وضع داكن
19-05-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 023 - الشكر
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الشكر:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع درسٍ جديد من دروس مدارج السالكين، في مراتب إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين، ومنزلة اليوم هي منزلة الشّكر.
أولاً: يقول الله عزّ وجل: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

هذه الآية أصلٌ كبير من أُصول الدين، أي إذا شكرتم وآمنتم، أو إذا شكرتم بعدَ أن آمنتم، أو إذا آمنتم وشكرتم، ما يفعل الله بعذابكم؟ معنى ذلك أنكم حققتم الهدفَ الكبير الذي من أجلهِ خُلقتُم، أي يتوقف العذاب والمعالجة، وأنواع البأساءِ والضّرّاء، وأنواع الهموم والأحزان، بمجرّدِ أن تشكروا بعدَ أن تؤمنوا، لذلك لا نُبالغ إذا قُلنا: إنَّ عِلّةَ وجودكَ على هذه الأرض أيها الإنسان أن تتعرفَ إلى الله، وأن تشكرهُ. 
 

من لوازم الشّكرِ العِلمُ والإيمان:


قد يسأل سائل: لِمَ لا يكون الهدفُ أن تتعرفَ إلى الله وتصبِرَ على حُكمهِ؟ لِمَ اختارَ الله الإيمان مع الشكر؟ إليكم التفصيل.
لابدّ من مثل، إذا قُدِّمت لكَ هديةٌ ثمينة، جهاز أنتَ في أمسِّ الحاجةِ إليه، وهذا الجهاز يُقدِّمُ لكَ خدمات كبيرة، قُدّمَ لكَ بلا ثمن كهديةٍ خالصةٍ لك، ما ردّ الفِعل عِندك؟ ردّ الفِعل أنكَ تتأملُ هذا الجهاز، تتعرف إلى مُصممهِ، إلى من اخترعهُ، إلى دِقةِ أجزائه، إلى أداءِ وظائفهِ، إلى تعقيد تركيبهِ، كُلما تأملّتَ في دقائق الجهاز ازددتَ إعجاباً بصانعهِ، أو ازددتَ إيماناً بِعلمهِ الرفيع، وفضلاً عن ذلك قُدِّمَ لكَ هديةً، تشعر أنكَ ممتن.
الآن أنتقل من هذا المثل إلى السماوات والأرض، الله سبحانهُ وتعالى سخّرَ للإنسانِ ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، كلُّ هذا الكون مُسخّرٌ لهذا الإنسان تسخيرين، تسخيرَ تعريف وتسخير تكريم، أي أرادَ الله عزّ وجل من خِلالِ خلق السماوات والأرض أن يُعرّفكَ بذاته، وأرادَ من خِلالِ خلق السماواتِ والأرض أن يمتلئَ قلبُكَ امتناناً، إذاً أنت بمجرد أن تؤمن وبمجرد أن تشكر فقد حققتَ الهدفَ الكبير من وجودكَ على وجه الأرض، لأنَّ الكون مُسخّر تسخيرَ تعريف، والتعريف يقتضي الإيمان، وتسخيرَ تكريم، والتكريم يقتضي الشكر، إذاً إذا عرفتهُ وهو المُنعم، وشكرتهُ وهو المُتفضّل فقد بلغتَ أقصى درجات الإيمان، لذلك عِندَ هذه المرتبة تتوقف كل أنواعِ المُعالجات، لأنَّ الله سبحانهُ وتعالى يقول: 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

[ سورة السجدة ]

يرجعون إلى الهدف الذي من أجلهم خُلِقوا، يرجعونَ إلى مُهمتهم، إلى تكليفهم، إلى سرِّ وجودهم، إذا رجعتَ إلى اللهِ، وقد عرفتهُ وشكرتهُ، وقد رأيتَ نِعَمهُ، فقد حققتَ الهدفَ من وجودك، لذلك يجبُ أن تَعُدّ الشكرَ غايةَ وجودكَ على وجه الأرض، إن شكرت بعد أن آمنت، وبالمناسبة لن تشكرَ قبلَ أن تؤمن: ﴿وكانَ الله شاكراً عليماً﴾ مثلاً إنسان زاركَ، وأنتَ مريض لا سمح الله، ومعهُ هدية، وضعها في مدخل البيت، ودخلَ على غُرفَتِكَ، وأنتَ لا تعلم ماذا قدّمَ لكَ من هدية، جلسَ عِندكَ بعضَ الوقت ثم انصرف، هل يُعقلُ وأنتَ لا تعلمُ أنهُ جاءَ بهدية أنت تشكرهُ على الهدية؟ متى تشكر؟ إذا عَلِمت، إذا جاءَ ابنُكَ، وهمسَ في أُذُنك أنَّ فُلاناً قد قدّمَ لكَ هديةً، فحينما يودعُكَ تشكرهُ على هديتهِ، إذاً من لوازم الشُكرِ العِلمُ والإيمان، تؤمن فتشكر، هذا الذي في ضوئه نفهم قولهُ تعالى: ﴿وكانَ الله شاكراً عليما﴾ لأنهُ يعلم هو شاكر، فمن لوازم الشكرِ العِلمُ بالنعمة، إذاً لن تشكُرَ قبلّ أن تؤمن، إذا آمنتَ، من لوازم الإيمان أنكَ تشكر، إذا آمنتَ وشكرت فقد حققتَ الهدفَ الكبيرَ الكبير الذي من أجلهِ قد خُلِقت.
إذاً لم يبق الشكرُ موضوعاً جانبيّاً يجب أن نعرفهُ، لا، أخطرُ موضوعٍ في حياتك، إن لم تشكر تُعذّب، بنص الآية الكريمة: ﴿ما يفعلُ الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم﴾ المعنى المُخالف: إن لم تؤمنوا عُذّبتم، إن آمنتم ولم تشكروا عُذّبتم، أما إن شكرتم ولم تؤمنوا فهذا مستحيل، أمّا إن آمنتم ولم تشكروا تُعذّبوا، إن لم تُؤمنوا تُعذّبوا، من لوازم الإيمان الشكر.
 

الشكرُ نِصفُ الإيمان:


بادئ ذي بدء، الشكرُ نِصفُ الإيمان، قيل: الإيمان نصف شُكر ونِصفُ صبر، أنتَ بينَ شيئين، بينَ نِعمةٍ ظاهرةٍ لابد من أن تشكرَ الله عليها، وبينَ نعمةٍ باطنةٍ هي المصيبة لابدّ من أن تصبر، فأنتَ بين سرّاء وضرّاء، رخاء وشِدّة، إقبال وإدبار، بحبوحة وضيق، صِحة ومرض، قوة وضعف، غِنى وفقر، أبداً، أساسُ الكون الاثنينية، فالغِنى والفقر، والصحةُ والمرض، والشدّةُ والرخاء، وإقبالُ الدنيا وإدبارها، فأنتَ بينَ حالين، بينَ حالِ الصبرِ في حالة المصيبة، وبينَ حالِ الشكرِ في حالة الرخاء، والذي يؤكدهُ عليه الصلاة والسلام يؤكد هذا المعنى قولهُ صلى الله عليه وسلم: عن صهيب،

(( عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))

[ مسند أحمد: صحيح ]

هذا معنى القول: الإيمان نصفان نصفٌ شُكرٌ ونِصفُ صبرٌ.
أولاً: الله سبحانه وتعالى أمَرَ بالشكرِ، ونهى عن ضِدهِ، وأثنى على أهلهِ، ووصفَ بهِ خواصَّ خلقهِ، وجعله غاية خلقهِ وأمره، ووعدَ أهله بأحسنِ جزائهِ، وجعلهُ سبيلاً لمزيد عطائهِ، وحارساً وحافظاً لنعمتهِ، وأخبرَ أنَّ أهلهُ هم المنتفعونَ بآياتهِ، واشتقَّ لهم اسماً من أسمائهِ، فإنهُ سبحانه وتعالى هو الشكور، وهوَ يوصِل الشاكرَ إلى مشكورهِ، وهو الله سبحانهُ وتعالى، بل يُعيد الشاكِرَ مشكوراً، وهو غايةُ الربِ من عبيده، شيء خطير جداً، غايةُ الربِ من عبيده، وأهلهُ هم القليل من عِباده. 
 

الآيات المتعلقة بالشكر: 

 

الآية الأولى: واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون:

الآن مع الآيات، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)﴾

[ سورة البقرة ]

أي علامةُ صِحةِ عبادتكم شُكرُ الله عزّ وجل. 

الآية الثانية: واشكروا لي ولا تكفرون:

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾

[ سورة البقرة ]

أُمِرنا بالشكر ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ ونهى عن ضِدهِ: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ ، ﴿وَاشْكُرُوا﴾ أمر إلهي، وكل أمرٍ في القرآن يقتضي الوجوب، ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ وأثنى على أهله، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)﴾

[ سورة النحل ]

كانَ عليه الصلاة والسلام تعظُمُ عِندهُ النعمةُ مهما دقّت، لو شَرِبَ كأسَ ماء، يا ربي لكَ الحمد، لو ارتدى ثوباً جديداً، لو دخلَ إلى بيته، رأى أهلهُ وأولادهُ في صحةٍ جيدة، لو كانَ معهُ ثمنُ طعامهِ، لو خرجَ بأتمِّ عافيةٍ، كانَ عليه الصلاة والسلام إذا دخلَ إلى الخلاء وخرجَ منهُ، قال: الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عني ما يؤذيني، وأبقى لي ما ينفعني، وكانَ يقول أيضاً: الحمد لله الذي أذاقني لذّتهُ، وأبقى فيَّ قوتهُ، وأذهبَ عنّي أذاه، إذاً: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ*شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ﴾ وقالَ عن سيدنا نوح:

﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)﴾

[ سورة الإسراء ]

هل أنتَ عبدٌ شكور؟ كانَ يُصلّي قيامَ الليل حتى تتورمَ قدماه، تقول لهُ السيدةُ عائشة:

(( عن المغيرة بن شعبة: قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. ))

[ صحيح البخاري ]

الآية الثالثة: لعلكم تشكرون:

﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)﴾

[ سورة النحل ]

أي جعلَ لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ، أي سخّرَ لكم كُلَّ شيء ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي غايةُ الخلقِ هي الشكر. 

الآية الرابعة: واشكروا له إليه ترجعون:

قالَ تعالى: 

﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)﴾

[ سورة العنكبوت  ]  

الآية الخامسة: وسنجزي الشاكرين:

هذه بعضُ آيات الشكر: 

﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)﴾

[ سورة إبراهيم ]

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)﴾

[ سورة إبراهيم ]  

تعريف الشكر:


أُعيد على مسامعكم التعريفات الدقيقة الجامعة المانعة للشكر، لقد أمرَ الله بهِ: ﴿واشكروا لي ولا تكفرون﴾ ونهى عن ضِدهِ: ﴿ولا تكفرون﴾ وأثنى على أهلهِ: ﴿إنهُ كانَ عبداً شكوراً﴾ ووصفَ بهِ خواص خلقهِ أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم، وجعلهُ غاية خلقهِ وأمرهِ: ﴿لعلكم تشكرون﴾ ووعدَ أهلهُ بأحسنِ جزائهِ: ﴿وسيجزي الشاكرين﴾ وجعلهُ سبباً لمزيد فضلهِ: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ وحارساً وحافظاً لنعمتهِ، وأخبرَ أنَّ أهلهُ هم المنتفعونَ بآياتهِ: ﴿إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لكلِ صبّارٍ شكور﴾ واشتقَّ لهُ اسماً من أسمائهِ؛ الشكور، فإنهُ سبحانهُ هو الشكور، وهو يوصِلُ الشاكِرَ إلى مشكورهِ، أي من الطرق السالكة إلى الله عزّ وجل أن تشكرهُ، الشكرُ طريقٌ إلى الله، بل إنهُ يُعيدُ الشاكِرَ مشكوراً، تشكر فتُشكَر، قال تعالى: 

﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)﴾

[ سورة الإنسان ]

في شكركم ﴿مَشْكُورًا﴾ أعادَ الشاكِرَ مشكوراً، ورضاء الربِّ عزّ وجل عن عبدهِ في الشكر: 

﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾

[ سورة الزُمر ]

وقِلةُ أهلهِ في العالمين تدل على أنهم هم خواصُّ أهلهِ، قال تعالى: 

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾

[ سورة سبأ ]

ما أقلَّ الشاكرين! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قامَ حتى تورمّت قدماه، فقيلَ له: ((تفعلُ هذا وقد غفرَ الله لكَ ما تقدّمَ من ذنبِكَ وما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟)) وقالَ عليه الصلاة والسلام لمعاذ:

(( عن معاذ بن جبل: أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أخذَ بيدِهِ، وقالَ: يا مُعاذُ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ، واللَّهِ إنِّي لأحبُّك –هذه شهادة، هذه مرتبة علية نالها هذا الصحابي الجليل-فقالَ: أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ. ))

[  صحيح أبي داود ]

(( وفي المسند والترمذي من حديث بن عَبَّاسٍ، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول في دعائه: رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذاكراً، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي. ))

[  صحيح أبي داود ]

دعاء جميل جداً، ((رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذكّاراً، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي)) معنى سخيمة ضغينة صدري.
معنى كلمة الشكر باللغة قال: أصلُ الشكرِ في وضع اللسان ظهور أثر الغذِاء على الأبدان، شخص أكل فظهرَ أثرُ الطعام على بدنهِ امتلاء وتورُداً وصِحةً وقوةً، إلى آخره، فأصلُ الشّكرِ أن يظهرَ أثرُ الغِذاءِ في الأبدان، هذا في المُعجم، في القاموس.
يُقال: شكرت الدابةُ تشكرُ شَكراً، على وزنِ سَمِنت تسمنُ سَمناً، إذا ظهرَ عليها أثرُ العلف، ودابةٌ شكور إذا ظهرَ عليها من السِّمنِ فوقَ ما تأكل، وتُعطى من العلف، وفي صحيح مُسلم: 

(( عن أبي هريرة: إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ لَيَحفُرون السَّدَّ كلَّ يومٍ حتى إذا كادوا يرون شعاعَ الشَّمسِ ، قال الذي عليهم : ارْجِعوا فستَحفُرونه غدًا ، فيعيده اللهُ أشَدَّ ما كان ، حتى إذا بلغَت مدتُهم ، وأراد اللهُ أن يبعثَهم على الناسِ حضروا ، حتى إذا كادوا يرَون شعاعَ الشمسِ قال الذي عليهم : ارْجِعوا فستحفرونه غدًا إن شاء اللهُ ، واستَثْنَوا ، فيعودون إليه وهو كهيئتِه حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناسِ ، فينشِّفون الماءَ ، ويتحصَّنُ الناسُ منهم في حصونهم ، فيرمُون سهامَهم إلى السماء ، فترجع وعليها كهيئةِ الدَّمِ الذي أجفظُ ، فيقولون : قهَرْنا أهلَ الأرضِ ، وعلَوْنا أهلَ السماءِ ! فيبعث اللهُ عليهم نَغَفًا في أقفائِهم فيقتلُهم بها ، والذي نفسي بيده إنَّ دوابَّ الأرضِ لتَسمَنُ وتَشْكرُ شُكرًا من لحومِهم ودمائِهم. ))

[  صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]

حتى إنَّ الدوابَّ لتشكرُ من لحومهم أي لتسمنُ من كثرةِ ما تأكلُ مِنها، إذاً معنى الشكر في أصل اللغة ظهور أثر الغذِاء على البدن، شيء جميل، وفي المعنى المجازي ظهور أثر النعمة على العبدِ، قد تظهرُ ذِكراً، يا ربي لكَ الحمد، في لِسانهِ، وقد تظهرُ امتناناً في قلبهِ، وقد تظهرُ عملاً في سلوكهِ.
 

درجات الشكر:


الحقيقة الشكر لهُ درجات، أثرُ النِعمة على العبد، قد تظهرُ النعمة عِندَ العبدِ تعبيراً بلِسانهِ، وشعوراً بقلبهِ، وسلوكاً في فعلهِ، فهُناكَ شُكرٌ قوليّ وشُكرٌ قلبيّ وشُكرٌ فعليّ.
وفي المناسبة أُولى درجات الشكر أن تعرفَ أنَّ هذه النعمةَ من الله، إذاً أُولى درجات الشكر ذو طبيعةٍ علمية، وثاني درجات الشكر ذو طبيعةٍ نفسيّة، وثالثُ درجاتُ الشكرِ ذو طبيعةٍ سلوكيّة، تعلَم فتمتن فتتحرك، والتحرك كما قالَ الله عزّ وجل: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ .
 

قواعد الشكر:

 

1-خضوع الشاكر للمشكور:

قال: الشكر أساسهُ خمسُ قواعد، خضوع الشاكر للمشكور، إن لم تخضع لله فلستَ شاكراً، علامة الشكر الطاعة: 

تعصي الإله وأنتَ تُظهِرُ حبهُ            ذاكَ لعمري في المقال بديعُ

لو كانَ حُبُكَ صـادقاً لأطعتــهُ            إنَّ المُحبَّ لمن يُـحب يُطيعُ

[ الشافعي ]

* * *

أُولى علامات الشُكر أن تخضع للمشكور، أن تخضع لله، فمن فعلَ ما يشتهي، وأطلقَ لشهواتهِ العِنان، وتحرّكَ وفقَ هوى نفسهِ، وقالَ: يا ربي لكَ الحمد، أكثر التجار يقول لك: الله مفضلها، وسلوكك؟ وانحرافك؟ وكسب مالك؟ والاختلاط؟ والتدليس في البيع والشراء؟ واليمين الكاذبة ما هذه؟ يا ربي لكَ الحمد، يقول لك: الله مُفوضها، علامة الشكرِ طاعة الله عزَّ وجل، إن لم تُطع فلستَ شاكراً. 

2-حبه له:

قال: الشكرُ مبنيٌّ على خمسِ قواعد، خضوع الشاكرِ للمشكور وحبهُ له، أي يجبُ أن يمتلئَ قلبُكَ حُباً لله: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾

[ سورة المائدة ]  

3-الاعتراف بالنعمة: 

والاعترافُ بالنِعمة، إذا حققتَ نجاحاً لا ينبغي أن تقول: هذا جُهدي، قال تعالى:

﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾

[ سورة القصص ]

هذه خبرات، هذه سنوات طويلة من الخِبرة تراكمت بعضُها فوقَ بعض، حتى حصلّت هذه المرتبة، هذا كُفر، إذا عَزوتَ النِعمة إلى ذاتك فهذا نقيضُ الشكر: ﴿واشكروا لله ولا تكفرون﴾ . 

4-ثناؤه عليه بها:

 ثناؤهُ عليهِ بها.

 5-ألا يستعملها فيما يكره:

ألا يستعملها فيما يكره. 
يا أيها الإخوة الأكارم؛ من استعملَ قوتهُ في معصية الله فليسَ شاكراً، من استعملَ عينهُ في معصية الله، من نظرَ بها إلى حُرُمات المُسلمين، حينما تستخدمُ الجارحة في معصية الله فأنتَ لا تشكر الله عليها، وكأنك تتحرك نحو إصابتها،

(( عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَسَمِعَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، قَالَ: وَقَالَ الثَّالِثَةَ فَنَسِيتُهَا، قَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: ذَاكَ حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، أَوْ عَيْنٍ فُقِئَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))

[ السلسلة الصحيحة ]

يجب أن تعتقد أنَّ هذه العين إذا غضت عن محارم الله، أغلبُ الظنِّ أنَّ الله يحفظُها لك، وأنَّ هذه الأُذن إن لم تسمع بها إلا ما يُرضي الله، أغلبُ الظنِ أنَّ الله يحفظُها لك، وأنَّ هذا اللسان إذا كانَ رطباً بذكر الله، أغلبُ الظنِ أنكَ تتمتعُ بهِ إلى آخر الحياة، وأنَّ هذا الفِكر إذا أعملته في آيات الله، أغلب الظنِ أنكَ لا تَخرَف، من تعلّمَ القرآن متعهُ الله بعقلِهِ حتى يموت، إذاً أن تطيع الله، وأن تحبه، وأن تعترف بنعمته، وأن تثني عليه بها، وألا تستعمل هذه النعم في معصية الله، إن فعلت هذه الأشياء الخمس فقد شكرت الله عز وجل شكراً صحيحاً لا ادعاء.
 

أقوال في الشكر:


قيلَ في الشكرِ أقوال كثيرة، فقيل: حدهُ الاعتراف بنعمةِ المُنعِمِ على وجهِ الخضوع، هناك اعتراف على وجه الإقرار، هناك اعتراف على وجه الخضوع، فإذا اعترفت بنعمة الله وخضعتَ لهُ فأنتَ شاكر، هذا الذي قُلناه قبلَ قليل: من علامة الشكرِ الطاعة.
وقيلَ: الثناءُ على المُحسن بِذكرِ إحسانهِ: 

﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)﴾

[ سورة الضحى ]

وقيلَ: هو عكوفُ القلب على محبة المُنعِمِ، والجوارح على طاعتهِ، وجريان اللسان بذكرهِ، والثناءِ عليه، معرفةٌ وتعبير وامتنان وسلوك كما قُلنا قبل قليل.
وقيلَ: الشكرُ مُشاهدةُ المِنّة وحِفظُ الحُرمة، وما ألطفَ ما قالَ حمدون القصّار: شُكرُ النعمةِ أن ترى نفسكَ فيها طُفيليّاً، أن ترى نفسكَ لا شيء:

فأنتم هو الحقُ لا غيركم                فيا ليت شِعري أنا من أنا

[ عبد الغني النابلسي ]

* * *

أي كُلما صَغُرتَ في عينِ نفسك كُلما كَبُرتَ عِندَ الله، وكُلما كَبُرت نفسُك صَغُرتَ عِندَ الله. 
وقال أبو عثمان: الشكرُ معرفة العجزِ عن الشكر، ماذا قالَ الله عزّ وجل؟ قال تعالى: 

﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)﴾

[ سورة النحل ]

من معاني هذه الآية هل يُقال لإنسان: خُذ هذه الليرة فعُدّها؟ هذه ليرة واحدة، ماذا أعدّ فيها؟ يقول الله عزّ وجل: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ قالَ بعضُ العُلماء: إنكَ إن أمضيتَ الحياة كُلها لتُحصي بركاتِ نعمةٍ واحدةٍ أنعمها الله عليك، نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة النطق، نعمة الشم، نعمةُ جريان الدمع في القناة الدمعية، لولاها لاضطررت أن تمسحَ الدموعَ من على خدكَ دائماً إلى أن يحفرَ الدمعُ في خدك أخدوداً، لأنَ الدمعَ قلوَي، فهذه القناةُ الدمعية بين محجر العين وبين الأنف سالكة، وهي من أدقِّ الأنابيب في الجسم، هذه نعمة، نعمة السمعِ، نعمة البصرِ، نعمة الشَّعر، لو أنَّ الله سبحانهُ وتعالى جعلَ في الشعر أعصاباً حسيّة، إلى أينَ أنتَ ذاهب يا أخي؟ والله إلى المستشفى لأُجري عملية حِلاقة، تحتاج تخديراً كاملاً، لكنَّ الشعرَ فيه أعصاب حركية، ولكن ليسَ فيهِ أعصاب حسيّة، لكلِّ شعرةٍ وريدٌ، وشريانٌ، وعضلةٌ، وعصبٌ مُحركٌ، وغدةٌ دهنيةٌ، وغدة صبغية، وليسَ في الشعرِ عصبُ حِسي، أين يا أخي؟ والله إلى المستشفى لأُجري عملية تقليم أظافر، إذاً لما ربنا عزّ وجل ما جعل في الأظافر أعصاب حِس هذه نِعمةٌ كُبرى.
هذه المثانة التي أكرمَ الله الإنسان بِها، تجعلُكَ تجلس ساعات طويلة، تُسافر، تُلقي محاضرة، تستمع، تدخل إلى مسجد، تجلس مع أهلِكَ ساعات طويلة، وأنتَ لستَ بحاجة إلى إفراغ المثانة، لولا المثانة لكُنتَ مُضطراً أن تُفرِغَ البولَ كُلّ دقيقة، لأنَّ كُلَّ عشرين ثانية بالضبط تنزِلُ من كلَّ كُليةٍ نُقطةُ بول، كل عشرين ثانية، فهذه المثانة تجمعُ هذا البول بخمس ساعات، وأنتَ نظيفُ، مهفهف، مُعطّر، مرتاح، مُطمئن، وإذا أردتَ أن تُفرِغَ هذه المثانة فقد جعلَ الله لها عضلات، لولا هذه العضلات لابد من تنفيس هواء لها، لا نقدر، ائت بقارورة، واجعل فوهتها نحو الأسفل، وسُدَّ قعرها بإحكام، الماء يبقى فيها، لابد من تنفيس، لولا عضلات المثانة لما أمكنَ إفراغ المثانة، هذه نعمة، القلب يعمل بلا صوت، إذا نام الإنسان فقد حياته، التنفس حركتهُ لاإرادية، أي: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ أنتم عاجزون عن إحصاء النعم، أنتم عاجزون عن إحصاء فضائلِ نعمةٍ واحدة، فلأن تكونوا عاجزين عن شُكرِ النعم من بابِ أولى.
أي إذا شخص جاءه مولود، وجاءته هدايا كثيرة، أيُهُما أهون أن يُمسك قلم وورقة ويُسجّل هذه الهدايا أم أن يَرُدَّ هذه الهدايا؟ كتابتها على ورقة عملية سهلة جداً، فالإنسان عاجز عن أن يشكُرَ فضائِلَ نِعمة واحدة، فلأن يكون عاجِزاً عن شُكرِها من بابِ أولى، أو لئن يكونَ عن شُكرها فهو عن شُكرها أعجز.
قالَ أبو عثمان: الشكرُ معرفةُ العجزِ عن الشكرِ.
هذا كلام سيدنا الصدّيق: العجزُ عن الإدراكِ إدراك، أي إذا قُلت يا ربي لا أُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك، فحينما عجزتَ عن الإدراك فهذا نوعٌ من الإدراك، أنا أضرب مثلاً قد يكون مضحكاً، لو سألنا إنساناً على شط البحر المتوسط، هذا البحر كم ليتراً؟ قالَ لكَ: هذا ثلاثة وعشرون مليوناً وثمانمئة وخمسون ليتراً، معناها جاهل، أما إذا قال: واللهِ لا يمكن أن نعرف كم ليتر، عدم معرِفتهِ بعدد ليترات ماء البحر هي معرفة لحجم البحر الكبير، عدم المعرفة معرفة، فلو قال لكَ: هذا البحر كذا ليتر، والمعرفة هي عدم معرفة، لهذا قالَ بعضُ علماء التوحيد: اللهُ سبحانهُ وتعالى عينُ العٍلمِ بهِ عينُ الجهلِ بهِ، وعينُ الجهلِ بهِ عينُ العِلمِ بهِ، أي إذا قلت: يا رب أنا عاجز عن معرفة فضلك، هذا أحدُ أنواع المعرفة، أمّا نحنُ نُصلي له، ماذا علينا أكثر من ذلك؟ هذا هو الكُفر، أي أن ترى أنَّ نعمة الله محدودة، وقد أديتها بالصلاة، وانتهى الأمر، لذلك قال سيدنا الصدّيق: العجزُ عن الإدراكِ إدراك، إذا اعترفتَ بعجزِكَ عن الإدراك فهذا نوعٌ من الإدراك. 
إذاً قال أبو عثمان: الشكرُ معرفة العجزِ عن الشكرِ. 
وقالَ الجُنيد: الشُكرُ ألا ترى نفسكَ أهلاً للنعمة، أن ترى الله سبحانه وتعالى تفضّلَ عليك، وإذا أرادَ ربُكَ إظهارَ فضلهِ عليك خلقَ الفضلَ ونسبهُ إليك.
وقالَ أحدُ العلماء: الشكر استفراغ الطاقة، أما شُكرُ العامةِ على المطعمِ والمشربِ والملبسِ وقوتِ الأبدان، عوام الناس إذا رأى في بيتهِ مؤونة، معهُ في جيبهِ مال، صحتهُ طيبة، يقول لك: الحمد لله الله مفوضها، مفضلها، لكنَّ خواصَّ المؤمنين يشكرُ على معرفة الله، يشكرُ على العِلم الذي تفضّلَ اللهُ بهِ عليه، يشكر على نعمةِ الإيمان، على نعمةِ الصبر، سيدنا عمر حينما أصابتهُ مصيبةٌ قالَ: الحمدُ للهِ ثلاثاً: الحمد للهِ إذ لم تكن في ديني، والحمد للهِ إذ لم تكن أكبرَ منها، والحمدُ للهِ إذ أُلهمتُ الصبرَ عليها، قال: شُكر الخاصّة شكرٌ على التوحيدِ والإيمانِ وقوت القلوب.
 

الشكرُ ألا يُستعانَ بشيء من نِعم الله على معاصيه:


الجُنيد كانَ صبيّاً، سألهُ أحدُ العلماء، قال: يا غلام، ما الشكر؟ فقالَ: الشكرُ ألا يُستعانَ بشيء من نِعم الله على معاصيه، فقالَ: من أينَ لكَ هذا؟ قالَ: من مُجالستك؟ أخذتها أنا منك، وقيل: من قصرت يداهُ عن المكافآت فليُطل لِسانهُ بالشكر، من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، هذا التوجيه النبوي، فإن لم تجدوا فادعوا لهُ، أي كلمة: جزاكَ اللهُ عنّي كُلَّ خير، إذا أردتم التحقيقَ الدقيق هذه الكلمة لا تصح إلا إذا عجزتَ عن أن تُكافئَ النعمة بنعمةٍ مثلها، إذا عجزتَ عن المُكافأة قل: جزاكَ الله عني كُلَّ خير، أما أن تكتفي بها دائماً، كُلما قُدِّمت لكَ خِدمة، كلما قُدّم لك شيء أخي الله يجزيك الخير وانتهى الأمر، هذا ليسَ شُكراً.
 

تحصين النعم بالشكر:


الشكرُ معهُ المزيدُ أبداً، أي الآن كلام دقيق، إذا كُنتَ في نِعمةٍ، وحَرِصتَ على أن تستمر، وعلى أن تبقى، وعلى ألا تزول، فحصنّها بالشكر، وإذا أردتَ أن تزيد فَزِدها بالشكر، فالشُكر حِصنُ، أو يحولُ بين النعمةِ وبين زوالِها، ويدفعُ إلى المزيدِ منها لقولهِ تعالى: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ والحديث القُدسي: إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم، أخلقُ ويُعبدُ غيري، وأرزقُ ويُشكرُ سِواي، خيري إلى العِبادِ نازل، وشرّهم إليَّ صاعد، أتحببُ إليهم بِنعَمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي، وهم أفقرُ شيء إليّ، من أقبل عليَّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرضَ عني منهم ناديته من قريب –دققوا-أهلُ ذِكري أهلُ مودتي.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾

[ سورة مريم ]

أهلُ ذِكري أهلُ مودتي، أهلُ شُكري أهلُ زيادتي، أهلُ معصيتي لا أُقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطهرهم من الذنوبِ والمعايب، الحسنةُ عِندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بِمثلها وأعفو، وأنا أرأفُ بعبدي من الأمِ بولدها، وقيلَ: من كتمَ النعمةَ فقد كفرها، ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها، وهذا مأخوذٌ من قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( عن عمران بن الحصين خَرَجَ علينا عِمْرانُ بنُ حُصَيْنٍ وعليه مِطرَفٌ مِن خَزٍّ لم نَرَه عليه قَبْلَ ذلك ولا بَعْدَه، فقالَ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ قالَ: مَن أَنعَمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عليه نِعْمةً فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ أن يَرى أثَرَ نِعْمتِه على خَلْقِه. ))

[ الوادعي: الصحيح المسند: خلاصة حكم المحدث: حسن ]

أمّا هذا الكلام دقيق جداً، هُناك من يُظهِر النِعمة على بيتهِ، وعلى جِسمهِ، وعلى أهله وأولادهِ كِبراً واستعلاء، وهُناكَ من يُظهُرها حمداً وشُكراً، شتّانَ بين الحالتين.
على كُل؛ لهذا الموضوع تتمة، أرجو الله سبحانه وتعالى في درسٍ آخر أن نتابع هذا الموضوع الذي كما قلتُ قبلَ قليل: موضوع كبيرٌ جداً، بل هو سِرُّ خلقِ الإنسانِ في الدنيا، ونرجو الله سبحانهُ وتعالى أن ينفعنا بِما علّمنا، وأن يُعلّمنا ما جَهِلنا.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور