- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (028)سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القرآن الكريم كلام الله:
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة القصص.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
الحقيقة هذه الآيات تُثْبِتُ أن هذا الكتاب كلام الله، لأن هذا اسمه عند علماء القرآن: غيب الماضي، الغيب أنواعٌ ثلاث ؛ غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل، فالأشياء التي مضت، والتي لا يمكن أن يعلمها النبي عليه الصلاة والسلام، ما كان في مدين، وما كان في هذه القرون السابقة، ومع هؤلاء الأقوام، ومع هؤلاء الأنبياء، ما كان معهم، من أنبأه بخبرهم؟ من أعطاه ما وقع بالتمام والكمال؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فإذا ورد في القرآن الكريم قصة سيدنا موسى مع فرعون، قصة سيدنا موسى مع سيدنا شعيب، قصة سيدنا يوسف، قصة سيدنا يحيى، قصة السيدة مريم، هذه القِصَص، قصص الأنبياء التي وقعت من قبل ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام بحكم أنه عاش في صحراء، بحكم أنه كان أُمِّياً، ما كان له أن يعلم هذه الحقائق، ولا أن يعلم هذه الأخبار، فإذا جاء بها صحيحةً كاملةً واقعة دقيقةً فهذا دليلٌ على أن هذا الكلام كلام الله.
الله تعالى لا يمكن أن يترك العبادَ من دون منهج:
ننتقل من هذه الفكرة إلى فكرةٍ أَعَمّ وأشمل، الإنسان بادئ ذي بدء عليه أن يؤمن بالله خالق هذا الكون، وهذا الكون بين يديه، إن هذا الكون بما فيه من آياتٍ دالةٍ على وجوده، وعلى عظمته، وعلى أسمائه الحسنى، وعلى صفاته الفُضْلى، إن هذا الكون هو الدليل الأكبر على وجود الله، وعلى صفاته، وأسمائه، وعظمته، هذا الإله العظيم أَيُعْقَل أن يَدَع عباده من دون تشريع؟ من دون توجيه؟ من دون تعريف؟ من دون أمر؟ من دون نهي؟ من دون لفت نظر؟ من دون بيان ؟ هذا الكون يَدُلُّ على أن الله سبحانه وتعالى كاملٌ في أسمائه، كاملٌ في صفاته، فمن لوازم كمال الله عزَّ وجل ألا يدع عباده هملاً مُعَطَّلين عن الأمر والنهي، أتجد أباً يرى ابنه منحرفاً ويبقى ساكتاً ؟ أتجد أباً لا يُعَرِّف ابنه بالطريق الصحيح؟ بالهدف النبيل؟ إذاً ربنا سبحانه وتعالى من كماله لا بدَّ من أن يُرسل إلى هذا الإنسان خطاباً في كل عصر، إن هذا الخطاب هو كلام الله عزَّ وجل.
مَن لم يطبق كلام الله لن يفلح أبداً:
الآن عندنا قضية دقيقة سأوضحها لكم من خلال هذا المثل ؛ لو أن رجلاً موسراً من علية القوم، له أعمال واسعة، عَيَّن وكيلاً لأعماله، وأغدق على هذا الوكيل الشيء الكثير، هذا الوكيل إذا جاءه من سيِّده خطاب يأْمُرُهُ أن يدفع لفلان مبلغاً كبيراً، هذا الوكيل إذا دفع هذا المبلغ، ولم يكن هذا الخطاب من عند سيده فقد خسر خسارةً كبرى، وإذا كان هذا الكتاب من عند سيِّده، ولم يدفع صرفه من العمل، الإنسان أمام وضعين ؛ إذا كان هذا الكلام كلام الله، ولم يُطَبِّق الإنسان أمره ونهيه أهلك نفسه في الدنيا والآخرة، وإذا كان هذا الكلام كما يَظُنُّ بعض الناس وبعض الملحدين ليس كلام الله، إنه كلامٌ من صنع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ونَفَّذَهُ بحذافيره، ولم يكن كذلك، فقد ضَيَّع حياته الدنيا، إذاً هذا الوكيل إذا جاءه خطابٌ من سيده، ما هو أخطر شيءٍ عليه أن يفعله؟ أن يتأَكَّدَ من صحَّةِ نسبة هذا الخطاب إلى سيده، هذا شيءٌ مفروغٌ منه، قبل كل شيء، قبل أن تفعل شيئاً أنت عبدٌ لله، ولك إلهٌ عظيم يدُلُّ عليه هذا الكون، أي الكون فيه آياتٌ لا تعدُّ ولا تُحْصى، هذا الإله العظيم، والخالق الحكيم، والمربي الرحيم ما نسيك من فضله، ولا من توجيهاته، ولا من بيانه، ولا من تحذيره، ولا من تبشيره، أرسل هذا الخطاب، يجب أن تؤمن إيماناً قَطْعِيّاً، هناك إيمان ظني، وهناك إيمان تَبَرُّك، وهناك إيمان تقليدي، يجب أن تؤمن إيماناً قطعياً بأن هذا الكلام كلام الله، لماذا؟ لأن فيه أمراً وفيه نهياً، معظم الناس لا يقفون موقفاً واضحاً من كتاب الله، فيه آيات تأْمُر وآيات تنهى، وهو لا ينتهي ولا يأتمر، وإذا قرأ القرآن قال: صدق الله العظيم، وقَبَّلَه من جوانبه الست، ووضعه في مكانٍ من بيته مرموق، وهو لا يُطَبِّقُه، فإذا جاء ملك الموت، ورأى أنه قد انحرف انحرافاً خطيراً عن منهج ربه، ولم يطبِّق ما به، قبل أن يأتي ملك الموت، حينما يدفع ثمناً باهظاً لمخالفة هذا الكلام، حينما يأكل مالاً حراماً، حينما يعتدي، حينما يحيد، حينما ينحرف، يدفع الثمن باهظاً، وحينما يأتي ملك الموت، يجد أنه خسر خسارةً كليةً وأبدية، فلذلك الإنسان عليه أن يقف موقفاً واضحاً من كلام الله عزَّ وجل، هل هذا كلام الله؟ ما الدليل؟ ما قولك أيها الأخ الكريم إذا كنت في مجلسٍ، وأردت أن تحدِّث الناس عن آيات الله، فقال لك أحدهم: ما الذي يؤكِّد لك أن هذا الكلام كلام الله ؟ بماذا تجيبه ؟ إذا سكت أُسقِطَ في يدك، إذا لم تجد جواباً شافياً مقنعاً لهذا الإنسان تزلزلت أنت، هذا الذي يبني إيمانه على سماع أقوال الآخرين من دون بحثٍ، من دون تَحَقُقٍ، من دون تمحيصٍ، هذا الإيمان لا يصمُد أمام الشهوات.
ضرورة طلب العلم:
قلت لكم سابقاً: تصوروا ميزاناً في كِفَّتِهِ الأولى وزن خمسة كيلو، ولنرمز إلى هذا الوزن بالشهوات ؛ حبّ المال، حبّ اللذائذ، حبّ العلو في الأرض، أي كل واحد ينطوي على شهوات لا يعلمها إلا الله، بعضها مشروع، بعضها غير مشروع، بعضها مباح، بعضها فيه انحراف، في الكِفّة الثانية العلم، إن لم يكن في الكفة الثانية علمٌ يقيني، قطعي، مبني عن بحثٍ ودرسٍ وتَحَقُقٍ وبرهانٍ وحجةٍ فإن كفَّة الشهوات تبدو راجحة، هذا العلم القليل، هذا التقليد اليسير، هذا السماع لبعض دروس العلم، هذا السماع لبعض الخطب لا يستطيع أن يقف في وجه هذا الوزن الكبير، قد يبحث الإنسان، ويبحث، ويدقق، ويفكِّر، ويتأمَّل، ويُطالع، ويقرأ، ويلتقي، ويسأل، ويجتمع، إلى أن تتكون له قناعاتٌ قطعيةٌ صحيحةٌ يقينيةٌ في الكفة الثانية، حتى يبدأ الميزان بالتحرُّك، حتى تقف، العلم قيدٌ، قال سيدنا علي:
قضية التَعَلُّم قضية مصيرية، قد يظن الإنسان أحياناً أنَّه إذا حضر مجلس علم، جاء ليستفيد، لكنَّ ساحة نفسه مُمْتَلئة بأشياء متعلقة بالدنيا، فإذا زاد عنده وقتٌ حضر مجلس علم، هذا هو الغلط بعينه، ما من شيءٍ أخطر في حياتك من أن تعرف الحقيقة، لا حباً بأحد، يجب أن تحب ذاتك قبل كلَّ شيء، كلكم يعلَم أن الإنسان مفطورٌ على حبّ ذاته، على حبّ وجوده، على حبّ استمرار وجوده، على حبّ سلامة وجوده، على حبّ كمال وجوده، من أجل وجودك في الدنيا، من أجل سلامة وجودك في الدنيا، من أجل كمال وجودك في الدنيا، من أجل استمرار وجودك بعد الموت في جنةٍ عرضها السماوات والأرض لا بدَّ من معرفة هذا الكتاب، أهو كلام الله حقاً؟ إذا كان هذا الكلام كلام الله حقاً فما الدليل؟ كلُّ شيءٍ من دون دليلٍ قطعي لا يصْمُد أمام الفتن، لا يصمد أمام الشهوات.
تعرض الإنسان في الحياة إلى قوة ضاغطة وقوة جاذبة:
الإنسان في الحياة الدنيا مُعَرَّض إلى قوةٍ ضاغطة، وإلى قوةٍ جاذبة، الجذب إغراء، والضغط إكراه، هكذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل ؛ أن يكون الإنسان في حياته الدنيا مُعَرَّضاً لقوةٍ ضاغطة، يأتيه ضغطٌ من أهله، من زوجته، من أولاده، ممن فوقه في العمل، يأتيه الضغط ليفعل معصيةً، لينحرف عن منهج الله، ليأكل مالاً حراماً، ليعتدي على الناس، ليُطْلِق بصره في الحرام، ليأخذ ما ليس له، هذا ضغط، وقد يأتيه إغراءٌ يدفعه إلى منكر، إلى معصية، إلى ندوة، إلى نُزْهَة، إلى لقاء لا يرضي الله عزَّ وجل، أنت أيها الأخ الكريم بين ضغطٍ وجذبٍ، بين قوة اجتماعيةٍ ضاغطة أو قوة نفسيةٍ ضاغطة، وقوةٍ أخرى جاذبة، ماذا تفعل ؟ لا بدَّ لك من منهج.
دقق في أنك لو اقتنيت آلةً غالية الثمن، إذا كانت هذه الآلة غالية الثمن خطيرة الوظيفة تحرص عليها حرصاً بالغاً، لاحظ نفسك قبل كلَّ شيء تبحث عن تعليمات الصانع، عن تعليمات الشركة الصانعة، بدافعٍ من حرصك على سلامة هذه الآلة، وعلى حُسْنِ سير عمل هذه الآلة، وعلى كفاءة هذه الآلة، وعلى مردود هذه الآلة، تبحث عن تعليمات الصانع، فهلا بحثت يا أخي عن تعليمات الخالق؟ عن منهج الخالق؟ أيُعْقَل أن يكون الله عزَّ وجل قد أنعم عليك بنعمة الإيجاد وتركك هملاً بلا أمر؟ ولا نهي؟ ولا تعريف؟ ولا بيان؟ ولا توجيه؟ ولا شيءٍ من هذا القبيل؟ أَيُعْقَل أن الله عزَّ وجل أنعم عليك بنعمة الإيجاد، ولم يبَيِّن لك من أنت؟ وما دورك في الحياة؟ وما مهمَّتك؟ وما هويتك؟ لماذا أنت إنسان؟ لماذا حملت الأمانة ؟ ما معنى الأمانة؟ ما هي مقومِّات التكليف؟ ما هي الحرية التي تتمتع بها؟ لماذا هذه الشهوة التي أودعها فيك ؟ سؤال خطير.
الشهوات سبيل الإنسان للارتقاء إلى رب الأرض والسماء:
لماذا أودع الله فينا هذه الشهوات؟ الإنسان أي إنسان، في أي مكانٍ وزمان يجد نفسه مندفعاً إلى تحقيق شهواته، يندفع إلى الطعام، وإلى الجنس الآخر، وإلى كسب المال، وإلى أن يكون ذا شأنٍ في الحياة، هذه الشهوات لماذا أودعها فيك ربُّ الأرض والسماوات؟ من أجل أن يفتنك؟ مستحيل، من أجل أن يوقعك في شباك الشهوة؟ من أجل أن يدفعك إلى المعصية؟ خالقٌ عظيم وهذا الكون يؤكِّد عظمته يفعل هذا؟ لا بدَّ من أن الله سبحانه وتعالى حينما أودع فيك هذه الشهوات إنما أودعها لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، ما أودعها فيك إلا لتكون هذه الشهوة دافعاً لك إليه، مُحَرِّكاً إلى القرب منه، كيف تتقرَّب من الله عزَّ وجل إذا لم تكن تحبُّ المال؟ لأنك تحب المال، إذا أنفقت المال تشعر بالقرب، تشعر بالمؤاثرة، تشعر بأنك فعلت شيئاً عظيماً، لو أن هذا المال لا يساوي عندك إلا التراب ما قيمة إنفاقه؟ كيف ترقى بغض البصر إن لم يحبِّب إليك الله النساء؟ ما قيمة غضِّ البصر؟ تغضُّ البصر فترقى إلى الله عزَّ وجل، يتزوج الإنسان فيرقى، يرقى بالزواج شكراً، ويرقى بغض البصر صبراً، تكسب المال الحلال فترقى، ترقى شكراً، وتترَفَّع عن المال الحرام فترقى صبراً، تكظم غيظك فترقى صبراً، لولا أنك تغضب ما قيمة كظم الغيظ؟ لولا أنَّك تستفز فما قيمة الحلم؟ لولا أنك تخاف فما قيمة التوَكُّل؟ إذاً الله سبحانه وتعالى حينما أودع فيك هذه الشهوات إنما أودعها فيك لترقى إلى رب الأرض والسماوات.
حرية الاختيار:
حينما منحك حرية الاختيار:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾
لولا هذه الحرية التي مَتَّعَكَ الله بها لن تستطيع أن تُثَمَّن أعمالك، ما قيمة الأعمال إذا كنت مُكْرَهاً عليها؟ مهما كان العمل عظيماً، مهما كان جليلاً، مهما كان خطيراً، إذا كنت مكرهاً عليه لا قيمة له، عملٌ ساقط لا قيمة له إطلاقاً، إذاً: ألا ينبغي أن تقرأ كتاباً لتعرف من أنت؟ لماذا أنت في الدنيا؟ لماذا أنعم الله عليك بنعمة الإيجاد؟ من أجل أن يرحمك:
﴿
لماذا أنعم الله عليك بهذه الشهوات؟ من أجل أن ترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، لماذا أنعم الله عليك بحرية الاختيار؟ من أجل أن تُثَمِّن عملك، ما قيمة العمل من دون حرية؟ لماذا فطرك فطرةً عالية؟ أيُّ إنسان في أي مكانٍ وزمان نفسه تحب الفضيلة، تحب الخير، تحب الإنصاف، تحب العدل، تحب الرحمة، تحب العفاف، تحب النزاهة، تحب اللُّطف، هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها لماذا؟ من أجل أن تكون فطرتك عوناً لك على طاعة ربك، فإذا انحرفت عن منهج الله عزَّ وجل عَذَّبَك ضميرك كما يقولون، أو عذَّبتك فطرتك، أو ضاقت نفسك، فإذا أقبلت على الله، وطبَّقْت أمره ارتاحت نفسك، هذا هو السر.
أخطر موضوعٍ بعد الإيمان بوجود الله الإيمان بأن هذا الكلام كلامه:
فيا أخي الكريم ؛ لا بدَّ من منهجٍ إلهي، لا بدَّ من بيان إلهي، لا بدَّ من كتابٍ كريم فيه تفصيل كلُّ شيء، فيه بيان كل شيء، إنه هذا الكتاب، المشكلة يجب أن تؤمن إيماناً قطعياً، إيماناً يقينياً، إيماناً لا ريب فيه، لا شك فيه، لا تردد فيه، لا حرج فيه، لا ضبابية فيه، يجب أن تؤمن هذا الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، لأنك إذا آمنت بأن هذا الكلام كلام الله هذا الإيمان يحملك على طاعة الله، بادئ ذي بدء حباً بذاتك، حباً بوجودك، وسلامة وجودك، واستمرار وجودك، وكمال وجودك، هذه الفطرة، أنت كعبدٍ جاءك هذا الخطاب فإن كان من عند الله، وخالفت أمره أهلكت نفسك في الدنيا والآخرة، وإن كان فرضاً كما يَدَّعي المدعون من عند غير الله، ونفَّذْت ما فيه فقد حرمت نفسك ملذات الدنيا ومباهجها على حد قول الملحدين.
إذاً: القضية الكبرى في حياتك أن تعرف أن هذا الكلام كلام الله بالدليل، لذلك لا يقبل أهل السنة والجماعة الإيمان إذا كان تقليداً، لماذا؟ يمكن أن تقلد مؤمناً في بعض تصرفاته، مقبول منك، من قلَّد عالماً لقي الله غانماً، أما أن تقلِّد الآخرين في العقيدة فهذا شيء غير مقبول، لماذا ؟ لو جاء إنسان مضل، وله مظهر صالح فقلدته في عقيدته الفاسدة أهلكت نفسك، لا بدَّ من أن تتأكَّد من صحة عقيدتك، أخطر موضوعٍ بعد إيمانك بوجود الله، وبأسمائه الحسنى أخطر موضوع أن تؤمن بأن هذا الكلام كلامه.
الدليل على أن القرآن كلام الله تعالى:
أكبر دليل الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات الكريمة يقول:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)﴾
الدليل هو أن هذا القرآن مُعْجِز، معنى معجز أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله، وما دام معجزاً إذاً هو معجزة النبي عليه الصلاة والسلام، الله سبحانه وتعالى حينما يُرْسل رسولاً أو نبياً كيف يشهد للناس أن هذا الإنسان هو رسوله؟ الأنبياء السابقون حينما أرسل الله سيدنا موسى إلى فرعون كيف زوَّده الله بدليلٍ يؤكِّد صدق نبوته ورسالته؟ الله سبحانه وتعالى جعل العصا تنقلب ثعباناً بين يديه، هل بإمكان كلِّ بني البشر مجتمعين أو منفردين في أيِّ عصرٍ أن يصنعوا من العصا ثعباناً؟ لا، أما سحرة فرعون قال تعالى:
﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)﴾
ولكن حينما رأوا العصا تنقلب ثعباناً مبيناً قالوا:
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا
هم جاؤوا بأنابيب وضعوا فيها الزئبق، وضعوها على أرض مُحَمَّاة، فتمدَّدَ الزئبق، وتحرك، فحرَّك هذه الأنابيب، وكأنها أفاعٍ، أما حينما رأوا العصا تنقلب إلى ثعبانٍ حقيقي عرفوا أن هذا ليس بسحر، هذا نبي من عند الله حقاً، لأن هذا الفعل لا يستطيعه إنسانٌ كائناً من كان، إذاً بشكل مُبَسَّط حينما يرسل الله إنساناً نبياً رسولاً إلى قومٍ يزَوِّده بالدليل، الدليل على أنه نبي، وعلى أنه رسول المعجزات، فالمعجزات أمرٌ يجريه الله على يدي نبي يفوق طاقات البشر، ويخرق قوانين الطبيعة وخواص المواد، يتحدَّى به النبي قومه، فلا يقدر أحدٌ على معارضته، هذا تعريف المعجزة، لا يقدر أحدٌ على معارضته، سُمِّيَت المعجزات أيضاً دلائل النبوة، أعلام النبوة، علامات النبوَّة، سمَّاها القرآن البِّينة، سماها القرآن البرهان، سماها القرآن الآية، آيةٌ، بينةٌ، برهانٌ، دلائل النبوة، أعلام النبوة، علامات النبوة، معجزات، أي شيءٌ خارقٌ لقوانين الطبيعة، فيه تجاوز لخواص المواد، لا يستطيعه الإنسان كائناً من كان، يتحدَّى به النبي قومه ويدعوهم إلى الإيمان بالله عزَّ وجل.
معجزات الأنبياء حسية ومعجزة النبي باقية إلى يوم القيامة:
كلكم يعلم أن الله سبحانه وتعالى حينما أرسل الأنبياء والمرسلين زوَّدهم بمعجزات حسِّية، هذه المعجزات تتناسب مع طبيعة العصر، مع الشيء المتألِّق في هذا العصر، في عهد فرعون كان السحر قد بلغ شأواً رفيعاً، فجاء سيدنا موسى بمعجزةٍ تبطل سحرهم، في عصر سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام جاء سيدنا عيسى بإحياء الموتى، وهذا شيءٌ يفوق كل طاقات الطبيب، كان الطبُّ متفوقاً، ولكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان قوم النبي عليه الصلاة والسلام قوم فصاحةٍ وبلاغة، قوم بيان، كانوا شعراء، كان عندهم أسواق للأدب، كانوا فُصَحَاء، كانت الفصاحة تجري على ألسنتهم كالماء العذب السلسبيل، لذلك جاءت معجزة النبي عليه الصلاة والسلام قُرْآناً يُتْلَى إلى يوم القيامة، فرق كبير بين معجزة النبي عليه الصلاة والسلام التي هي القرآن وبين المعجزات الحسية التي جاء بها الأنبياء، تلك المعجزات وقعت، وانتهت، وأصبحت خبراً يصدِّقه المصَدِّقون، أو يكذِّبه المكذبون، ولكن معجزة النبي عليه الصلاة والسلام هي قرآنٌ يتلى إلى يوم القيامة، بعد مئة عامٍ، بعد مئتي عام، بعد خمسمئة عام، بعد ألف عام، بعد ألفي عام، إلى يوم القيامة، هذه معجزةٌ قائمةٌ بذاتها بينةٌ واضحةٌ لكل ذي بصر.
الكرامة:
شيءٌ آخر أيها الإخوة، هذا ينقلنا إلى موضوع ؛ هل هناك كرامة؟ المعجزة فهمناها، خرقٌ لنواميس الكون، تجاوزٌ لخواص المواد، يتحدى بها النبي قومه، يؤكِّد بها نبوَّته، يدعوهم إلى الله بها، ولكن الولي أله كرامة؟ نعم، إن الكرامة ثابتةٌ بنَصِّ كتاب الله عزَّ وجل، ولكنَّ الولي لا يتحدى بكرامته الناس، ولا يدّعي بها النبوة، إنما هي في حقيقتها كرامةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن تسمَّى الكرامة كرامةً إلا إذا كان هذا الذي أجراها الله على يديه متابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه الكرامة في حقيقتها تأكيدٌ لمعجزة النبي عليه الصلاة والسلام، مثلاً إذا قال عليه الصلاة والسلام إضافةً إلى التداوي عن طريق الطبيب: عن أبي أمامة:
(( دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ. ))
فإذا وقع إنسان في مرض عضال، وقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وطبقه، ودفع جزءاً من ماله الثمين ابتغاء وجه الله عزَّ وجل، لعلَّ الله عزَّ وجل يشفيه، أو يشفي ابنه، وتَمَّ الشفاء بعد أن قال الأطباء: إن هذا المرض لا شفاء له، ما اسمُ هذا الشفاء؟ اسمه كرامة، ماذا يؤَكِّدُ؟ يؤكد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
إذا قيل: "الأمانة غنىً" أي أنت إذا كنت أميناً تغتني الغنى المادي، لأنك إذا كنت أميناً وثِق الناس فيك، وإذا وثِق الناس فيك فهذا أكبر رأس مالٍ تملكه، أكبر رأس مالٍ تملكه ثقة الناس فيك، فإذا كنت أميناً وثق الناس فيك، إذا كنت أميناً، وأكرمك الله بالكفاية، والرزق الحلال الوفير فهذه كرامة، هذه كرامةٌ تؤكِّد نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام، إذا قيل: "بَشِّر الزاني بالفقر ولو بعد حين"، إنسان في أعلى درجات الغِنى اتّبعَ الزنا فافتقر، هذا الفقر يؤكد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، قيل: "ما ترَك عبدٌ أمرًا لله إلا عوَّضه اللهُ خيراً منه في دينه ودنياه"، فإذا تركت شيئاً لله، والأمر يبدو لك صعباً، والطرُقْ كلُّها مسدودة، سَدَّ الله عليك كل أبواب الحلال، فُتِحَ لك باب كسبٍ حرام، وأنت في أشدّ الحاجة لهذا المال، أنت على أَحَرّ من الجمر لدرهمٍ واحد، جاءك مالٌ وفير من طريقٍ مشبوه، وطرق الحلال كلُّها مُغَلَّقة، كُلَّما فتحتَ باباً أغلق، كلما مشيت في طريقٍ سُدَّ هذا الطريق، وقرأت: "ما ترَك عبدٌ أمرًا لله إلا عوَّضه اللهُ خيراً منه في دينه ودنياه"، فإذا صدَّقت كلام النبي، وأنت إذا صدقت كلام النبي صدقت نبوَّته، لأن النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
إذا صدقت كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وتركت هذا الشيء لله، ولم تعبأ بضيقك المادِّي، فإذا فجأةً بعد حينٍ من الزمن فتح الله لك باباً لم يكن في الحسبان، هذه كرامة، كرامةٌ لمن؟ كرامةٌ لك، لأنك تابعت النبي عليه الصلاة والسلام، وتأكيدٌ لنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك سيدنا سعد رضي الله عنه قال:
الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- عَلَمٌ من أعلام المسلمين، الفقيه الأول، العلماء جميعاً عالةٌ على هذا الفقيه الكبير، حديثٌ شريفٌ واحد أجرى في حياته انعطافاً تاريخياً، هو: "من طلب العلم تَكَفَّل الله له برزقه"، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يُيَسِّر له أعماله، يرزقه رزقاً حلالاً طيباً بجهدٍ معقول، بجهدٍ قليل، بجهدٍ يتيح له أن يطلب العلم، أن يتعلَّم العلم، لذلك حديثٌ شريف يترك في نفس المؤمن أثراً طيباً، "من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى".
إنسان حان وقت درس العلم، حان وقت مجلس العلم، فإذا شيءٌ يلوح له فيه كسب للمال، لو أنه فرضاً ترك مجلس العلم، ولحق هذا الكسب من المال، ما قولك في أن هذا الكسب يضيع منك ويضيع منك مجلس العلم في وقتٍ واحد؟ إذا آثرت دنياك على آخرتك خسرت الدنيا والآخرة، وإذا آثرت آخرتك على دنياك ربحتهما معاً، هكذا النبي قال، ما ترَك عبدٌ أمرًا لله إلا عوَّضه اللهُ خيراً منه في دينه ودنياه، ومن ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى. أكل المال الحرام ليعيش في بحبوحة، رجل أنشأ عملاً فيه معصية لله عزَّ وجل، أنشأ داراً يعصى فيها الله عزَّ وجل، أنشأها، وربح منها أموالاً لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وكان يخطط أنه إذا كبرت به السن وجد هذا المال الوفير ليقضي به حياته بشكلٍ رغيد، فإذا بمرضٍ خبيث يداهمه في وقتٍ مبكرٍ جداً، قال لي أحد تلامذتي، هو قريبٌ له، قال لي: دخلت عليه فإذا هو يبكي – كلن خاله - قلت: يا خالي ما يبكيك ؟ قال: يا بُني، جمعت هذا المال من أجل أن أستمتع به في خريف عمري، لكن هذا المرض عاجلني، فمن ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى، طَبِّقوا هذا الحديث، لا يمكن أن تبحث عن شيءٍ عن شيء عن طريق معصيةٍ إلا فقدت هذا الشيء، وسقطت من عين الله عزَّ وجل، وإذا بحثت عن شيءٍ يُرضي الله عزَّ وجل رضي الله عنك، وأرضى عنك الناس، هكذا الحديث: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: عن عائشة أم المؤمنين :
(( من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ ؛ رضِيَ اللهُ عنه ، وأرْضى عنه الناسَ ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ ، سخِط اللهُ عليه ، وأسخَط عليه الناسَ. ))
لا نبتعد كثيراً، لو أن إنساناً أرضى زوجته، وأسخط ربَّه، لابدَّ من أن يسخط عنه ربُّه، ولا بدَّ من أن تسخط عليه زوجته، لأنه أرضاها بسخط الله، إذا أرضى شريكه على حساب دينه، سيسخط الله عنه، وسيسخط عنه شريكه، فلذلك هذه الكرامة شيء رائع جداً، الكرامة أنَّك إذا طَبَّقت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تقطف ثمارها يانعةً، وقطف ثمارها كرامةٌ لك، وكرامةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، وتأكيدٌ لنبوَّته، وتأكيدٌ لمعجزته. إذاً: الكرامة ليس فيها تَحَدٍّ، وليس فيها إثبات نبوة، والولي الذي يجري الله على يده هذه الكرامة ليس بالضرورة أن يكون معصوماً، أما النبي حينما يجري الله على يديه معجزةً لِيتحدَّى بها قومه، وليثبت بها نبوته، فهو بكل تأكيد معصومٌ من قِبَل الله عزَّ وجل.
السِّحر:
لكن هناك شيءٌ ثالث يقودنا إليه الموضوع نفسه ؛ إنَّه السحر، الساحر يركب متن الفسوق والعصيان، الساحر فاجر، الساحر عاصٍ، فالذي يأتي به لا علاقة له إطلاقاً لا بالكرامة، ولا بالمعجزة، إن الذي يأتي به من ضمنِ طاقة البشر، ولكنه بشر له مهاراتٌ خاصة، مهارات عالية جداً، من ضمن طاقة البشر، وطاقة الجن، وطاقة الحيوان، شيءٌ بإمكان المخلوق أن يفعله، إنسياً كان أو جنياً أو حيواناً، لكنَّ المعجزة شيءٌ يفوق طاقة البشر، أمرٌ فيه خرقٌ لقوانين الكون، يجريه الله على يدي النبي الكريم ليثبت بهذا الشيء نبوته للناس.
مطابقة وقائع القصص في القرآن للواقع دليل أن هذا الكلام كلام الله:
نحنّ الذي ساقنا إلى هذا الموضوع أن هذا الكلام كلام الله، قد نقرؤه، وقد نستفيد منه، وقد نتبارك به، وقد نعجب بآياته، ولكن هل أنت مستعدٌ لهذا السؤال؟
ما الدليل على أن هذا الكلام كلام الله؟ هل عندك دليل؟ الحقيقة الآيات قد وردت في هذا الدرس: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ من جاءك بهذه الأخبار؟ من تلا عليك هذه القصة؟ من عرَّفك بما حدث مِن آلاف السنين؟ جاءت وقائع هذه القصص مطابقةً للواقع، لو أن هذه القصص من صُنْع النبي عليه الصلاة والسلام أو من تأليفه، وعند أهل الكتاب الكتب والقصص وما شاكل ذلك لكذَّبوه فوراً:
تحدي الله الناس جميعاً بأن يأتوا بمثل هذا القرآن:
شيء آخر أيها الإخوة الأكارم كما قلت قبل قليل: ربنا عزَّ وجل جعل هذا القرآن مُعْجِزاً، كما لا يستطيع إنسانٌ على وجه الأرض أن يجعل من العصا ثعباناً، أو أن يجعل البحر طريقاً يَبَساً، أو أن يجعل هذه النار المحرقة منطفئةً، أو برداً وسلاماً على إبراهيم، كما أنه لا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يصنع تلك المعجزات الحسية، كذلك لا يستطيع إنسانٌ على وجه الأرض أن يأتي بمثل هذا الكتاب، والدليل أن الله سبحانه وتعالى تحدَّى الناس جميعاً:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
الآية الأولى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾، الآية الثانية ربنا عزَّ وجل خَفَّف عنهم فقال:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
الآية الثالثة خفف أيضاً فقال سبحانه:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
الآية الرابعة أخطر، قال عز وجل:
﴿
هذه (لن) لتأبيد النفي، لا يستطيع أن يقولها إلا خالق الكون، الإنسان يقول لك: أنا أغنى الناس الآن، أما أن يقول إنسان: أنا أغنى الناس إلى الأبد فهذا مستحيل، هذا ليس في طاقة البشر، الإنسان يقول: أنا أقوى الناس، اليوم، أما أن ينفي أن يكون أحدٌ مثل قوته في المستقبل فهذا فوق طاقة البشر، الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)﴾
هذه أقصر سورةٍ في القرآن الكريم، ربنا سبحانه وتعالى تحدَّاهم أن يأتوا بسورةٍ واحدة، ومع ذلك ما استطاعوا.
إعجاز القرآن أكبر دليلٍ على أنه كلام الله:
إذاً أكبر دليلٍ على أن هذا الكلام كلام الله هو إعجازه، إعجازه بحثٌ طويل، أتمنى على كل منكم أن يفكِّر في هذا الموضوع، لأنه حينما يُفَكِّر في هذا الموضوع، ويمتلك الدليل القطعي على أن هذا الكلام كلام الله عندئذٍ يجد نفسه يطبِّق أمره، وينتهي عما عنه نهى، تماماً كما لو وضع في كفة خمسة كيلو، والكفة الثانية فيها خمسة غرامات، غير متحرِّكة، أي عندك شيء من القناعات الخفيفة، عندك معلومات بسيطة تلقيتَها من المُعَلِّمين في المرحلة الابتدائية، سمعت بعض الخُطَب، سمعت بعض الدروس، هذه كلها غرامات لا تستطيع أن تقف في وجه هذه الشهوات، فكلما تأمَّلت، كلما تعمَّقت، كلما درست، كلما بحثت، كلما ناقشت، كلما بحثت عن الدليل، كلما نَمَتْ معلوماتك، كلما نما إيمانك، يزداد هذا الوزن، فإذا كنتَ في بعض اللَّحظات تقف في طريق الشهوات، ترتدع، تستعمل المكابح، هذا طريق الهلاك، فكلما نَمَتْ قناعات الإنسان انعكس هذا على سلوكه، كلما عرف الله أكثر كلما أطاعه أكثر، لأن أرْجحَكم عقلاً أشدُّكم لله حبًّا.
الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم:
بعض الأدلة على أن هذا الكلام كلام الله، الأدلة كثيرة جداً، أي هذا الموضوع يحتاج إلى سنوات، عندنا إعجاز في مضمونه، هناك إعجاز تشريعي، أي قطع يدِ السارق، قبل أن نناقش الأمر مناقشة نظرية، في بعض البلاد المتقدمة بمقياس العصر في كل ثلاثين ثانية - هذا رقم قرأته قبل عشر سنوات تقريباً، إحصاء قديم - في كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتلٍ أو سرقةٍ أو اغتصاب، إحصاء في عام واحد في بعض هذه البلاد المتقدمة بمقياس العصر، لا أقول: متقدمة إطلاقاً، قد تكون متأخرة جداً، لكن أقول: متقدمة بمقياس العصر، في بعض هذه البلاد جرى إحصاءٌ لعامٍ واحد فقط، تمَّ إحصاء ستة عشر مليون سرقة وقعت في عام واحد، بلاد أخرى تطبِّق قانون قطع اليد، ترى العجب العجاب، ترى شيئاً لا يصدَّق، ترى الأموال الطائلة توضع في أكياس على الشاحنات، وتنقَل من محافظة إلى محافظة.
كما سُئل الإمام الشافعي:
يدٌ بعشر مئينٍ عسجدٍ وُدِيَتْ ما بالها قطعت في ربع دينارٍ؟
* * *
ديتها عشر مئات من الدنانير الذهبية إذا قُطعت خطأً في حادث، فأجاب الإمام الشافعي فقال:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذُلُّ الخيانة فافهم حكمة الباري
* * *
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. هذا إعجاز تشريعي، العالم بأنظمته الوَضْعِيَّة، بمشرِّعيه، بحقوقييه، بأذكيائه، بقادته، ما اهتدوا إلى أن قطع يد السارق ينشر الأمن في البلاد، لأن قطع يد السارق بمثابة تطعيم، إذا رأى طفلٌ صغير يداً مقطوعةً معلَّقة، وسأل أباه: ما هذا يا أبتِ؟ قال له: يا بني، هذا إنسان سرق فقطعت يده، إن كراهية السرقة تسري في دم هذا الصغير، ويصبح المجتمع آمنًا، أي أخطر شيء في المجتمع العدوان على المال وعلى العرض، لذلك أكثر الجرائم سببها عدوان على الأعراض، أو عدوان على الأموال، هذا الكلام كلام الله عزَّ وجل، مِن عند حكيمٍ عليم، فصَّلَ تفصيلات دقيقة في كسب المال، كسب المال حرَّم الربا، أباح البيع، حرَّم الغش، حرم التدليس، حرم الغرر، حرم الغَبن، ربنا عزَّ وجل في آيات كثيرة، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة وضَّح كلَّ شيء في موضوع كسب المال، وأمر بغضِّ البصر، وأمر بالزواج، ونهى عن السفاح، وأمر بالاستئذان، ومنع الخلوة، من أجل صون العرض، فلذلك في القرآن إعجاز تشريعي.
إنّ ما يعانيه الغرب الآن من هذا المرض العضال - مرض الإيدز - في المجتمعات المسلمة النظيفة العفيفة الحمد لله الناس في خير، وفي طُمأنينة، وفي دَعَة، هذا المرض الخطير، هذا الشبح الخطير بعيدٌ جداً عن بلادنا والحمد لله رب العالمين بفضل هذه النظافة الأخلاقية، بفضل هذا النظام، هذا المنهج، هذا الزواج الشرعي، هذا البُعد عن كل انحرافٍ خطير.
إذاً: في هذا الكتاب إعجاز تشريعي، علماء القانون في العالم، المُشَرِّعون في العالم، القانون الروماني، قانون حَمورابي، قانون بلاد الفراعنة، ما اهتدوا إلى هذا التشريع، تشريع الزواج، تشريع الطلاق، تشريع تعَدُد الزوجات، في مثل أيام الحروب وأيام الكوارث، تشريع المواريث، هل يعقل أن تضغط هذه القوانين المتناهية في التشعيب بآيات عدة في القرآن الكريم؟ إذاً يمكن أن نقول: في القرآن إعجاز تشريعي، ما جاء به من نظام، غضّ البصر، أنا قرأت كتاباً ألَّفه رجل من بلاد الغرب اسمه: ألكسي كاريل، عنوانه:
﴿
هذه مدرسة، كيف أن الله سبحانه وتعالى ضماناً للسعادة الزوجية، ضماناً لهذا الإلف بين الزوجين، ضماناً لسلامة هذا العش الزوجي، أمر بغض البصر، وكل من يغضُّ بصره يعرف هو الثمرة، أولاً: يشعر أنه مع الله دائماً، من غضَّ بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يوم يلقاه، إذا كنت في الصلاة تصلِّي في اليوم خمس مرات، فأنت في غض البصر تتصل بالله في كل يوم آلاف المرات، كلَّما مرَّت أمامك امرأةٌ سافرةٌ، متهتكةٌ، بدافعٍ مما أودعه الله فيك من شهوات يجب أن تنظر إليها، فإذا خِفْتَ مقام ربك، ونهيت النفس عن الهوى تشعر بهذا القرب من الله عزَّ وجل، والمكافأة في البيت حينما يوفِّر الله لك مع أهلك سعادةً، حينما يبثّ في روع أهلك محبتك، وحينما يبث في رُوعك محبتهم، بفضل غض البصر، في القرآن إعجاز تشريعي، تكفينا هذه الآية:
﴿
هذا كلام مطلق، والمطلق على إطلاقه
والله الذي لا إله إلا هو الإعجاز التشريعي يمكن أن يُمضي فيه الإنسان سنوات، إذا وازن بين هذا التشريع العظيم وبين التشريعات الوضعية، المال كلُّه لأكبر الأولاد عند بعض التشريعات الوضعية، نصف المال للزوجة حين الطلاق، شيءٌ مخيف، لذلك يهجرها، ولا يطلِّقها، إنسان كد وعمل حتى جَمَّع أموالاً طائلة، والمال شقيق الروح كما يقولون، لذلك إذا أراد أن يطلِّق امرأته تأخذ نصف ماله، لذلك يهجرها، ويبقيها معلَّقةً بلا تطليق.
إذاً: في القرآن إعجاز تشريعي، أنا لا أستقصي الآن، هذا الدرس لا يحتمل استقصاء، أضرب بعض الأمثلة.
صورٌ من إعجاز القرآن العلمي:
في القرآن إعجاز علمي ؛ الآن كشفوا أن الذي يحدد نوع الجنين هو الحوين المنوي، وليس البويضة، هناك موَرِّثات، يوجد ثلاثة وعشرون زوجاً، آخر زوج إما على شكل "X" أو "y" في الحوين المنوي، قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾
من نطفة لا من بويضة.
أشار إلى أن كل شيء يتحرَّك، لذلك بدءاً من الذرة وانتهاءً بالمجرة:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
أشار إلى دورة الأرض حول نفسها:
﴿
من صعد في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى السماء وشعر بقلة الضغط وشعر بأن دمه يكاد أن ينفجر؟ هذا شيء ما عرفه الإنسان إلا بعد أن ركب الطائرة:
﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ
أي في كتاب الله إشارات علمية كثيرة جداً الآن كُشِفَت، الآن عُرِفَتْ:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾
علماء البحار الآن اكشفوا أن بين كل بحرين برزخًا، حاجز وهمي يمنع اختلاط البحرين، لكلِّ بحرٍ ملوحته، وكثافته، وحرارته، ومكوِّناته، ولا يختلط هذا بهذا، وكذلك لكل بحر لونه، إذا ركبنا الفضاء، أو ركبنا المركبات الفضائية، أو الطائرات، رأينا بين البحر الأحمر والبحر العربي خَطًّا، وبين البحر الأسود والأبيض كذلك ترى خطاً، وبين الأطلسي والمتوسط تجد خطاً أيضاً
﴿
من رأى هذه الحقيقة إلا في العصور المتأخِّرة؟ هذا إعجاز علمي، والحديث عن إعجاز القرآن العلمي حديثٌ طويلٌ جداً لا يكفيه أشهرٌ، إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم نتابع بعض هذه الألوان من إعجاز كلام الله عزَّ وجل، يجب أن نعلم أن هذا الكلام كلام الله، فإذا جاءك خاطب لابنتك وكان دِينُه رقيقًا، وجاءك خاطب آخر وهو مؤمن، فإذا كنت مؤمناً بهذا الكلام من عند خالق الكون تأتمر بأمر الله عزَّ وجل وبنصيحته.
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
أما إذا كنت لا تعلم أن هذا الكلام كلام الله فإنك عندئذٍ تبحث عن الغنى، وعن الشكل، وعن المال، وما شاكل ذلك.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين