الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس عشر من سورة القصص.
بدأنا في الدرس الماضي قصة قارون، وقد بيَّنتُ لكم أن هذا الإنسان الذي يُمَثِّل قوة المال، إذا كان فرعون يمثل قوة السلطان فإن قارون يمثلُ قوة المال.
وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الله سبحانه وتعالى يُعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، وكذلك يعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب، إذاً المال والقوة لا علاقة لهما برضوان الله عزَّ وجل، رضوان الله عزَّ وجل أساسه طاعته، فإذا كنت على منهج الله عزَّ وجل، ومطبقاً لأمره فأنت في رضوانه، وإذا كنت مخالفاً لأمره، أو في معصيته فأنت في سَخَطِه، أما أن تكون غنياً أو فقيراً فهذا لا يُقَدِّم ولا يؤَخِّر، لأن الله سبحانه وتعالى أعطى المال لمن يحب، أعطاه لسيدنا ابن عوف، ولمن لا يحب، قارون، وأعطى القوة لمن يحب، سيدنا سليمان، ولمن لا يحب فرعون، مادام الشيء يعطى لمن يحب ولمن لا يحب فهو إذاً ليس مؤشراً صحيحاً على حبِّ الله عزَّ وجل، أما ما يدَّعيه بعض الأغنياء من أن الله يحبهم، والدليل أنه أعطاهم المال، هذا كلامٌ لا يقوم على أساس.
هناك آيات أخرى يصف الله سبحانه وتعالى فيها أهل الجنة، ويصف أحوال المتَّقين ويقول:
[ سورة يونس ]
كلمة هنيئاً، تهانينا، مُبارَك، هذه الكلمات نقولها اليوم لمن يحوز بيتاً، أو مركبةً، أو متجراً، أو بستاناً، أو حديقةً، أو منصباً رفيعاً، ولكنَّك إذا أردت أن تكون صادقاً مع أخيك، كلمة هنيئاً، ومباركاً، ونرجو لك التوفيق، هذه الكلمات يجب أن تقال لمن اصطلح مع الله عزَّ وجل، ولمن قدَّر الله على يديه الأعمال الصالحة، لمن سمح الله له أن يعرفه، لمن استخدمه الله في خدمة العباد، لمن اصطنعه الله لنفسه، لمن جعله الله داعيةً للحق، إذا كنت في عملٍ طيِّب تسعد به في الآخرة فعلاً هنيئاً لك ومبارك، أما البيت الفخم فلا بدَّ من أن تتركه، والزوجة الجيدة لا بدَّ من أن تتركها، أو تتركك، والمال الوفير لا بدَّ من أن تتركه، إذاً: هذا الكلام لا معنى له.
العاقل من يبتغي الدار الآخرة في كل ما آتاه الله إياه:
وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ، أي الله عزَّ وجل آتاك هذا المال، وكلمة مال في الفقه لا تعني المال فقط، تعني كل شيء، البيت مال، مال غير منقول، هكذا يعبِّرون في بعض البلاغات، أموالهم المنقولة وغير المنقولة، أمواله غير المنقولة؛ البستان، البيت، المنقولة؛ هذا النقد الذي بين أيدي الناس، إذاً: كُلُّ شيءٍ يُنْتَفَعُ به فهو مال، المركبة مال، البيت مال، الثياب مال، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ .. والله هذه الآية يجب أن تكون شعار كلِّ مسلم، آتاك الله بيتاً، هذا البيت كيف تستخدمه؟ في سهراتٍ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل؟ في القيل والقال؟ في الغيبة والنميمة؟ في لعب النرد؟ في سهرةٍ مختلطة لا ترضي الله عزَّ وجل؟ أم أن هذا البيت الذي اشتريته تستخدمه في تعريف الناس بالله عزَّ وجل؟
هذه الغرفة كم شهدت من لقاءاتٍ أثمرت توبةً نصوحاً؟ هذه غرفة الجلوس جلست فيها أنت وأهلك وأولادك كيف كان الحديث؟ هل ابتغيت بها وجه الله؟ غرفة الطعام كما قُلت، هذه المركبة، هذه الشهادة العالية التي نِلتها استخدمتها في العلو أم في إقناع الناس بالحق؟ إذا عرف الناس أنك تحمل شهادة عُليا يظنون بك أنَّك عالم، فإذا وظَّفت هذه الشهادة في تعريف الناس بالله فقد ابتغيت بها الدار الآخرة.
أنجبت أولاداً لماذا أنجبتهم؟ هل ليكونوا أولاداً صالحين يعبدون الله من بعدك أم كي تعتز بهم؟ فلان طبيب، فلان يحمل شهادة كذا، بعثته إلى لندن تعلم اللغة الإنكليزية، له لغة جيدة، ولم تنتبه ماذا فعل في هذه البلدة، وقع في الزنا أم وقع في الحرام؟ المهم أن يعود من هذه البلاد الكافرة يحمل شهادة عُليا كي تزهو به أمام الناس هكذا؟ أأنجبت هذا الولد كي تفتخر به أم من أجل أن يكون ولداً صالحاً يعبد الله من بعدك؟ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ، حتى صِحَّتُكَ، هذه الصحة إذا نعمت بها بماذا تستخدمها في الاسترخاء وفي الاستمتاع أم تستخدم هذه الصحة في طاعة الله وفي خدمة الخلق؟ هذا الذكاء الذي أعطاك الله إياه أتستخدمه في جمع المال أم في التفكّر في الواحد الديَّان؟ كيف تهدي الناس؟ كيف تُعين الناس؟ كيف توفِّق بين الناس؟ هذا الذكاء، هذه العضلات، هذه العين ترى بها مباهج الدنيا أم ترى بها آيات الله عزَّ وجل؟ هذه الأذن تستمع بها إلى الغناء أو إلى الكلام الساقط أم تستمع بها إلى الحق وإلى القرآن الكريم؟ هذا اللسان تستخدمه في الإيقاع بين الناس أم في الفُحش والبذاءة أم تستخدمه في نقل الحق للناس؟ في الأمر بالمعروف؟ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ﴾ آتَاكَ اللهُ فكراً، آتاك الله عينين، أذنين، لساناً، يدين، رجلين، صحة، فراغاً، أمناً، الأمن من نعم الله عزَّ وجل، أنت مطمئِنٌ، ناعم البال، هذا الأمن استخدمته في النزهات أم في عبادة الله عزَّ وجل؟ هذه آية سبحان الله ! تَسَعُ الناس جميعاً، كنت أقول هذه العبارة دائماً: لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لكفتنا: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ، أنت نجَّار أعطاك الله عزَّ وجل هذه الصنعة أتستخدمها في تقديم صنعةٍ متقنةٍ فيها نصيحةٌ وفيها اعتدال في السعر لمسلمٍ حتى يدعو لك طوال حياته؟ جزى الله عني فلاناً صنع لي هذه الغرفة، والله جيدة، ممتازة، سعرها معتدل، أنت حدَّاد، أنت بائع، هل أطعمت الناس طعاماً صحيحاً طيباً نظيفاً بسعرٍ معتدل أم غششتهم؟ بائع أقمشة، أي شيءٍ آتاك الله عزَّ وجل.
ابتغاء الدار الآخرة هو نصيب الإنسان من الدنيا:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، أن تبتغي بما آتاك الله الدار الآخرة هذا هو نصيبك من الدنيا، أي جئت إلى الدنيا، وخرجت منها من أجل أن يكون لك عملٌ صالحٌ تسعد به إلى الأبد، نصيبك من الدنيا العمل الصالح فأن تبتغي.. ﴿فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ هو نصيبك من الدنيا، وقد ضربت لكم مثلاً في الدرس الماضي: إنسان أرسلته حكومته إلى بلد أجنبي كي يحصِّل شهادة عُليا، مرة إمبراطور اليابان الميكادو أرسل سبعة طلاب يابانيين في مطلع عصر النهضة ليتعلموا العلوم العصرية في فرنسا فيما أذكر، هؤلاء الطلاب اليابانيون يبدو أن بريق الحضارة، مباهج الحياة في فرنسا سَلَبَ لُبَّهُم، فسقطوا وأمضوا أوقاتهم فيما لا علاقة له بالدراسة، وبعد أربع سنوات عادوا مخفقين فأعدمهم الإمبراطور، وأرسل سبعةً آخرين، السبعة الآخرين كُلَّما حَدَّثتهم نفوسهم أن ينزلقوا، أو أن يستمتعوا تذكَّروا هؤلاء الذين دفعوا الثمن باهظاً، من أجل ماذا أنت جئت إلى الدنيا؟ النبي عليه الصلاة والسلام حينما دُعِيَ إلى اللهو قال كلمةً لا تُنسى، تكتب بماء الذهب قال: أنا لم أخلق لهذا، خُلِقَ النبي عليه الصلاة والسلام، وخلقت أُمَّتُه وجميع الناس لهدفٍ نبيل، هذا هو النصيب من الدنيا: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ .. مدرّس، طبيب، مهندس، بائع، صانع، نجَّار، من أصحاب المهن الرفيعة أو غير الرفيعة، ماذا فعلت كي تلقى الله عزّ وجل؟ ما الشيء الذي قَدَّمته؟ ما الشيء الذي أعددته لساعة اللقاء مع الله عزّ وجل؟ هذا: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، وكيف أن معظم الناس يفهمون هذه الآية على نحوٍ آخر، أي إذا ذهب إلى نزهةٍ، وأكل، وشرب، واستمتع، وكذا، يقول لك: الله عزّ وجل قال: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، وإذا جلس مع أهله، وأمضى سهرةً في كلام فارغ يقول لك: "ساعة لك وساعة لربك"، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، لا.. هذه الآية ما أراد الله بها إلا المعنى الذي يفرضه السياق، سياق الآيات: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة هو نصيبك من الدنيا، إذاً: إذا أرسلنا طالباً إلى بلدٍ أجنبي ليُحَصِّل شهادةً رفيعةً عاليةً، قد يبعث له أبوه كل شهرٍ برسالة يقول له: لا تنس الدراسة يا بني، لا تنس أن ينتهي هذا العام وقد نجحت بتفوّق، لا تنس أنك ما ذهبت إلى هذه البلدة إلا كي تدرس، إيَّاك أن تحيد يميناً أو شمالاً، وأنت جئت إلى الدنيا من أجل أن تعرف الله، وأن تستقيم على أمره، وأن تعمل الصَّالحات تقَرُّباً إليه كي تسعد في الدنيا والآخرة.
الله تعالى منح الإنسان نعمة الإيجاد والإمداد والإرشاد:
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ ، منحك الله نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد، أنت حسنة من صنع الله عزّ وجل، وجودك حسنة، إمدادك حسنة، هدايتك حسنة، بماذا تقابل هذا العطاء؟
الابتعاد عن الفساد في الأرض:
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ .. فُسِّرت في الدرس الماضي أن الفساد إذا بالغت في طعامك وشرابك وزينتك، والناس من حولك في حرمان، أوقعت فيهم مشاعر عدة، عند المؤمنين يشعرون بالحرمان، وعند غير المؤمنين يشعرون بالحِقد والبغض والكراهية، فإذا قصَّرت في حَقِّهم فقد أفسدتهم، فإذا اغتصبت أموالهم فقد أفسدتهم، إظهار الزينة يضاف إليها التقصير في أداء الحقوق يضاف إليها العدوان على حقوق الآخرين هذا كله مما تعنيه كلمة: ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ .
وكم أتمنى عليكم أن تقرؤوا كتاب الله عزّ وجل، وتبحثوا ماذا يحبُّ الله عزّ وجل، وماذا لا يحب؟ هذه واحدة منهم:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾
[ سورة الحج ]
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ، لا يحب الكاذبين، لا يحب الظالمين، لا يحب الفاسقين، يحب المؤمنين، يحب الصادقين، يحب التائبين، يحب التوابين، يحب الصابرين، هكذا.. إلى هنا وصلنا في الدرس الماضي، أردت أن ألَخِّص ما قيل في الدرس الماضي حتى تأتي القصة في انسجام.
إغفال قارون فضل الله عز وجل عليه:
يبدو أن من حول قارون قالوا له هذا الكلام: يا قارون ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ .. أنفق هذا المال في طاعة الله، ابحث عن الحقيقة، هكذا.. كان جوابه: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، دققوا في الصياغة: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ﴾ ، هذا المال الوفير، هذه الكنوز التي ينوء بحمل مفاتيحها أولو العصبة من أقوياء الرجال، هذا المال آتاك الله إيَّاه، هو من فضل الله، هو محض فضلٍ، ماذا قال قارون؟ قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ ، أغفل الله عزّ وجل، لم يقل: إنما آتانيه الله، بل قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ ، فعل أوتي مبني للمجهول، أي أغفل الفاعل، ما أراد أن يعترف أن الله أعطاه هذا المال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ أنا عليم بطرق كسب المال، بأسرار التجارة، بأصول الصناعة، بفنِّ التسويق، بفن البيع، بالأساليب الذكية في تحصيل المال وفي استثماره، هؤلاء الذين يستثمرون أموالهم في بلاد أجنبية وبنسب عالية جداً، وينقلون هذا المال من عملةٍ إلى عملةٍ على حسب الأسعار، هم في أعلى درجة من الذكاء، ويوزِّعون أموالهم مع شركات متعددة ومع دول متعددة، هؤلاء كما يدّعي قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، أي أنا متمَرِّس، أعرف كيف أكسب المال، وكيف أستثمره، وكيف أُنَمِّيه بوتائر عالية، وكيف أوزِّعه في مشاريع متعددة، وفي بلاد متعددة ضماناً للأخطار، وكيف أجمع الفائدة المركبة، وكيف أُحَصِّل هذا المال، هذا علمي: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ .
أربع كلمات محظورة على المؤمن ؛ أنا ونحن ولي وعندي:
حينما تقول: عندي، فأنت كقارون، حينما تقول: لي، فأنت كفرعون، حينما تقول: أنا، فأنت كإبليس، حينما تقول: نحن، كجماعة بلقيس، أربع كلمات محظورٌ على المؤمن أن يذكرها هي: أنا، ونحن، ولي، وعندي، قال إبليس:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾
[ سورة الأعراف ]
فأهلكه الله. وقال أصحاب بلقيس:
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾
[ سورة النمل ]
وقالها فرعون:
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾
[ سورة الزخرف ]
فأغرقه الله. وقال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾.
انظرْ وتأمَّل أين أنت مما تقول:
القضية أعمق من كلمات تقولها، القضية مشاعر، أي إذا شعرت أن هذا البيت من تَعبك وعرق جبينك، أنت عصاميّ، صاحب إرادة حديدية، تملك وسائل ناجحة في كسب المال حتَّى حصَّلت هذا البيت، هذه مشاعر قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ .. ليست القضية قضية أدب مع الله، قضية حقيقة، إنسان بأوج نشاطه التجاري، لو أن نقطة دمٍ لا يزيد حجمها عن حجم رأس دَبّوس تجمدت في بعض شرايين الدماغ لاختل عقل الإنسان، ولساقه أهله المحبّون إلى مستشفى الأمراض العقلية، فأين: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، أحياناً وهو يسير على يمين الطريق تأتي سيارة طائشة تصطدم به، ينقطع عموده الفقري، أين على عام عندي:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
[ سورة آل عمران ]
هو الذي يملك قوَّتك، وعضلاتك، وعظامك، وشرايينك، وأوردتك، وأعصابك، وقلبك، ورئتيك، والكبد، والمعدة، والأمعاء، والدماغ، والجمجمة، والكليتين، والكَظَر، والدرقية، والنُخامية، والطحال، والبنكرياس، إذا تعطل أصبح معه مرض السكر، الطحال تعطَّل أصبح معه فقر دم، إذا تعطلت الكليتان يجب غسيلهما أسبوعياً، أين أنت: ﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، أين على علمٍ عندي؟ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ، ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ .
لستَ حرًّا في إنفاقك للمال ولو كان ملكًا لك:
الحقيقة كلامه أعمق من ذلك، أراد قارون أن يقول: أنا هذا المال حصَّلته بجهدي وبعلمٍ أمتلكه، إذاً: أنا حرٌ في إنفاق المال، يبدو أن المؤمنين يدعونه إلى أن ينفق من ماله في الخير، قال: لا، هذا المال حصَّلته بجهدي، وبتعبي، وبعرق جبيني، وأنا أملك خبرات، ومعلومات، وعلوم شتَّى في كسب المال، وتثميره، وجمعه، إلخ.. إذاً: هو ملكي، إذاً أنا حرٌ في إنفاقه، إذاً دعوتكم للإحسان مرفوضة، هذا كلام قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، الحقيقة الآن الكلام يسوقنا إلى موقف الإسلام من هذه الموضوعات، الإسلام يُقِرُّ التَمَلُّك لأن حبّ التملك شيء فطري بالإنسان، ويبدو أن هذا التملك له وظائف مهمة جداً، وحينما تلغى الملكية ربما هناك مضاعفات خطيرة جداً، لذلك الذين نادوا بإلغائها عادوا إليها الآن، إذاً: الإسلام يُقِرُّ التملك، ولكن الإسلام يضع حدوداً صارمةً لكسب المال، الإسلام يُحَرِّم أن يلد المالُ المالَ، عن طريق الربا يلد المالُ المال، الإسلام يضبط كسب المال، ويضبط إنفاق المال، ولا يَحْرِم المسلم من ثمرة جهوده، لكنَّه يحول بينه وبين أن يسرف حتى يصبح مفسداً، ويحول بينه وبين أن يقبض حتى يصبح مُقَتِّراً، لا يسمح الإسلام لأتباعه أن يكونوا مسرفين، ولا أن يكونوا مقترين، ولا أن يكسبوا المال كيفما يشاؤون، ولا أن ينفقونه كيفما يشاؤون، الإسلام وسطي، والحقُّ وسطٌ بين طرفين، والفضيلة مَكْرُمَةٌ بين رذيلتين، والتطرف فيه خطأ كبير، لذلك العالَم يشهد الآن أن المتطرفين يتجهون إلى الوسط، أي إلى الإسلام، لا عن قناعةٍ بالإسلام، ولكنهم مُرْغَمون من أجل أن يعيشوا، من أجل أن يستمروا، إذاً:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)﴾
[ سورة البقرة ]
أي أن تلغي مثلاً حقّ الإنسان في التمَلُّك مشكلة، وأن تطلق يده مشكلة، لابدّ من قواعد، لابد من حدود، الإسلام أَقَرَّ شيئاً ومنع شيئاً، أقرَّ شيئاً وقنن شيئاً، فلذلك حينما قال قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ ، يقصد من هذا الكلام أن هذا المال بما أنني كسِبته بعلمي، وبجهدي، وبتعبي، وعرق جبيني، أنا حرّ في إنفاقه، الجواب: لا، إن هذا المال من اسمه: ما.. لك.. أي ليس لك، ماله، أي ليس له:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32)﴾
[ سورة الحاقة ]
إيتاء المال بأمر الله ومحقه بأمر الله:
كيف ردَّ الله عليه؟ هو أوتي هذا المال، وأغْفَلَ الله الواحد الديَّان، ما قال: إن الله قد آتاني إياه، قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ .. كيف ردَّ الله عليه؟ هذا الذي كسب المال بقوته، وعلمه، وذكائه، وعنده خبراتٌ كبيرةٌ في الحفاظ عليه، وفي تنميته، واستثماره، كيف يفقد مالَه كُلَّه؟ إذاً: هو مُدَّعٍ، وليس صادقاً: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ ، إذا كان هذا المال قد جاء بقوَّتِك فحافظ عليه، أليس هناك أمثلة كثيرة جداً قديماً وحديثاً عن إنسان يملك ثروات طائلة فَقَدها في ساعاتٍ ثلاثة؟ ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ ، أحياناً يقول أحدنا: فلان معه كذا مليون، رقم كبير، يوجد أغنياء في العالم معهم كذا ألف مليون بالعملات الصعبة، ومع ذلك فإن الله عزّ وجل قادر أن يمحق هذا المال، لأن إيتاء المال بأمره، ومحقه بأمره: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ﴾ ، لو أنهم هؤلاء أصحاب الأموال صادقون فيما يقولون، واقعيّون، لمنعوا أن يُهْلَكَ مالهم، لمنعوا أن يُدَمَّر مالهم، لامتنعوا من فقد مالهم، قال: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ﴾ ، لا من مستواه..﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ ، قوة المال، وقوة السلطان.
للآية التالية معان عدة منها:
1 ـ الله تعالى عليم بمكنونات النفوس:
﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ .. هذه الآية دقيقة جداً لها معان كثيرة.
المعنى الأول أنه عندما يرتكب الإنسان خطأ، أو ذنباً، أو جريمة، الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه إلا بالتحقيق، لعلَّه مظلوم، لعله لم يفعل هذا هو، فعله غيره، لعله ما أراد هذا، جُرْم غير مقصود، لا يوجد تصميم، لا يوجد كذا، فكل إنسان يرتكب ذنباً في عالمنا لابدّ من قاضي تحقيق يسأله، ويستجوبه، ويأخذ إقراره، ويعرض عليه، ويُحْرِجُه أحياناً، من أجل ماذا؟ من أجل أن يظهر الحق، وأن يأتي الحكم عادلاً وصحيحاً، الله سبحانه وتعالى إذا ارتكب العبد ذنباً أو جريمةً هل الله بحاجةٍ أن يسأله؟ هو العليم، عليم بمكنونات نفسه، بما تنطوي عليه نفسه، بنواياه الحقيقية، بحجم عمله، بحجم مخالفته، فربنا عزّ وجل ليس كمثله شيء، الإنسان يَسْأَل ليعلم لأنه لا يعلم، يُحَقِق، يحبّ أن يتأَكَّد، يحب أن يكون معه الدليل على جُرْمِيَّة هذا المجرم، يحب الاعتراف، أما إذا وقع الإنسان في معصيةٍ فهذه المعصية بنواياها، بمطامحها، بحجمها الحقيقي، بآثارها كله في علم الله عزّ وجل، فلذلك ليس من شأن الله عزّ وجل إذا أراد إيقاع العقاب بعبدٍ مجرمٍ أن يسأله، لماذا السؤال؟ السؤال ليس له معنى، أما حينما قال الله عزّ وجل في آيةٍ أخرى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
[ سورة الحجر ]
قالوا: هذا سؤال التقريع والتوبيخ لا سؤال العلم، سؤال التقريع والتوبيخ، أما سؤال العلم فالله عزّ وجل مُنَزَّهٌ عنه، لذلك هؤلاء المجرمون يوم القيامة يُقْذفون إلى النار مباشرةً من دون سؤال، لأن الله يعلم أعمالهم، نواياهم، خبث نفوسهم، دناءتهم، حجم أعمالهم، حجم معاصيهم، فليس هناك حاجة أن يُسألوا، هذا المعنى الأول: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ، لأن هذه الذنوب في علم الله عزّ وجل، والله عزّ وجل ليس بحاجةٍ أن يَسْأل.
2 ـ الذنوب التي يقترفُها الكافر هي أعراض طبيعية لانحراف الإنسان:
المعنى الثاني: قد يبدو هذا المعنى أيضاً من خلال هذه الآية، إذا ارتكب الإنسان جريمة، وحُكِمَ عليه بالإعدام، وهو في طريقه إلى المشنقة تَذَكَّر القُضاة أن عليه مخالفة سير، فهل يحاسَبُ عليها؟ لا.. لا يحاسبونه، لأنه فقد حياته كلها، أي الجريمة أن تكْفُر بالله عزّ وجل، فليس بعد الكفر ذنب، لا يوجد ذنب، الجريمة الكبرى أن تكفر بالله، أن تأتي إلى الدنيا، وأن تذهب منها وأنت في غفلةٍ عن الله عزّ وجل، لذلك هذه الذنوب التي تقترفُها هي تحصيل حاصل، هي نتائج طبيعية، أعراض طبيعية لانحراف الإنسان: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾، هذا المعنى الثاني .
3 ـ الإنسان حينما يزوّر الحقائق يَدَّعي ويتَنَصَّل ويكذب:
ربنا عزّ وجل إذا أَخَذَ ﴿أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر﴾ أي حينما يقع الذنب يأتي العقاب، لأن الإنسان إذا سُئِل: لماذا فعلت كذا؟ يحتال، ويفكر بالدفاع عن نفسه غير صحيح، هذا ما يقع عند الناس، الإنسان يرتكب ذنباً كبيراً جداً، فإذا استدعي للتحقيق يقول: أنا ما قصدت هذا، وفعلت كذا، قطعاً بدابر الكذب والاحتيال والمراوغة يُعاقب فوراً، أما حينما يُسأل سوف يزوّر الحقائق، سوف يَدَّعي، سوف يتَنَصَّل، سوف يكذب، إلى آخره، ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾.
علامة صحة الإيمان الإحساس بالذنب:
لذلك ورد في بعض الأحاديث الصحيحة حديث يحتاج إلى تأويل، وهو عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. ))
[ صحيح مسلم ]
هذا الحديث لا يمكن أن نأْخُذَهُ على ظاهره، هذا الحديث يحتاج إلى تأويل، أي الإنسان علامة حياته أنَّه يحسُّ على ذنبه، وعلامة موته أنه لا يحسُّ على ذنبه، إنسان في سهرة، والسهرة فيها غيبة، واحد اغتاب كثيراً، وذهب فصلى العشاء ثم نام، كأنه لم يفعل شيئاً، هذا ميت القلب، هذا ما حسَّ بذنبه، لا يوجد عنده نبض إطلاقاً، ملكاته كلَّها معطلة، لكن المؤمن الصادق إذا نطق لسانه بكلمة غيبة واحدة يَخْتَلُّ توازنه، ولا ينام الليل، ويدفع الصدقة مباشرةً، علامة صحة إيمانك إحساسك بذنبك، وكلما ارتقى الإيمان ازدادت حساسية المؤمن بذنبه، هناك ذنوب خواطر أحياناً، هناك كلمة، هناك حركة حاجب، هناك ابتسامة في غير موضعها، هناك نظرةٌ قاسية، هناك دفعٌ للباب بأكثر مما يجب، هذا ذنب كبير في حضرة الأم أو الأب، كلما ارتقى مستوى الإنسان امتلك شعوراً حسَّاساً جداً في إدراك ذنبه، وكلَّما هبط مستواه تلبّد حسّه، وصار يقول: ماذا أفعل أنا؟ أنا جيد، إذاً كلما ارتقيت في سُلَّم الإيمان ارتقى معك شعورك بالذنب، لو لم تذنبوا أي لو لم تشعروا بذنوبكم لذهب الله بكم، أنتم موتى، هكذا الحديث، وأتى بقومٍ يذنبون أي إذا أذنبوا شعروا بذنوبهم فاستغفروا، فيستغفرون فيغفر الله لهم: ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ .
الملاحظ أن إخواننا الكرام الذين لهم صلة بالله عزّ وجل، وقناعات صحيحة، وإدراك لأوامر الله عزّ وجل، لو أن شخصاً أخطأ، أو اغتاب، أو نظر نظرة في غير موضعها، أو أشار بشيء فيه مخالفة، أو كان سبباً في أذى، يأتي، ويسأل في لهفة كبيرة، ما هذه اللهفة؟ هي لهفة إحساسه بذنبه، أما هناك من يفعل الموبقات كلها، ويرتكب كل الحماقات، ويخرج عن الشرع كله، ومع ذلك يقول لك: أنا جيد، أنا ممتاز، هكذا يقولون، إذاً اعرف أنه كلما ارتقيت عند الله عزّ وجل ازدادت مشاعرك المُرْهَفة في إحساسك بالذنب، وكلَّما هبط المستوى تلَبَّد الحس.
كلما ارتقى مستواك يرتقي إحساسك بالذنب:
البطولة سيدنا عمر قال: << ليت أم عمر لم تلد عمر >> . عمر عملاق الإسلام الذي قال عنه النبي الكريم:
(( لقَدْ كانَ فِيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإنْ يَكُ في أُمَّتي أحَدٌ، فإنَّه عُمَرُ. زادَ زَكَرِيّاءُ بنُ أبِي زائِدَةَ، عن سَعْدٍ، عن أبِي سَلَمَةَ، عن أبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لقَدْ كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ مِن بَنِي إسْرائِيلَ رِجالٌ يُكَلَّمُونَ مِن غيرِ أنْ يَكونُوا أنْبِياءَ، فإنْ يَكُنْ مِن أُمَّتي منهمْ أحَدٌ فَعُمَرُ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهما: مِن نَبِيٍّ ولا مُحَدَّثٍ. ))
[ صحيح البخاري : حكم المحدث: صحيح ]
(( عن عبد الله بن عمر : أُرِيتُ كَأَنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ، فَنَزَعَ نَزْعًا ضَعِيفًا واللَّهُ، تَبارَكَ وتَعالَى يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ، فاسْتَقَى فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرْيَهُ، حتَّى رَوِيَ النَّاسُ وضَرَبُوا العَطَنَ. ))
[ الراوي: المحدث: مسلم المصدر: صحيح مسلم ]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن سعد بن أبي وقاص:
(( اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِن قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ ويَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أصْوَاتُهُنَّ علَى صَوْتِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الحِجَابَ، فأذِنَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَدَخَلَ عُمَرُ ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يا رَسولَ اللَّهِ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: عَجِبْتُ مِن هَؤُلَاءِ اللَّاتي كُنَّ عِندِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ فَقَالَ عُمَرُ: فأنْتَ أحَقُّ أنْ يَهَبْنَ يا رَسولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: يا عَدُوَّاتِ أنْفُسِهِنَّ أتَهَبْنَنِي ولَا تَهَبْنَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ، أنْتَ أفَظُّ وأَغْلَظُ مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إيهًا ياابْنَ الخَطَّابِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ. ))
[ صحيح البخاري ]
هذا عمر ماذا يقول؟ << ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيمة >> . عمر عملاق الإسلام يقول: << لو أن بغلةً في العراق تَعَثَّرت في الطريق لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تُصْلِح لها الطريق يا عمر؟ >> انتبهوا إلى هذه الفكرة المهمة جداً، كلما ارتقى مستواك في إيمانك ارتقى إحساسك بالذنب.. سيدنا عمر كان مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف في إحدى الليالي، فرأوا قافلةً قد استراحت في مكانٍ ما من طرق المدينة، فقال له: تعال نحرس هذه القافلة لوجه الله، وهما في حراسة هذه القافلة بكى طفلٌ صغير، فتوجَّه عمر إليه وقال لأمه: أرضعيه، أرضعته، ثم بكى، فقال: أرضعيه، ثم بكى، فغضب، كان عصبي المزاج رضي الله عنه، فذهب إلى أمه وقال: يا أَمَة السوء أرضعيه، فقالت: أيها الرجل، ما شأنك بنا؟ إنني أفْطِمه، قال: ولمَ تفطمينه؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام - أي التعويض العائلي لا يصرف إلا بعد الفطام - تَروي كتب السيرة أنَّه صُعِقْ، وقال: ويحك يا بن الخطاب، كم قتلت من أطفال المسلمين؟ هكذا تروي السيرة، وذهب إلى المسجد، وصلَّى بأصحابه صلاة الفجر، ويقول أصحابه: إنهم ما سمعوا صوت قراءته من شدة بكائه، وأصدر في التَوِّ قراراً بمنح التعويض العائلي للأطفال من ساعة ولادتهم، إحساس بالذنب. قال لأحد ولاته: << ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً؛ فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنَسُدَّ جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإذا وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >>.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:
(( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ، قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ. ))
[ صحيح أبو داود ]
قد يكون عند الشخص حيوان أحياناً، أو عنده إنسان تحت ولايته، فهل يا ترى أكل؟ لم يأكل؟ كيف وضعه؟ كلما ارتقى مستواك يرتقي إحساسك بالذنب، لذلك: "رأس الحكمة مخافة الله"، وكلَّما هبط المستوى تلبد الإحساس بالذنب، يقول لك: ماذا فعلنا؟ لم نفعل شيئاً، يكون قد خرب الدنيا، ويقول لك: لم أفعل شيئًا، هذه علامة تلبُّد الحِس.
مقاييسُ أهل الدنيا:
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ .. كل عصر له زينة، أي في كل عصر يوجد وسائل للظهور أمام الناس، في الاحتفالات، يقول لك: عقد القِران تمّ في الفندق الفلاني، كلّف ثمانمئة ألف ليرة، قَدَّموا مع كل كتاب، أو مع كل شيء من الحلوى قطعة كذا وكذا، أي هناك أوصاف لعقود القران شيء لا تصدَّق، هذه الزينة، في البيوت أحياناً، أي تزيين البيت إلى درجة متناهية، في الثياب، أنواع الثياب، يفتخر بنوع ثيابه، ومكان شرائها، وسَنَة صنعها، هذا كله كما قال سيدنا علي قال: << يأتي على الناس زمان قيمة المرءُ متاعه>> ، أي قيمة الإنسان فقط تستمَدُّ من متاعه، من مساحة بيته، من موقع بيته، من ثمن بيته، من مركبته، من ثيابه، يا ترى أجنبي أم وطني؟ من نوع بذلته، وهكذا.. ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ هذا مقياس.
الحقيقة هذه القصة فيها مقاييس كثيرة، هذا مقياس آخر، أي إذا رأيت شيئاً من متاع الدنيا؛ قصراً منيفاً، سيارةً فارهةً، بستاناً جميلاً، مزرعةً أنيقةً، إذا رأيت شيئاً فخماً من متاع الدنيا، وذابت نفسك حباً له، وتمنيتَ أن تكون مكان صاحبه، فهذه علامةٌ خطيرةٌ جداً: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أحياناً تسمع من الناس أن فلاناً مسرور، يكون له خمسون معصية، وهو تارك صلاة، وشارب خمر، لكن معه أموال طائلة، ويتمتع فيها كما يشاء، يأتي إنسان ضعيف الإيمان يقول: مبسوط، لا ينقصه شيء، حظه طيب، دَبَّر نفسه، رَكَّز وضعه، هذا هو كلام الشرك بعينه، هكذا قال: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ .. أي حينما تُثْني على أهل الدنيا، وتمدحهم، وتشرئبُّ عنقك تعظيماً لهم، ويسيل لعابك تمنياً أن تكون مثلهم هذه علامة أنَّك من أهل الدنيا، هكذا: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ .
فضلُ العلم:
علامة المؤمن أنه لا يتمنَّى إلا رضوان الله عزّ وجل، لا يتمنَّى إلا أن يحبه الله، يرضى عنه، هكذا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أوتوا العلم، أي إذا أحبّ الله عبداً آتاه العلم: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ انظر إلى نفسك أنت من أين؟ ماذا نلت من الله؟ نِلْتَ كما نال قارون؟ أو كما نال فرعون؟ أو كما نال بعض الأنبياء؟ حظك من الله مالٌ أو قوةٌ أو علمٌ؟ إذا كان حظك من الله العلم فأنت من المحبوبين: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ .
سعةُ أفقِ العلماء:
الكافر أُفُقُهُ ضَيِّق، نظرته قاصرة، يعيش لحظته، هذا شيء مؤقَّت سيمضي، هناك حياةٌ أبدية، البطولة هناك.. "الغنى والفقر بعد العرض على الله"، في القبر إن كان لك أعمال صالحة في الدنيا فأنت الغني، وإن لم تكن لك أعمال صالحة فأنت أفقر الفقراء، ولو كنت في الدنيا أغنى الأغنياء، هنا العلم، لماذا نطلب العلم؟ كي تصحَّ رؤيتنا، كي نرى الحق حقاً والباطل باطلاً، كي لا نؤْخَذ بالمظاهر الفارغة والقشور، كي نعرف حقائق الأشياء، هذه الدنيا جوهرها أربعة أشياء: أن تعرف الله، وأن تطيعه، وأن تدعو إليه، وأن تصبر.
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
[ سورة العصر ]
أربعة أشياء هي لبُّ الدنيا، فهؤلاء الأولون: ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ أيْ هنيئاً لك على هذا البيت، على هذا المتجر، على هذا الدخل الكبير، على هذا البستان، هنأك الله، الله يزيدك من فضله، هو ذابت نفسه معه، أما المؤمن: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ الصابر ما استجاب إلى نزواته الطارئة، استجاب إلى عقله الراجح.
كنت قديماً أضرب لطلابي مثلاً: رجل ركب دَرَّاجة، وهو يسير على طريق مستوٍ، وصل إلى طريقين، طريقٍ نازلة محفوفة بالرياحين والبساتين والأزهار، وتنتهي بحفرةٍ سحيقةٍ ما لها من قرار، فيها وحوشٌ مفترسة، وطريقٍ صاعدة مملوءةٍ بالغبار والأكدار والصخور، لكنها تنتهي بقصرٍ منيف، هو ملكٌ لمن يصل إليه، وضِعَ قبل هذا المفرق - إن صح التعبير- لوحةٌ تفصيلية تشير إلى أن هذا الطريق ينتهي بحفرة، وهذا الطريق ينتهي بقصر، ورد "أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، ثَلاثًا، أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ" طريق النار سهل، مع الشهوات، مع الانحراف الأخلاقي، مع إطلاق البصر، مع كسب المال الحرام، مع إنفاقه، مع السياحات المختلطة، مع الرفاه، مع الطعام والشراب، مع الاستمتاع بالنساء الأجنبيات، هكذا هذا طريق جهنم، سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ، لا يحتاج إلى جهد، لا يحتاج إلى مجاهدة، القضية سهلة، لكن طريق الجنة يحتاج إلى كُلْفَة، إلى تفَكُّر، إلى استقامة، إلى صلاة في أوقاتها، إلى بذل المال..
أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، ثَلاثًا، أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ .
عاقبةُ قارون فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ .. أربع كلمات، خسفنا به، كلمتان، وبداره الأرض، كلمتان، انتهى قارون، أربع كلمات، كما ينتهي غيره في ساعات.
من أراد إنفاذ أمر فليتدبر عاقبته:
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ .. لم يكن مستقيماً على أمر الله عزّ وجل كي يحميه ربنا عزّ وجل وينقذه، ولم تكن له جماعة نصحوه حتى يمنعوه، على كل لقي نتيجة عمله، لذلك المشكلة أن الإنسان يجمع الدنيا ورقة فوق ورقة، وحجراً فوق حجر، والله سبحانه وتعالى يأخذها منه في ثانية واحدة، فالبطولة كما ورد:"إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدَبَّر عاقبته"، هذا الطريق ما نهايته؟ طريق جمع المال ما نهايته؟ كقارون، طريق القوة والظلم ما نهايته؟ كفرعون، طريق معرفة الله وطاعته وخدمة العباد نهايته سعادة في الدنيا والآخرة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
[ سورة فصلت ]
موقف الذين تمنوا مكان قارون:
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ﴾ .. هذه من ألفاظ التعجُّب.. ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾ ، إذاً لم يعد: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾، الجواب: أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، الرزق رزق الله عزّ وجل، يبسط ويقدر، يُعْطي ويمنع، يرفع ويخفض، يعزُّ ويذل، هكذا الله عزّ وجل: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ ، هناك آية قرآنية أشعر معها بمشاعر خاصة:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
[ سورة الأعراف ]
الأمور تدور، تدور، وتستقر على فلاح المؤمن، وعلى نجاحه، وعلى سعادته، قد يعيش المؤمن في ضيق، وقد يكون مستضعفاً، وقد يكون مريضاً، ولكن العاقبة له، وقد يَقْوى الكافر، ويجولُ ويصول، ولابدّ من أن يُهْلكه الله عزّ وجل: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ..
الدار الآخرة عاقبة كل إنسان بعيد عن الكبر والاستعلاء:
آخر آية: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ، تلك الدار الآخرة هذه آية أيضاً من الآيات المحكمة، تلك، هذا الشيء العظيم الممتد إلى الأبد، هذه الدار الآخرة..﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً﴾ هو بعيد عن الكبر، والاستكبار، والغطرسة، والعنجهية، والاستعلاء، والفخر، يعيش في وادٍ آخر، عاش في وادي طاعة الله، في وادي العبودية لله عزّ وجل، يعرف حجمه الحقيقي، يعرف مهمته بالحياة، يعرف لماذا خلق؟ يعرف الوسيلة الفعالة لسعادته، غائب عن الناس في معرفة الله، في خدمة الناس، غائب عن مظاهر الدنيا، عن زخرفها، عن بهرجها، عن مباهجها، غائب عنها: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ ، أحياناً ترى طالباً مُهْتَماً بدراسته اهتماماً بالغاً، وطالباً يُمْضي وقته في الطرقات، هذا في وادٍ وهذا في وادٍ، هذا في مستوى وهذا في مستوى، هذا في عالم، وهذا في عالم، المؤمن في عالم آخر، في عالم الرقِيّ، عالم السمو النفسي، عالم المعرفة، عالم التطبيق، عالم العبودية، عالم العطاء، عالم فعل الخير، عالم فهم الكتاب، كما قال ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم العطائية: "لا يعرف ما نقول إلا من اقتفى أثر الرسول". إذا أنت كنت في مكان جميل جداً، ودعوت إنساناً لهذا المكان، وذهب، وعاد، وقال: والله معك حق، والله صدقت، شيء جميل، فإذا أنت دعوت الناس إلى الله، والناس ذاقوا طعم القرب، طعم النظافة الروحية، طعم الطُّهْر، طعم اللقاء مع الله عزّ وجل، طعم العمل الصالح، طعم خدمة الخلق، طعم فهم كتاب الله، فأنت في وادٍ آخر، في عالم آخر، لك اهتمامات نبيلة جداً؛ أما الإنسان الغارق في شهواته، في وحول المادة، في كَسْبه للمال، في جمعه للمال، في صراعاته مع الناس، في خصوماته، في أحقاده، في متاهاته، هذا مسكين، هذا هالك، أمواتٌ غير أحياء، هكذا قال الله عنهم:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
[ سورة النحل ]
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ الْقُبُورِ (22)﴾
[ سورة فاطر ]
فلذلك: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ تلك، هذه الدار العظيمة، الأبدية، السرمدية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:
(( عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة: 17]. قال أبو مُعاويةَ، عن الأعمَشِ، عن أبي صالِحٍ: قرَأ أبو هُريرةَ: (قُرَّاتِ أعْيُنٍ). ))
[ متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم ]
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ إن المؤمن إذا توفاه الله عزّ وجل يرى مقامه في الجنة فيقول: لم أر شراً قط، في كل حياته، ينسى كل متاعب الدنيا، والكافر يرى مكانه في النار فيقول: لم أر خيراً قط، فكل الولائم، وكل السهرات الرائعة، وكل النزَهات الجميلة، وكل المباهج التي عاشها، وعاش ثمانين سنة، لا يفوِّت سفر، ولا سياحة، ولا سهرات، كلُّها يقول: لم أر خيراً قط، إذا نظر إلى مكانه في النار: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ..
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين