وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 030 - الشرك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الشرك :

  مع الدرس الثلاثين من دروس مدارج السالكين , في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين, وقد أمضينا دروساً عِدة في أنواعِ الذنوب والآثام ، تحدثنا عن الفحشاء والمُنكر ، وتحدثنا عن الإثمِ والعدوان ، وتحدثنا عن أنواع الفِسق , وعن أنواع النِفاق , وعن أنواعِ الكُفر , وعن أكبرِ ذنبٍ من هذه الذنوب , وهوَ أن يقولَ الإنسان على اللهِ ما لا يعلم , وبقيَ علينا موضوعٌ من هذه الموضوعات وهوَ الشِرك , وربما تظنونَ أنني أُبالغ , ولكنني في الحقيقة أقولُ : إنَّ الشِرك هو من أخطر الذنوب التي يقعُ بها الإنسان , لماذا ؟!.
 لأنكَ إذا أشركتَ باللهِ عزّ وجل , توجهتَ إلى غير الله , لا تجدُ شيئاً ، لا تجدُ نافعاً ، لا تجدُ ضاراً ، لا تجدُ مُعيناً ، لا تجد سعادةً , يعني هؤلاء الذين قالوا : ما تعلمّت العبيد أفضلَ من التوحيد .
 ما تجاوزوا الحقيقة , وما وقعوا في المبالغة ، هؤلاء الذين أرجعوا أكثرَ الذنوبِ إلى الشِرك .
 الحقيقة : الشِرك من أوسع الأبحاث , ويكفينا أنَّ كلمة التوحيد , هيَ شهادةُ أن لا إلهَ إلا الله .
 على كُلٍ ؛ شأنُ هذا الموضوع كشأنِ الموضوعات الأخرى ، الشِرك تتسعُ دائرتهُ حتى يشملَ أن تعتمدَ على غير الله ، وتضيقُ دائرتهُ حتى تدعي إلهاً غيرَ الله .

 

أنواع الشرك :

1-الشرك الأكبر :

 كما هيَ العادة في منهج البحث , في هذه الموضوعات , هُناكَ شِركٌ أكبر وهُناكَ شِركٌ أصغر ، الشِركُ الأكبر لا يُغفر إلا بالتوبة , إذ أنَّ أيةَ آيةٍ قرآنيةٍ وأظنُهما آيتين فقط :

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾

[سورة النساء الآية: 48]


 أجمعَ العلماءُ على أنَ هذا الشِرك الذي لا يُغفر إذا ماتَ صاحبهُ وهو مُشرك , أمّا إذا تاب تابَ اللهُ عليه ، لذلك يُعقّبون على الآيةِ بقولهم : إنَّ اللهَ لا يغفرُ أن يُشركَ بهِ إن لم يتُب ، الشِرك الأكبر أن تتخذَ للهِ نِداً .
 الآن يقول لكَ قائل : طبعاً يوجد من الشِرك الأكبر نوعان , هؤلاء الذين يعبدون آلهةً في هذا العصر , بوذا , هذه الديانات في شرقي آسيا التي تُتخذُ من بعضِ الشخصيات الموهومةِ آلهةً تعبُدها من دون الله , هذا شِرك أكبر .
 لكن هذا من فضل الله عزّ وجل , المسلمون في عالمهم الإسلامي بعيدون عن أن يقعوا في هذا الشِرك الفاضح , لكنَّ هُناكَ شِركاً أكبر , لا يأخذُ هذا الشكل الفاضح : أن تتخذَ من دونِ اللهِ نِدّاً , ولم أقل : أن تتخذَ غيرَ الله , أن تتخذَ من دون الله , لأنَّ اللهَ واحدٌ أحد فردٌ صمد , إن اتخذتَ غيرهُ فلا بُدَ من أن يكونَ دونهُ , ما قال : أن تتخذَ غيرَ اللهِ إلهاً , لا , قالَ : أن تتخذَ من دونِ اللهِ نِدّاً ، وهذه المسافة بينَ هذا الذي اتخذتهُ نِدّاً من دون الله وبينَ خالق الكون , لا يُمكن أن يُوازنَ بينهما , يعني صفر مع القيمة المطلقة ، لا شيء معَ كُلِ شيء ، ضعفٌ معَ منتهى القوة ، جهلٌ معَ منتهى العِلم ، قسوةٌ مع منتهى الرحمة .
 أيام نقول : هذا دونَ هذا , يكون بينهما درجة , نقول : هذا دونَ هذا بكثير , لكنهما يجتمعان في نسبة ، أمّا إذا اتخذَ الإنسانُ من دونِ اللهِ نِدّاً , لا يمكنُ أن يكونَ هذا المُتخذُ نِداً من دون الله , أن يُوازنَ بشكلٍ أو بآخر معَ خالق الكون , يعني القيم المُطلقة معَ التلاشي المُطلق ، عبدٌ ضعيف تستعين بهِ ، تستهديه ، تجهدُ في إرضائه ، تخافُ من سخطهِ ، تُعلّق الآمال عليه ، تربط حياتكَ كُلها من أجلهِ ، ما من جهةٍ , لا أقول : ما من مخلوقٍ , ما من جهةٍ في الكون تستحقُ أن تُفني حياتكَ من أجلِها ، تستحقُ أن تُمضي شبابكَ من أجلِها ، إلاّ أن يكونَ خالِقَ الكون , هوَ أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة .

2-الشرك الأصغر :

 في شِرك أكبر وشِرك أصغر ، الشِركُ الأصغر المؤمنون مُبتلونَ بهِ , لقولهِ تعالى :

﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾

[سورة يوسف الآية: 106]

 لكَ مُعاملة في وزارة ، ولكَ ابن عم في هذه الوزارة , لا بأس بهِ ، فأنتَ مرتاح , هذا ابن عمي لا يُقصّر , هذا شِرك ، نسيتَ الله واعتمدتَ على قريبك ، هذا الشِرك الذي يُبتلى بهِ المؤمنون , بسببِ ضعفِ إيمانهم , هذا هوَ الشِركُ الأصغر ، أدناهُ أن ترضى عن إنسان , وهوَ مُقيمٌ على معصية , كما قالَ عليه الصلاة والسلام : الشِركُ أخفى من دبيبِ النملةِ السوداء على الصخرةِ الصمّاء في الليلة الظلماء , وأدناهُ أن ترضى على معصية , وأن تغضبَ على عدل ، أن تسخطَ على عدلٍ وأن ترضى على جورٍ ، أن ترضى على جور أو أن تسخطَ على عدل فهذا شِرك :
 أن ترضى على جور :
 يعني هذا الذي جارَ على غيرهِ , لكنهُ نفعكَ , رضيتَ عنهُ , ونسيتَ رِضاءَ اللهِ عزّ وجل .
 وأن تسخطَ على عدل :
 وُجهِت لكَ نصيحةٌ مُحقّة , أنتَ تألمت فغضبت , أنتَ قد أشركتَ نفسكَ معَ اللهِ عزّ وجل , هذا الشِرك الأصغر .
 نرجو اللهَ سبحانهُ وتعالى أن يعافينا منهُ , ويحتاج إلى مجاهدة, ومتابعة , ومراقبة دقيقة للقلب , وأن تفهمَ على اللهِ عزّ وجل , كُلما اعتمدتَ على غيرهِ , كيفَ يأتيكَ بالعلاج ؟ وكيفَ يُخيّبُ آمالكَ بغيرهِ ؟ هذا موضوع , والشِركُ الأكبر موضوع .

أنواع الشرك الأكبر :

 الشِرك الأكبر نوعان : شِركٌ فاضح وشرك غيرَ الفاضح .
 شِركٌ فاضح :
 يعني أن تقول بوذا إله كما يقول السيخ أو الهندوس أو هؤلاء الذين لهم ديانات وثنية في أنحاء متفرقة من العالم .
 لكنَّ الشِركَ الأكبر غيرَ الفاضح هوَ :
 أن تتخذَ من دونَ اللهِ نِدّاً , هُنا المشكلة .
 قد يقول لكَ إنسان : أيُعقلُ أن أتخذهُ نِدّاً ؟ أهوَ إله ؟ أهوَ الذي خلقَ الكون ؟ أهوَ الذي سيّرَ الشمسَ والقمر ؟ نقول له : لا , من لوازم الإله : أن تحبهُ ، وأن تعبدهُ ، وأن تُعظمّهُ ، فيكفي أن تُعظّمَ جهةً أرضية , وأن تُحبها حُباً حقيقيّاً , ويكفي أن تطيعها في معصية الله ، فهذه الجهة الأرضية , ولو كانت إنساناً , أنتَ أشركتها معَ الله , لا في مقام الألوهية بل في لوازم الألوهية ، لا في المقام الإله خلقَ السموات والأرض ، الإله مُسيّر ، الإله مُربّ ، لا في مقام الألوهية والربوبيةِ بل في لوازم الألوهية والربوبية .
 مثلاً : من لوازم الأب الحُب ، من لوازم الأُبوة الطاعة ، من لوازم الأُبوة أن تُرضي هذا الأب ، فإذا لم تُكن مُطيعاً لأبيك فرضاً , ولم تكن مُحبّاً لهُ ، ولم تُكن خاضعاً لفضلهِ ، وتوجهتَ بكُلِ إمكاناتِكَ لخدمة شخصٍ غريب , وعوتبتَ في هذا الموضوع , تقول : أيعقلُ أن يكون هذا أبي ؟ يقول : لا , ليسَ أباك هذا , نعلمُ ذلك ولكنكَ عاملتهُ كما ينبغي أن تُعاملَ أباك .
 هذا الذي واقع في شِركٍ أكبر , نحنُ لا نقول لهُ : أنتَ تدّعي أنهُ خلقَ الكون , لا , نعلمُ ذلك وتعلمُ أنتَ ذلك ، ولكنكَ أشركتهُ مع اللهِ عزّ وجل في لوازم الألوهية , وهوَ التعظيم والعِبادة والحب , هذا الشِرك الأكبر غير الفاضح .
 هُناكَ من يُحاول التلفيق , يعني يُحب أن يجمع بينَ إشراكهِ الكبير , بأن اتخذَ من دونِ اللهِ نِدّاَ , يُعظّمهُ ويُحبهُ ويُطيعهُ , ولا يعبأُ بطاعةِ اللهِ , ولا بحُبهِ للهِ , ولا بتعظيمهِ للهِ , وكيفَ يوفّقُ هذا الإنسان بين هذا الشِرك الأكبر وبينَ ما هوَ واضحٌ كالشمس من أنَّ اللهَ خلقَ السموات والأرض ؟ لذلك الله سبحانهُ وتعالى يقول :

﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾

[سورة الزمر الآية: 3]

﴿ما نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾

 هذا اسمهُ تلفيق , يعني يحبُ أن يجمع بينَ عقيدتهِ الشركيّة وبينَ التوحيد , نحنُ نتخذهم شفعاء لنا عِندَ الله .
 طبعاً قبلَ قليل : حدثتكم عن أنَّ الشِركَ الأكبر , ليسَ معناهُ أن تدعيَّ أنَّ هذا الذي اتخذتهُ من دون الله , هوَ خالِق الكون ، هوَ ربُّ السموات والأرض ، هوّ المُسير , لا , لكن لوازم الألوهية : التعظيم والمحبة والطاعة , أنتَ فعلتَ معَ هذا النِدّ للهِ عزّ وجل , الذي هوَ من دون الله , فعلتَ معهُ ما ينبغي أن تفعلهُ مع الله , قالَ تعالى :

﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

[سورة الشعراء الآية: 97-98]

 عندنّا سؤال : لماذا تروجُ هذه الأفكار الوثنيةُ في العالم ؟ يقول لكَ : أربعمئة ، خمسمئة مليون أتباع بوذا ، ستمئة مليون أتباع كذا ، السيخ عددهم كذا مليون ، أربعمئة مليون هندوسي , كلهم يعبدون بقرة أو صنماً أو وثناً ، طيب : أينَ عقولُهم ؟
 الجواب هوَ : أنَّ هذه الآلهة المزعومة ليسَ لها منهج يُقيّدُكَ في حركتكَ اليومية فاتّباعُها سهل .
 هُناكَ طقسٌ تفعلهُ كُلَ أسبوع , أو كُلَ يوم , وانتهى الأمر , لكَ أن تفعل ما تشاء ، لكَ أن تأكلَ من أموال الناس ما تشاء ، لكَ أن تُمارِسَ الشهوات كيفما تشاء .
 فلذلك : دائماً المناهج الشركية الوضعية , لها ميزة عند أهل الدنيا , ليسَ لها منهج , فالانتماء لها سهل جداً , لا يُكلّفُ شيئاً ، لكنَ اللهَ سبحانهُ وتعالى إذا أردتَ أن تنتميَ إلى دينهِ , فهُناكَ افعل ولا تفعل ، هُناك قنوات نظيفة والباقي كُلُهُ مُحرّم ، فلذلك إذا أردتَ أن تتعرف إلى سِرِ انتشار هذه الديانات الوضعية , وهذا الشِرك الذي لا يقبلهُ عقل , ذلك لأن الانتماء إليه سهل .
 واحد ذهب للهند , وجد في مقام بوذا فواكه من أنواع لا يرقى إليها , وهم تُقدّمُ هذه الفواكهُ إلى هذا الإله يوميّاً , ثمَّ تقصّى الحقائق , كُلُ هذه الفواكه في النهاية , يأكُلها من يعملون في هذا المعبد , فهم يُبالغون ، لا يقبلُكَ هذا الإله إلا إذا جوّدتَ له الفاكهة من أجلهِ .
 يعني من أجلِ أن يأكُلها هو مساءً , لأنَّ هذا الصنم لا يأكل .
 والشيء الغريب : ترى هُناك أشخاص مثقفون , يحملون شهادات عُليا , كيفَ أنَ هذا الإنسان يُعطّلُ عقله ؟ فلذلك : الله عزّ وجل يوم القيامة سيسأل هذا الإنسان هذا السؤال الكبير : عبدي أعطيتُكَ عقلاً فماذا صنعتَ فيه ؟ أينَ عقلُك ؟ أنتَ تقبل أن تقبض عملة مزيّفة لثمن بيت تسكنهُ ولا تملكُ غيرهُ , ومعك جهاز صغير يكشفُ لكَ زيفَ هذه العُملة من دونِ أن تستخدمهُ , فإذا صُعقتَ لهذا الخبر المؤسف وصِحتَ , يُقال لكَ كلمة بسيطة جداً , فيها استهزاء : ما دُمتَ تملكُ هذا الجهاز لِمَ لم تستخدمهُ ؟ وما دامَ اللهُ عزّ وجل قد أعطانا عقلاً , فإذا أشركَ الإنسانُ مع الله عزّ وجل ، هذا الإنسان مؤاخذ , أينَ عقلُك ؟.
 أنا أُسمي العقل أداة المعرفة ، وقد وردَ في القرآن وصفٌ لهُ ، اسم وصفي ، قالَ :

﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾

[سورة الرحمن الآية: 7]

 الله أعطاكَ ميزاناً ، ميزاناً دقيقاً ، ولا أُبالغ إذا قُلت : إنَّ أثمنَ ما في الكونِ هوَ العقل , بل إنَّ أعقدَ ما في الكونِ على الإطلاق هو العقل , يعني ما في عضو في الكون , لا في النوع البشري فحسب في الكون , بالغ التعقيد , واسع الإمكانات , كالعقل البشري , فإذا عطلّتهُ فقد ضللتَ ضلالاً مُبيناً .
 سِرُ تهافت الناس على الديانات الوثنية , هوَ أنَّ هذه الديانات ليسَ فيها منهج ، ليسَ فيها قيد ، ليسَ فيها حدٌ من حرية الإنسان ، ليسَ فيها منعٌ لشهواتِهِ ، هذا سِرُ رواجِها لا لذاتِها , بل لِما ينتجُ عنها من تفلت أيِّ قيمةٍ أو أيِّ نظام .
 كيفَ نردُ على هؤلاءِ الذينَ أشركوا باللهِ ما لم يُنزّل به عليهم سُلطاناً :

﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾

 الردُ عليهم : بأنَّ الشفاعةَ التي وردت في القرآن الكريم لها شروط ، قالَ تعالى :

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾

[سورة البقرة الآية: 255]

 لا تقعُ الشفاعةُ لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذنِ اللهِ تعالى ، ولا يشفعُ الشافعُ إلا بإذنِ اللهِ تعالى ، ولا يشفعُ الشافعُ إلا من رضيَ اللهُ عنهُ ، الدليل قالَ تعالى :

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 28]


 اللهُ سبحانهُ وتعالى , من هوَ الذي يرضى عنهُ , حتى يسمحَ للنبي عليه الصلاة والسلام أن يشفعَ لهُ ؟ قالَ : من ماتَ غيرَ مُشرك .
 يعني الذي أشرك لا يستحقُ الشفاعة ، وإذا بلغتَ التوحيد فقد بلغتَ كُلَ شيء .

 

نهاية العلم التوحيد .

 أقول لكم كلمات قُلتها كثيراً , لكن أتمنى أن تكونَ في موطن اهتمامكم نهاية العِلم :
 التوحيد .
 لن تُخلِصَ إلا إذا كُنتَ موحِداً ، إن لم تكن موحداً , تتمنى أن تُرضي الناس , وتخشاهم , وترجوهم , وتستعطفهم , وتشعر بقدرتهم عليك , هم يرفعونك , وهم يضعونك ، شفاؤك على أيديهم , وخلاصك ومصيرك بيدهم ، ما دُمتَ لم توّحد فهذا شِرك ، والشِرك معهُ خوف ، معهُ تبعثر ، معهُ تشرذم ، معهُ تبديد بالطاقات ، لذلك :
 نهاية العِلم التوحيد .
 لا إلهَ إلا الله حِصني من دخلها أمِنَ من عذابي ، لا إلهَ إلا الله لا يسبِقُها عمل ولا تتركُ ذنباً .
 لا إلهَ إلا الله فيها نفي وإثبات ...
 لا إلهَ : أي لا مُسيّرَ ، لا حركةَ لا سكنةَ ، لا عطاءَ لا منعَ ، لا رفعَ لا خفضَ ، لا إعزازَ لا إذلالَ ، لا قبضَ لا بسطَ ، لا توفيقَ لا إخفاقَ إلا بالله .
 فلذلك : لن تُخلص إلا إذا وحّدت .
 وهذا المثل أضرِبهُ دائماً , وأُعيدهُ , وفيه فائدة ...
 لكَ قضية مهمة جداً في دائرة , إذا أنتَ عَلِمتَ عِلمَ اليقين أنَّ في كُلِ هذه الدائرة المؤلفة من أربعة آلاف موظف , لا يوجد إلا إنسان واحد , من صلاحيتهِ أن يوافق لكَ على طلبك , هوَ المدير العام ، إذا أيقنت لن تسألَ سِواه ، ولن تتجهَ إلى أحدٍ آخر ، ولن تُقدّمَ هديةً إلى أحدٍ غيرهِ ، ولن تبذِلَ ماءَ وجهِكَ إلى أحدٍ إلا هذا المدير العام , فإذا قيل لكَ خطأً أو وهماً أنهُ فُلان , هوَ بإمكانهِ أن يوافق , تتجهُ إليه ، تصبُ عليه كُلَ اهتمامك ، تتوسل إليه ، تُعلّقُ عليه الآمال , هذا هوَ الشِرك .
 وقد ضربتُ مثلاً آخر في أثناء تدريسي السابق أيضاً , الآن مناسب أن نُعيدهُ ...
 إنسان لهُ في حلب مبلغ كبير كبير , تُحلُ بهِ كُلُ المشكلات , ويجب أن يقبضهُ في ساعةٍ معينة , وتوجهَ إلى محطة القطارات , وركبَ القطار المتجه إلى حلب ، قد يرتكب وهو في القطار آلاف الأغلاط , قد يدفع ثمن بطاقة للدرجة الأولى , ويجلس خطأً في الدرجة الثالثة , ممكن ، قد يجلس بعكس اتجاه سير القطار يُصاب بالدوار ، قد يجلس مع شبابٍ متشاكسين , يملؤون القاطرة صخباً وضجيجاً , قد يتضور جوعاً , ولا يعلم أنَّ في القطار مطعماً ، قد ينسى بعضَ حاجاتهِ في القاطرة ، لكن ما دامَ في القطار المتجه إلى حلب , وما دامَ هذا القطار سيصل في الوقت المناسب , فالقضية سهلة , كُلُ هذه الأغلاط نتجاوزها .
 ولكن الخطأ الذي لا يُغتفر :
 أن تتجه إلى محطة القطار , وأن تصعد إلى القطار المتجه إلى درعا , وأنتَ تُطمئن نفسكَ , بعدَ قليل نصل إلى حلب , ثمَ تُفاجأ وأنتَ في درعا أنَّ هُنا درعا .
 طيب : أينَ حلب ؟ هذا الخطأ الذي لا يُغتفر .
 يعني أن تتجهَ إلى غير الله ، أن تُعلّقَ على غير الله الآمال ، أن ترجو غيرَ الله ، أن تخافَ من غير الله ، أن تظنَ أنَ الرِزقَ بيد فُلان ، أن تظن أنَّ فُلاناً بإمكانهِ أن يرفعك , بإمكانهِ أن يضعكَ ، بإمكانهِ أن يُعطيك ، بإمكانهِ أن يمنعك , هذا الشِرك , هذا الشِركُ الذي لا يُمكن أن يُغتفر , لأنهُ إذا اتجهتَ إلى الله وكُنتَ مُخطئاً غفرَ لك ، إن كُنتَ جاهلاً علّمك ، إن كُنتَ مستوحشاً آنسك ، إن كُنتَ ضعيفاً قوّاك ، إن كُنت فقيراً أغناك ، إن كُنتَ مُنقبضاً بشّرك ، لكنكَ إذا اتجهتَ إلى غير الله فقد أشركت .
 واحد معهُ آلام الزائدة لا تحتمل , ما دام في طريقهِ إلى المستشفى , ودخل المستشفى , وفي عناية جيدة , وفي أطباء مهرة , وفي أدوية جيدة , وفي موظفين مخلصين , فالقضـية انحلت ، لكن لو اتجهَ إلى مكان آخر , فإذا هوَ مدرسـة أو فندق مثلاً , ماذا يفعل هُنا ؟ .
 فلذلك موضوع الشِرك يا أخوان من أخطر الموضوعات في الدين , وأقول لكم بملء فمي :
 لا نجدُ إنساناً يعصي اللهَ عزّ وجل إلا لأنَ فيه بعضَ الشِرك .
 لأنهُ لماذا يعصي الله ؟ يعصيه ليستمتعَ بشيء نهى اللهُ عنهُ .
 إنَّ سعادة القُرب أبلغُ بكثير من لذّة المعصية لكنهُ لا يدري .
 أتعصيه من أجل أن يزدادَ مالُك ؟ اللهُ بيده المال ، فجأةً يُدمّرُ المال .
 أنتَ اسأل نفسك لماذا أعصي الله ؟ يعني من أجل أن أُمتّع نفسي بما حرّمهُ الله عليّ .
 الانقباض الذي يحصل من مخالفة أمر الله عزّ وجل لا يُحتمل ، بينما السعادة التي تحصل من طاعة الله عزّ وجل لا توصف .
 لماذا أعصيه ؟ لأنني أرى في هذه المعصية خيرٌ لي , هذا هوَ الجهل .

﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[سورة القصص الآية: 57]

 أينَ الله ؟
 أيُعقل أنكَ إذا اهتديتَ إلى الله خُطّفتَ من أرضك ؟
 والذي يقول : أخي أنا إن استقمت مِتُ من جوعي , هذا منتهى الجهل ، منتهى الحُمق .
 يقول المحامي : إذا أنا صدقت ليسَ عِندي زبائن , يجب أن أُطمّعُهم , أنَّ الحُكم مضمون , غلط هذا الكلام , هذا شِرك بالله عزّ وجل ، يعني يجب أن تعلم :
 أنَّ أيَّ إنسانٍ يعصي الله لا يعصيه إلا لأنهُ أشركَ بالله ، إمّا أنهُ أشركَ نفسهُ أو أشركَ غيرهُ ، أمّا لو تجرّدتَ عن كُلِ شِرك , لرأيتَ نفسكَ في طريق الحقِ شِبراً شِبراً .
 الشفاعةُ التي وردت في القرآن الكريم , لا تكونُ إلا لمن رضيَ الله عنه ، ولن تُعطى إلا لمن رضيَ اللهُ لهُ قولاً :

﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى﴾

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾

 واللهُ لا يرضى من عِبادهِ الشِرك , لذلك من ماتَ غيرَ مُشرك , نالتهُ شفاعةُ النبي ، أمّا من ماتَ مُشرِكاً , حُرم من هذه الشفاعة .
 في مشكلة : أنهُ هُناك إنسان يدّعي التوحيد , إذا نظرتَ إلى عملهِ , وإلى حركاتهِ وسكناتهِ , وجدتَ عملهُ , وحالهُ يُكذّبُ توحيدهُ .
 ما أطعتَ فلاناً وعصيتَ الله إلا لأنكَ رأيتَ فُلاناً أكبرَ من الله , ما خِفتَ من فلان أكثرَ من خوفِكَ من الله إلا لأنكَ عظمّتهُ فوقَ ما تُعظّم الله عزّ وجل , فلذلك المعصية قد تبدو صغيرة , لكن المؤشر كبير على جهل فاضح باللهِ عزّ وجل .
 ربنا عزّ وجل قال :

﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾

[سورة العنكبوت الآية: 41]

 لا أعتقد أن في القرآن آية بأنَ ذلكَ الذي اعتمدَ على غير الله ، اتجهَ إلى غير الله ، اتكلَ على غير الله ، علّقَ آمالهُ على غير الله , كمن تمسّكَ ببيت العنكبوت , حركة أصابعهِ تُحطمُ هذا البيت :

﴿كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت﴾

 يوجد عندنا موضوع دقيق جداً : هوَ أنتَ حينما تعتمد على فُلان ، يعني فُلان لا بُدَ من أن يكونَ أحدَ أربعةِ أشخاص :
 إمّا أنهُ مالِكُ هذا الكون ، أو مالِكُ جزءٍ منه شريك مع الله فيه ، أو ظهيرٌ , أو مُعين ، أو شفيع .
 مالك ، شريك ، ظهير ، شفيع .
 أنتَ إذا دخلت إلى مكان , وتوجهت إلى إنسان , هذا الإنسان أغلب الظن , بحسب هذا التوجه , مالِك المكان , وإذا لم يكن مالكاً , فلهُ النِصف , شريك .
 إذا واحد زار بستاناً , دعاهُ مالك نِصف البستان , فلو قالَ له الثاني : أخي أين أنتَ داخل ؟ فيقول : فُلان دعاني , كلام معقول , داخل لِعند النصف الثاني , فهذا الذي اتخذتهُ إلهاً من دون الله , إمّا هوَ خالق الكون , أو شريك في الخلق , أو ظهير مُعين لله عزّ وجل , له دالة أو شفيع , استمعوا إلى قول الله عزّ وجل , قال :

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾

[سورة سبأ الآية: 22]

 ليسَ مالِكاً , وليسَ شريكاً , وليسَ معيناً , وليسَ شفيعاً ، من هوَ إذاً ؟ هوَ لا شيء , هذا معنى قول الله عزّ وجل :

﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾

[سورة الإخلاص الآية: 1]

 فلذلك موضوع الشِرك من أخطر موضوعات الدين .
 لن تعصِ اللهَ إلا إذا أشركت ، لن ترجو غيرَ الله إلا إذا أشركت ، أنا لا أقول الشِرك الجلي , ولا أقول الشِرك الفاضح , أن تتخذَ في البيتِ صنماً تعبدهُ من دون الله , هذا انتهى .
 وقد قالَ عليه الصلاة والسلام :

(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ, إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ, يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا: هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟ ))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ]

الطريق الموصل إلى الله هو العلم .

 عندما الإنسان ينطلق إلى مخالفة , ينطلق لماذا ؟ لمنفعةٍ ماديةٍ أو شهوةٍ تقضيها , فلو عَلِمتَ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالىَ هوَ المُسعد , وأنهُ لن يُسعِدكَ بمعصيتهِ , ولن تسعدَ إلا بطاعتهِ , ما عصيتهُ .
 أيُ خطأٍ ترتكبهُ هوَ في الأصل خطأ في العِلم ، أيُ خطأٍ ترتكبهُ في السلوك أساسهُ جهل .
 فلذلك أكادُ أقولُ :
 إنَّ العِلمَ وحدهُ هوَ الطريق الموصل إلى الله عزّ وجل , وإذا أردتَ أن تتأكد التق مع صديق من أصدقائكَ القُدامى , واجلس معهُ ساعة , ولاحظ كيفَ أنكَ أنتَ في مجالس العِلم التي تتابع حضورها , كيفَ أنَّ المعلومات والقناعات والحقائق تراكمت شيئاً فشيئاً فشيئاً حتى ولّدت قناعةً ثمينةً , هذه القناعات جعلتكَ تستقيم على أمر الله .
 فلذلك : أثمنُ ما في الحياة الدنيا أن تعرفَ الله , لأنكَ إن عرفتهُ عبدتهُ , وإن عبدتهُ سَعِدتَ بقربهِ في الدنيا والآخرة .
 أقول لكَ مُلخص المُلخص : هذا الدين أكثر من مئات بل ألوف الملايين من مؤلفات الإسلام , كُلُ هذه المؤلفات يمكن أن تُضغط بثلاث كلمات :
 يجب أن تعرفَ اللهَ حتى تعبدهُ , فإذا عبدتهُ سَعِدتَ بقُربهِ .
 لذلك المؤمن لا يرى غيرَ الله ، ليسَ عِندهُ حِقد ، هذا الحِقد المُدمر من أين يأتي ؟ من الشِرك .
 واحد عِندهُ في العمل التجاري صانع اختلف معهُ , فهذا الصانع أبلغ جهات معينة ، أنهُ هُناك بضاعة في المستودعات غير نظامية، فجاءت هذه الجهات وكلفتهُ بـ ستمئة ألف قصة من اثنتي عشرة سنة ، امتلأَ هذا التاجرُ حِقداً على هذا الصانع وقتلهُ , فحُكمَ عليه ثلاثينَ عاماً في السِجن ، لماذا نشأَ هذا الحِقدُ الشديد في قلبِ هذا التاجر ؟ لأنهُ رأى أنَّ هذا التدمير الذي أصابهُ من هذا الإنسان , هذا هوَ الشِرك .
 فالشِرك فيه حِقد يا أخوان ، والشِرك فيه خوف ، يعني : إذا واحد شاهد حيواناً مُخيفاً , أو مجموعة حيوانات مخيفة , كُلها مفترسة وشرسة وجائعة , وهوَ بِلا سلاح , يموت من الخوف ، أمّا إذا أيقنَ : أنَّ كُلَ هذه الحيوانات مربوطة بإحكام , بيد جهة رحيمة وعادلة ومُنصفة , لا يخافُ منها , يخافُ ممن يقبضُ زمامها , هكذا قال سيدنا داود :

﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة هود الآية: 55-56]

حقيقة الأمراض النفسية التي يعاني منها الإنسان .

 أيها الأخوة الأكارم ؛ واللهِ لا أُبالغ :
 الحِقد أساسهُ الشِرك ، الخوف أساسهُ الشِرك ، المعصية أساسُها الشِرك .
 أكادُ أقول : إنَّ كُلَ الأمراض النفسية ليست بأمراض , ولكنها أعراض لمرضٍ واحد وهوَ الشِرك , كلام دقيق , إنَّ كُلَ الأمراض النفسية : الخوف ، النِفاق ، الإنسان لماذا يُنافق ؟ لأنهُ يُرضي لهذا الذي يُنافق لهُ يُرضيه , لماذا يُرضيه ؟ لأنهُ يرى أنَّ لهُ شأناً , وأنَّ هذا الذي يُنافقُ لهُ بإمكانهِ أن يُعطيه شيئاً ثميناً , أو بإمكانهِ أن يحرمهُ من شيء ثمين .
 النفاق أساسهُ الشِرك ، الحِقد أساسهُ الشِرك ، الخوف أساسهُ الشِرك ، المعصية أساسُها الشِرك .
 يعني أنتَ تظن بالمعصية هُناكَ لذّة , لكنَّ اللهَ يَخلُق معَ اللذّة شقاء , ومع الشقاء فضيحة , ومعَ الفضيحة دماراً ، أمّا لو آمن أنَّ الله عزّ وجل لا يُسعدهُ إلا بطاعتهِ , وهو في الطريق الصحيح سعد .
 فلذلك أقول لكم مرةً ثانية : إنَّ أكثرَ الأمراض النفسية , وإذا أردتُ أن أجزم : إنَّ كُلَ الأمراض النفسية ما هيَ في حقيقتها إلا أعراضٌ لمرضٍ واحد وهوَ الشِرك .
 لذلك : تستغرب أنَّ الأنبياء على اختلافهم ، واختلاف أقوامهم , واختلافِ عصورهم وأزمانِهم ، جاؤوا بدعوةٍ واحدة ، أعتقد في سورة :

﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

[سورة الأعراف الآية: 73]

 العبارة نفسها قالها سيدنا صالح , وسيدنا هود , وسيدنا لوط , وسيدنا إبراهيم , نبيٌ نبي , حتى إنَّ اللهَ عزّ وجل لخّصَ كُلَ هذه العبارات في عبارةٍ واحدة , قال :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 25]

 هذا الدين كُلهُ ، الدين عقيدة وعمل ، العقيدة هيَ التوحيد ، والعمل هوَ الطاعة والتقوى ، لذلك قالوا : نهاية العِلم التوحيد , ونهاية العمل التقوى .
 الطاعة , من حيث السلوك نهاية النهاية أن تُطيعَ اللهَ عزّ وجل ، من حيث العِلم نهاية النهاية أن توحّدَ اللهَ عزّ وجل ، فإذا وحدّتهُ وعبدتهُ فقد حققتَ كُلَ ما في الدين وما بقيَ إلا القشور ، إذا وحدّتهُ وعبدتهُ حققتَ كُلَ ما في الدين ، بل وضعتَ يدكَ على جوهر الدين ، بل كُنتَ أنتَ الديّنَ الحقيقي ، بل كُنتَ أنتَ الذي اتبعتَ النبي عليه الصلاة والسلام ، توحيد وطاعة , والتوحيد طريقهُ التفكّر في خلق السموات والأرض .
 يقول لكَ :

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾

[سورة الأنعام الآية: 59]

 يقول لكَ : هذا الزواج كان غير سعيد , كأنَّ اللهَ ليسَ لهُ علاقة , الزواج أخطر حدث في حياتك , ما دام :

﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾

 هذه الزوجة الله عزّ وجل ساقها لك لتكونَ مكافأةً على ما فعلتهُ قبلَ الزواج ، إن كُنتَ عفيفاً فالزواج مُسعد ، وإن كنت منحرفاً قبلَ الزواج فالزواج مُشق ، فما دام :

﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾

 صندوق خشبي , فيه طفل رضيع مولود حديثاً في نهر :

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 7]

 عِندَ الله لا خطأ أبداً , كُل شيء بِحساب ، حركة أوراق الأشجار ، حركة الأغصان ، يقول لكَ : رصاصة طائشة , لا يوجد طائشة عِندَ الله , هذه عِندَ الناس ، عِندَ الله مصيبة ، عِندَ الله لا يوجد خطأ أبداً , شظية ، رصاصة طائشة ، قصف عشوائي , هذا كُلهُ عِند البشر , أمّا عِندَ الله لا يوجد عشوائي .

﴿كُل شيء بقَدر﴾

 لكُلِ شيء حقيقة , وما بلغَ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ , حتى يعلم أنَّ ما أصابهُ لم يكن ليخطئهُ , وما أخطأه لم يكن ليصيبهُ .
 أيها الأخوة ؛ أنا ناصحٌ لكم كُلما ارتقى توحيدكم سَعِدتم ، وارتحتم ، وأرحتم ، واطمأننتم ، ووثقتم بفضل اللهِ عزّ وجل .
 النهاية :
 أن لا ترى مع اللهِ أحداً , لا يوجد سِوى الله , واللهُ كبير .
 إذا أردتَ المُلخص :
 اللهُ موجود , ولا يوجد غيرهُ , وكامل .
 ثلاث كلمات تلخّص تسعةً وتسعينَ اسما : واجبُ الوجود لا إلهَ غيرهُ .

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[سورة الأعراف الآية: 180]

 فإذا عرفتهُ , عرفتَ كُلَ شيء , واللهِ إذا فاتكَ فاتكَ كُلُ شيء ، وإذا وجدتهُ وجدتَ كُلَ شيء ، وإذا لم تجدهُ لم تجد شيئاً ، وإذا كانَ اللهُ معكَ من عليك ؟ لا أحد ، وإذا كانَ عليكَ من معك ؟ لا أحد .

التوحيد هو العلاج لهذه الأمراض .

 يعني : موضوع الشِرك موضوع أساسي في الدين ، هوَ الدينُ كُلهُ ، هوَ الحياة ، هوَ الراحة النفسية ، هوَ الثقة بالله ، هوَ الطمأنينة ، هوَ الشجاعة ، من أينَ تأتي الشجاعة ؟ الخوف من الشِرك ، الحِقد من الشِرك ، النِفاق من الشِرك ، الفجور من الشِرك ، التملّق من الشِرك ، استجداء المديح من الشِرك , ما في موقف ضعيف لكَ إلا أساسهُ الشِرك ، ما في موقف تصغُر فيهِ أمام الناس إمّا خائف منهم أو ترجو ما عِندهم .
 الطمع كما قالوا : الطمع أذلَّ رِقابَ الرِجال ، لا تقف موقفاً سليماً إلا بسبب الطمع ، والطمع ما أساسهُ ؟ تطمع بمال فُلان , أنتَ لم تطمع بفضل الله عزّ وجل :
 ملك الملوك إذا وهب قُم فاسألن عن السبب
 اللهُ يُعـطي من يشاء فقِف على حـدِ الأدب
 لن تكونَ عزيزاً إلا بالتوحيد ، لن تكونَ شجاعاً إلا بالتوحيد ، لن تكونَ عفوّاً إلا بالتوحيد ، لن تكونَ جريئاً إلا بالتوحيد ، لن ترضى إلا بما قَسَمهُ اللهُ لكَ إلا بالتوحيد ، التوحيد يشفي الإنسان من آلاف الأمراض .
 تجد إنساناً صحيحاً معافى , أجرى تحليلاً , وجد جميع التحاليل كاملة , ويكون عِندهُ مئة مرض نفسي مُدمّر , وهذه الأمراض تبدأُ آثارُها بعدَ الموت ، أمراض الجسد تنتهي عِندَ الموت ، أمراض النفس تبدأُ بعدَ الموت خطيرة جداً ، مثلاً : حقد ، حسد ، خوف ، نِفاق ، فجور .
 لو معكَ مِنظار دقيق : لا تُشهد إنساناً موقفهُ طفلي , أو عندهُ موقف يتحجّم فيه , أو صَغُرَ من عينك , إلا بسبب أنهُ أشركَ في هذه اللحظة ، يعني شاهدَ إنساناً منه نفع فتملّقَ لهُ , تملّق ، مدح ، كَذَب ، بالَغ ، تكلّم على غير قناعةٍ , صَغُرَ في نَظَرِكَ, لأنهُ أشرك , أبداً , فلن تَصِلَ إلى أعلى مقام إلا بالتوحيد ، وحُسبُكَ أنَّ اللهَ عزّ وجل جعلَ فحوى رسالات الأنبياءِ كُلهم :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 25]

 أقول لكَ : إنَّ الدين كُلهُ معرفة ، عبادة ، سعادة , طيب العِبادة لن تكون إلا بالمعرفة , والعبادة من لوازمها الحتمية السعادة , فربُنا اكتفى بها .
 في نقطة مهمة جداً : التوبة عِلم ، ندم ، إقلاع ، عمل . قالَ النبي : الندمُ توبة .
 طيب : لماذا لم يقل الثلاثة ، لِمَ اكتفى بواحدة ؟ قالَ : لأنَ هذا الندم لن يكونَ إلا بالعِلم , وأن لا بُدَ من أن يُولّدِ العمل ، فما دام هوَ مُعلّق على شيء , ومن لوازمهُ شيء نكتفي بهِ ، لذلك قالَ اللهُ عزّ وجل :

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[سورة الذاريات الآية: 56]

 لم يحك المعرفة , العبادة لا بُدَ لها من معرفة ، العبادة لا بُدَ من أن تنتهي بالسعادة .
 هذا الذي أتمنى أن يكونَ بينَ أيديكم في هذا الدرس هوَ :
 أنَ الشِرك أكبرٌ وأصغر .
 الأكبر فاضح وغير فاضح .
 الأصغر مما ابتليَ بهِ المؤمنون , لكن كُل مؤمن لهُ مستوى من الشِرك ، في مؤمن قلَّ ما يوحّد ، وفي مؤمن قلَّ ما يُشرك , لكن في شرك أصغر .
 يعني : الأم التي تعتني بابنها , أو تمنح ابنها كُلَ حُبها , مع أنهُ مُقيم على معصية , هذا فيه شيء من الشِرك ، لمّا أنتَ صديقُكَ لا يُصلي , أو ترك الصلاة , وأنتَ لم تهتم , لأن هناك مصلحة مشتركة , هذا شِرك , أمّا إذا كُنتَ مُوحّداً لا تأخُذكَ في اللهِ لومةُ لائم .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور