- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (028)سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مقدمة تذكيرية:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة القصص.
وصلنا في قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في الدروس السابقة إلى قوله تعالى:
للرجل القوامة والقيادة بحكم بُعْد نظره في الشؤون العامة:
﴿
التفضيل من جهتين؛ من أن الرجل له القيادة بحكم بُعْد نظره في الشؤون العامة، وفي شؤون خارج البيت، وله حقّ القوامة بسبب إنفاق ماله، فسار بأهله، وكلمة:
حرص رب البيت على سلامة أهله من كل أذى:
كل شيء يستخدم في سبيل الله شيء مبارك:
﴿
سيدنا موسى كَلِيمُ الله، كَلَّمه الله عزَّ وجل من وراء حجاب، والحجاب هو الشجرة
العقاب الأليم يوم القيامة هو الحجاب عن الله عزَّ وجل:
لذلك يوم القيامة ينظر أهل الجنة إلى وجه ربهم فيغيبون خمسين ألف عامٍ من نشوة النظرة، وأكبر عقابٍ يُعَاَقبه الكافرون يوم القيامة أنهم عن ربهم محجوبون.
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾
وأعظم مقامٍ في الجنة:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾
قد يتوهم الإنسان أن الجنة طعامٌ وشراب، هي طعامٌ وشراب، وأنهارٌ من لبن ومن عسل، وفيها حورٌ عين، وولدان مخلَّدون، كلّه صحيح، ولكن يجب أن تعلموا علم اليقين أن الجنة في حقيقتها تسمو على ذلك؛ فيها رضوانٌ من الله عزَّ وجل، فيها إقبال الله على قلب الإنسان.
قلت لكم اليوم: العمل المشترك لا يقبله الله عزَّ وجل، والقلب المُشْتَرك لا يُقبل عليه، العمل الذي في إشراك لا يقبلهُ الله عزَّ وجل، والقلب الذي فيه غير الله عزَّ وجل لا يُقبل عليه، فالجنةُ فضلاً على أن فيها من الثمرات والفواكه ما تشتهي الأنفس، وتَلَذُّ الأعين، وفيها من الحور العين، وفيها ولدان مخلدون، وفي الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على وجه الأرض لغلب ضوء وجهها ضوء الشمس والقمر، كلُّ هذا صحيح، وأصحُّ منه أن في الجنة أيضاً رضوانٌ من الله عزَّ وجل.
قد تدخل بيتاً فتجد في البيت كل شيءٍ مريحًا، ولكن أين صاحب البيت؟ أين الترحيب؟ أين الاستقبال؟ أين المؤانسة؟ أين الشعور بأَنَّك أثيرٌ على صاحب هذا البيت؟ إن كلَّ مظاهر الضيافة، وكلَّ الراحة، وكلَّ الطعام الطيِّب، وكلَّ الإكرام ليس بشيءٍ أمام ترحيب صاحب البيت، وإكرامه، وتقريبه، وأن يَخُصَّك بشيءٍ من الودّ، فلذلك العقاب الأليم يوم القيامة هو الحجاب عن الله عزَّ وجل
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ورضوانٌ من الله أكبر هكذا جاء في القرآن الكريم، ورضوانٌ من الله أكبر من كل هذه النعَم التي أعدَّها الله في القرآن الكريم.
هذا النبي العظيم سيدنا موسى من أولي العزم، وهو كليم الله، وما استحق أن يكلِّمه الله عزَّ وجل إلا لشدة حبه لله، وشدة تعلُّقه بما عند الله عزَّ وجل، ولصبره وتحمله كل المشاق في سبيل الله، قلت لكم اليوم أيضاً: إن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في الطائف لاقى من التكذيب، ولاقى من الإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمَّله إلا أن يكون نبياً، ومع ذلك ماذا قال؟ قال: ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، هذا حب، هل بعد هذا الحب من حب؟ هل بعد خوف الجفوة من الحبيب من خوف؟
تفاصيل المناجاة بين موسى وربه:
سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام من أولي العزم، واستحقَّ أن يكلمه الله عزَّ وجل، فهو كليم الله، طبعاً في أماكن أخرى:
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)﴾
في أماكن أخرى من كتاب الله:
﴿
حينما سأله الله عزَّ وجل، اللهُ يعلم كل شيء، فكيف يسأله؟
فليتـــــــك تحلو و الحــــــــياة مــــريرةٌ وليتــــك ترضــــــــى والأنـــام غضـابُ
وليت الذي بينـــــي وبينــــــــك عامرٌ وبـيني وبيـــــــن العالميـــــــــن خــــرابٌ
* * *
فـلو شاهدت عيناك من حسننـــــا الذي رأوه لما وليت عنــــــــــا لغـيرنـــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابــنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــــــــــا
ولو ذقت مـن طعم المحبــــــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــــــــــــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمــــة لمــــت غريباً واشتيـــــــــاقاً لقربنـــــــــــــا
* * *
العبرة من قصة موسى عليه السلام:
هذه القصة لماذا أوردها الله عزَّ وجل؟ لماذا جعلها قرآناً يُتْلى إلى يوم القيامة؟ من أجل أن يكون لنا نصيبٌ من هذه القصة، هل لك مع الله مناجاة؟ هذا العبد المؤمن الذي سمع من دروس العلم أن كلَّ معصيةٍ تسبب حجاباً، وكلَّ معصيةٍ تسبب عقاباً، زلَّت قدمه، ووقع في مخالفةٍ، وقع في جفوةٍ مع الله عزَّ وجل، هو ينتظر العقاب، ينتظر التأديب، ينتظر، ينتظر، مرَّ يومٌ ويومان، وأسبوعٌ وأسبوعان، وليس هناك عقابٌ ولا تأديب، فناجى ربه، وقال: يا ربِّ، لقد عصيتك فلم تعاقبني؟ فوقع في قلبه: أنْ يا عبدي قد عاقَبْتُك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟ أيْ ألك مع الله مناجاة؟
الصلاة مناجاة:
إذا وقفت في الصلاة أتشعر أنك واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل؟ لَوْ يَعْلَمُ المُصَلِّي مَنْ يُنَاجِي مَا انْفَتَلَ ..
الصلاة قربٌ، الصلاةٌ ذكرٌ، الصلاة وعيٌ، الصلاة مناجاةٌ، الصلاة دعاءٌ، الصلاة اتصالٌ، الصلاة نورٌ، الصلاة حبورٌ، لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، الصلاة عمادُ الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.
إذاً هذه المناجاة ألك منها نصيب؟ ألك مع الله ساعةٌ تناجيه؟ ألك مع الله ساعةٌ تدعوه؟ ألك مع الله ساعةٌ تقرأ كتابه فَيَقْشَعِرُّ جلدك؟ ألك مع الله ساعةٌ تناجيه فتبكي؟ أهطلتْ دمعةٌ من خشية الله؟ أتحب الله عزَّ وجل حباً صادقاً صحيحاً؟ ما ذَكَرَ الله لنا هذه المناجاة وهذا اللقاء إلا ليكون لنا منه نصيبٌ يسير على قدْر إيماننا، على قدر استقامتنا، على قدر ورعنا، على قدر إخلاصنا، على قدر معرفتنا، على قدر عملنا الصالح، لا بدَّ من اتصالٍ بالله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى جعل الاتصال به منظماً.
﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾
المعصية حجاب بين العبد وربه:
ما دُمْتَ متلَبِّساً بمعصيةٍ فبينك وبين الله حجاب، سماكة هذا الحجاب بقدر المعصية، كلما ازدادت واقتربت من الكبيرة كان الحجاب ثخيناً، وكلما كانت صغيرة كان الحجاب رقيقاً.
الحجاب قد يَنْسى المرء بعض العلم بالمعصية، إذا غضضت البصر تماماً، وحرَرَّت الدخل تماماً، وضبطت سمعك، وبصرك، ولسانك، ويدك، ورجلك، والتزمت أوامر الشرع تماماً، ووقفت عند حدود الله تماماً فلا بدَّ من أن تشعر أنك من الله قريب، لا بدَّ من أنْ تشعر أنَّ الطريق إلى الله سالك، لا بدَّ من أن تشعر أن الصلة بالله شيءٌ محبَّب، إنَّ أسعد لحظات المؤمن يوم يقف بين يدي الله ليصلي، هذه المناجاة، أنت إذا وقفت مُصلياً فإنك تناجي الله عزَّ وجل، الأنبياء حالاتٌ متفوقةٌ جداً. عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:
(( لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَ اللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّات. ))
جوهر الدين الاتصال بالله عز وجل:
جوهر الدين هذا الاتصال بالله عزَّ وجل، هذا الاتصال يحتاج إلى انضباط، يحتاج إلى أن تضع شهواتك كلها تحت قدمك، يحتاج إلى أن تؤثر الله في كل شيء، يحتاج أن تكون وَقَّافاً عند حدود الله، كي تذوق طعم المناجاة التي ذاقها بشكلٍ فائقٍ جداً هذا النبي الكريم كليم الله.
أحياناً تشعر أن الله عزَّ وجل يحبك، تشعر أن الله راضٍ عنك، تشعر أنك غالٍ عند الله عزَّ وجل، تشعر أنك بأعين الله عزَّ وجل.
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
قد تناجي ربَّك فتقول: يا ربِّ هذا حالي لا يخفى عليك، يا رب هذا جهدٌ مِن مُقِلٍّ. لا بدَّ من مناجاةٍ مع الله عزَّ وجل، إذا كنت محباً لله، إذا كنت مستقيماً على أمره.
وقفةٌ مع قصة موسى عليه السلام:
أقف الآن عند هذه الآية كي نستفيد منها؛ ما شأنُنا في قصةٍ وقعت قبل آلاف السنين؟ الله سبحانه وتعالى ما أراد من هذه القصة أن نأخذ عِلماً أن الله قد ناجى سيدنا موسى، طبعاً ناجاه، أعرفت أم لم تعرف، أصدَّقت أم لم تصدِّق، أأقررت أم لم تقرّ، ولكنَّ الله عزَّ وجل أراد من هذه القصة أن يكون لك نصيبٌ أنت من هذه المناجاة، الله عزَّ وجل هكذا يقول:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
هذه وصفة، اعمل عملاً صالحاً خالصاً لله عزَّ وجل، وإذا شككت أن نفسك تأمُرك، وتوسوس لك أنك غير مخلص فاكتم هذا العمل عن الناس، أنفقْ من مالك، أَعِنْ أخاك المؤمن، قدِّم شيئاً ثميناً تملكه في سبيل الله، ابذل من وقتك الثمين، من خبرتك، من مالك، من علمك، من جاهك، اعبُدِ الله عبادةً متقنةً، ثم انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يتجلى عليك، ثم ذُق طعم القرب.
سألوا امرأةً كانت متهَتِّكَةً، فلما عرفتْ ربها، والتزمت أوامر الله عزَّ وجل، وتحجبت، سألها قريبٌ لها: كيف ضحّيتِ بحريتك وانطلاقاتك بهذا العمل؟ فقالت: لو ذُقتَ من القرب من الله عزَّ وجل الذي ذقتُ أنا لضحَّيتَ بحياتك من أجله:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعـانيها
* * *
إذاً:
ثوبان، هذا المولى لرسول الله عليه رضوان الله رآه النبيُّ مُصْفَرَّ اللون قال: ما بالك يا ثوبان قد تغير لونك؟ قال: والله مالي وجعٌ، ولكنني كلما رأيتُك ارتاحت نفسي، فإذا غبت عني اشتقت إليك، ذكرت الآخرة فعلمت أنك مع النبيين والصديقين، قد لا أكون معك، سكت النبي عليه الصلاة والسلام، فنزل قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ﴾
أين الشوق؟ هؤلاء الأصحاب كان الواحد منهم كألف، عشرة آلاف صحابي فتحوا أطراف الدنيا، والآن ألف مليون مسلم ليست كلمتهم هي العُليا، لأن الحب والإيمان متلازمان، لأن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.
معجزة عصا موسى:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)﴾
من صور اطمئنان قلب النبي عليه الصلاة والسلام حادثة غار ثور:
هذا الكلام ينقُلنا إلى موقف النبي عليه صلاة الله وسلامه في غار ثور، فقد وضع عليه الصلاة والسلام خطةً محكمةً للهجرة، سار مُساحِلاً، وبحث عن خبيرٍ للطريق، واختار ناقةً جيدة، واختار رفيقاً، وعَيَّن شخصاً يمحو الآثار، وشخصاً آخر يَتَّبع الأخبار، وشخصاً ثالثاً يأتي بالزاد، رسم خطةً دقيقةً جداً، غَطَّى كل شيء، أعطى لكل شيءٍ تقديره، ومع ذلك وصل كفار قريش إلى غار ثور، سيدنا الصديق أصابه خوفٌ شديد، قال:
(( يا رسول الله: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا ـ فماذا قال عليه الصلاة والسلام ـ قَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. ))
بعد قليل قال الصحابي الجليل سيدنا الصديق: لقد رأونا يا رسول الله، قال: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا
هنا السؤال: لماذا كان النبي عليه صلوات الله مطمئناً مع أن الخطة كلها انكشفت؟ ما دام كفار قريش وصناديدُهم قد وصلوا إليه، وأصبحوا على مشارف الغار، فخطته لم تنجح، لو أن اعتماده على الخطَّة لأصابه الهلع، ولكنَّ اعتمادَه على الله، أخذ بالأسباب، وتوكَّل على رب الأرباب، وكل واحدٍ منا إذا واجه مشكلةً فأخذ لها الأسباب، واعتمد على الأسباب، ثم جاء الخطر فإن قلبه يكاد ينخلِع خوفاً، أما إذا أخذ بالأسباب، واعتمد على الله عزَّ وجل فإنه يطمئن لوعد الله عزَّ وجل، فسيدنا النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بالأسباب مشرعاً، ولكن الله سبحانه وتعالى طمأنه بأنه آمن، والآية الكريمة التي تُؤَكِّدُ أنه معصومٌ من أن يُقتَل:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
هذه الآية تؤكد عصمته مِن أن يُقتَل، كذلك سيدنا موسى رسولٌ من أُولي العزم، فحياته مصونة،
الحياة الطيبة لمن يؤمن بالله ويعمل صالحاً:
الآن أنتقل من هذه الآية إلى آيات كثيرة في القرآن الكريم، لقد قال الله عزَّ وجل:
﴿
الآن نقول الشاب المتشائم السوداوي المِزاج اليائس ضعيفُ الإيمان بكلام الله، خَالق الكون يعدك بحياةٍ طيبة ثمنها أن تؤمن بالله وتعمل صالحاً، وتخاف بعد ذلك !!
﴿
وأنت مؤمنٌ ورَبِّ الكعبة، تخاف بعد ذلك؟! إذا طمأنتك آيات الكتاب، تخاف بعدها؟! لذلك إذا قرأت هذا القرآن وعرفت أنه كلام خالق الكون لا يدخل إلى قلبك الخوف، لا يحزن قارئ القرآن، لا أحد يدري في قلب المؤمن من الطمأنينة ومن الأمن ما لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، من طمأنه؟ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
إن الله يعطي الصحة والذكاء والجمال والمال للكثيرين من خَلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين، هذا كلامُ خالق الكون، يجب أن تصدِّقَهُ، يجب أن يكون عندك له مصداقية.
لا تخَف إلا من ذنبك:
إذا طمأنك الله في آيات القرآن فيجب أن تطمئن، وإذا خوَّفك في بعض الآيات فيجب أن تخاف، علامة إيمانك أنك تطمئنُّ إذا طمأنك الله عزَّ وجل، وتخاف إذا خوَّفك الله عزَّ وجل، خَفْ ذنبك، قال: يا موسى خف ثلاثاً: خفني، وخف نفسك، وخف من لا يخافُني، خف نفسك أن تعصيني تستحِق التأديب، هذا الذي لا يخافني خف منه، لأنه ليس منضبطا، خفني، وخف نفسك، وخف من لا يخافني، وقد ورد:
القلق والخوف مرض نفسي مدمِّر، المؤمنون بحول الله معافون منه:
﴿
نعمة الأمن:
أيُعقل أن يعاملك الله عزَّ وجل وقد آمنت بالله وعملت الصالحات كما يعامل الذين اجترحوا السيئات؟ أنت منضبط، تحضر مجالس العلم، تصلي، تغضُّ بصرك، تنفق من مالك، ترجو الله، تخاف منه، تتقرب إليه، تعمل الصالحات، أتتوقع أن يعاملك الله عزَّ وجل كما يعامل أهل الدنيا الضائعين، الشاردين، التائهين، العُصاة، الفُسَّاق، الفُجَّار؟ إنك مستثنى:
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)﴾
﴿ الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))
نعمة الأمن خاصةٌ بالمؤمنين، أما أهل الدنيا فقد يأخذون كل شيء، ولكن نعمة الأمن لا يعرفونها، لأنهم أشركوا ألقى الله في قلبهم الخوف والفزع والقلق.
الآية الثانية من آيات الله إلى فرعون:
الآية الثانية:
تفسيرات قوله تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ:
معجزة نبينا باقيةٌ إلى يوم القيامة أما معجزة موسى فانتهت وأصبحت خبراً:
الأفعى واليد البيضاء..
موسى عليه السلام يتذكّر قتلَه القبطي وخوفه من انتقام فرعون منه:
سيدنا موسى قال:
﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)﴾
أيْ هذا الذي فعله السحرة لا شيء أمام الآية التي معك، لذلك عصا موسى حينما ألقاها أكلت كلَّ حبالهم وعصيهم، فإذا هي تلقف ما يأفكون، إذاً:
تعليقٌ آخر:
حرصُ موسى عليه السلام على الدعوة:
لا بد للدعوة من الحجة والسلطان:
﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)﴾
منتهى عظمة الله عزَّ وجل أنه يدفع الخطر الكبير بشيءٍ صغير:
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا
لابد من الابتلاء لامتحان إيمان الناس:
ربنا أحياناً يؤخِّر النصر ليسمع ما تقول؟ أحياناً ربنا عزَّ وجل يرسل شبح مصيبةٍ، المؤمن القوي يصبر، قال ربنا عز وجل:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
لكن هناك أشخاص ضعاف الإيمان إذا لاح شبح المصيبة يتزلزل إيمانهم، قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
أحياناً الإنسان يقوم بتحليلٍ فتكون النتيجة مرضاً خطيراً، ماذا يقول في نفسه؟ يكون التحليل خطأ، الله امتحنه، لاح له شبح مصيبة، ماذا يقول في نفسه؟ أيُنْكِرَ وجود الله عزَّ وجل؟ أيُنْكِرَ رحمته؟ أيُنْكِرَ عدالته؟ أينكر حكمته؟ الله عزَّ وجل يمتحنك، أنت في امتحان دائم، إذا كنت بطلاً، إذا جاءت الأمور على غير ما تشتهي فقل: الحمد لله على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا جاءت الأمور وَفْقَ ما تريد فقل: الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، هذا شأن المؤمن، والمؤمن مُبتلى، سُئل الإمام الشافعي: "أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تُمَكَّن قبل أن تُبْتَلى"، لا بدَّ من أن تبتلى ليمتحن الله إيمانك، ليمتحن الله صدقك، ليمتحن الله ثقتك به، ليمتحن الله اعتمادك عليه، ليمتحن الله علمك، ليمتحن الله معرفَتَك، ليمتحن الله صبرك، ليمتحن الله حسن ظنّك به، هناك ابتلاء، هناك امتحان، فقال أصحاب موسى:
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
أحياناً يتصور الإنسان أنَّه على أرض، وهناك بحر، قد تخرج موجةٌ فتأخذه إلى البحر، هذه المصيبة، كلما كان في الأعماق أصبح في مَنجاةٍ عن أن يتزلزل، أما إذا كان على حرف فسريعاً ما ينهار.
﴿
لا تكن ممن يسيرون على الحرف، كن بالأعماق، والحياة تحتاج إلى بطولة، تحتاج إلى صبر، إلى جَلَد، والابتلاء لا بدَّ منه.
العاقبة للمتقين:
﴿
﴿
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) ﴾
﴿
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
أي كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، يكفي أن تكون العاقبة لك. أهل الدنيا لما رأوا قارون قالوا:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾
ذكاءُ الأغبياء:
﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)﴾
العلماء قالوا: لمَ بدأ ربنا عزَّ وجل بالآخرة كان الأَوْلى أن يقول: نكال الأولى والآخرة؟ قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
أيُّهما أشد كفراً؟ المقولة الثانية، فبدأ الله بها.
تحدي فرعون للذات الإلهية:
بعضهم قال: ابنِ لي مرصداً أرصد الكواكب، أخذاً من قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لعلي أرى النجوم فتنبئني إن كان هناك إلهٌ كما يدَّعى موسى، أم هو من الكاذبين، تفكيرٌ سخيف، صغير جداً.
المستكبر لا يقبل الحقَّ أبداً:
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
مِن سننِ الله مع الظالمين الاستدراج ثم القصمُ:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
فربنا عزَّ وجل قال له:
﴿
كل واحدٍ من بني البشر سوف يؤمن عند الموت، ولكن بعد فوات الأوان، البطولة أن تؤمن في الوقت المناسب، لذلك ربنا عزَّ وجل نجاه ببدنه لأنه لشدة استكباره لا يصدِّق أحدٌ أنه غرق.
﴿
وأغلب الظن أن المومياء التي في مصر هي فرعون موسى، هذه إلى الآن موجودة، وقد أُخِذت إلى فرنسا لبعض الترميمات، أكرر وأقول: أغلب الظن إن هذه المومياء هي فرعون موسى، لقوله تعالى:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
والحمد لله رب العالمين