- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة الوجد .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس مدارج السالكين, في منازل إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين, ومنزلة اليوم هي منزلة الوجد .
تمهيد .
أيها الأخوة الأكارم ؛ في الدين فضلاً عن عقيدتهِ, وعن عباداتهِ, وعن معاملاتهِ, وعن تنفيذ أوامرهِ, وعن اجتناب نواهيه, في الدين الحقيقي مشاعر، مشاعر يتذوقها المؤمن، هذه المشاعر لها شأنٌ كبير في مسيرتهِ إلى الله عزّ وجل .
يعني إذا بقي الدين معلومات، أفكار، قناعات، فلسفات، علم كلام، قيل وقال، الإنسان ينصرفُ عنهُ، وإذا بقي الدين أعمالاً مُجهِدة الإنسان يتعب، في الدين شيء أُسميه الآن : وجد بحسب موضوع الدرس ، هذه مشاعر, هذه المشاعر تغمرُ القلب، ربما كانت هذه المشاعر المُسعِدة التي تغمُر القلب دافعاً حثيثاً لمتابعة الطريق .
هذه المشاعر ثابتةٌ, في قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين, من حديثِ أنسِ بن مالك رضيَّ الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:
(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))
الإيمان لهُ حلاوة، الإيمان في أذواق، في مشاعر مُسعدةَ، في أحاسيس طيبة، لكن أُفضّل كلمة مشاعر, لأنَّ الأحاسيس يغلبُ عليها الطابعُ الحسيّ المادي، والمشاعر يغلبُ عليها الطابعُ النفسي .
مثلاً قبلَ أن نمضي في الحديث في هذا الموضوع, الإنسان يتاجر ويشتري بضاعة بسعر، ويبيعها بسعر جيد, ويحقق رِبح يقبِضهُ نقداً خلال ساعة أو ساعات, يشعر بسرور، تجدهُ يتكلّم بمرح، عيونهُ تلمع، وجنتهُ تتورد، يميل إلى المزاح، يحاول أن يستلطف الآخرين, هذه كُلها علامة الفرح, لأنهُ فَرِحَ بِربحِ هذه الصفقة، لو أنهُ درسَ دراسةً عُليا, وأمضى سنةً بُجهدٍ شاق, ثُمَّ قدّمَ امتحانا, وبعدَ شهرٍ قرأَ اسمهُ في لوحة الإعلانات, وقد نالَ هذه الشهادة العُليا بتقدير امتياز, تجدهُ خلال أسبوع في أعلى درجات سعادتهِ, يشعر بسعادة حقيقية .
لو أنَّ إنساناً سافر إلى مكان جميل, وليسَ في قلبهِ هموم, ويملكُ المالَ الكافي, مستمتعاً بالمناظر الجميلة, وبأهلهِ, وأولادهِ, والأمور كُلُها منتظمة, يشعر بسعادة, هذه السعادة كُلُها مؤقتة, لكن إذا اتصلَ بالله عزّ وجل من خِلال استقامتهِ على أمر الله، من خلال أعمالهِ الطيبة، يذوقُ طعمَ الإيمان، يذوق حلاوة الإيمان، يقول لكَ: ليسَ في الأرض من هوَ أسعدُ منّي، هذا فضلاً عن عقيدتهِ الصحيحة، فضلاً عن طاعتهِ لله، فضلاً عما ينتظره من نعيمٍ مُقيم ، فضلاً عن تنفيذهِ أوامِرَ الله، فضلاً عن تَخلُّقهِ بأخلاقِ رسول الله، فضلاً عن كُلِّ ذلك .
في الدين مشاعر مُسعِدة, هذه المشاعر المُسعِدة بمثابة المُحرك في طريق الإيمان, فإذا ضَعُفت هذه المشاعر أو تلاشت, أصبحَ الدينُ ثقافةً، معلومات، أفكار، مناقشات، قيل وقال ، عِلم ، كلام، كُتب، مقالات، تأليف، مراجع، مصادر، فهارس, انقلبَ الدين إلى معلومات، والمعلومات يعني الإنسان أحياناً يملُّها، أو يسأمُ منها، أو ينصرفُ عنها, وإذا بقي, يعملُ الأعمال الصالحة، ويخدمُ الآخرين، ويعطفُ على المساكين والفقراء، ويغيثُ الملهوفين دون أن يكونَ لهُ اتصالٌ بربِّ العالمين, حتى الأعمال الصالحة تُملّ, يقول لكَ: يا أخي مللتُ حياتي, الناس سيئون, ما الذي يجعَلَكَ تُغِذُ السير في طريق الإيمان؟ أن تذوقَ طعمَ الإيمان؟ هذه المشاعر المُسعِدة التي تغمر قلبَ المؤمن, إنها موضوع هذا الدرس, مرتبةُ الوجد .
قالَ بعضُ الشُعراء:
هل الوجدُ إلا أنَّ قلبي لو دنا من الجمرِ قيدَ الرُمحِ لاحترقَ الجمرُ
يعني قلبهُ متأجج , أحياناً تجلس مع إنسان منطفئ، يعني يملُّ كُلَّ شيء, ويُملُّ الجلوسَ, معهُ قلب فارغ من أي شعور إنساني، أحياناً تجلس مع إنسان يُعطيكَ من تأججهِ الشيء الكثير.
الدافع إلى طريق الإيمان .
درسنا اليوم هذا الباعث النفسي ، هذا التأجج القلبي ، هذه السعادة القلبية ، هذا الحال إن صحَّ التعبير : الذي يُسعِدُ الإنسان ويدفعُه قُدُماً في طريق الإيمان .
هذا الكلام أله أصلٌ في السُنّةِ الثابتة : وردَ في الصحيحين , من حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))
يعني الليرة والمليون تحت قدمهُ, إذا كان الله يُرضيه أن يُقدّمَ هذا المبلغ, يُقدّمُ مالهُ، يُقدمُ روحهُ، يُقدمُ وقته، لا يرضى من زوجتهُ أن تعصي الله ولو أدبرت عنهُ، ولو توتّرَ الجو بينهما، هذا الذي اللهُ ورسولهُ أحبُ إليه مما سِواهما, يذوقُ طعمَ الإيمان, أما كُلما وقعتَ في صِراع آثرتَ جانبَ الدنيا, أخي فيها فتوى هذه, والعلماء أجازوها, الناس, هذا بلاء عام يا أخي, كلما وقع صراع بين ما يُرضي الله وبينَ ما يُحققُ مصالِحُه,و مالَ إلى جانبِ مصالحهِ .
آثرَ الدنيا على الله ورسوله، آثرَ رِضاء زوجتهِ على الله ورسوله، آثرَ رِضاء شريكهِ على الله ورسوله، آثرَ تحقيقَ أرباحٍ فيها شُبُهات على اللهِ ورسوله، حيثُما تُؤثِرُ شيئاً من الدنيا على الله ورسوله, لا تذوقُ طعمَ الإيمان, يُصبِحُ القلبُ متصحّراً، جافاً، جلموداً، صخريّاً .
ولي منه أولياءَ الله عزّ وجل ذُكِرَت الله بِه, لو رأيتَ مؤمناً ذاقَ طعمَ الإيمان, بمجردِ أن تقعَ عينكَ عليه, تذكرُ الله عزّ وجل، تتمنى أن تتوب، تتمنى أن تُصلي، تتمنى أن تعمل الصالحات .
((أولياءُ أُمتي إذا رُؤُا, ذُكِرَ الله بهم))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
يعني تنشأ في مجتمع المؤمنين علاقات عجيبة جداً؛ لا قرابة, ولا نسب, ولا مصلحة, ولا جِوار, ولا زمالة في العمل, ولا آمال, ولا مُصاهرة, تجدُ أنكَ تُحبُ أخاكَ في الله حُباً لا يوصف, لو جلستَ معهُ ساعاتٍ طويلة, تشعر هل من مزيد؟ إذا أحببتَ أخاكَ المؤمن دون أن تكون هُناك مصلحة علاقة، نسب، مُصاهرة، زمالة، جِوار، مشروع مستقبلي, أبداً, لا تبتغي منهُ جزاءاً ولا شكوراً، لا تُحبهُ إلا لله، إذا أحببتَ أخاكَ المؤمن لوجه الله تعالى دونِ مصالح, ذُقتَ طعمَ الإيمان .
هذه علامة ثانية: قال :
(( وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))
هذا الذي آمن واستقام على أمر الله, إذا نَدِمَ على توبتهِ, يقول لكَ: والله رفاقي مبسوطون, وأنا ذهبت, والتحقت بالجامع, وأصبحت مُقيّداً, وإذا قصّرت يحاسبونني, وإذا ذهبت إلى المكان الفولاني يؤاخذونني, هذا الذي نَدِمَ على أنهُ آمن، أو يتمنى أن يعودَ كما كان ، هذا ماذا قطعَ من الإيمان؟ .
من علامة الإيماني: مثلاً إنسان ساكن في بيت قميء، مُظلم، فيه رطوبة، بحي مزدحم, يعني مُشكلات لا تُعد ولا تُحصى، نُقِلَ إلى بيتٍ واسعٍ, فخمٍ, مشمسٍ, في حيٍ راقٍ, هل يتمنى أن يعود لهذا البيت؟ مستحيل, كان يعمل في وظيفة متواضعة, ودوامها طويل, وحولِهِ ضغط شديد، وشيء من الإذلال، ودخلهُ لا يكفيهِ ثلاثة أيام، اشتغل بالتجارة, وربح أرباحاً طيبة، أصبحَ سيد نفسهُ، دوامهُ بيدهُ، يتمنى أن يعود كما كان موظفاً؟ يكون مجنوناً .
فإذا الإنسان آمن إيماناً حقيقياً، واتصل بالله اتصالاً حقيقياً، وذاق طعمَ الإيمان، وشعرَ كيفَ كان، في أيِّ الوحول كان، كان مع القاذورات، كان مع أشخاص على درجة من الانحطاط، في مِزاحهم، في علاقاتهم، في سفرهم، في شراكتهم، في مُرافقتهم، مُزاح على أنانية, على حقارة, على حبِ الذات, على استعلاء, على مُزاح غليظ, فصاحبَ أُناساً طيبين طاهرين, أخلاقهم طيبة, يتمنى أن يعودَ لهؤلاء المجرمين؟ هذه أمثلة من واقع الحياة .
فلذلك: وأن يكرهَ أن يعود في الكُفرِ بعد إذ أنقذهُ الله منهُ كما يكرهُ أن يُلقى في النار.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))
هذا الإنسان ذاقَ طعمَ الإيمان, والأصح: ذاقَ حلاوة الإيمان, الإيمان لهُ حلاوة .
آيةٌ ثانية تؤكِدُ هذه المنزلة:
﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾
حقيقة حلاوة الإيمان .
هُنا في سؤال دقيق: سيدنا جعفر مثلاً, ما الذي دعاهُ حينما جاءَ سيفٌ فقطعَ يمينهُ وأصبحت يدهُ على الأرض؟ لماذا لم يترك فرسهُ فجأةً ويقول يدي؟ وا أسفاه على يدي؟ لماذا أمسكَ الراية بيدهِ الثانية, جاءت ضربة سيفِ ثانية قطعت يدهُ اليُسرى, فمسكَ الرايةَ بعُضُدِيه؟ هنا في سؤال دقيق: هو بشر من بني البشر, ما الذي جعلهُ يتحمل هذه الآلام, آلام قطعِ اليد الأولى والثانية ويصبر؟ إنها حلاوة الإيمان .
سيدنا خُبيب: حينما أرادوا أن يصلبوه, فطلبَ أن يُصلي ركعتين قبلَ أن يُصلب, وقد هُيئَ الجدار, وهُيئت السِهام, ليُصلبَ على جِذعِ نخلة, ويُلقى بالسِهام حتى يموت, قيل لهُ: أتحبُ أن يكونَ محمدٌ مكانك وأنتَ في أهلك؟ والله شيء غريب، والله الإنسان يبيع أهلهُ في هذه الحالة, يبيع دينهُ, ويبيع إيمانه, هكذا الناس, ما الذي جعلَ هذا الصحابي الجليل ينتفضُ ويقول: واللهِ ما أُحبُ أن أكون في أهلي وولدي, -جالس في بيتهُ, زوجتهُ أمامه, وأولادهُ أمامهُ, وطعام طيب، بالشتاء البيت دافئ تدفئة مركزية, وبالصيف تكييف, الورود على الطاولة، ألوان الطعام والشراب، كل أجهزة اللهو موجودة, قالَ-: واللهِ ما أحبُّ أن أكونَ في أهلي وولدي, وعِندي عافيةُ الدنيا ونعيمُها, ويُصابُ رسولَ الله بشوكة؟ انظر: ما الذي جعلهَ يموت عن أن يكفر بمحمد، يموت صلباً، السهام تلوشهُ؟ .
طيب هذه المرأة التي فقدت زوجها وأباها وابنها وأخاها, يعني لا يمضي ألف سنة حتى تُصاب امرأة بوقت واحد؛ بزوجها, وابنها, وبأخيها, وبأبيها, وقد عَلِمت بموتهم جميعاً في معركة أُحد, تقول: ما فعلَ رسول الله! تُريد أن تسألَ عن رسول اللهِ فقط, ماذا في قلبِها؟ لو لم يكن في قلبِها حلاوة الإيمان لما فعلت هذا .
يعني ظهر من الصحابة أفعال العقل لا يُصدقُها, لولا ما ذاقوه من حلاوة الإيمان .
أنا مرة سألت طبيب قلب, قُلت له: صِف لي بعضَ حالات الوفاة التي يعانيها بعض المرضى, يعني مريض بالقلب, جاءتهُ الوفاة, والله ذكرَ لي قصصاً غريبة, قال لي: بعض الناس يضرب نفسه، وبعضهم يصفرُّ وجهه, ذكرتُ لهُ قصة سيدنا ربيعة, النبي الكريم تفقّدهُ, وقال: ابحثوا لي عنهُ، ذهب صحابي إلى أرض المعركة, رآهُ بينَ القتلى, لكنهُ يتنفس, قال لهُ: يا ربيعة, أمرني النبي أن أسألَ عنك, هل أنتَ بينَ الأحياء أم بينَ الأموات؟ قالَ لهُ: أنا بينَ الأموات .
قال لهُ: بلّغ رسولَ الله مني السلام, وقُل له: جزاكَ اللهُ عنّا خيرَ ما جزى نبياً عن أُمته, وقُل لأصحابِهِ: لا عُذرَ لكم إذا خُلِصَ إلى نبيّكم وفيكم عينٌ تطرُف.
في أيّةِ سعادةٍ هذا الإنسان؟ في أيّةِ سعادة وهو يُفارق الدنيا؟ .
أقول لكم الآن كلمة: ذاقَ حلاوة الإيمان, إذا ذُقتَ حلاوة الإيمان, واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو, يستوي عِندكَ التِبرُ بالتُراب, الذهب مثلُ التُراب .
سحرة فرعون لمّا ذاقوا حلاوة الإيمان:
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
بماذا شعرَ هؤلاء؟ .
الملكة بلقيس حينما تخلّت عن مُلكِها دفعةً واحدة, قالت:
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
الإنسان سهل يتخلى عن مُلكهِ, هكذا بلحظة, ماذا شعرت؟ هذه حلاوة الإيمان .
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, قال:
((أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا, وَبِالإِسْلامِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا))
سيدنا الصدّيق أعطى كل مالهُ لرسول الله، قالَ: يا أبا بكر! ماذا أبقيتَ لك؟ قالَ: اللهَ ورسولهُ .
سيدنا أبا يحيى وهو في الهجرة, تَبِعهُ كُفارُ قريش, وألقوا القبضَ عليه, ليعيدوه إلى مكة، قالَ: إذا أعطيتكم كُلَّ مالي أتتركوني؟ قالوا: وأينَ مالُك؟ قالَ: في مكة, المكان الفلاني, فخلّوا عن سبيلهِ, وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وحدّثَ النبيَّ بما حصل، قالَ: رَبِحَ البيعُ أبا يحيى, رَبِحَ البيعُ أبا يحيى .
يعني أنا أقول لكم: الذي يجعل المؤمن يُضحّي المال تحت قدمهُ، الدنيا كُلها إذا تعارضت معَ دينهِ لفظها ورفضها, هو حلاوة الإيمان, إذا ذاقَ حلاوة الإيمان، والله إذا ذاقَ حلاوة الإيمان لا يُضحّي بشيء، يجد لكل معصية فتوى, إذا لم يذق حلاوة الإيمان مع مصالحهُ, مع الدنيا, مع شهواتهُ, مع رغباتهُ, يحتاج إلى دين خاص، يُصلي صلاة لا تُكلّف، يُصلي ويصوم ويحج ويُزكي، لكن يريد مصالحهُ وشهواتهُ وتجاراتهُ وحركاتهُ وسكناتهُ، فإذا الإنسان ما ذاقَ حلاوة الإيمان, لن يستقيم على أمر الله .
﴿وربطنا على قلوبهم﴾
يعني وألقينا في قلوبهم من حلاوة الإيمان, ومن مواجد أهلِ الحُب, ألقينا في قلوبهم معاني القُرب، ألقينا في قلوبِهم أنوار الحق، ألقينا في قلوبهم تجليات، ألقينا في قلوبهم السكينة، حتى ظهرت منهم هذه الأعمال البطولية, شيئاً لا يُوصف, لو قرأتم تاريخَ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم, لوجدتم أنهم بشر ولكن ليسوا كالبشر, لا لشيء, إلا أنَّ الله عزّ وجل ألقى في قلوبهم محبته، ألقى في قلوبهم حلاوة الإيمان، ألقى في قلوبهم أنوارهُ، ألقى في قلوبهم تجلياتهُ، ألقى في قلوبهم سكينتهُ .
قال :
﴿وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربُنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوَ من دونهِ إلهاً لقد قُلنا إذاً شططاً﴾
أهلُ الكهف كانوا يعيشون في ظِلِ سُلطانٍ كافر, وكانوا في بحبوحةٍ, وفي حياةٍ واسعةٍ ناعمةٍ إلى أقصى الحدود، تركوا حياة البذخ والترف والنعيم والشهوات، ولجؤوا إلى كهفٍ خَشِنٍ مظلِمٍ مُخيفٍ, لكنَ الله عزّ وجل ألقى في قلوبهم حلاوة الإيمان .
لذلك: هذا ما قالهُ بعض العارفين بالله: لو يعلمُ الملوكُ ما نحنُ عليه, لقاتلونا عليه بالسيوف.
بقلب المؤمن سكينة، تجلّى أنوار، مشاعر مُسعِدة، شعور بالأمن، شعور بالرِضا، شعور بأنَّ اللهَ راضٍ عنك، الشيء الذي لا يوصف, لذلك من أجلِ هذا يتحمّلُ كلَ شيء, يصبرُ على الطاعات، يصبرُ عن الشهوات .
الإنسان شب في أول حياتهُ، امرأة سافرةٌ متبذلةٌ في ثيابِها, تكشِفُ عن مفاتِنها، ما الذي يجعلهُ يَغضُ طرفهُ عنها؟ والله هيَ جميلة, وقد ركّبَ الله حُبَ النساء, ما الذي يجعلهُ يُديرُ وجههُ عنها؟ أنهُ ذاقَ حلاوة الإيمان, فلو أنهُ نظرَ إليها فقدَ حلاوة الإيمان، حلاوة الإيمان أغلى عِندهُ من النظرِ إليها .
صحابي جليل, لهُ زوجة يُحبها جداً، قالت لهُ: أُريد كذا وكذا، قال لها: إنَّ في الجنة من الحورِ العين, ما لو أطلّت إحداهُنَّ على الأرض, لَغَلَبَ نور وجهها ضوءَ الشمسِ والقمر, فلأن أُضحي بِكِ من أجلِهن, أهون من أن أُضحي بِهنَّ من أجلك .
أُم سيدنا سعد قالت لهُ: إمّا أن تكفر وإمّا أن أدعَ الطعام، قالَ: يا أمي, لو أنَّ لكِ مئة نفسٍ فخرجت واحدةً واحدةً, ما كُنتُ لأكفُرَ بمحمد, فكُلي إن شئتِ أو لا تأكُلي.
هذا درسُنا الوجد .
فإذا أردتَ أن يمتلئَ قلبُكَ بالوجد، بالحُب، بالمشاعر المُسعِدة, أردتَ أن تذوقَ حلاوة الإيمان، أنا أدُلُكَ على الطريق: أولاً: أطع الله عزّ وجل, طاعتُكَ للهِ وحدها, تغمرُ قلبكَ بالمشاعر المُسعِدة, لو الله عزّ وجل لم يُلق على قلبِ هؤلاءِ هذه السعادة؛ لآثروا الدنيا، ولانشغلوا بملذاتها، ولغفلوا عن ذِكرِ الله عزّ وجل، ولاتبعّوا الشهوات .
مراتب الوجد :
الآن أربع مراتب للوجد :
1-التواجد :
أول مرتبة : التواجد, هذه الصيغة فيها معنى التصنع، التباكي, التمرض, التواجد, التغابي, وزن تفاعلَ: بمعنى تصنّعَ الشيء:
ليسَ الغبيُّ سيداً في قومهِ لكنَ سيدَ قومهِ المتغابي
أحياناً المتغابي: يكون أعلى درجة من أنواع الذكاء، ويكون هو ذكي جداً، لكن الموقف يقتضي ذلك, يتغابى .
التواجد, يتباكى, يعني عملية تصنع الوجد، التواجد: عملية تصنُع الوجد .
قال: هذه أول مرتبة وهي أضعفُ المراتب، اختلفَ العُلماء في هذه المرتبة: مقبولة أم مرفوضة؟ قال: إذا أرادَ بالتواجد أن يكتسبَ ثناءَ الآخرين مرفوضة، أمّا إذا أرادَ بالتواجد أن يصِلَ من خِلالها إلى حقيقة الوجد مقبولة، لقول النبي الكريم: وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ .
وَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ))
أنتَ تعمل نفسكَ متأثراً, وتتباكى, وتُغمض عينكَ, وتحاول أن تبكي, هذا التواجد, عملية تصنُع الوجد, فإن فعلتها لانتزاع إعجاب الناس, هذا نِفاق, والله وهذه المرتبة مرفوضة ، أمّا إن فعلتها لعلكَ تُحصّلُ الوجدَ الحقيقي مقبولة .
في عنّا أثر: عن سيدنا عُمر يؤكدُ ذلك: سيدنا عمر رأى النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر يبكيان في شأنِ أسارى بدر, وما قَبِلوا منهم من الفِداء, فقالَ عُمر رضي اللهُ عنه: أخبراني ما يُبكيكُما, فإن وجدتُ بُكاءاً بكيت, وإلا تباكيت, هذه مرتبة مقبولة من جهة، مرفوضة من جهة، مقبولة إذا أرادَ صاحِبُها أن يصلَ من خلالها, أن يصلَ إلى الوجد الحقيقي, تأسيّاً بالنبي عليه الصلاة والسلام, حينما قال:
((إنما العِلمُ بالتعلُم، إنما الحِلمُ بالتحلّم، إنما الكرمُ بالتكرَم))
يعني أنت غضوب بالأصل, لكن النبي أمرنا بالحِلم, وضغط الأعصاب, وأنت من الداخل تغلي غلياناً, لكنك ضابط لأعصابك, وتصك أسنانك, وتعُض على يديك, لم تفعل شيئاً , هذا التحلّم، مرة على مرة، الله عزّ وجل يصبِغُ عليكَ خُلُقَ الحِلم، تُصبح حليم أصلي, الأولى حليم تطليع، تُصبِحُ حليماً أصالةً, وطبعاً هكذا النبي علَمنا: إنما الحِلمُ بالتحلّم، إنما الكرمُ بالتكرَم .
زاركَ ضيف من محل بعيد, تُعاكس نفسكَ, وتعمل له عشاء، لكن مرة مع مرة تُصبِحُ كريماً جواداً, إنما الكرمُ بالتكرّم .
فقال: هذا التواجد تصنعُ الوجد, إذا كان صاحِبهُ فعلهُ رياءً وسُمعةً, لينتزعَ إعجابَ الناس، ليبتزَّ أموالهم .
فهذا الخُلق مرفوض، أما إذا فعلهُ ليجلبَ بهِ الوجدَ الحقيقي, هذا الخُلُق مقبول, هذه مرتبة .
2-المواجيد :
المرتبة الثانية: المواجيد, يعني تقرأ القرآن تُحِس بسعادة، تذكُر الله عزّ وجل تُحِس بسعادة، تدعو الله دُعاءً صادِقاً حقيقيّاً في السجود, يا ربي احفظني، يا ربي ألهمن الخير، يا ربي سدد خُطاي، يا ربي أعن على نفسي، يا ربي إني تبرأتُ من حولي وقوتي, دُعاء صادق تُحِس بسعادة, دُعاء صادق تُحِس بسعادة، ذِكر حقيقي تُحس بسعادة، تِلاوة قرآن تُحِس بسعادة.
قال: هذه المواجيد نتائج الأوراد والتلاوات والعبادات والطاعات, الطاعات والعبادات والأذكار والأوراد والتفكرات والأدعية, هذه كُلها تُسبب مواجيد, هذه المرتبة الثانية .
3-الوجد :
المرتبة الثالثة: الوجد, قال: هوَ ثمرة أعمال القلوب, من أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنعَ لله، فقد ذاقَ حلاوة الإيمان, القلب لهُ عمل:
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾
القلب إذا انصرفَ عن الدنيا, والتفتَ إلى الله عزّ وجل, هذا العمل اسمهُ: عمل القلب ، من ثِمار عملِ القلبِ الحُب, الوجد, هذا الذي قالَ عنهُ النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ))
4-الوجود :
أما المرتبة الرابعة: الوجود, يعني أن تجدَ الله، أن تصلَ إليه، أن تعبدهُ كأنكَ تراه، أن تراهُ في كُلِّ شيء، أن تراهُ من خِلالِ كُلِّ شيء، أن تراهُ فوقَ كُلِّ شيء، أن ترى يدهُ فوق يدِ كُلِّ مخلوق:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾
أن تراهُ معكَ حيثُما ذهبت، حيثُما توجهت وصلت إلى الله، هذه نهاية طريق الإيمان ، هذه نهاية المطاف .
التواجد : تصنُع الوجد .
المواجيد : مشاعر مُسعِدة , تعقِبُ الأوراد والأذكار والطاعات وتِلاوة القرآن.
الوجد : ما يشعر بهِ قلبُكَ من حُبٍ للهِ عزّ وجل , هذا الوجد من ثمرةِ أعمال القلوب .
أما الوجود : أن تجدَ الله .
كيفَ أرخميدس حينما وضعَ يدهُ في حوض الماء, فشعرَ بقوةٍ تدفعُها نحوَ الأعلى، فخرجَ من الحمام يقول: وجدُتها وجدُتها .
فلذلك الإنسان يمضي عليه ثلاثون عاماً، عشرون عاماً، عشرة أعوام دروس عِلم، مجالس عِلم، بذل، تضحية، دفع أموال، صدقات، خِدمة الناس، خِدمة أهل الحق, مع تِلاوة قرآن، طلب عِلم, يقول لكَ: تعبان, لم أرتح اليوم, إذا في نهاية المطاف وصلَ إلى الله, وصلَ إلى كُلِّ شيء، إذا في نهاية المطاف وجدَ الله, وجدَ كُلَّ شيء، يا ربي ماذا وجدَ من فقدك؟ وماذا فقدَ من وجدكَ؟ .
هذه أعلى مرتبة في مرتبة الوجد: الوجود, أن تجدَ الله، يعني أن تراهُ في كُلِّ شيء، أن تشعُر منهُ بأنكَ قريبٌ منهُ, وأنهُ قريبٌ منك، أن تشعر بوجودهِ في كُلِّ قِصةٍ تسمعُها, هوَ الفعّال، هو الحكيم، أعطى هذا، منعَ هذا، رفعَ هذا، خفضَ هذا، أعزَّ هذا، أذلَّ هذا، أكرمَ هذا، منعَ هذا، ترى يدَ الله تعملُ في الخفاء، إليهِ يرجُعُ الأمرُ كُلهُ، تفهم الأمور كلها فهماً آخر، تفهم كُل شيء تسمعهُ فهماً من خِلالِ رؤيتِكَ للهِ عزّ وجل، هذه عقيم، هذه جاءت بأولاد ذكور، هذه بأولاد إناث، هذا زوج سعيد بزوجتهِ، في سبب، الله عادل، هُناك أعمال تُبرر لهُ هذه السعادة .
كيف نصل الى مرتبة الوجد؟ :
سؤال كبير جداً :
كيفَ نصِلُ إلى مرتبة الوجد ؟
العُلماء قالوا : هُناك ثلاثة منافذ للوجد : السمع ، والبصر ، والفِكر .
1-عن طريق السمع :
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾
تسمع الحق في مجلس عِلم, أنتَ بشر ولكَ فِطرةَ عالية, تسمع حديثاً عن كرم الله عزّ وجل، عن عظمة الله فتهتز، منذُ يومين كُنتُ في عقد قِران, فتكلّمتُ نقطة من نقاط عِلم الفلك, شعرت صار في هزّة، لا إله إلا الله معقول!! شعرت كأنها أحدثت صدمة. فإذا واحد استمع, يعني أصغى للحق مرات عديدة, حصلت له هزة .
يعني هو الإنسان التاجر, يُتاجر ثلاثين عاماً، يشتري صفقة واحدة, فيربح مِنها إلى ولد ولده، وأيضاً المؤمن ساعة من ساعات نفحات الله عزّ وجل, لا يعرف بالدرس بأوله أم بآخرهِ أم بنصفه, درسين وثلاث ولم يشعر بشيء، قد يأتي درس, يصل الحديث إلى شِغاف قلبهِ، المُتكلّم أحياناً يضع على جُرحِك, يُعطيكَ الحل, تشعر فتقول: إي والله، لا إله إلا الله وتكون التوبة النصوح, ويكون الصُلحُ معَ الله عزّ وجل, لا تعرف، فالسماع طريق؛ احضر مجالِسَ العِلم، استمع للدروس، يجوز في درس من الدروس تتألق .
يعني كأنهُ في قِوى كامنة بهذا الدرس تفجرّت، في مشاعر جاشت، في مطامح تحققت.
كما قُلتُ لكم مرة: أحد العارفين, أظنهُ ذو النون المصري, حدثتُكم عن هذا في خُطبة الجمعة الأسبوع الماضي, هذا رجل يقول لكَ: أنا في حيرة, قُلتُ: أينَ قلبي؟ يعني في شعور بالضيق, رأى امرأة تفتحُ الباب, وتُلقي ابنها خارِجَ البيت, وهو يبكي، ضربتهُ, وألقتهُ خارِجَ البيت, وأغلقت الباب، هذا الطفل تلّفت يميناً وشِمالاً, فصارَ يبكي، عادَ إلى بيتِ أمهِ, وطرقَ الباب, قالَ: يا أُمي, من يقبلني إن طردتني؟ إلى أينَ أذهب؟ فنظرت إليهِ من خُرمِ الباب, فرأتهُ يبكي، فتحت الباب، وأخذتهُ وقبلّتهُ، ووضعتهُ في حِجرِها، وقالت: يا قُرّةَ عيني, يا عزيز نفسي, أنتَ حملتني على أن أفعلَ بِكَ ما فعلت, لو أطعتني لم تر منّي ما تكره، هذا ذو النون المصري, صاحَ بأعلى صوتهِ, قالَ: وجدتُ قلبي .
يعني أخذَ من هذه القِصة عِبرةً عميقةً جداً: أنَّ الله عزّ وجل لا ملجأَ منهُ إلا إليه، إذا أنتَ خِفتَ من إنسان, تهرب منهُ إلى واحد آخر، أما إذا خِفت من الله عزّ وجل, ما في إلا الله, لا ملجأَ منكَ إلا إليك، فهذا الطفل أدركَ إلى أين يذهب؟ لا يوجد سِوى أُمهُ، هيَ طردتهُ، ليسَ لنا سِوى الله عزّ وجل, والله أنا أجمل كلمة أقولها: يا رب ليسَ لي إلا أنت, ما في غيرك .
كل ما وثِقتَ بإنسان تجدهُ، إذا وضعت ثِقَتُكَ بإنسان, والله هذه الشغلة فوق طاقتي يا أخي، ليست بيدي لا تؤاخذني، طبعاً بنعومة أنسحب, أما إذا كان واحد وضع ثِقتهُ بالله عزّ وجل, يا رب ليسَ لي إلا أنت, فلذلك: السمع طريق, احضر مجالِسَ العِلم لا تزهد فيها، هذه موائد الرحمن، وحينما تحضُرُ مجالِسَ العِلم تدفعُ زكاةَ وقتِك، وحينما تدفعُ زكاةَ وقتِك أنتَ في بيت الله, واللهُ في حاجتك, وحاجةِ أهلِكَ وأولادك, هم في مساجِدهم والله في حوائجهم, وإذا الإنسان ضنّ بوقتهُ الثمين عن أن يحضر مجلس عِلم، الله عزّ وجل يمكن أن يهدِرَ لهُ أربعة أخماس وقته في موضوعات سخيفة وأشياء تافهة .
ركّب المُحرّك خِلال ثماني ساعات, فنسي قشرة, ففكهُ مرةً ثانية, نسيها أثناء تركيب الآلات, يكون في قطعة مكانها, أول حركة فينساها, يُنسيه إياها الله عزّ وجل, يعمل ثماني ساعات, أنا اليوم لن أذهبَ للدرس ثماني ساعات أهدرها لهُ والدرس ساعة, ذهبَ مِنكَ ثماني ساعات .
قال لي أخ: لشدة ضغط الأهل عليّ, تركنّا درس الجمعة, أخ يحضر معنا, وإنسان كريم جداً, وصل إلى بقين لكي يُملئ الماء, شاهدَ شاباً ناعماً, قالَ لهُ: أعطني عم لكي أملؤهُ لكَ, فذهبت محفظتهُ, قالَ لي: فيها الهوية, وفيها ميكانيك السيارة, وفيها إجازة السوق, عملت ثمانية أشهر حتى حصّلتها, فإذا واحد لهُ ترتيب، لهُ مجالس عِلم لا يُغيّر, هذا وقت الله عزّ وجل، هذه مائدةُ الرحمن. السماع .
2-3 عن طريق البصر والفكر :
الآن : البصر, شاهدت كأس الماء، شاهدت ابنك الصغير، شاهدت الكواكب بالليل، القمر، الشمس، الليل، النهار، الرياح، الأمطار، الكواكب، الثِمار، الأزهار، الأطيار, إذا الإنسان مرَّ على الآيات مرور الِلئام, ولا نقول : مرور الكِرام , يكون غافلاً , فالسمع طريق , والبصر طريق , والتفكر طرق ، الآيات :
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
طريق الوجد : السماع ، والرؤيا ، والتفكّر .
أفعالُ اللهِ تراها بعينك، وكتابهُ تتدبرهُ بِفِكرِك، والحقُ تسمعهُ بأُذُنِك, اسمع الحق بأُذُنِك، وانظر للآيات بعينك، وتدبّر كتاب الله بِفِكرِك , لا تعرف من طريق التدبر, أو من طريق التفكر, أو من طريق النظر, أو من طريق السماع, تنقدحُ في نفسِكَ محبةُ الله عزّ وجل, وإذا انقدحت في نفسِكَ محبةُ الله, وصلتَ إلى كُلِّ شيء.
لكن العُلماء تساءلوا عن هذا الوجد, الذي يتأتى من سماع تفسير آية، من سماع حديث قُدسي، يعني مرة سمعت حديث:
حدثني أبي عن جدي عمر بن الخطاب, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: من شغله ذكري عن مسألتي, أعطيته أفضل ما أعطي السائلين.
الإنسان ينقدح عِندهُ هِمة عالية من وراء حديث واحد, يعني يا ربي, ماذا فقدَ من وجدكَ؟ وماذا وجدَ من فقدكَ؟ تُهِز مشاعِركَ هذه الكلمات .
العلماء قالوا: هذه المشاعر المُسعِدة التي تلي سماع حقيقة، أو نظر إلى آية، أو تدبّر القرآن, إمّا أن تستمر وإمّا أن تنتهي, فالسعيد دائماً له مستوى, سمعت تفسير آية, لكن تفسيراً رائعاً جداً فتأثرّت, صار معك كما يقولون صدمة, صدمة عاطفية, هكذا الله عزّ وجل بهذا الكرم, خلقني حتى يُكرمني, خلقني حتى يُسعدني .
توبة فتاة :
قُلتُ لكم مرة: مُدرّسة أُلزِمت أن تُدرّس الفقه والتفسير, هيَ تُعطي الرياضيات، وهيَ مُعارة إلى دولة، أُلزِمت أن تُدرّس هذه المادة، هيَ عادية كغيرها من الفتيات، فتحت كتاب التفسير, أول درس آيات الحِجاب قرأتها, هذه الآيات أحدثت فيها صدمة, صارت تبكي أمام الطالِبات, قالت: معذِرةً اقرؤوا ما شِئتم, دعوني مع نفسي هذه الساعة, وكانت توبتُها عن طريقِ تِلاوةِ آياتِ الحِجاب .
مرة تقرأ صفحة قرآن، تقرأ مقالة عن الله عزّ وجل, عن عظمة الله، تسمع درس عِلم، تُفكّر في قضية، تُخاطب نفسك, منافذ الوجد: السماع والنظر والتفكّر, وقد تأتي النتائج مستمرة أو آنية، يعني أنتَ بهذا المستوى, حضرت مجلس عِلم ارتقيت, فالبطولة: ارتقيت ثمَّ ستُتابع هكذا, لمّا ارتقيت وعُدت إلى مكان ما كُنت وأكملت, هُنا المُشكلة .
بالحج صار سرور كثير، بعد الحج عُدتَ إلى ما كُنتَ عليه، خسرتَ هذا التأثير، جاءَ رمضان حصل تأثير بالغ، بعدَ رمضان فقدتَ التأثير, عُدتَ إلى ما كُنتَ عليه, فالبطولة: إذا الإنسان ارتقى درجة؛ إمّا عن طريق السماع, أو عن طريق النظر, أو عن طريق التفكّر, يُحافظ عليها, فالمؤمن حياتهُ هكذا, ارتقى أكمل, ارتقى أكمل, ارتقى أكمل, في صعود مستمر ، أمّا المُقصّرِون يرتقي في رمضان, وبعد رمضان, يعود كما كان، يحج ويعود, دائماً بين نزول وصعود, أمّا المؤمن الصادق صاعد باستمرار, كُلّ ما حصّل مكسب يُتابِعهُ، أمّا غير المؤمن أو إيمانهُ ضعيف, كُل ما حصّل مكسب مع شيء من التسيُّب, من أخذ حظ النفس, تجدهُ فقدهُ فعادَ إلى ما كانَ عليه .
هذه المرتبة مرتبة الوجود, تنتصرُ بِها على بشريتك، أنتَ بشر تُحبُ أن تأكل وتشرب، تُحِبُ النساء، تُحِبُ العلّوَ في الأرض, هذه كُلُها شهوات أودعها الله في الإنسان, ما دام الإنسان لم يبلغ مرتبة الوجد, بشريتهُ منتصرةٌ عليه، عبدٌ لشهوتهِ .
أخرج البخاري والبيهقي: عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة ))
أنتَ عبدٌ لشهواتِك ، شهواتُكَ منتصرةٌ عليك, شهواتُكَ مُتحكِمةٌ فيك، شهواتِكَ تقودُكَ إلى حيثُ تُريدُ هيَ, أنتَ تابع لها, أمّا إذا وصلتَ مرتبة الوجد انتصرتَ على بشريتك، أصبحت هذه الشهوات في خِدمتك مُسخّرةً لك، يعني نهاية المطاف: أن ينتصرَ الإنسانُ على بشريته, وأن يتحررَ من عبوديتهِ لِذاته, وأن يُصبِحَ عبداً لِربه, وإذا أصبحَ عبداً لله, فقد بلغَ أعلى مرتبةٍ في الأرض:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
لم يعد هُناك أهواء، ولا مصالح، ولا شهوات، ولا في حظوظ نفس، يفعل ما يُرضي الله لا ما يُرضي نفسهُ .
قال :
((يا محمد, أمرني ربي أن أكونَ طوعَ إرادتك, لو شِئتَ لأطبقتُ عليهم الجبلين, قالَ: لا, اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون, لعلَّ الله يُخرِجُ من أصلابهم من يُوحد الله))
هذه الأنوار تجعل الإنسان إذا التقى معك, يذوب محبة لله ولرسولهِ، تجعل الإنسان ينسى حظوظ نفسهِ إذا التقى مع مؤمن .
فنحنُ نريدُ من هذه المرتبة: أن ينتصرَ الإنسانُ على شهواتهِ, والعلماء قالوا: الناسُ في هذا المقام ثلاث: عبدُ محضٌ، وحرٌ محضٌ، وبينَ بين.
البعيد عن الله عبد محض, عبد لشهواته, تفكيرهِ في خِدمة شهواتهِ, إذا قالَ لكَ واحد: انصحني, تُفكّر, خُذ هذه, تنصحهُ ببضاعة كاسدة عِندك, ممكن أن تتحرك دون نقود, أبداً, فحص دفع، عاد في اليوم الثاني ليسأل, ادفع مرة ثانية، غير ممكن أن يُقدّم خِدمة أو نصيحة أو مشورة أو معاونة إلا بِربح, لا يقبل, فهذا عبد محض، وفي إنسان تحرر كُليّاً من شهواتهُ, صارَ حُرّاً محضاً، وفي إنسان طريق الإيمانَ بينَ بين؛ مرة يغلب نفسهُ ومرة تغلِبهُ .
الحرُ من تخلّصَ من رفقِ الماء والطين, وفازَ بعبودية ربِّ العالمين, فاجتمعت لهُ العبودية والحريّة، فعبوديتهُ من كمالِ حريتهِ، وحريتهُ من كمالِ عبوديتهِ، ويظلُّ أبداً في ارتقاء, كُلما نظرَ إلى مواقع لُطفِ اللهِ بهِ, حيثُ أهلّهُ لِما لم يؤهّل لهُ أهلَ البلاء .
من هم أهلُ البلاء؟ إذا واحد سألكَ: من هم أهلُ البلاء؟ يا أخي الحياة كُلها بلاء، كلها مصائب، كلها هموم، في فقر، في مرض، في ذُل، في سجون, هل تعرِفون من هم أهلُ البلاء؟ واللهِ أصحاء غافلون عن الله عزّ وجل, قالوا: أهل البلاء هم أهلَ الغفلةِ والإعراض.
مثل الحصان جسمهُ، تحليل ممتاز، تخطيط ممتاز، حركات أعضائهُ كُلها ممتازة، دخلهُ كبير، مكانتهُ قوية، مركزهُ كبير، لكن في غفلةٍ عن الله, هذا هوَ من أهلِ البلاء, أهل البلاء هم أهلَ الغفلةِ والإعراض .
أرجو الله سبحانهُ وتعالى, أن يجعلنا من هؤلاء الذينَ أحبوا اللهَ, وذاقوا حلاوةَ الإيمان, لكن دونَ هذه المرتبة جهدٌ كبير، دونَ هذه المرتبة صبرٌ طويل، دونَ هذه المرتبة جِهادٌ مرير:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾