبية, ودخلهُ كبير جداً منها, وهؤلاء الموظفون يحملون في حقائبهم الخمرة إذا اشتروها من بعض المحلات, فحينما رأى مركبتهُ يوضعُ فيها الخمر, أبى عليه إيمانهُ, وأبت عليه مروءتهُ واستقامتهُ وغيرتهُ وحُبه لله عزّ وجل, فنوى أن يُضحي بكلِّ هذا الراتب الضخم, وبكلِّ هذه الوظيفة ذات الدخل المُرتفع, ويقول: لا أسمحُ أبداً لأحد أن يركب في مركبتي ومعهُ مشروبٌ حرام، فالمفروض أنَّ هؤلاء يستغنون عنهُ, وهناكَ عشراتٌ بل مِئاتٌ يتهافتونَ على أقدامهم, ليعملوا معهم براتبٍ ضخم، وحصل عكس ما متوقّع, تمسّكوا بِهِ, وبالغوا في تكريمهِ, وأغدقوا عليه من العطايا, وأَمِنوهُ على بيوتهم, وعلى أموالهم، على عكسِ ما أنتَ متوقّع.
وأقول لكَ هذا الكلام, وأعني ما أقول: إذا جاءكَ عرضٌ أو جاءكَ موقفٌ بينَ موقفين؛ إمّا أن تُطيعَ الله عزّ وجل, تُضيّع هذا الكسب الكبير, هذه الدنيا العريضة, هذا المركز المرموق, وإمّا أن تقبلهُ على معصية الله، قول جميل ورائع:
إذا آثرتَ الآخرة على الدنيا كَسِبتَ الآخرة والدُنيا، وإذا آثرتَ الدُنيا على الآخرة خَسِرتَ الدنيا والآخرة, فالجودُ بالرياسة هو ثاني مراتب الجود.
3-الجود براحته ورفاهيته :
وأمّا المرتبة الثالثة: فالجود براحتهِ ورفاهيتهِ:
الإنسان يدخل إلى بيتهُ يتناول طعام الغداء، يستلقي على السرير، يستيقظ حولَهُ أهلهُ وأولاده، بإمكانهِ أن يبقى مُستمتعاً في بيتهِ، يطلب من حين لآخر ما لذَّ وطاب، لكنهُ تركَ البيت, وتركَ المقعد الوثير, وتركَ الزوجة الوفيّة, وتركَ الأولاد الذينَ هم كالعصافير، تَرَكَ كُلَّ أؤلئك, وركبَ السيارة الأولى, ورَكِبَ الثانية, وقد يكون فيها ازدحام, ليصلَ إلى بيت الله, ليحضُرَ مجلس عِلم، أنتَ بماذا جُدت؟ جُدتَ براحتك ورفاهيتك، طُرِقَ بابُك في وقتِ راحتك: من الطارق؟ فُلان، هذا وقتُ نومي, أبلِغوه أنني لستُ مستعداً لاستقباله الآن, آثرتَ الراحة, أمّا إذا نهضت، وأجبتَ طلبه، ورددتَ لهفته وأغثتهُ، بماذا جُدتَ أنت؟ جُدتَ أنتَ براحتك ورفاهيتك, الجودُ براحة الإنسان ورفاهيتهِ, هذا أيضاً من الجود.
4-الجود بالعلم :
المرتبة الرابعة: الجودُ بالعِلم.
-أول واحدة بالنفس، الثانية بالمكانة والمنزلة، الثالثة بالراحة, في أُناس لا يمكن أن يُضحّوا بأوقاتِ راحتهم, لا يُمكن أن يُضيعوا قيلولتهم كُلَّ يوم, لا يُمكن أن يُضيعوا سهرتهم كُلَّ يوم, لو أنَّ الناسَ تَعِبوا كثيراً هو عليهِ أن يرتاح, هذا أيضاً من ضعفِ الإيمان-.
المرتبة الرابعة: الجودُ بالعِلم وبذله:
وهو من أعلى مراتب الجود, لأنهُ من أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعاً, أنَّ إنساناً كان ضائعاً، تائهاً، شارداً، شقيّاً، بيتهُ جحيم، مُشكلاتهُ كثيرة، دللتهُ على الله, فاستقام على أمرِهِ، فشعرَ بالسعادة والطمأنينة، تيسّرت أعمالهُ، يَسّرَ الله له دخلاً وفيراً، يَسّرَ الله له زواجاً سعيداً، فحينما التقيتَ بهِ, بالَغَ في شُكرِك, وأثنى على دعوتك, وقالَ لكَ: جزاكَ الله عنيّ كُلَّ خير، كُلُّ أعمالي في صحيفتك، أنتَ سببُ هِدايتي, ألا تشعر وأنتَ تستمعُ من هذا الإنسان لهذا الثناء: أنَّ الله يُحِبُك, وأنَّ الله قد رَضي عنك, وأنَّ هؤلاءِ الخلق عيالُ الله, وأنَّ أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله؟ ألا تشعر بالغِبطة أن يستخدِمكَ الله في الخير؟ ألا تشعر بالاعتزاز أن تكونَ موظفاً عِندَ الله عزّ وجل؟ ألا تشعر بالقُرب حيثُ أنَّ الله سبحانهُ وتعالى أجرى على يدكَ الخير؟ هذا شعور -يا أيها الأخوة- لا يعرِفهُ إلا من ذاقهُ.
في مجلة كُنتُ أقرؤها, هي مُترجمة كُلُّها, يعني مرة قرأتُ فيها كلمتين في مؤخرة صفحةٍ فارغة، يعني بعض المجلات يكون باقي نصف صفحة فارغة يضعون فيها حِكمة, قرأتُ هذه الكلمة ولا أنساها حتى الموت: إذا أردتَ أن تسعد فأسعِدِ الآخرين.
إذا أردتَ أن تسعد فأدخل على قلبِ الناس السرور.
مرة جاءني مُنجّد للبيت معهُ صانع، يبدو أنه فقير جداً, وجههُ كالح ومُعذّب، أنا شعرت من ملامح وجهه، من لون وجهه، من جمود نظرته، أنهُ طفل هيّن على الناس كثيراً، فنريد أن نأكل, تعال يا أخي تعال كُل معنا فتمنّعُ وخاف, تعالَ كُل، قال لي: أكلت، ألححتُ عليه أن يأكل ورحّبتُ به وابتسمتُ له, أشرقَ وجههُ، شَعَرَ كأنهُ بينَ أهلِهِ، هكذا المؤمن.
طفل صغير, أجير, مُنجد, خائف، هيّن على الناس, من أسرة فقيرة، وجههُ كالح، أكرمتهُ, ودعوتهُ إلى الطعام, وأثنيتُ عليه, حتى استأنس, أنتَ مؤمن, هذا عبد لله.
مرة قرأت حدثاً لا أنساه: الإنسان بنيانُ الله وملعونٌ من هَدَمَ بُنيانُ الله.
هذا الطفل تجعله يخاف، تُشقيه، تبتزُّ ماله, فكلّما ارتفعت معرفتُكَ بالله عزّ وجل, تشعر بعطف على الخلقِ كُلِهم، تشعر بمودة لكُلِّ المخلوقات:
هؤلاء عيالُ الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.
فالرابعة: الجودُ بالعِلم.
يعني أنتَ ومن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعاً، لو فرضنا وجدت ابن صديقك ضائع, والأب على نار, قلق عليه, وشوقاً إليه، هذا الابن ابن الصديق, لو أطعمتهُ شطيرة أو ألبستهُ ثوباً وتركتهُ ضائعاً والأب يغلي، لو أنكَ أطعمتهُ وسُقتَهُ إلى أبيه حتى قرّت عينهُ بِهِ, ألا تشعرُ أنَّ سوقَكَ هذا الطفل الضائع إلى أبيه أعظم عملٍ تُقدّمهُ لأبيه؟ يعني أنت قد تُطعم الفقير، لكن هذا الفقير إذا أطعمتهُ, ثم دللتهُ على الله, حتى عَرَفَ الله، حتى أنابَ إليه، حتى رَجَعَ إليه، حتى لاذَ بِحِماه, ألا تشعر أنَّ هذا العمل هو أعظمُ عمل عِندَ الله عزّ وجل؟ أن تَرُدَّ إليهِ عِبادهُ الشاردين التائهين الضالين الذين شَقوا بالبُعدِ عنهُ, لذلك: الله شكور، ما معنى شكور؟ أيّ يشكر لك عَمَلَك, ويجعلُ كُلَّ أعمالِ الذين هديتهم إليه في صحيفتك, كُلُّ أعمالِهم في صحيفة من كانَ سبباً في هدايتهم؛ لذلك نقول نحنُ جميعاً:
اللهم أجزِ عنّا سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ما هو أهلُه.
كُلُّ أعمالُنا في صحيفة النبي عليه الصلاة والسلام.
من مراتب الجود بالعلم :
أن تبذله لمن يسألك عنه :
أيها الأخوة, الجودُ بالعِلم لهُ مراتب, من الجودِ بالعِلمِ: أن تبذُلهُ لمن لم يسألكَ عنهُ.
هؤلاء جبابرة العلماء, إذا ما سألت وتذللت وخضعت وانتظرت لا يُجيبُك، أمّا من مراتب الجود بالعِلم: أن تبذِلهُ لمن لا يسألُكَ عنه.
يعني أنتَ راكب في مركبة عامّة من هُنا إلى حلب, وبجانبك صديق, فسألتهُ عن عمله، عن اسمه, أنِستَ لهُ, حَدثّهُ عن الله عزّ وجل ولو لم يسألك، لكَ صديق، لكَ ابن, لكَ جار، لكَ موظف في محلك، هذا لو أنهُ ليسَ طالِباً للعِلم، ليسَ راغباً فيه، بعيداً عن أجوائهِ، حاول أن تُلقي عليه بعضَ العِلم، جُسَّ نبضَهُ بهذا العِلم، قدّم لهُ شيئاً لطيفاً، شيئاً مُحبباً، شيئاً ممتعاً، شيئاً مثيراً، لعلّهُ يتفاعلُ بِهِ، أعِنهُ على دُنياه، دارِهِ، ابذل شيئاً من الدنيا من أجل الآخرة ، فهذه المرتبة أن تبذلهُ لمن لم يسألكَ عنهُ، بل تطرحهُ عليه طرحاً, هذه مرتبة عالية في تعليم الناس.
أن يقدم للسائل جواباً شافياً تاماً مستقصياً :
في مرتبة أخرى: أنَّ السائلَ إذا سألكَ عن مسألةٍ استقصيتَ لهُ جوانِبها:
شخص تسألهُ فيقول لكَ: لا يجوز, لماذا لا يجوز؟ ما الدليل؟ لا يشرح, لأنه ضيق الصدر, هنُاكَ أطباء يصفون الدواء, يقول للمريض: استعمل الدواء, والمريض يتمنى معرفة مرضه, فيضن الطبيب على المريض بكلمة أو بتفصيل أو ببيان.
مرة زرت طبيباً, على ظهر الوصفة كتب اسم المرض وتشخيصهُ وشرح للمريض, هذا المرض هكذا, وشِفاؤهُ عاجل إن شاء الله, ألقى في قلبهِ الطُمأنينة, ففي عالِم لا يُجيبُكَ إلا إذا سألتهُ, وفي عالِم حتى إذا ساءلته يُعطيكَ جواباً مُقتضباً, أمّا أن يشرح، أن يُبيّن، أن يأتي بالدليل، الغناء حرام؟ حرام طبعاً, لماذا حرام؟ الدليل: أول آية وثاني آية وأول حديث وثاني حديث -بارك الله- الآيات هكذا معناها, هكذا تفسيرها.
فالمرتبة الثانية أن يُقدّمَ له جواباً شافيّاً تامّاً متقصيّاً.
قال بعض العلماء: كان إذا سُئلَ عن مسألةٍ, ذكرَ في جوابِها مذاهِبَ الأئمةِ الأربعة إذا قدر، ومأخذَ الخِلاف، وترجيحَ القول الراجح، وذكرَ متعلقات المسألة التي رُبما تكونُ أنفعَ للسائل, فيكونُ فرحه بتِلكَ المُتعلقات واللوازم أعظمُ من فرحهِ بمسألته.
ألا يقتصر في المسألة على أحد جوانبها :
من جودِ الإنسان بالعِلم: ألاّ يقتصرَ في المسألة على أحدِ جوانِبِها:
مثلاً: النبي الكريم سُئل عن الوضوء بماء البحر, فقالَ عليه الصلاة والسلام:
((هو الطهورُ ماؤهُ -أليس هذا هو الجواب ؟ ألم ينته الجواب ؟- الحِلُّ ميتتهُ))
هذه زيادة, لو أنهُ قال: الطهورُ ماؤهُ, انتهى الجواب, قالَ: الحِلُّ ميتتهُ، أجابكَ وزاد.
مثلاً: سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن الحُكمِ في بيع الرُطب بالتمر, فقالَ عليه الصلاة والسلام:
((أينقصُ الرُطبُ إذا جف؟ -التمر جاف والرُطبُ طري, البلح- قالوا: نعم, فالَ: فلا إذاً))
لو قال لهم: لا يجوز, لماذا؟ لو بِعتَ تمراً بِرُطب الوزن واحد, بعد يومين الرُطب جف, صار الكيلو نصف أو ثلاثة أرباع الكيلو, فلا يوجد تكافؤ, فلمّا نهى عن هذا البيع, أرادَ أن يُبيّن العِلة صلى الله عليه وسلم, فقالَ: أيجفُ الرُطبُ؟ قالوا: نعم, قال: إذاً فلا.
أعطاك العِلّة هُنا, هذه العِلّة عقليّة, أنت إذا كان سألكَ إنسان قد تُعطيه العِلة النقليّة، الدليل النقليّ، لكن أكمل جواب: أن تُعطيهُ الدليل العقلي والنقلي، أيجوزُ للمرأة أن تكشِفَ عن وجهها؟ تقول: لا, لماذا؟ الآية الأولى والآية الثانية والآية الثالثة وخمسة أحاديث, الآية الأولى فسّرها ابنُ عباس كذا, وفسّرها القُرطُبي كذا, وفسّرها الإمام مالك كذا, هذا دليل نقلي والعقلي موطن الجمالِ كُلهِ في الوجه, هذا الدليل العقلي، فإذا سُئِلتَ عن شيء قدّم الدليل العقلي والدليلَ النقليّ, فإذا جمعتَ بين العقلي والنقلي, فقد استوفيت المسألة, وأجبتَ إجابةً صحيحة.
هذا من أخلاق النبي -عليه الصلاة والسلام- في بذلِ العِلم، واحد ضَمِنَ بستاناً, فجاءت جائحةً أتلفت كُلَّ المحصول في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال عليه الصلاة والسلام:
(( لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا, فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ, فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا, بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟))
بِمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟ يعني بِعتهُ هذه الثِمار على الأشجار, وجاءت جائحةٌ, فأتلفت كُلَّ شيء, الآن تُطالِبهُ بثمانين ألف ثمن, ماذا؟ يعني المفروض أن يبيع المحصول, ويربح, ويعطيك ثمن المحصول، أمّا هذه الجائحة قضت على كُلِّ المحصول, أنتَ الآن تُطالِبهُ بثمن هذا المحصول, لوجود اتفاق، فالنبي الكريم قال:
((إن بِعتَ من أخيكَ ثمرةً, فأصابتها جائحةٌ, فلا يحلُّ لكَ أن تأخذَ من مالِ أخيكَ شيئاً))
يُقاس عليها أنه: ومن ينكل يدفع خمسين ألف.
لو نكل فُلان أخذتَ منهُ هذا المبلغ مُقابل ماذا؟ أنتَ عِندكَ خيارين؛ إمّا أن تُقيلهُ ولكَ أجر وإمّا أن تُلزِمهُ بالبيع، إمّا أن أرفعَ الأمرَ إلى القاضي, فيلزِمهُ بالبيع, لأنَّ فيهِ إيجاباً وقبولاً, وخالياً من كلّ تدليس وغش, وإمّا أن أعفو عنهُ, وأٌقيلَ عِثارهُ, لي عِندَ الله الأجر، الأولى عدل والثانية إحسان:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
أما في كثير من الباعة يشتري الإنسان حاجة لا تزال في غِلافِها, أرادَ أن يعيدها, تخسر هذه مائة ليرة, هذه المائة ليرة بِمَ أخذتها؟ لكَ أن تقول له: لا أُقيل عِثارك، البيع تم، ولكَ أن تُقيلَ عِثارهُ، أمّا أن تُقيلَ عِثارهُ بثمن هذا الثمن بِلا عِوض, فقال عليه الصلاة والسلام:
((فلا يحلُّ لكَ أن تأخذَ من مالِ أخيكَ شيئاً, بِمَ يأخذُ أحدكم مالَ أخيه بغير حق؟))
بيّن العِلة، بيّن أن هذا عقد بيع عقد معاوضة, لا بدَّ من عِوضٍ مكانَ الثمن، كلُّ عقود البيوع عقود معاوضة، لذلك اليانصيب حرام بِلا عِوض.
5-الجود بالنفع بالجاه :
أحياناً: في مرتبة أُخرى من مراتب الجود, هي: الجودُ بالنفعِ بالجاه:
يعني أنتَ لكَ مكانة عِندَ فُلان, وليّ قضيّة عِند فُلان, أتذهبُ معي إليه؟ يقول لكَ: أنا واللهِ لا أبذِلُ ماءَ وجهي لأحد، إذاً بخيل, ما دام أنا على حق، وأنا أُطالب بحق، وهذا الإنسان متعنت لكنهُ يخشاك ويرهبُ غضبك، ولكَ عليه دالّة فاذهب معي إليه، كُن شفيعي له، يقول لكَ: لا أنا لا أبذِلُ ماءَ وجهي أبداً لأحد، إذاً شحيح.
شخص لحاجاتي, لا يمكن أن أذهبَ إليه إطلاقاً, لكن طرقَ بابي أخٌ كريم, ولهُ عِندهُ حاجة, قُلتُ: أذهبُ معكَ إليه، قلتُ: لو أنَّ قضيتي عِندهُ, مهما كَبُرَ حجمُها لا أذهبُ إليه, لكن من أجلكَ أذهب, هكذا ينبغي أن نفعل, وهذا اسمه: الجودُ بالنفعِ بالجاهِ؛ كالشفاعة, والمشي مع الرجلِ إلى ذي سُلطانٍ, ونحوهِ, وهوَ زكاةُ الجاهِ, جميل هذا التفكير, زكاةُ الوقتِ: حضور مجالس العِلم والصلاة أولاً، زكاةُ الجاهِ: أن تشفعَ لمظلومٍ عِندَ من يأتمرُ بأمرك, يعني مثلاً: تحل قضية إنسان، تمسح جِراح إنسان، إذا لبستَ ثيابك, وذهبتَ إلى فُلان, وأمضيتَ من وقتِكَ ساعتين, أشعر أنَّ المؤمن الصادق لا يمكن أن يبخل بوقته إذا ذهبتَ إلى بيتِ هؤلاء يردّونَ لهُ زوجتهُ, تجمعُ بينَ زوجين، تمسحُ الأسى عن أطفالِهما، وهذا لا يُكلّفُكَ إلا أن تذهبَ إلى بيت أهلِ الزوجة, وتُقنعهم بِردِّ ابنتهم إلى زوجها, ولكَ عليهم دالّة ويرهبونك, لذلك:
أفضلُ شفاعةٍ أن يشفعَ الرجلُ بينَ زوجين في نِكاح.
6-الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه :
والمرتبةُ السادسة في الجودِ: الجودُ بنفعِ البدنِ على اختلاف أنواعِهِ: كما قالَ عليه الصلاة والسلام:
(( كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ, كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ, وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ, وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ, وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ, وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ))
صدقة, مُتفقٌ عليه, إنسان يحمل أغراضاً ينوءُ بِها, وأنتَ شاب, وشخص يستأهل أن تكونَ في خِدمتهِ, فحملتَ عنهُ حاجاتِهِ, بذلت الآن عضلات، بذلت جهداً عضلياً, هذه صدقة, إذا سِرتَ مع إنسان في شدّةِ قدميك هذه صدقة، إذا واحد في الطريق تبعثرت حاجاتهُ, والطريق مزدحم, وعكفتَ على هذه الحاجات, وجمعتها لهُ, هذا عمل طيب.
7-لجود بالعرض :
ومن أغربِ أنواع الجود: الجودُ بالعِرض، والعِرضُ في التعريف الدقيق: موطن المدحِ والذمِّ في الإنسان.
فأبو ضُمضُم من الصحابة الكِرام, كانَ إذا أصبحَ قال: اللهم إني لا مالَ لي -أنا فقير يا رب- أتصدقُ بهِ على الناس, وقد تصدقتُ عليهم بِعِرضي, فمن شتمني أو قذفني فهو في حِلٍ, فقال عليه الصلاة والسلام: من يستطيعُ منكم أن يكونَ كأبي ضمضم فليفعل.
لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا, فقال: إذا واحد شتمني, أو تحدّثَ عنيّ بالسوء, فأنا أُسامحهُ, تصدّقتُ على الناس بموطن المدحِ والذمِّ فيَّ, بعرضي, هذا نوع من أنواع الجود.
8-الجود بالصبر :
في نوع آخر: الجود بالصبر:
إنسان لهُ ابن, فسيارة دهست ابنهُ, وصار في كسر، يقدر أن يأخذ تقريراً شرعياً, ويدفع السائق مبالغ طائلة, والسائق مستقيم, والحادث قضاء وقدر, وعن غير قصد, ورآه قدّم وبذل وأسعف وجهد, وليسَ له دخل كبير إطلاقاً, سلّم الولد, فأنتَ عفوتَ عنه, بعد أن اطمأنَّ الأبُ على ابنهِ, وصار في نوع من العناية الفائقة، فإذا عفوت عنهُ، فهذا جود منك, أما إذا كان عفوكَ عنه يدفَعُه إلى أن يتجاوز حدود الآخرين هذا لا يجوز، أما إذا كان في عفوِكَ عنهُ تكريماً لهُ, وتقديراً لشعورِهِ الأخلاقي, فربما في بعض المواطن, يُعدُ العفو عنهُ مكرُمة، الدليل:
﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
واحد جرح الآخر، له حق المجروح أن يقتصَّ من الجارح, قال: فمن تصدّقَ بهِ فهوَ كفارةٌ له:
﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾
واحد خطب وعقد القِران, بعد أيام نَدِمَ ندماً شديداً، عليه نِصفُ المهر:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
إذا أهل الفتاة عَفَوا عن هذا الخاطب النادم, وسامحوه بنصف المهر, فهذه صدقةٌ لهم تُعد.
9-الجود بالخلق والبشر والبسطة :
المرتبة التاسعة: الجودُ بالخُلِقِ والبِشرِ والبسطة:
يكون عِندكِ موظفون، عِندكَ صُنّاع، لكَ مكان قيادي, مُعلّم مثلاً، مدير، مدير مستشفى، مدير مؤسسة، يعني أحياناً من حولك يؤنسهم أن تبتسمَ في وجوههم، يَضِنُّ عليهم بابتسامة، يَضِنُّ عليهم بكلمة شُكر، يعطيكم العافية لا يقولها, يدخل والجميع يقفون إجلالاً له وهو معرض عنهم، جلس, أعطوني القهوة، قُل: السلام عليكم, عافاكم الله, دخل الحاجب: كيف صحتك يا بُنيّ؟ كيف أحوالك؟ هل أنت بحاجة لشيء؟ هذا لا يُقلل من قدرك, أنتَ مُدير عام, وهذا حاجب, لا يُقلل من قدرك, ففي جود بطلاقة الوجه، بالسلام، بالسؤال، بالكلمة الطيبة، هذا من الجود, الدليل:
عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ:
((رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ, لا يَقُولُ شَيْئًا إِلا صَدَرُوا عَنْهُ, قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ, قَالَ: لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ, فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ, قُلِ: السَّلامُ عَلَيْكَ, قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ, قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ, الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ, وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ, وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ أَوْ فَلاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ, قَالَ: قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ, قَالَ: لا تَسُبَّنَّ أَحَدًا, قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلا عَبْدًا وَلا بَعِيرًا وَلا شَاةً, قَالَ: وَلا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ, وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ, إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ, وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ, فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ, وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ, فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ, وَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ, وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ, فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ, فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ))
هذا معروف أن تبتسم لأخيك، طبعاً لأخيك هو مستغنٍ عنك, أمّا أن تبتسم لموظفٍ عِندك، أن تبتسم لصانعٍ صغير، يتمنى أن تبتسم بوجهه، يتمنى أن يسمعَ مِنكَ كلمة مؤنسة.
10-أقل مراتب الجود: أن تترفع عما في أيدي الناس :
أقلُّ مراتب الجود أن تترفعَ عما في أيدي الناس, هذا الجود السلبي, في إنسان يطمع بأموال الناس، يراقبون, إذا تعففتَ عن أموال الناس, فهذا أحد أنواع الجود.
لكن -إن شاء الله- في موضوع دقيق جداً, وأعلّقُ عليه أهميةً كُبرى في موضوع الجود, أرجو الله سبحانهُ وتعالى أن يُتاحَ لي في درسٍ قادم.
هو موضوع المؤاثرة: أن تؤثِرَ مخلوقاً على حظِكَ من الله عزّ وجل, هذا تَزِلُّ بهِ أقدامُ كثيرين وهم لا يشعرون, هذا الموضوع -إن شاء الله- سأوفيهِ حقهُ في الدرس القادم, يعني لا مؤاثرةَ في الخير والخيرُ كُلهُ في المؤاثرة، يعني أن أُوثر إنسان ولا أُصلي وأنا أُحدثهُ عن الله عزّ وجل, لا, آثرتهُ على صلاتك، آثرتهُ على طاعةِ ربك، آثرتهُ على حظِكَ من الله عزّ وجل، هذا موضوعٌ دقيقٌ دقيق, وأكثرُ المؤمنين قد تَزِلُ أقدامهم فيه, فينبغي -إن شاء الله تعالى- في درسٍ قادم أن نوفّيهُ حقهُ.