وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة القصص - تفسير الآيتان 76 - 77 الارتباط والاتصال بين آيات القرآن الكريم لأنه كتاب هدايةٍ وإرشاد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 

 

تنظيم آيات القرآن تنظيمٌ نفسي لأنه كتاب هدايةٍ وإرشاد:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من سورة القصص.

وصلنا في الدرس الماضي في سورة القصص إلى قصة قارون، والحقيقة أن بين آيات القرآن الكريم اتصالاً، وبين آيات القرآن الكريم ارتباطاً، وبين آيات القرآن الكريم تسلسلاً، هناك اتصال وهناك ارتباط وهناك تسلسل.

قد يسأل سائل: لمَ لا تكون آيات الإخباريات في فصل، والكونيات في فصل، والقصص في فصل، وما شاكل ذلك؟ لِمَ لا يُفْرَزُ القرآن فرزاً موضوعياً إن صَحَّ التعبير؟ الحقيقة هذا القرآن كتاب هدايةٍ ورشاد، وربنا سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير، يأتيك بآيةٍ كونية تنبهر لها، يأتيك بخبرٍ من التاريخ تتَّعِظُ به، يأتيك بقصةٍ تتأثر بها، فمن خبرٍ إلى قصةٍ إلى آيةٍ إلى مشهدٍ إلى إنذارٍ إلى بشارةٍ، تنوُّع الموضوعات يسير مع النفس البشرية، لذلك تنظيم آيات القرآن تنظيمٌ نفسي، لأنه في الأصل كتاب هدايةٍ وإرشاد.

 

من عرف الله وسار على منهجه فقد أحبه الله عز وجل:


لذلك جاءت قصة قارون، ولكن ما علاقتها بالسورة؟ لها ارتباطان بالسورة؛ الارتباط الأول هو أن الله سبحانه وتعالى في مطلع السورة حدَّثنا عن فرعون، وفرعون يُمَثِّل القوة، القوة الآمرة الناهية أنها إذا طغت وبغت كيف أن مصيرها هو الهلاك، القوة الثانية التي تأخذ بالأبصار قوة المال يمَثِّلها قارون، فقوة الملك والسلطان يمثلها فرعون، وقوة المال والعلم يمثلها قارون، قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ إذاً: قد يُعْطي الله الملك لمن لا يحبه، وقد يعطيه لمن يحبه، سيدنا سليمان آتاه الله الملك، قد يُعطي المال لمن لا يحبه؛ قارون، وقد يعطي المال لمن يحبه؛ سيدنا ابن عوف، سيدنا عثمان، صحابةٌ كرام أجلاء أعطاهم الله المال، إذا كان المال يُعطى لمن يحب ولمن لا يحب، والقوة تعطى لمن يحب ولمن لا يحب، إذاً لا علاقة لها بالحب والبُغْض، مادامت القوة تعطى لمن يحب الله عزّ وجل ولمن لا يحب، أعطاها لسليمان وهو يحبه، نبيٌّ كريم، وأعطاها لفرعون وهو لا يحبه، والمال أعطاه لقارون وهو لا يحبه، وأعطاه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يحبه، إذا كان الشيء يُعْطى أو لا يعطى، إذاً لا علاقة له بالحب والبغض، لذلك: إذا كان أحد الناس قد آتاه الله المال فلا يذهَبَنَّ به الظن إلى أن هذا المال الذي آتاه الله عزّ وجل دليل حبّ الله له، لا.. هذا استنباط غلط، استنباط غير صحيح والأدلة قطعية، وإذا جعل الله الإنسان قوياً لا يذهَبَنَّ به الظن إلى أن الله يحبه، قد يحبه وقد لا يحبه، يحب الله عبده إذا عبده، ويبغضه إذا عصاه، هذا هو المقياس، حبّ الله وبغضه هو في الطاعة والمعصية، لذلك سُئِلَ الإمام الجنيد: "من ولي الله؟ أهو الذي يطير في الهواء؟ قال: لا، قال: أهو الذي يمشي على وجه الماء؟ قال: لا، قال: الولي كل الولي الذي تجده عند الأمر والنهي"، أن يجدك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، هذه أول علاقة.

فرعون انتهت قصته بالغرق، وقارون انتهت قصته بالخَسْفِ، إذا كان الله عزّ وجل يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، ويعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب، ما الشيء الذي لا يعطيه إلا لمن يحب؟ ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ إذا عرفت الله عزّ وجل، وعرفت منهجه، وعرفت الطريق الصحيح، وعرفت لماذا أنت في الدنيا، وعرفت سرَّ وجودك، وعرفت مهمَّتك في الدنيا، وسِرْتَ في الطريق الصحيح، وجاءت حركتك اليومية مطابقةً لهدفك في الحياة فأنت ممن يحبهم الله عزّ وجل، لأن نعمة الإيمان لا تعدِلُها نعمة، إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين. 

 

من عاش مع النبي ولم يَسِرْ على منهجه فهذا لا ينفعه شيء:


القصة: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ هو من قوم موسى، وموسى نبيٌّ كريم، نبيٌّ من أُولي العزم، وقيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه على صلةٍ معه شديدة: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ ، إذاً: هناك استنباطٌ دقيق هو أن الإنسان لو عاش مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يَسِرْ على منهجه فهذا لا ينفعه شيء:

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)﴾

[ سورة المسد ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

عن عبد الله بن مسعود :

(( نضَّرَ اللهُ رجلًا سمعَ منا كلمةً فبلَّغَها كما سَمِعَ فرُبَّ مُبلغٍ أَوعى مِنْ سامعٍ. ))

[ الجورقاني: الأباطيل والمناكير: حكم المحدث: صحيح ]

هكذا قال عليه الصلاة والسلام.

 

الغنى من دون علمٍ بالله يحمل صاحبه على الفجور والعدوان:


﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ كان منهم: ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾. . معنى بغى عليهم أي خرج عن منهجهم، خرج عن طريقتهم، خرج عن جادَّة الصواب، بغى بمعنى طغى، بمعنى أخذ ما ليس له، بمعنى اعتدى، بمعنى تجاوز، بمعنى انحرف ﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ .

قد يسأل سائل: لماذا بغى عليهم؟ هنا المشكلة، المشكلة هي الغنى، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من الغنى المُطْغي. 

هناك شيء خطير جداً وهو الغنى المُطْغِي، ما الغنى المُطْغِي؟ إذا نما مالُك بأسرع مما ينمو إيمانك يَخْتَلُّ التوازن، المال كثير، والمغريات كثيرة، أين أسهر هذا اليوم؟ معي مالٌ وفير، هذا المال إذا نما ولم يُنْم معه الإيمان بالسرعة نفسها فإن خطر اختلال التوازن، والطغيان، والفسق، والغرور، والانحراف جاثم، خطر قائم، فربنا سبحانه وتعالى كأنَّه في هذه القصة أشار إلى الغنى المُطْغِي، كيف أن الغنى من دون علمٍ بالله عزّ وجل يحمل صاحبه على الفجور، والفسق، والعدوان، وأن يفعل كل شيء.

 

الله تعالى هو من يعطي وبيده كل شيء:


﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ .. ليس عنده كنزٌ واحد، كنوز، والكنز يُعَبَّر به عن المال الوفير، وكلكم يعلم أن كل مالٍ مهما كَبُر إذا دُفِعت زكاته فليس بكنز، هكذا قال عليه الصلاة والسلام، وأن كل مالٍ مهما قلّ إذا لم تُدفع زكاته فهو كنز، والكنز كما تعلمون:

﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)﴾

[  سورة التوبة  ]

﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ ، كلمة: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ ، أي أن هذا الكنز لم يُحَصِّله بذكائه، ولا بعلمه، ولا بخبرته، ولا بإمكاناته كما يزعمون، الإنسان إذا قال: أنا هذا حَصَّلته بخبرتي، أو بعلمي، أو بتدبيري، أو بقوَّتي، أو بجاهي، أو بسُلطاني، أو بسهري الليل الطويل، أو بكدي وتعبي، أو بعرق جبيني، هذه كلُّها كلمات الشرك، ماذا قال الله عزّ وجل؟ قال: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ ، إذاً زعمه باطل: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ الله عزّ وجل يعطي ويمنع، يرفع ويخفِض، يبْسِط ويقبض، يُعِز ويُذِل.

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ﴾ معنى ناء بالحمل أي حمله بتعبٍ شديد، حملَهُ وقد انحنى ظهره، حمله وكاد لا يستطيع، ناء بالحمل أي ثَقُلَ عليه الحمل،. أو انحنى ظهره من ثقل الحمل، مفاتيح كنوزه، مفاتيح خزائنه، مفاتيح صناديقه التي يودع فيها المال، لو أن عصبةً، والعصبة كما تعلمون من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: من عشرة إلى عشرين، وقيل: أربعون، على كل أصَحُّ الأقوال أن القرآن الكريم وصف إخوة يوسف بأنهم عصبة، والعصبة عشرة أو تسعة، وما شاكل ذلك، إذاً: عشرة رجالٍ أَشِدَّاء، أقوياء، مَفْتولو العضلات، لو أرادوا أن يحملوا مفاتيح كنوزه لكان هذا الحِمْلُ عليهم ثقيلاً، فكم هي كنوزه؟ يروى أن بعض أغنياء اليهود واسمه روتشيلد كان يضع سبائك الذهب في غرفةٍ كبيرة، وكثيراً ما اقترضت منه الحكومة، دخل مرةً إلى غرفة سبائكه الذهبية فأُغْلِقُ عليه الباب خطأً، والباب لا يفتح إلا من الخارج، بقي أياماً، وكان لكثرة أسفاره وتَنَقُّلاته اعتاد أهله أنه يغيب فجأةً، ينتقل من بلد إلى بلد، فظنوه مسافراً، إلى أن ألوى به الجوع فجرح أصبعه، وكتب على جدار هذه الغرفة: "أغنى رجل في العالم يموت جوعاً"، لذلك الذي يظُنُّ أن المال هو كل شيء هو في ضلالٍ كبير، تمُرُّ الأيام والسنون فإذا بريق المال يضعف، يكتشف الرجل حقيقةً ولكن بعد فوات الأوان؛ أن المال ليس كل شيء، ولكنه شيء، إنه شيء وليس كل شيء، ولكن إذا جاء ملَك الموت يكتشف الرجل أن المال ليس بشيء إطلاقاً، إذاً: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾ مفاتحه جمع مَفْتَح، والمفتح هو المفتاح، مفتاح، مفاتيح، مَفْتَح، مَفاتِح: ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ ، رجال أشداء، أقوياء.. 

 

الفرح الحقيقي هو شعور المؤمن بأن الله راض عنه:


﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ﴾ .. هنا موطن الشاهد، يا أخي الكريم ما الذي يُفْرِحُك؟ ما الذي يملأ قلبك سروراً وغبطةً؟ ما الذي يجعلك تطيرُ فرحاً؟ ما الذي يجعلك في انبساط؟ أهو المال؟ إذاً أنت من أهل الدنيا، أهي معرفة الله عزّ وجل؟ إذاً أنت من أهل الآخرة، قال بعض العلماء: "انظر ما الذي يفرحك؛ أن تأخذ أم أن تعطي؟ إذا كان الذي يفرحك أن تأخذ فأنت من أهل الدنيا، أما إذا كان فرحك بأن تعطي فأنت من أهل الآخرة"، هذا مقياس دقيق جداً: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ﴾ لا تفرح بهذا المال، لأنه ورد: "هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء- الرخاء مؤَقَّت، والشقاء مؤَقَّت - قد جعلها الله دار بلوى، ليست دار استقرار، ليست دار مقام، ليست مَحَطَّ الرحال، ليست نهاية الآمال، إنها ممر وليست مقراً -  قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عُقْبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي"، إذاً لا تفرح، ربنا عزّ وجل قال:

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾

[ سورة يونس ]

المؤمن يفرح برضوان الله، أي إذا شعرت أن الله يحِبُّك، وأن الله راضٍ عنك حُقَّ لك أن تفرح، إذا اصطلحت مع الله حُقَّ لك أن تفرح، إذا أزلت هذه المعصية حُقَّ لك أن تفرح، إذا قدر الله على يديك عملاً صالحاً حُقَّ لك أن تفرح، إذا هديت إنساناً إلى طاعة الله حُقَّ لك أن تفرح، وهذا هو الفرح الحقيقي، إذا فهمت آيةً من كتاب الله حُقّ لك أن تفرح، إذا فهمت سنة النبي حُقَّ لك أن تفرح، إذا وقفت على دقائق سيرة النبي حُقَّ لك أن تفرح، أما إذا كان فرحك بالمال فهذا الذي يفرح بالمال.. طبعاً المعدوم إذا جاءه المال ليقيم به أوده هذا فرح طبيعي، أما بعد أن يقضي الإنسان كل حاجاته، فإذا كان همه الأول أن يُكَدِّس الأموال، وأن يجمعها فهو من زمرة قارون، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه يُحْشَر مع قارون، أي هذه القصة قصة أصحاب الأموال ممن هم بعيدون عن الله عزّ وجل.

لا تقل لي: هذا الرجل غني إذا كان مؤمناً، هذا مؤمن فقط، لا يضاف على الإيمان كلمة واحدة، لأنَّك إذا رأيت غنياً مؤمناً فإنك تشتهي الغنى منه؛ من تواضعه، من سخائه، من حُبِّه للناس، من رأفته بهم، من إنفاق ماله عليهم، لا تقل لي: غني مؤمن، قل لي: مؤمن فقط، كلمة مؤمن غني لا معنى لها، مؤمن أي متواضع، يعرف الله عزّ وجل، فإذا تحدثنا عن الغنى فالغنى الذي هو مرافق للبعد عن الله عزّ وجل، ورد: "إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ، وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ" ، الغني غير المؤمن يُشِعِرُكَ بالحرمان، يشعرك أنك لا قيمة لك، قيمتك عنده بقدر ما تملك من مال، ولهذا قال سيدنا عمر: <<من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط، ومن جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، شرف المؤمن قيامُه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس، ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، وابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير >> .  

 

الله تعالى خلق الإنسان للآخرة فعليه ألا يفرح بالدنيا:


﴿قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ .. طبعاً هذا الفرح المُقَيد بالمال، إن الله عزّ وجل لا يحبك أن تفرح بالدنيا لأنها زائلة، خلقك للآخرة، خلقك لعطاءٍ كبير، فإذا فرحت بهذا النزرِ اليسير فأنت لا تعلم شيئاً، ربنا عزّ وجل يقول: 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾

[ سورة التوبة  ]

لذلك: قل لي ماذا يُفْرحك أقل لك من أنت. راقب نفسك تماماً ما الذي يملأ قلبك فرحاً؟ أن يكون الله راضياً عنك أم أن يكون جيبك ملآن؟ ما الذي يفرحك هذه الأوراق المُكَدَّسة في خزانتك أم هذه الأعمال الصالحة المُسَجَّلة في صحيفتك؟ ما الذي يفرحك؟ يفرحك أن تكون سبباً في هداية مخلوق أم أن تكون سبباً في حرمان أُناسٍ كثيرين؟ خلصتهم الصفقة، ما الذي يفرحك؟ ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ .

 

كلّ شيءٍ آتاه الله إياه للإنسان إنما آتاه إيَّاه لهدفٍ واحد هو أن يستثمره:


ولكن الآن جاء الشيء الخطير جداً، لماذا يعطي الله المال للإنسان؟ لماذا يعطيه الصحة؟ لماذا يعطيه العلم؟ لماذا يعطيه الخبرة؟ لماذا يعطيه قوة الإقناع؟ لماذا يعطيه الجاه؟ لماذا يعطيه القوة والسلطان؟ إذا آتى الله الإنسان شيئاً لماذا يؤتيه إيَّاه؟ هنا جاء الجواب: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ ، أي كلّ شيءٍ آتاك الله إياه إنما آتاك إيَّاه لهدفٍ واحد هو  أن تستثمره، لا أن تستهلكه، هذا درسنا كله، إن آتاك الله مالاً فعليك أن تستثمره في العمل الصالح، في معونة الضعفاء، في إطعام الجِياع، في إيواء المُشَرَّدين، في تزويج الشباب، في تأمين حاجات الضعاف والمساكين، وهكذا، سيدنا أبو ذر الغفاري قال: << حبذا المال أصون به عرضي، وأتَقَرَّب به إلى ربي>>

المال قوة كبيرة جداً، أن تكون ذا مالٍ وفير، وبإمكانك أن تدخل إلى قلوب الآلاف من الناس، هذا بإقراضه، وهذا بالإحسان إليه، وهذا بمعونته، هذا يأتي معك إلى المسجد، وهذا يتوب على يديك، وهذا يُقْبِلُ معك على الله عزّ وجل، وهذا تأخذ بيده عن طريق المال: "يا داود ذَكِّر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جُبِلَتْ على حُبِّ من أحسن إليها، وبُغْضِ من أساء إليها" . قد تُلَبِّي حاجة إنسانٍ فتفيده بهذه الحاجة أضعاف ما تفيده بمحاضراتك الفَصيحة والبليغة، الإنسان عبد الإحسان، وأصحاب الأموال والله الذي لا إله إلا هو أمامهم أبوابٌ للعمل الصالح لا يعلمها إلا الله، أمامهم أبوابٌ مفتحةٌ على مصاريعِها للعمل الصالح لا يعلمها إلا الله.. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ .. الآية عامة، مطلقة، آتاك الله علماً فابتغِ به الدار الآخرة، آتاك الله شأناً فانصر به الضعفاء، وابتغ به الدار الآخرة، آتاك الله قوة إقناع، ولساناً طليقاً فانصر به المظلومين، وابتغ به الدار الآخرة، آتاك الله قوةً فابتغِ بها الدار الآخرة، آتاك الله خبرةً فابتغ بها الدار الآخرة، آتاك الله علماً فابتغ به الدار الآخرة: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أي أنت الذي معك إما أن تستثمره، وهذا هو العقل، وإما أن تستهلكه. مثلاً  لو معك عشر ليرات، كل ليرة يمكن أن تجلب لك مليوناً بطريقة معينة، فذهبت، واشتريت بهذه الليرات طعاماً وأكلته، هذه خسارة كبيرة جداً، هذه الورقات العشرة يمكن أن تجلب لك عشرة ملايين بطريقةٍ أو بأُخرى، أنت استهلكتها ولم تستثمرها، فالمال ينبغي أن تستثمره في إنفاقه في سبيل الله، أما إذا أنفقته على التَرَفِ، والسرَفِ، والرفاهية، والانغماس في الملَذَّات فقد استهلكته، هذا إذا كان الأمر مباحاً، أي لا يوجد معاصٍ، إذا أنفته في المباحات فقد استهلكته، أما إذا أنفقته في الأعمال الصالحة فقد استثمرته.

 

العمل الصالح هو هدف الإنسان في الدنيا:


﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ .. معظم الناس يفهمون هذه الآية على غير ما أراد الله، إذا دَخَلْتَ إلى بيتٍ، ورأيت صاحبه قد عُنِيَ به عناية كبيرة، أخي الله عزّ وجل قال: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، وإذا انغمس الإنسان في الطعام والشراب وبعض المَلَذَّات يقول لك: الله عزّ وجل قال: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ مع أن هذه الآية من أَدَقِّ الآيات، أي يا أيها الإنسان أنت لماذا جئت إلى الدنيا؟ من أجل العمل الصالح، نصيبك من الدنيا هو العمل الصالح، كل شيءٍ آخر لا قيمة له، لأنه زائل، أرسلنا طالباً إلى دولة أجنبية له مهمةٌ واحدة، أن يدرس، لو أنه أمضى هذا الوقت في المتنزَّهات، والأماكن اللطيفة، واللقاءات، والسهرات، والندوات، وبعض الملاهي، والحفلات، والحدائق، وفي النوم، والراحة، والاستجمام، والسباحة، والرياضة، ماذا يفعل هو؟ يعمل شيئاً خلاف مُهِمَّته، خلاف نصيبه من هذا البلد، نصيبه من هذه البلدة أن يأتي بشهادةٍ عُليا، نصيبه من هذه البلدة أن يحمل دكتوراه، فأية حركةٍ، أي نشاطٍ، أي تصرفٍ، أي سلوكٍ لا يتصل بمهمته فهو مضيعةٌ وخسارةٌ وحمق: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أيها الإنسان، كما قال الله عزّ وجل: "عبدي خلقتُ لك السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحَقِّي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك، عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة، ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرِّية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أُبالي، وكنت عندي مذموماً، أنت تريد وأنا أريد فإذا سَلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تُريد ثم لا يكون إلا ما أريد" ، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ هذا الذي قُلْتُه صباحاً في الخطبة: "يا بِشر، لا صدقة ولا جهاد، فبمَ تلقى الله إذاً"؟

والله الذي لا إله إلا هو ما من سؤالٍ أَخْطَرُ من هذا السؤال، بمَ ألقى الله عزّ وجل؟ ما العمل الذي هَيَّأته للقبر؟ لساعة الفِراق؟:

﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)﴾

[  سورة القيامة  ]

هؤلاء المساكين يأخذون هذه الشهادات ليفتخروا بها، أو ليكسبوا بها المال فقط، لا.. أنت تَعَلَّمت علماً ينبغي أن توَظِّف هذا العلم للدعوة إلى الله عزَّ وجل، أنت أصبحت طبيباً يجب أن تستغل طِبَّك في هداية الخلق، والإحسان إليهم، أصبحت تاجراً يجب أن تبذل هذا المال في تقوية معنوِيَّات المؤمنين، وإشعارهم أنَّهم في رعاية الأغنياء وحفظهم، لا، هم منبوذون، لا أحد يرعاهم.

 

على الإنسان أن يبتغي الدار الآخرة في كل أعماله:


يا أيها الإخوة الأكارم، هذه الآية تكفي، والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله غيرها لكفت ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ شهاداتك، زواجك، ابتغِ به الدار الآخرة، هذه الزوجة ابتغ بهذا الزواج الدار الآخرة، بيتك اجعله بيت ذكرٍ وقرآنٍ ودعوة إلى الله عزَّ وجل، هذه غرفة الضيوف يجب أن تشهد لك يوم القيامة كم من سهرةٍ فيها ذُكِرَ الله ! أم كم من سهرةٍ لُعِبَ فيها الشطرنج، أم بالنرد، أم بالحفلات، بالمزاح، بالغيبة؟ غرفة الضيوف ابتغِ بها الدار الآخرة، غرفة الجلوس ابتغِ بها الدار الآخرة، غرفة الطعام ادعُ الفقراء والمساكين على أطيب الطعام، شَرُّ الطعام طعام الولائم، لأن الأغنياء يُدْعَون إلى هذا الطعام والفقراء محرمون، ابتغ بهذه الغرفة غرفة الطعام الدار الآخرة، ابتغ بهذه المركبة الدار الآخرة، انتقل بها إلى المسجد، اجعلها في خدمة أهل الحق، ليركب معك المؤمنون أصحاب البيوت البعيدة، وَظِّف هذه المركبة في خدمة أهل الإيمان، ابتغِ بها الدار الآخرة، هذا الثوب الجديد الذي اشتريته ابتغ به الدار الآخرة، انو به أن تكون ذا مظهرٍ حسن مقبول عند الناس، أنت مؤمن تُمَثِّل هذا الدين العظيم، كُنْ بهيئةٍ حسنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: عن  سهل ابن الحنظلية الأنصاري:

(( إنَّكم قادمونَ غدًا على إخوانِكم؛ فأصلِحوا رِحالَكم، وأصلِحوا لِباسَكم؛ حتَّى تكونوا كالشَّامَةِ في الناسِ؛ فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفُحْشَ ولا التَّفحُّشَ. ))

[  ابن حجر العسقلاني : الأمالي المطلقة: خلاصة حكم المحدث : حسن ]

ابتغِ بهذا البيت الدار الآخرة، إذا اشتريت كتباً فابتغ بها الدار الآخرة، اقرأها، وافهمها، وادع إلى الله بها، ابتغ بها الدار الآخرة، هذه آيتنا اليوم، هذه آية هذا الدرس ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ شعار المؤمن: إلهي، أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، لذلك المؤمن حتى إذا تَزَوَّج، إذا سافر، حتى إذا جلس مع أهله وأولاده، حتى إذا لبس الجديد، وأكل الثريد، كله أعمال صالحة، لأنه لا يبتغي بهذا إلا الله والدار الآخرة، لا تبتغِ  الدنيا، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾..

 

العاقل من جاء إلى الدنيا وغادرها وقد عرف مهمته فيها:


آه ! أن تأتي إلى الدنيا، وأن تغادرها، ولا تعلم لماذا أنت في الدنيا؟ إذا نظرت إلى ميتٍ في نَعْشِهِ، وضع النعش على القبر، رُفِعَ الغطاء، حُمِلَ هذا الميت في كفنه، وأدخل في القبر، سؤال خطير: هذا المَيِّت هل جاء إلى الدنيا وغادرها وقد عَرَفَ لماذا هو في الدنيا؟ وهو في زحمة كسب المال جاءته أزمةٌ فأودت به، وهو في زحمة رحلاته الممتعة جاءه مرضٌ عضال فأنهى حياته، وهو في زحمة خصوماته مع الناس، دعاوى في قصر العدل لها ثماني سنوات، جاء ملك الموت فأنهى الدعوى، شطبت، توفى المُدَّعي، هكذا المؤمن؟ يجب أن تأتي إلى الدنيا، وأن تغادرها، وقد عرفت مهمتك. 

النبي الكريم مثل أعلى، جاء للدنيا وغادرها، ماذا ترك؟ ترك الهدى، ترك الفضيلة، ترك السعادة، ترك الأنوار التي أشرقت حتى الصين، قد تذهب إلى أقصى البلاد، إلى أقصى آسيا فترى مئذنةً يُذْكَر الله فيها، ترى مسجداً، ترى مؤمناً في أذربيجان، في أقصى الشمال، وأقصى الجنوب، وأقصى الشرق، وأقصى الغرب، هذا ما فعله النبي، فماذا فعلت أنت؟

بشكل آخر، ماذا تركت في الدنيا من أعمالٍ صالحة؟ هل كنت أباً مثالياً؟ أيَّتُها المؤمنة هل أنتِ أمٌّ مِثاليَّة؟ وهل أنتِ أمٌ صالحة؟ ورد: "أيُّما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة"، قعدتِ على بيت أولادك؟ اعتنيت بهم؟ أطعمتهم؟ نَظَّفتهم؟ هكذا..


الله عزَّ وجل أحسن إلينا بنعمة الإيجاد والإمداد والإرشاد: 


﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ .. ما هو نصيبك من الدنيا؟ قال: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ ..

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾

[ سورة الإنسان  ]

الله عزَّ وجل أحسن إلينا بنعمة الإيجاد، كل واحد منا سنة 1900، لم يكن أحد منا موجوداً، لم يكن له اسم بالسجلات، من أنت فلان الفلاني ألف وتسعمئة؟ ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد؛ جعلك من أبوين يعطفان عليك، يقدِّمان لك كل شيء، ربياك حتى كَبُرْت، نعمة الإمداد، الهواء، والماء، والطعام، والشراب، والفواكه، والمأوى، والفِراش الوثير، والماء الوفير، وما شاكل ذلك، ثم أنعم الله عليك بنعمة الإرشاد، إذاً: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الإرشاد.

 

أنواع الفساد: 


﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ .. هنا آيةٌ دقيقةٌ جداً، هذا الغني إذا أراد أن يَغْرَقَ في الترف، إذا أراد أن يجعل من بيته قبلَة الأنظار، أن يجعل من أنماط حياته الراقية مساراً للإعجاب، ماذا يفعل؟ يُفْسِد وهو لا يدري، لماذا؟ لأنه يخلق شعور الحرمان عند الناس، يخلق فيهم الحسد، البغضاء، الحرمان، لذلك الفقراء إذا رأوا الغني قد أَلَمَّت به المُلِمَّات لماذا يفرحون؟ لما عندهم من حسد وبغض، أما إذا كان هذا الغني متواضعاً، وكان معتدلاً في طعامه وشرابه وبيته، من دون إسرافٍ ولا مخيلةٍ،، لذلك المبالغة في الترف، المبالغة في الزينة تخلق في قلوب الناس الحسد والضغينة والإحساس بالحرمان، هذا هو الفساد، هذا أول أنواع الفساد، لم يفعل شيئاً، لطيف المعشر، رقيق الحاشية، متواضع، أغرق نفسه في نعيمٍ لا نهاية له، فكُلَّما رأى فقيرٌ هذا البذخ، وهذا الترف، وهذا الإنفاق، وهذا  الطعام، وما شاكل ذلك شعر بالحرمان، وشعر الصغار، وشعر بالانكماش، وإذا كان غير مؤمنٍ شعر بالحقد، وشعر الحسد، وشعر الضغينة، هذا هو أول أنواع الفساد، أول أنواع الفساد حينما يبالغ الغني في زينته، يبالغ في عرض ما عنده، حينما يغْرَق في النعيم، في الترف، في الملذَّات، إن في طعامه، وشرابه، ورحلاته، ونزهاته، وثيابه، ويعرضها على الناس، ويذكر لهم مصدرها، هذه أجنبية، وسعرها، وأنواعها، وكم بذلة عنده بالخزانة، فإذا فعل الغني هذا أفسد وهو لا يشعر، هذا أول أنواع الفساد. 

النوع الثاني: أن يحرم أصحاب الحقوق حقوقهم، هذا فساد آخر.  

النوع الثالث: أن يأخذ ما ليس له ، وهذا أصعب، إيقاع الإحساس بالحرمان فساد، منع الحقوق فساد، غَصْبِ الأموال فساد، ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ، في الأثر: إن الأغنياء يحشرون أربع فرقٍ يوم القيامة، فريقٍ جمع المال من حرام، وأنفقه في حرام فيقال: خذوه إلى النار، قضية سهلة جداً، يُحاسب بلمح البصر، وفريقٍ جمع المال من حلال، تجارة مشروعة، وأنفقه في حرام، على ملذَّاته، ولياليه الحمراء، وموائده الخضراء، وسهراته المخملية كما يقولون، فيقال: خذوه إلى النار، حسابه كذلك سريع، وفريقٍ جمع المال من حرام، عنده ملهى أو مقْمَرة، وأنفقه في حلال، تزوج، واشترى بيتاً، وأكل، وشرب، فيقال: خذوه إلى النار، أيضاً حسابه سريع، وفريق جمع المال من حلال، وأنفقه في حلال، قال: هذا الذي يحاسب، قال: قفوه فاسألوه، هل تاهَ بماله على عباد الله؟ هل قَصَّر في حق جيرانه؟ هل قال من حوله: يا رب قد أغنيته بين أظهرنا فقَصَّر في حقنا؟ هكذا يروي النبي عليه الصلاة والسلام، أنه وقف ينتظر حسابه رآه طويلاً جداً، سؤال وراء سؤال، قائمة أسئلة،  فقال عليه الصلاة والسلام: فما زال يُسأل ويسأل، هذا الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال.

أنا أريد أن أقول لكم: ليس الغني الشاكر بأقلّ أجراً من الفقير الصابر، ولكن الغنى مسؤولية، يحتاج إلى إيمان لكي يكون متواضعاً، لأنه ورد: "أحب الطائعين، وحبِّي للشاب الطائع أشد، أحب الكرماء، وحبي للفقير الكريم أشد، أحب المتواضعين، وحبي للغني المتواضع أشد، وأبغض ثلاثاً، وبغضي لثلاثٍ أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد، أبغض المتكبِّرين، وبغضي للفقير المتكبِّر أشد، أبغض البخلاء، وبغضي للغني البخيل أشد" .


  الإحسان مبتَغى كل مؤمن والإساءة هدفُ كل كافر:


إذاً: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ ، مهمتك معرفة الله، معرفة أمره، استقامتك على أمره، الأعمال الصالحة التي تقرِّب إليه، أن تكون مع أهل الحق، ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ .. بل إن نصيبك من الدنيا يُلَخَّص بهذه الآية ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ جوهر عملك الإحسان.. الأنبياء العظام جاؤوا إلى الدنيا فأعطوا ولم يأخذوا، الأشرار أخذوا ولم يعطوا، أنت ماذا أعطيت؟ ماذا قدَّمت للمسلمين؟ ماذا قدمت لأمتك؟ لأبناء بلدك؟ ماذا فعلت؟ ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ ، باللغة الحديثة استراتيجية المؤمن الإحسان، واستراتيجية الكافر الإساءة والأخذ، والمؤمن العطاء والإحسان ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ كم معنى؟ ثلاثة؛ أول معنى: إذا بالغت في إظهار ما عندك للناس، وافتخرت به، وجمعت الناس، وأطلعتهم على ما عندك، وأثمان ما عندك، وكيف أمضيت العطلة، وأين سافرت؟ وماذا أنفقت؟ وفي أي فندق نزلت؟... إلخ، هذا ماذا يفعل في نفوس المؤمنين؟ الإحساس بالحرمان، والإحساس الضيق، وفي نفوس غير المؤمنين؟ الضغينة والحسد والبغضاء والحقد، هذا أول نوع من الفساد. 

ومن الفساد أن تمنع حقوق الآخرين، هو يرضى منك بهذا المعاش القليل وأنت في بحبوحة كبيرة، يرضى، لكن هذا المبلغ لا يكفيه، أعطه ما يكفيه، ولك عند الله الأجر والثواب، إذاً: حرمان الآخرين من الحقوق هذا فساد، وأن تأخذ ما ليس لك أيضاً فساد، ففي إلقاء بذور الحسد والحقد إفساد، وفي حرمان أصحاب الحقوق إفساد، وفي العدوان على أصحاب الحقوق إفساد ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي يجب أن تسعى أن يحبك الله عزَّ وجل، يحب المحسنين، يحب الصادقين، يحبّ التوَّابين، يحبّ المؤمنين، لا يحب المفسدين، لا يحبّ الفاسقين، لا يحبّ الكافرين، لا يحبّ الظالمين، الآية دقيقة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ ، ماذا قال قارون؟ هذا ما يكون في الدرس القادم، أجابهم قال: لا، ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ بذكائي، وخبراتي، وسهري الطويل، وسَعْيي، وإمكاناتي، لا، هذا من جهدي، وأنا حر بمالي، هذا الموضوع إن شاء الله نبحثه في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور