- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (028)سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
للمعرفة مصادر ثلاث؛ الكون وأفعالُ الله وكلامُ الله:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس من سورة القصص.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الإخوة الأكارم؛ مصادر المعرفة ثلاثة: يمكن أن تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
إذاً خلقه يُنْبِئُ عنه، وأفعاله تُنْبئ عنه، وفي هذه الآية إشارةٌ إلى أفعاله.
المصدر الثالث هو كلامه،
يمكن أن تعرفه أولاً من خلال خلقه ، والكون يُنبئك أكثر ما يُنبئك عن أسمائه الحسنى، ويمكن أن تتعرَّف إليه من خلال أفعاله، وأفعاله تنبئك أكثر ما تنبئك عن معاملته لعباده، من يحب؟ من لا يحب؟ من يوَفِّق؟ من لا يوفِّق؟ من ينصر؟ من لا ينصر؟ أما بيانه الكريم أو هذا القرآن الكريم ففيه توضيحٌ لكل شيء.
إذاً: يمكن أن تعرفه من خلال خلقه.
﴿
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)﴾
هذا مصدرٌ كبير من مصادر معرفة الله عزَّ وجل.
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
مصدر آخر، هذه أفعاله، الكون خلْقه، وهذه أفعاله..
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾
﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
﴿
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
﴿
﴿
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
هذه كلُّها قوانين مستنبطة من كتاب الله، ويؤكِّدُها الواقع.
الحياة الطيِّبة شهادة الله على أن كلامه حقّ:
ربنا سبحانه وتعالى كيف يشهد لهذا النبي العظيم أن هذا القرآن كلامه؟ الإنسان يشهد لك بلسانه، يقول لك: أشهد أن هذا الشيء وقع أمامي، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى في آياتٍ كثيرة ذكر أنه يشهد لعباده أن هذا القرآن كلامه أنزله بعلمه، ربنا عزّ وجل كيف يشهد؟ يشهد بأفعاله.
ربنا عزّ وجل إذا أوعد المُرابي بالحرب من الله ورسوله، هذا وعد في كتاب الله، الحياة اليومية، الأفعال الإلهية تؤَكِّد هذه الآية، أي أنت إذا استقمت على أمر الله، وعشت حياةً طيبة، هذه الحياةُ الطيِّبة شهادة الله لك بأن الكلام الذي أُنزل على النبي ومنه قوله تعالى:
﴿
إذاً: الحياة الطيِّبة هي شهادة الله لك أيها المؤمن على أن كلام الله حق، المعيشة الضَنْك شهادة الله للإنسان على أن قوله تعالى
أشدُّ أنواع الظلم ظلم النفس:
لذلك اليوم الآية الكريمة:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
إذاً:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
رجل من الأغنياء المترفين ترك مالاً كثيراً جداً يزيد عن ثمانمئة مليون، حينما حضرته الوفاة لقيه رجل من أهل العلم فقال له: ماذا أفعل؟ قال: والله لو أنفقت مالك هذا كلَّه الذي جمعته من حرام فلن يقبل منك هذا المال - وهذه كلمة حق - هذا الإنسان ظلم نفسه، لأنه متى عرف الحقيقة؟ بعد فوات الأوان حينما صار على وشك الموت، وربنا عزّ وجل يقول:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)﴾
من ظلم نفسه استكبر عن أن يعرف الله عز وجل:
لذلك يقول ربنا عزّ وجل:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
ربنا سبحانه وتعالى أجابه فقال:
﴿
لا ينفع هذا الإيمان في هذه اللحظة، إذاً ظلم نفسه، وعاقبته الخُسْران المبين، كلُّ شيءٍ جَمَّعَهُ في حياته خسره في ثانيةٍ واحدة، والنارُ كما قال الله عزّ وجل:
أبو جهل أين هو الآن؟ أبو لهب أين هو الآن؟
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3)﴾
﴿
عبرٌ لمَن يعتبر:
1 ـ مصيرُ آكلِ أموال الناس بالباطل:
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وحينما ظلموا أنفسهم بعدم تعريفها بالله عزّ وجل، وعدم تعريفها بمنهجه، والذين ظلموا الناس فأكلوا أموالهم ظلماً. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))
تتبَّع الذي يأكل أموال الناس بالباطل، تتبَّع الذي يأخذ أموال الناس ليتلفها لا ليؤدِيها لهم، كيف أن الله عزّ وجل يُتْلِفَه، إذاً يمكن أن تستنبط دروساً بليغةً ومواعظ كبرى من تتبع حوادث الناس، هذا الذي ظلم نفسه فأبقاها جاهلة ما عرَّفها بربها، ما عرَّفها بمنهجها، جعلها تتيه في ظلمات الحياة، حينما حضرته الوفاة كاد يذوبُ ندماً على ما مضى، ولكن لات ساعة مندم، هذا الذي أكل أموال الناس بالباطل انظر كيف دمَّره الله عزّ وجل، كيف سحقه، كيف حاربه، كيف أتلفه.
2 ـ جزاء المعتدي على أعراض الناس:
وهذا الذي اعتدى على أعراض الناس، انظر إلى مصيره، انظر إلى قذارته، انظر إلى حياته الداخلية كيف أنَّها جحيمٌ لا يُطاق، ربنا عزّ وجل جعل لكل حسنةٍ ثواباً، وجعل لكل سيئةٍ عقاباً،
تتبع من أكل أموال الناس بالباطل، تتبع من اعتدى على أعراض الناس، قانونٌ دقيقٌ دقيق يسري على الناس جميعاً، ولكن الناس في غفلةٍ عن هذا.
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
3 ـ جزاء مَن ربّى أولادَه على تحصيل الدنيا ونسي دينَه:
هؤلاء الذين ظلموا أولادهم، اهْتَمَّ من أولاده أن يكونوا شخصياتٍ مرموقةً في المجتمع على حساب دينهم، ما كان يبالي بدين أبنائِهِ، اهْتَمَّ فقط أن يكون ابنه ذا مركزٍ كبير، ومالٍ وفير ليعتَزَّ به، وليقوى جانبه بمعونة ابنه له، تتبَّعْ قصَّة هذا الإنسان ترَ أن هذا الابن صار عدواً له، فربنا عزَّ وجل يقول:
4 ـ جزاءُ إهمال الزوجة:
هذا الذي لم يأخذ بيدِ زوجته إلى الله عزَّ وجل، أعانته على أمر دنياه، ولم يُعنها على أمر آخرتها، رضي منها المعصية، قَبِلَ أن تخرج كما تشاء، قَبِلَ أن تفعل ما تشاء مادامت مصالِحُهُ موفَّرةً لديها، هذا انظُرْ إلى حياته الدنيا وإلى عاقبته، هذا ظلم امرأته ظُلماً من نوعٍ آخر، ظلمها إذْ لم يُعَرِّفها بربِّها.
5 ـ جزاء الظالم:
شيءٌ آخر؛ هذا الذي يظلم مَن هم فوقه بعدم نصحه إياهم، والذي يظلم من دونه بعدم رحمته لهم، انظر كيف كانت عاقبته، هذه الآية دقيقة جداً لأن الإنسان حينما يتعَلَّم شيئاً نظرياً هذا الشيء النظري ليس مُتأكِّداً من صحَّته، أما إذا استنبط حقيقةً من موقفٍ عملي فهذه حقيقةٌ مع البرهان عليها، لذلك كانت القصَّةُ ذات أثرٍ بليغٍ في السامع، لأن القصَّة حقيقة، ولكن مع البرهان عليها، ربنا سبحانه وتعالى قد يذكر في القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكِّدُ أنه لا إله إلا الله، ولكن يسوق لك قصَّةً طويلة مغزاها:
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
العبرة مِنَ القصة بالحقائق العملية لا بالحقائق النظرية:
قصَّةُ سيدنا يوسف بأكملها مغزاها أنه لا إله إلا الله، وكذلك قصة سيدنا موسى مع فِرعَون:
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً (29)﴾
هؤلاء الذين أكلوا أموال الناس بالباطل تتبع قصصهم، هؤلاء الذين اعتدوا على أعراض الناس، هؤلاء الذين بنوا مجدهم على أنقاض الناس، هؤلاء الذين بنوا غِناهم على فقر الناس، هؤلاء الذين بنوا أمنهم على خوف الناس، هؤلاء الذين بنوا حياتهم على موت الناس، هؤلاء تتبع أخبارهم تجد أن عاقبتهم وخيمةٌ جداً.
لا تظلمنّ أبداً فتصاب بما لا تحمدُه:
يا أيها الإخوة الأكارم؛ حتى لو ظلم الإنسان حيواناً، مرَّ بنا في دروسِ سابقة أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التمثيل بالبهائم، ونهى عن أن تتخذ البهيمة غرضاً في الرمي، ونهى عن أن يذبح الإنسان الشاة أمام أختها، وأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنْ نُحِدَّ السكين، وأن نُرِح ذبيحتنا، إذاً الإنسان أيضاً محاسبٌ إذا ظلم الحيوان.
وقد أخبر عن امرأةٍ دخلت النار في هرةٍ حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض، وكيف أن الله سبحانه وتعالى غفر لامرأةٍ رأت كلباً يأكل الثرى من العطش، كيف أنها سقته فغفر الله لها، إذاً ظُلْمُ الحيوان له عاقبةٌ وخيمة، هذا الذي أمسك بهرةٍ، وصار يضربها بالجدران حتى ماتت، فوراً اختل توازنه، وصار معه مرض عضال، هذا الذي أراد أن يدوس كلباً بعجلات سيَّارته كيف أنه بعد أسبوعٍ فقد يديه الاثنتين، الله عزّ وجل يقول:
تعظيم الله عز وجل وحبه والخوف منه:
لذلك الإنسان العاقل هو الذي يخاف الله عزّ وجل، عقلك يقودك إلى أن تخاف الله، وعقلك يقودك إلى أن تُحِبَّ الله، والحديث القدسي الذي تعرفونه جميعاً قال: يا رب، أيّ عبادك أحبُّ إليك حتى أُحِبَّه بحبك؟ قال: يا داود، أحبُّ العباد إليّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني، وأحبّ من أحبني، وحببني إلى خَلقي، قال: يا ربِ، إنك تعلم أني أُحِبُّك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ ( هنا الشاهد ) قال: ذَكِّرْهُم بآلائي، وذكرهم بنَعْمَائي، وذكرهم ببلائي.
الآيات الكونية من أجل أن تُعَظِّمَهُ، والنعَم من أجل أن تحبه، والنقَم من أجل أن تخافه، إذاً لابدّ من أن يشتمل قلبك على مشاعر ثلاث، هي مشاعر التعظيم:
﴿
هان الله عليهم فهانوا على الله، لابدّ من أن تُعَظِّم الله عزّ وجل:
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
ما رآه عظيماً، ماذا قال إبليس؟
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
آمن بالله خالقاً، وآمن بالله رباً، ولكن ما رآه عظيماً، إذاً يجب أن تشعر بعظمة الله عزّ وجل.. ذكرهم بآلائي، ويجب أن تشعر بمحبته.. وذكرهم بنعمائي، ويجب أن تشعر بالخوف منه.. وذكرهم ببلائي.
الحقيقة التوازن ضروري جداً، أحياناً الإنسان يطغى جانبٌ على جانب، يطغى جانب الطمَع بالله عزّ وجل، أو جانب الحب، لكن من دون تقديم الثمن، من دون تقديم الموجبات:
﴿
ادّعاء..
تعصي الإله وأنت تظهر حبهُ هذا لعمري في المقالِ بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطـعتــــهُ إن المُحِبَّ لمن يحب يطيعُ
* * *
إذاً: لابدَّ من الحب، ولابدَّ من الخوف، ولابدَّ من التعظيم.
الفائدة مِنَ النظر في عاقبة الظالمين:
الحقيقة إذا نظرت إلى عاقبة الظالمين تخاف، والخوف من الله حالة صحية، وضرورية، فكلما رأيت إنساناً انحرف عن طريق الحق، ثم دفع الثمن باهظاً، استنبط من هذا الثمن الباهظ الذي دفعه، واستنبط من انحرافه الذي ارتكبه حقيقة، وهي أن الله عزّ وجل لا يحبك أن تفعل هذا، هذا هو العاقل، العاقل من اتعظ بغيره، فربنا عزّ وجل يقول:
لا يُعقَل أن يكون الحيوان أذكى من الإنسان:
شيء قد يبدو من الضروري أن أقوله لكم: بعض الحيوانات الذَكِيَّة إذا رأت بعض أفرادها أكل طعاماً فمات لا يمكن أن تأكُل هذا الطعام، أيكون الحيوان أذكى منا، حيوان، بل هو من أقذر الحيوانات، إذا رأى أحد أفراده أكل طعاماً فيه سُم ومات لتوِّه كل هؤلاء لا يمكن أن يقتربوا من هذا الطعام، أيكون الحيوان أذكى من الإنسان؟ انظر أيها الأخُ الكريم، أنت أمام معارف غنية جداً، الله عزّ وجل علَّمك كل شيء، ألم يقل الله عزّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ
لماذا أمرنا أن نتقيه؟ لأنه يعلِّمنا دائماً:
المصائب بسبب الذنوب والمعاصي:
أردتُ من هذه الآية أن نأخذ منها حقيقة أساسية، هي أن الحوادث التي تجري تُعطينا معلومات دقيقة جداً عن طريقة معاملة الله لعباده، مدينة من أفسق مُدن شمال إفريقيا فيها نوادٍ للعُراة، كل شيءٍ حرَّمه الله مباحٌ في هذه المدينة، أصابها زلزال، دُمِّرت في ثلاث ثوانٍ، وقلعةٌ من قلاع الفساد، فندقٌ كبير عدد طوابقه ثلاثون طابقاً، خُسِفتْ به الأرض فانهار، وابتلعته الأرض، ولم يبق منه إلا طابقه الأخير، وعليه اسمه الشهير
رجل في دكانه، اثنان تشاجرا أمامه، أحدهم معه مسدس فأطلق على خصمه رصاصة، فأخطأت خَصْمَه، وأصابت صاحب هذه الدكان، أصابته في عموده الفقري، فأصبح مشلولاً لتوّه، قيل: ما ذنب هذا الإنسان؟ جاء ليفتح محله التجاري، وليكسب قوت يومه، والحقيقة ليس هناك من جواب "لله في خلقه شؤون"، ولكن بعد حين تبيَّن أن هذا الرجل آكلٌ لأموال اليتامى ظُلْماً، وأن هؤلاء اليتامى بذلوا محاولاتٍ مضنيةٍ في سبيل إرجاع حقهم فلم تفلح، إلى أن التقوا بعالمٍ جليل توفاه الله - رحمه الله - ليكون حكماً بينه وبينهم، أيضاً هذا المُحَكَّم العالم لم ينجح في تحقيق مطلب اليتامى، فكانت كلمتُه الأخيرة: اشكُوه إلى الله، هذا الكلام تمَّ في الساعة الثامنة مساءً، وفي الساعة التاسعة صباحاً جاءته هذه الرصاصة الطائشة، هل هي طائشة؟ لا والله، مصيبةٌ
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ . ))
إذا أصابتك المصيبة فاتهم نفسك، وإذا أصابت أخاك فأحسن به الظن، وإنّ حسن الظن بأخيك المؤمن من علامة إيمانك، من علامة إيمانك أن تحسن الظن به، ولكن يجب أن توقن أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن الشيء إذا أراده الله وقع، وإذا وقع أراده الله، وأن الذي وقع فيه حكمةٌ بالغة، وإن حكمة الله عزّ وجل متعلقةٌ بالخير المطلق، هذه الحقيقة تكون للإنسان برداً وسلاماً، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( الإيمانُ بالقدَرِ يُذهِبُ الهمَّ والحزنَ. ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( ...وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ))
أدنى مؤمنٍ أذكى من فرعون:
أيها الإخوة الأكارم؛ إذاً ربنا سبحانه وتعالى يقول:
إذاً: وفق هذه الحقيقة فإن أقلَّ مؤمنٍ على وجه الأرض أذكى من فرعون، ما دام هذا المؤمن قد عرف أن له رباً عظيماً، وأن له شرعاً حكيماً، فالتزم أوامر الشرع، وانتهى عما نهى الله عنه، وسار في طريقٍ سالكة إلى الجنة، إذاً هذا التفكير البسيط الحقيقي الواضح يجعلك أذكى من أكبر الطغاة، ماذا فعل فرعون؟ عاش حياةً محدودة، لِيَعشْ مئة عام، ولكن جاءه الموت فخسر كل شيء، وربنا عزّ وجل يقول:
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾
بحساب بسيط مضى على موته أو غرقه سبعة آلاف عام، اضرب سبعة آلاف عام بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً ضرب اثنين:
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً﴾ لها معنيان:
1 ـ السَّبَّاق إلى المعصية بشكلٍ أو بآخر داعٍ لها:
السابق إلى المعصية يَقْتَدي به الناس من بعده، فالسَّبَّاق إلى المعصية بشكلٍ أو بآخر داعٍ لها، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ. ))
هذا الحديث واضح، وهو صحيح، لكن يوجد حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
(( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ. ))
الحقيقة أن التوفيق بين الحديثين قضية سهلة، البدعة بمعناها اللغوي كلُّ شيءٍ جديد، والبدعة بمصطلحها الديني أن تُحْدِث في الدين ما ليس منه، إذا أحدثت في الدين، في عقائده، أو في عباداته شيئاً جديداً ليس من الدين فهذا بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وانتهى الأمر.
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
بعد أن أكمل الله هذا الدين وأتمَّه، أتمه عدداً، وأكمله نوعاً، أي عدد القضايا التي عالجها الدين تامَّة تُغَطِّي كل حاجات الإنسان، ونوعيَّة المعالجة كاملة، معالجةٌ واسعة، كافية، وافية، وفضلاً عن هذا وذاك الله سبحانه وتعالى رضي لنا هذا الدين، أيستطيع إنسان كائناً من كان أن يضيف عليه شيئاً؟ مستحيل، إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام: عن العرباض بن سارية :
(( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ. ))
ولاسيما في العبادات والعقائد، أما في المعاملات فإن ربنا عزّ وجل سمح لنا أن نجتهد، لذلك أنزل بعض آياته بشكلٍ مجمل، وسَمَحَ للعلماء أن يستنبطوا منها أحكاماً تفصيلية، ولكن الحديث النبوي الثاني الذي يقول: عن جرير بن عبد الله:
(( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. ))
مثلاً: إنسان في الحر الشديد جاء بجديد في المساجد، هيَّأ لها جهاز تكييف مثلاً، أو في البرد الشديد هيَّأ جهاز تدفئة، أو وَفَّر في المساجد ما فيه راحةٌ للمصلين، شيءٌ لم يكن على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ماء ساخن، ماء بارد للشرب مثلاً، تبريد، تدفئة، هذه أشياء جديدة لم تكن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنها سنةٌ حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لكن موطن الشاهد في الآية:
أسس ملهى ثم مات، هذا الملهى بقي يعمل مئات السنين بعده، أسس دار قِمَار، أسس نادياً ليلياً مثلاً، هذا الذنب يموت صاحبه، ويبقى الذنب، إذاً كل مَن اقترف هذا الذنب في هذا المكان عليه وزره، ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، هذه هي الطامة الكبرى حقيقةً، فالإنسان قبل أن يفعل شيئاً فيه مخالفة للشرع، فيه خروج عن أوامر الدين، فيه إضلال للناس، فيه إفساد لعقائدهم، فيه إفساد لعلاقاتهم، فيه إفساد لزواجهم، لأُسرهم، هذا شيءٌ خطير، إنسان جلب إلى بيته بعض الأجهزة المُلهية، فإذا هو أمام مشكلات بين أولاده ليس لها حل، فالذي اخترع هذا الجهاز، والذي صنع هذا الجهاز، والذي اقتنى هذا الجهاز، والذي استخدم هذا الجهاز إلى يوم القيامة يتحمل الأوزار جميعاً، لذلك:
2 ـ تحمُّلُ الإنسان نتائج المعصية إلى يوم القيامة:
المعنى الواسع لـ:
﴿
أي هذه المرأة الزانية إذا ربت ابنتها على الزنا، وجاء من هذه المرأة جيلٌ من الزانيات، قد يَعُدُّ الملايين إلى يوم القيامة، فكل هذا الجيل في صحيفة هذه المرأة التي ربَّت ابنتها على الزنا، فقبل أن تفعل شيئاً، قبل أن تتخذ حرفةً، قبل أن تنشئَ مشروعاً، قبل أن تجري عادةً لم تكن من قبل، ادْرُسها، عُدّ للمليون، فإذا كان هذه اللقاء على معصية، أو كان هذا المشروع على ضلال، أو كانت هذه التجارة مُحَرَّمة، أو كان جلب هذه البضاعة يؤذي الناس، قبل أن تفعل مثل هذا فكِّر مَلِيَّاً:
أي حينما اتفق الناس، أو حينما ابتدعوا مثلاً أن يجلس العريسُ على منصةٍ مع عروسه أمام المدعوات، هذه سنة سيئة مخالفة للشرع، لأن الرجل يرى المدعوَّات كاسيات عاريات، كلُّ مَن فعل هذا من بعده عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، فالكلمة، التجارة، البيع، الشراء، الاجتماع، الاتفاق، المشروع، قبل أن تفعل شيئاً يجب أن تقيس هذا الشيء على الشرع، لأنَّك إذا فعلت شيئاً فيه إضلال، أو فيه إفساد، أو فيه فتنة، أوفيه تحريكُ شهوة، فأنت ممن تنطبق عليهم هذه الآية، قال ربنا عزَّ وجل:
المؤمن داعية إلى الجنة قولاً وعملاً:
إذا كنت بطلاً فكن داعيةً إلى الجنة، كن داعياً إلى الله عزّ وجل، الحياة تمضي، الذين دعوا إلى الله ماتوا، والذين دعوا إلى النار ماتوا، ولكن يوم القيامة هؤلاء في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وهؤلاء في عذابٍ مقيم إلى أبدِ الآبدين، فإذا أردت أن تدعوَ، إذا أردت أن تكون إماماً، إذا أردت أن تكون شخصيةً قياديةً، إذا أردت أن تؤَثِّر في الآخرين فتعرّف إلى الله عزّ وجل، ودُلّ الناس على الله عزّ وجل، وهذه صنعة الأنبياء، ما من صنعةٍ أشرفُ من أن تكون سبباً في هداية الخلق: يا علي لأَنْ يهديَ اللهُ بك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ ، قالَ : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ : أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا ، فَقالَ : أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ : هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ ، قالَ : فأرْسَلُوا إلَيْهِ . فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له ، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : يا رَسولَ اللَّهِ ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ : انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا ، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ . ))
خيرٌ لك مِن الدنيا وما فيها ، إذا أردت أن تؤثِّر في الآخرين، إذا أردت أن تكون إنساناً متمَيِّزاً، إذا أردت أن تكون إنساناً إماماً، متفوِّقاً، شيء جميل، مطلب مشروع، لأن الإنسان عنده حب البقاء، لذلك يتزوَّج، الطعام والشراب يوفِّر بقاء الفرد، والزواج يوفِّر بقاء النوع، والأعمال البطولية توفِّر بقاء الذكر، فإذا أردت أن يبقى ذكرك دائماً متفوِّقاً قيادياً فلا مانع، تعرّف إلى الله عزّ وجل، وتعرَّف إلى منهجه، وادْعُ إليه، وإلى منهجه، أما أن يكون الإنسان داعيةً إلى النار نعوذ بالله من ذلك، لذلك عندنا ضال ومضل، وعندنا مهتد وهاد، ضال مُضِل، فاسد مُفِسد، أي هناك إنسان وظيفته الإفساد، فاسد مفسد، ضال مضل.
لا نصرة ولا نسب ولا خلة يوم القيامة:
﴿
لو أنك في الدنيا تجد لك أنصاراً وأتباعاً ومحبين، هذا كله في الدنيا، ولكنك تأتي يوم القيامة فرداً لا أحد معك إلا عمَلُك، لذلك:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
دعك من حُبِّ الناس، إذا أحببت نفسك فقط، إذا بالغتَ في حبِّ ذاتك يجب أن تُعدَّ لهذه اللحظة عدتها.
إخوان كثيرون في هذا المسجد رحلوا قبلنا، وهؤلاء بالعشرات، أنا هنا بفضل الله عزّ وجل منذ ثمانية عشرَ عاماً خطابة وتدريسًا، أذكر أن الإخوة الذين رحلوا عنا بالعشرات، ما مِن شهر أو شهرين إلا وتجد أن أخاً رحل، نقرأ له الفاتحة، وندعو له، ونحن على هذا الطريق سائرون، أنت بضعةُ أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منك، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
الليل مـهما طـال فلابدّ من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابدّ من نزول القبر
* * *
لذلك الإنسان بتربية بناته، بتربية أولاده، بعلاقته بزوجته، بمهنته، ببيعه، بشرائه، إيَّاك أن تفعل شيئاً مخالفاً للسنة، فإذا كنت ذا شأن، وقلَّدك الآخرون، دعوت وأنت لا تشعر إلى النار، المعلم له شأن عند طلابه، فإذا فعل شيئاً مخالفاً للسنة كأنه دعا إلى النار، الأب له شأن عند أولاده، إذا فعل أمامهم معصيةً وهم على صغر سنهم، رأوا أن أباهم قد فعل هذا، وهو كامل في نظرهم، وفعلوا كما فعل كأنَّه دعاهم إلى النار، دعاهم إلى ما يستوجبُ النار، طبعاً هذا المعنى موسع جداً:
علامة المؤمن الصادق أن الناس يحبونه جميعاً:
﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
أي يا محمد لست ملوماً عندي، ولست ملوماً عند نفسك، ولست ملوماً عند الناس، هذه نهاية العَظَمَة، نهاية الكمال، هناك إنسان عند الله ملوم، ذكي جداً، بذكائه يسترضي الناس جميعاً، لكنه مرتكبٌ معاصيَ كثيرة، فهو عند الله ملوم، وعند الناس محمود، مثلاً، وهناك إنسانٌ يحمده الناس، ولكنه ينوي لهم نوايا خبيثة، أمام نفسه ساقط، عند نفسه مذموم، ولكنَّ البطولة أن تكون محموداً عند الله، وعند الناس، وعند نفسك.
الإنسان بذكائه أحياناً يستطيع أن يسترضي الناس، ولكن حينما لا يكون في المستوى اللائق أمام نفسه يسقط من عين نفسه، والإنسان إذا احتقر نفسه عاش حياةً شقية، العمل الطيِّب المستقيم والصدق والإخلاص تورث في النفس احتراماً للذات كما يقولون، واحترام الذات شيءٌ مسعِد، كن دائماً واضحاً في علاقتك، في مبادئك، في أقوالك، في أفعالك، لأن الوضوح يورث احترام الذَّات.
الاحتقار والذل يوم القيامة عاقبة كل ضال مضل:
إذاً:
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾
قد ترفَعُ أُناساً، وقد تخفض أُناساً، ماذا قال سيدنا علي كرم الله وجهه؟ قال: "الغنى والفقر بعد العرض على الله"، فلذلك هؤلاء:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
صفات الجنة والنار يوم القيامة:
الجنة فيها أشياء لطيفة كثيرة، فيها من الطعام والشراب ما لَذَّ وطاب، فيها فواكه، وَهُمْ مُكرمون، فيها ما تشتهي الأنفس، فيها أنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من عسل مُصَفَّى، فيها أنهار من ماءٍ عذبٍ فُرات، فيها أشجار، فيها حور عين، لكن الأثمن من كلِّ ذلك:
﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
قلت هذا في درسٍ سابق: أحياناً تدخل إلى بيت، يقدَّم لك من الطعام ألَذَّهُ، ومن الشراب أطيبه، ولكنَّ صاحب البيت غائب، تحس بوحشة، أما إذا جاء صاحب البيت، ورحَّب بك، وآنسك، وقرَّبك، هذا الترحيب، وهذا الإيناس، وهذا التقريب أثمن عند أُولي العقل من كل هذا الإكرام المادي، لذلك الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها أهمّ من ذلك، وهو رضوان الله عزّ وجل، الآن جهنم فيها عذابٌ لا يحتمل:
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)﴾
إلى آخر الآيات.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
وفيها أشد من عذاب النار:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)﴾
هذا اليوم يوم القيامة إما أن يكون لك وجه باسم مشرِق:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) ﴾
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)﴾
﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
الآيات التالية من دلائل إعجاز القرآن الكريم:
هذه الآيات فيها معانٍ دقيقة جداً، وإن كان هذا لا يبدو في ظاهرها، هذه الآيات تُؤَكِّد أن القرآن من عند الله عزَّ وجل، وهذه الآيات دلائل إعجاز القرآن، والإعجاز أنواع؛ إعجازٌ في النظم، إعجازٌ في الشكل، وإعجازٌ في المضمون، وإعجاز المضمون أنواع، أحد بنود إعجاز المضمون غيب الماضي، وغيبُ الحاضر، وغيب المستقبل، وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم سنوَسِّع الحديث عن إعجاز القرآن وَفق هذه الآيات الكريمة التي تأتي عَقِبَ هذه الآيات.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين