وضع داكن
27-12-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة القصص - تفسير الآيات 71 - 75 معرفة الله سبيلٌ من سُبل الاتباع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

ردٌّ أخير وبيانٌ لطريق الله تعالى:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة القصص.

آية اليوم: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) ﴾ .. الحقيقة هذه الآيات الثلاثة ردٌ أخير، وبيانٌ خطير للطريق إلى الله عزَّ وجل، فهؤلاء الذين قالوا: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ردَّ الله عليهم ردوداً كثيرة.

 

معرفة الله سبيلٌ من سُبل الاتباع:


ولكن كيف السبيل لئلا تقول:  ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ؟

قد يقول قائل:  أنا إن استقمت على أمر الله تتوقف تجارتي، ما السبيل الذي إذا اتبعته لا تقول هذا الكلام؟ إذا عرفت الله عزَّ وجل لا تقول هذا الكلام، فإذا لم تعرفه تقول:  يا أخي إذا آمنت، إذا استقمت، إذا تركت هذه الطريقة في التعامل، إذا لم أفعل هذه المعصية أموت من الجوع، هذا لسان حال معظم الناس الجهلة، فما السبيل إلى أن تؤمن بالله الإيمان الكافي حتى لا تقول هذا الكلام؟ قلت لكم قبل أسابيع عدة: لمجرَّد أن تتوهَّم أن المعصية تنفعك، والطاعة تضرك، إسلامك، وإيمانك، وصلاتك، وصومك، وحجُّك، وزكاتك لا قيمة لها عند الله إطلاقاً، لأنك ما عرفت الله أبداً، خالق الكون إذا أمرك بأمر إن أطعته تخسر، وإن عصيته تربح ! أنت لا تعرف الله عزَّ وجل، فلذلك ربنا عزَّ وجل رسم الطريق الذي إذا اتبعته عرفت عظمة الخالق، فإذا عرفت عظمة الخالق رأيت أن الخير كل الخير في طاعته، وأن الشرَّ كله في معصيته، قضية رؤية إذاً، إذا كنت ترى أن طاعته مَغرم، وأن معصيته مغنم فالطريق طويل أمامك، أنت تحتاج إلى عملٍ كبير، إلى جهدٍ جهيد، أما إذا وصلت إلى أن الخير كلَّه في طاعة الله، وأن الشر كله في معصية الله، فقد وصلت إلى أول الطريق، فمن أجل أن تصل إلى أول الطريق، من أجل أن تضع يدك على جوهر الدين، من أجل قدمك في الطريق الصحيح، اسْلك هذا السبيل.. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ .

 

ضرورة معرفة الآمر قبل الأمر:


أنتم لماذا تستخفُّون بأمر الله؟ لأنكم لا تعرفون الله، هذا الخطاب موجه لأهل الدنيا، هؤلاء الذين قالوا: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ﴾ ، لماذا استخفّوا بالهدى؟ لماذا رأوا أن الهدى مغرم وأن الضلال مغنم؟ لماذا رأوا في طاعة الله خسارة وفي معصيته ربحٌ كبير؟ هذه حال معظم الناس، إن لم يبع بهذه الطريقة يخسر، إن لم يفعل بهذا المطعم ما هو شائعٌ يخسر، إن لم يبع هذه الألبسة يخسر، وإن لم يجامل، إن لم يدار، إن لم يداهن يخسر، حياته كلُّها مصالح، وحياته كلّها أهداف خسيسة، أما المؤمن فحياته كلها مبادئ، حياته كلها قِيَم نابعة من هذا الكتاب، فلذلك كأن الله سبحانه وتعالى قال: يا عبادي، لئلا تقولوا هذا الكلام، لئلا تقولوا: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ، لئلا تتوهموا أن المعصية مغنمٌ، وأن الطاعة مغرمٌ، لئلا تروا أن أمر الله لا قيمة له، لئلا تكونوا كهؤلاء اسلكوا هذا السبيل، ما هو السبيل؟ يجب أن تعرف الآمر قبل الأمر، كلمة موجزة، ولكنها بليغة، يجب أن تعرف الآمر قبل الأمر، إذا عرفت الأمر قبل الآمر قد تستخفُّ به، قد لا تأخذ به، قد تحتال عليه، من هنا تظهر الحِيَلُ الشرعية، كل الحيل الشرعية أساسها أن هذا الإنسان ما عرف الله، وضع زكاة ماله في رغيف خبزٍ، وقدَّمها للفقير، ثم قال له:  هَبْني هذا الرغيف، وهذه مئة ليرة، أعطاه الصغير هذا الرغيف وفيه خمسة آلاف ليرة، هذه حيلةٌ شرعية تعني أَنَّك لا تعرف الله عزَّ وجل. 

 

أصلُ الدين معرفةُ الله:


فيا أيها الإخوة الأكارم؛ أصل الدين معرفة الله، إن عرفت الله عرفت عظمته، عرفت أنَّه الخالق، وأَّنه لا عبادة إلا للخالق..  

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾

[ سورة البقرة ]

عرفت أنه المُرَبِّي، رب العالمين، عرفت أنه المُسَيِّر، عرفت أسماءه الحُسْنى، عرفت صفاته الفُضْلى، عرفته المعرفة التي تدفعك إلى طاعته. 

 

المعصيةُ دليلٌ على جهلِ العاصي بربِّه:


يا أيها الإخوة الأكارم؛ حقيقة خطيرة، إذا كنت مقيماً على معصية الله فأنت لا تعرف الله، هذه حقيقةٌ مُرَّة يجب أن تتقبَّلها، لأن الحقيقة المرة خيرٌ من الوهم المُريح، فقد تتوهم أنك مؤمن، لكنك لمجرد أن تعصي الله، من أجل أن تُرضي زيداً أو عبيداً فأنت لا ترضي الله عزَّ وجل، أو معرفتك بالله بحجمٍ لا يحملك على طاعته، معرفة ساذجة، أو معرفة غير مبنية عن بحث ودرس، معرفة تلقيتها ممن علمك فيما مضى من دون أن تتحقق، من دون أن تتبنى هذه المعرفة، فلذلك من أجل ألا ترى في معصية الله مغنماً، ومن أجل ألا ترى في طاعته مَغْرَماً، من أجل ألا تقول كما قال هؤلاء: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ .. من أجل أن تَضَعَ يدك على جوهر الدين، من أجل أن تكون من الفائزين اسْلُك هذا الطريق في معرفة الله.

 

من منهج التفكّرِ التفكّرُ في الشيء وفي خلاف ما هو عليه:


هذا الطريق أساسه التفكير في الشيء، وبخلاف ما هو عليه، هذا منهج، يمكن أن تُفَكِّر في أن هاتين العينين لو أنهما عينٌ واحدة ما الذي يحصل؟ الذي يحصل أنك لا ترى إلا بُعدين، طولاً وعرضاً، أما البعد الثالث فلا تُمَيِّزه، أنت بعينٍ واحدة لا تستطيع أن تضع الخيط في ثقب الإبرة، بعين واحدة تظن أنه دخل، وبين الخيط وبين ثقب الإبرة عشرة سنتمتر، لكن بالعينين يتضح البعد الثالث. إذاً:  لو فكَّرت في العين، لو أن العينين عين واحدة، لو أن هذه العين ليس فيها إلا عُصَيّات، ليس فيها مخاريط، لرأيت الأشياء بلونين أبيض وأسود فقط، لو أن هذه العُصيات أو المخاريط ليست مئة وثلاثين مليوناً، عشرة ملايين، لرأيت الصورة ضبابيةً، لو أن هذا العصب البصري لم يكن على ما هو عليه، لو لم يكن في الدماغ مركزٌ للإبصار، لو لم يكن في الأذن مركزٌ للسمع وقنواتٌ دائرية للتوازن، أي كلما رأيت شيئاً من خلق الله، لو فكرت أن هذا الشيء بخلاف ما هو عليه لعرفت قيمة هذا الشيء، فربنا عزَّ وجل لفت نظرنا إلى آية واحدة قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ .. الليل سرمد، الأرض لو أنها واقفة لا تدور، وهذه هي الشمس، نصف الكرة نهارٌ إلى الأبد، ونصفها الآخر المقابل لكرة الشمس ليلٌ إلى الأبد ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً ﴾ ، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ إذا كان الليل سرمداً فمعنى ذلك أن الحرارة مئتان وخمسون تحت الصفر، الحياة منعدمة، في الوجه المُضيء لأن الحرارة ثلاثمئة وخمسون فوق الصفر فالحياة منعدمة، نحن في الدرجة الخمسين لا نتحمَّل، يقال لك:  شيء لا يُطاق، الأرض تدور، لو أنها توقَّفت عن الدوران لأصبح النهار سرمداً والليل سرمداً، مَن الذي أمَرها أن تدور؟ الله سبحانه وتعالى، من الذي أعطاها هذه السرعة المناسبة؟ لو أنها دارت كل ساعةٍ دورة، معنى هذا نصف ساعة ليل، ونصف ساعة نهار، فلا النهار صار معاشاً، ولا الليل صار لباساً، لو كانت الدورة كل السنة مرة، ستة أشهرٍ بأكملها ليل، ننام ونقوم، ننام ونقوم، والليل مخيمٌ علينا، وستة أشهرٍ نهار. إذاً:  المشكلة أن هذا الفكر إذا انطلق من جموده، وتأمَّل في خَلق الله عزَّ وجل لخرَّ ساجداً لله. 

أولاً: الأرض تدور، مَن جعلها تدور؟ الله سبحانه وتعالى، من دورتها حول نفسها جعل الليل والنهار، لو توقَّفت عن الدوران لأصبح النهار سرمداً، والليل سرمداً إلى يوم القيامة، ولأصبحت الأرض في ليلها السَرْمَدِي قبراً جليدياً، ولأصبحت الأرض في نهارها السرمدي جحيماً أبدياً، وانتهى الأمر، من جعل هذه الأرض تدور؟ دورتها بسرعة نصف كيلو متر في الثانية بالضبط، أي النقطة على خط الاستواء تدور أربعين ألف كيلو متر في أربع وعشرين ساعة، قَسِّم أربعين ألف كيلو متر على أربع وعشرين ساعة، النتيجة ألف وستمئة كيلو متر في الساعة، طبعاً الطائرات التجارية سرعتها تسعمئة كيلو متر، والحديثة تسعمئة إلى ألف، الأرض تدور بسرعة ألف وستمئة كيلو متر بالساعة، قسِّم على الدقيقة والثانية، تدور نصف كيلو متر في الثانية تدور، أولاً تدور ومَن أعطاها هذه السرعة؟ وهذا من عظمة الله عزَّ وجل. 

الإنسان يعمل ثماني ساعات، يأتي إلى البيت يأكل ويجلس مع أهله ساعتين أو ثلاثاً، فتغيب الشمس، فيصبح مرتاحاً، ولكن تصوَّر النهار ستة أشهر، أو النهار سنة والليل سنة، أو تصور أن النهار ساعة والليل ساعة، هذه أول حقيقة.

الله عزَّ وجل أمرنا أن نُفَكِّر، هذه الأرض من صممها بهذا الحجم؟ أنت وزنك على الأرض ستون كيلوًا، لو انطلقت إلى القمر لكان وزنك عشرة كيلو بالضبط، الحركة صعبة جداً على القمر، لا وزن لك، خفيف، لو أنك على كوكبٍ حجمه كبير لكان وزنك ثمانية أطنان، حركتك كتحريك صخرة، إذاً  ربنا عزَّ وجل جعل حجم الأرض مناسباً، وجعلها تدور من أجل أن يكون الليل والنهار، وجعلها تدور بهذه السرعة المناسبة، هذه أول دورة. 

 

دوَرات الأرض:

 

1 ـ دورة الأرض حول نفسها:

كل الناس يعتقدون أن للأرض دروتين فقط، دورةٌ حول نفسها ودورةٌ حول الشمس، مع أن للأرض حتى الآن اثنتي عشرة دورة، اخترت لكم من هذه الدورات ست دورات، لأن الست الأُخَر لا يمكن أن تشرح هنا إلا على سبورة، وعلى وسائل إيضاح، الدورة الأولى حول نفسها.   

2 ـ دورتها حول الشمس:

الدورة الثانية حول الشمس، سرعة الأرض حول الشمس ثلاثون كيلو متراً في الثانية، فإذا كان الدرس ساعة، ثلاثون كيلو متراً ضرب ستين ضرب ستين، فنقطع في درسٍ كهذا الدرس مئات الألوف من الكيلومترات. 

﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾  

[  سورة النمل  ]

هذه حول الشمس، ولكن حول الشمس عندنا مشكلة أن مسار الأرض حول الشمس ليس مساراً دائرياً، بل هو مسار إهليلَجي أي شكل بيضوي، في الشكل البيضوي عندنا قطر أصغر وقطر أكبر، والمعلوم عندكم الجاذبية تقول: إن الأرض إذا اقتربت من الشمس جذبتها الشمس، فلو أن الأرض سارت بسرعةٍ ثابتة حول الشمس، وجاء المكان الذي يضيق فيه المِحور، وتقلّ مسافته لابدَّ من أن الشمس تجذبها، لأن قانون الجاذبية أساسه الكتلة مع المسافة، جداء الكتلة مع مربع المسافة، إذاً يجب أن تزيد الأرض من سرعتها في النقطة الحرجة، وقد تنشأ من هذه الزيادة قوة نابذة تُكافئ القوة الجاذبة، ويجب أن تزيد هذه السرعة بشكلٍ تدريجي، لأنها لو زادتها بشكلٍ مفاجئ لانهدم كل شيءٍ على الأرض، لو أن السرعة زادت فجأةً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، كل ما على الأرض يصبح قاعاً صفصفاً، إذاً الله حكيم، رفع السرعة لئلا تنجذب الأرض إلى الشمس، ولكن هذه السرعة التي ارتفعت ارتفعت تدريجياً وهذا ما يُسَمَّى بالتسارع وبالتباطؤ، أن تزداد السرعة شيئاً فشيئاً بنظامٍ دقيق، فكّر، وأنت على هذه الأرض فكِّر في الذي صممها، بحجمها، وبشكلها، وبحركتها وحول نفسها، وبحركتها حول الشمس، وبازدياد سرعتها، وبأن تكون هذه الزيادة بلطفٍ شديد، سرعة الأرض حول الشمس ثلاثون كيلو متراً في الثانية، تدور الأرض دورةً حول الشمس بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً ومئتين وستة وخمسين جزءاً من ألف، لذلك عندنا سنة كبيسة، كل أربع سنوات عندنا شباط تسعة وعشرون يوماً، لأن الأرض تدور حول الشمس بثلاثمئة وخمسة وستين يوماً وربعاً، أربعة أرباع تساوي يوماً بكامله، أما الأرض وهي بحجمٍ كبيرٍ فتدور حول نفسها بثلاث وعشرين ساعة وست وخمسين دقيقة وأربع ثوان وخمسة وتسعين جزءًا من ألف من الثانية، وهذا الرقم دقيق جداً لا يزيد ولا يقلّ، هذه يد الله عزَّ وجل..

﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾

[ سورة الزمر ]

هذه هي الحركة الثانية، حركتها حول الشمس.  

3 ـ حركة الأرض مع الشمس في درب التبانة:

الآن ربنا عزَّ وجل قال:  الأرض تدور حول نفسها حركة، وحول الشمس حركة، والشمس تجري لمستقر لها:  

﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)﴾

[  سورة يس ]

إذاً:  الأرض حول نفسها، وحول الشمس، والشمس ماشية إذاً لها حركة ثالثة، قال: حركة الشمس مئتان وأربعون كيلو متراً في الثانية، نصف كيلو في الثانية حول نفسها، وثلاثون كيلومتراً في الثانية حول الشمس، مئتان وأربعون كيلومتراً في الثانية حركتها مع الشمس في درب التَبَّانة، وهذه الحركة الثالثة.  

4 ـ دورة المحور حول نفسه كل خمسة وعشرين ألفاً وثمانمئة سنة دورة:

الحركة الرابعة؛ قال: هذه الأرض تدور حول محورٍ وهمي، هذا المحور إما أن يكون قائماً على مستوي الدوران، وإما أن يكون مائلاً، وإما أن يكون موازياً لمستوي الدوران، الأرض تدور هكذا حول الشمس، فهذه الأرض إما أن محورها عمودي على مستوي الدوران زاوية قائمة، وإما أن محورها موازٍ لمستوي الدوران، وإما أنَّ محورها مائل، شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يكون محور الأرض مائلاً، تصوَّر محوراً هكذا، عمودياً على مستوي الدوران والشمس من هنا، هنا صيفٌ سرمدي، وهنا ربيعٌ سرمدي، وهنا شتاءٌ سرمدي، معنى هذا الآية أوسع من ذلك. قل أرأيتم إن كان الصيف سرمداً إلى يوم القيامة؟ قل أرأيتم إن كان الشتاء سرمداً إلى يوم القيامة؟ قل أرأيتم إن كان الخريف سرمداً إلى يوم القيامة؟ إذا طال الشتاء على الإنسان تضجر نفسه، يشتاق للصيف، يطول الصيف عليه تشتاق نفسه إلى الشتاء، هذا التبدُّل من صيفٍ إلى خريفٍ إلى شتاءٍ إلى ربيع، هذا شيء مُسعد، منعش، فلو أن المحور عمودي على مستوي الدوران والشمس من هنا، فأشعة الشمس عمودية في هذا المكان، أي في خط الاستواء، إذاً:  صيفٌ سرمدي، مائلة في هذا المكان ربيعٌ سرمدي،  أشدّ ميلاً في هذا المكان شتاءٌ سرمدي، فقط لأن محور الدوران هكذا، ولو كانت الأرض تدور هكذا، والشمس من هنا فلا يوجد ليل ونهار، بل نهار سرمدي وليل سرمدي، الأرض تدور، إذا توقفت عن الدوران صار ليل سرمدي، ونهار سرمدي، الآن لو دارت ومحورها أفقي لصار النهار سرمدياً والليل سرمدياً ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ هذه الحركة، هذا المحور المائل من ميزته أنه مادام مائلاً فإن أشعة الشمس تأتي إلى هنا إلى أسفل الكرة الأرضية عمودية، هنا يكون صيف، وتأتي إلى شمالها أي أعلاها مائلة إذاً:  هنا شتاء، حينما تصبح الأرض هكذا بعدما تمشي نصف دورة تأتي الشمس عمودية على القسم الشمالي فيصير الصيف، مائلة على القسم الجنوبي فيصير الشتاء، إذاً:  لأن المحور مائل صار عندنا  صيف، وشتاء، وربيع، وخريف، صار هناك نبات، النبات يحتاج إلى برودة، وإلى طور بارد، طور معتدل، طور حار حتى تنضج الفواكه، فأساس النبات تَبَدُّل درجات الحرارة، دورة نباتية، إذاً لو اعتقدت أن هذا المحور عمودي لا يوجد فصول، أفقي يصبح الليل سرمدياً والنهار سرمدياً، ولا يوجد فصول، الله جعله مائلاً، لكن هذا الميل، هذا المحور المائل يدور حول نفسه دورة كل خمسة وعشرين ألف سنة مرة، لذلك في كتب الإغريق نجم الشمال ليس نجم القطب، بل النسر الواقع، الآن نجم القطب، لكن بعد كذا ألف سنة يعود النسر الواقع نجم الشمال لا نجم القطب، لأن محور الأرض المائل يدور حول نفسه بشكل مخروط كل خمسة وعشرين ألف سنة دورة، هذه الدورة الرابعة، فمرةً يكون نجم القطب نجم الشمال كما هي الحال الآن، وبعد آلاف السنين، وقبل آلاف السنين كان النَسر الواقع هو نجم الشمال، إذاً: عندنا حركة رابعة للأرض، دورة المحور حول نفسه كل خمسة وعشرين ألف وثمانمئة سنة دورة، ونحن لا ندري. 

5 ـ دورة المحور حول نفسه كل أربعين ألف سنة مرة:

هذا المحور يميل عن العمود المتعامد مع مستوي الدوران يميل اثنتين وعشرين درجة، يزداد هذا الميل إلى ثلاثٍ وثلاثين درجة، ويعود إلى اثنتين وعشرين درجة، الميل من ثلاث وثلاثين إلى اثنتين وعشرين درجة، هذه حركة خامسة، هذه الحركة كل أربعين ألف سنة مرة، الحركة الرابعة كل خمسة وعشرين ألف وثمانمئة سنة مرة، دورة المحور حول نفسه شَكَّل مخروطاً، أما الحركة الخامسة فالمحور نفسه انحرافه يزداد ثلاثاً وثلاثين درجة، ويقلّ اثنتين وعشرين درجة، من ثلاث وثلاثين إلى اثنتين وعشرين ألف سنة يكون أربعون ألف سنة وأنتم لا تدرون. 

لكن بعض علماء الجُغْرافيا فسَّروا انتقال خطوط المطر، تغير الطقس مثلاً:  من دمشق إلى بغداد كان الطريق كلُّه أشجاراً والآن صحراء، ماذا قال النبي الكريم؟ هناك عالِم بريطاني أسلم لأنه اطَّلع على حديثٍ لرسول الله، هذا الحديث لا يمكن أن يكون من عنده إلا من خالق البشر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:   

(( لا السَّاعَةُ حتَّى يَكْثُرَ المالُ ويَفِيضَ، حتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بزَكاةِ مالِهِ فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُها منه، وحتَّى تَعُودَ أرْضُ العَرَبِ مُرُوجًا وأَنْهارًا. ))

[ صحيح مسلم ]

كان هناك عصور مطيرة، عصور خصب، عصور الألف ميليمتر في العام، كان الربع الخالي كله أشجاراً، كل الربع الخالي كان غابات وأنهاراً وبحيرات، يؤَكِّد هذا أن مدناً بأكملها مطمورةً تحت الرمال في الربع الخالي في الجزيرة العربية، إذاً كان أراض غَنَّاء كلها بساتين، أنهار، ينابيع، أشجار، مدن، قرى، بادية الشام كانت كلُّها أشجاراً، تدمر كانت في قلب الغابات، الآن صحراء، إذاً: هذه الحركات أربعون ألف سنة حركة محور، خمسة وعشرون ألف سنة حركة، هذه تفسِّر انتقال خطوط المطر، وتبدُّل الطقس في العالم، وتغير الخصب، والنماء، والتصحر، وما إلى ذلك، فالنبي ماذا قال؟ قال: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا...)) أي كانت، والمستحثات في الجزيرة العربية تؤكد ذلك، هذا العالِم البريطاني أسلم لأنه اطلع على هذا الحديث الشريف: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا..)) .

عندنا شيء آخر؛ الأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلجي، وكل مسار إهليلجي له مركزان، الدائرة لها مركز واحد، أما الإهليلجي فله مركزان، أنت لو أتيت بمسمارين، وثَبَّتهما على سطح، وأحضرت خيطاً عقدته فأصبح دائرياً، وجئت بقلم رصاص فشددت الخيط وأدَرْتَه فيظهر معك شكل بيضوي، والسبب لأن هناك مركزين للدائرة، مركز قريب ومركز بعيد، فمركز دورة الأرض حول الشمس ينتقل من مركز أعظمي إلى مركز أصغري بمدة قدرها تسعين ألف سنة، فأصبح عندنا خمسة وعشرون ألف سنة دورة، وأربعون ألف دورة، وتسعون ألف سنة تَبَدُّل مركز فلَك الأرض. 

6 ـ  دورة مستوى الدوران كل مئة وعشرة آلاف سنة مرة:

هناك دورة سادسة، الأرض تدور حول الشمس في مستوي، السطح الذي يمر منه خط دورانها اسمه: مستوي الدوران، الأرض تدور حول الشمس هكذا، الأرض هنا والشمس هنا، قال: هذا المستوي يدور حول نفسه هكذا في مدةٍ قدرها مئة وعشرة آلاف سنة، دورة الأرض حول نفسها، ودورة الأرض حول الشمس، ودورتها مع الشمس مئتان وأربعون كيلو متراً في الثانية، ودورة محور الأرض خمسة وعشرون وثمانمئة ألف سنة الدورة الواحدة، وتبدُّل محور الأرض من زاويةٍ دنيا اثنتان وعشرون إلى ثلاث وثلاثين كل أربعين ألف سنة مرة، وتبدُّل مركز الأرض كل تسعين ألف سنة مرة، ودورة مستوى الدوران كل مئة وعشرة آلاف سنة مرة، وهناك ست دورات أُخرى يصعب شرحها في هذا المكان، يلزمها سبورة، وأفلام، ومجَسَّمات، اثنتا عشرة دورة تدور الأرض:  ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ .

 

الله عز وجل خالق عظيم علينا ألا نعصيه:


أهذا الإله العظيم يُعْصى؟ ماذا قال سيدنا بلال؟ قال:  << لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر على من اجترأت>>. أهذا الإله العظيم يُعصى أمره؟ لا تُرْجَى جَنَّته؟ لا تُخشى ناره؟ أهذا الإله العظيم الذي خَلق هذا الكون كُلَّه من أجلك لن يسألك عن شيء؟

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[  سورة القيامة ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[  سورة الحجر ]

يا أخي الكريم، اعرف الله أولاً، وطَبِّق أمره ثانياً، أما إذا عرفت الأمر قبل أن تعرف الآمر فإنك ستستخف بالأمر، تحتال عليه، لا تأخذ به، هكذا.

 

ضرورة التفكر في:

 

1 ـ اليد:

إذاً:  هذا منهج في التفكير، لو أن الإنسان بلا هذا المفصل كيف يأكل؟ كالهرة تماماً؛ صحن على الأرض، ينبطح، يلحس بلسانه، إذا لم يكن له مفصل، فإذا أكل الإنسان رأى الحركة مناسبة، وقد وصلت اليد إلى الفم، وفيها أصابع، وكل إصبع فيها ثلاث سلاميات، وإبهام، أَلْغِ الإبهام وانظر، أبإمكانك أن تعمل عملاً واحداً بلا إبهام؟ أن تكتب رسالة؟ أن تخيط ثوباً؟ أن تغلق سيارة؟ أن تفتح باباً؟ أن ترتدي الثياب بلا إبهام فقط؟ فكر هكذا، الرسغ.. مفصل دائري، وهذا المفصل الدائري معقد جداً، مفصل أُنْسي، مفصل وَحْشي.  

2 ـ العنق:

العنق دائرة شبه كاملة تقريباً: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ ولو كان عنق الإنسان ثابتاً مع جذعه، وناداه أحد الناس يجب أن يدور بأكمله مئة وثمانين درجة، طلبه شخص آخر  فدار دورة ثانية، بينما جعله الله لطيفاً، ينظر هكذا، ويدير وجهه هكذا، الحركة سهلة، وهذا منهج للتفكير: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً﴾

3 ـ المفاصل:

لو ألغى لك مفصل الرقبة، لو ألغى لك الفكين، لو ألغى لك الأسنان، لو ألغى لك اللسان، لو ألغى لك الشم، لو كان الأنف في مكان آخر، لو كان بالاتجاه الأعلى،  فتحتان نحو الأعلى مثلاً، والطعام نحو الأسفل، هكذا التفكير، هذا خلق الله: 

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾

[  سورة التين  ]

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)﴾

[ سورة الانفطار ]  

4 ـ قنوات التوازن في الأذن:

لو لم يكن قنوات توازن، في الأذن الوسطى ثلاث قنوات فيهما سائل، وبجدار القنوات أشعار حسَّاسة كثيراً، فلو مال الإنسان قليلاً فإن السائل يحافظ على أفقية سطحه، فيلامس الأشعار التي على اليمين، فيتنبه الإنسان، ملت يصحح وضْعَه على الفور، لو لم توجد الأشعار الحساسة يجب أن يكون له قاعدة استناد بعرض سبعين سنتيمترا حتى يظل واقفاً، والدليل:  أن الميت لا يقف، من يستطيع أن يوقف ميتاً؟ مستحيل، لأن جهاز التوازن تعطل، فيقع على الفور، أما الإنسان فالله جعل له قدمين لطيفين، فلو لم يوجد جهاز التوازن يجب أن تكون قدمه بعرض سبعين سنتيمتراً، إذا سار الإنسان على الطين، وحمل حذاءه وبه كيلوان من الطين يرى أن المشي أشغال شاقة، فكيف لو كانت قدمه خمسة وعشرين كيلواً ومتخذَة شكلاً هرمياً حتى يقف؟ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ ولو ألغى ربنا عزّ وجل جهاز التوازن فهنا تصبح الحياة جحيماً، لو ألغى لك المفاصل الحياة جحيم. 

5 ـ العين والأذن:

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾

[  سورة البلد  ]

لو جعلها عيناً واحدة ترى بُعدين فقط، لم يعد هناك بعد ثالث. 

أذن واحدة، لو كان الإنسان يملك أذناً واحدة فتطلق السيارة بوقها فتندفع إليها، أما من خلال وجود أذنين فإن الصوت يدخل إلى الأذنين، السيارة على اليمين، فيصل الصوت من الأذن اليمنى إلى مركز الإحساس في الأذن قبل الأذن اليسرى بواحد على ألف وستمئة وخمسة وعشرين جزءًا من الثانية، فعرف الإنسان أن السيارة عن يمينه، فانطلق نحو اليسار، هذا شيء بسيط جداً، إنه جهاز بالغ التعقيد في الدماغ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، والتفاضل هو واحد من ألف وستمئة وخمسة وعشرين جزءاً من الثانية، بهذا التفاضل يعرف الإنسان جهة الصوت، لو كان له أذن واحدة يسمع الأصوات بلا جهات، لذلك قد يندفع إلى مكان الخطر: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ قس عليها، ألم نجعل له أذنين؟ لكن جعل لك لساناً واحداً لأن اثنين صعب، لسان واحد، أنف واحد، أما عينان وأذنان، هذا منهج التفكير، الشيء وخلاف ما هو عليه.

 

الله تعالى بيده كل شيء:


﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ .. معنى سرمداً أي دائماً..﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ .. أي هل هناك جهة في الأرض تعقد اجتماعاً على مستوى رفيع وتتخذ قراراً بإحداث الليل؟ مهما ارتفع مستوى أقوى دولة في العالم، نخبة القادة في العالم لو اجتمعوا وقرروا أن يصنعوا ليلاً، أي ليل هذا؟ ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾   لو أن الأمة الإنسانية مجتمعةً لا تستطيع: ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) ﴾ .

 

الليل سَكَنٌ وراحة والنهار ابتغاء رزق وعمل صالح:


﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ لو جعل لكم الليل والنهار معاً، هذا أسلوب في البلاغة اسمه اللَّف والنشر، كيف اللَّف والنشر؟ أن تأتي بشيئين أو أكثر، وتعيد على كل منهما بالترتيب على كل كلمة شيء، فربنا عزّ وجل قال:﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ الليل.. ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ .. النهار.. فالنهار معاش للسعي، والليل للسكن، لكن الحضارة الحديثة جعلت الآية معكوسة، فأصبح ليل الناس نهاراً ونهارهم ليلاً، وهذا يُسيء إلى صحتهم، لأن ساعة نومٍ في أوَّل الليل لا تعدلها ثلاث ساعات في آخر الليل، هذه الكهرباء، وهذه أجهزة اللهو التي فيها ما لا يُرْضي الله عزّ وجل يمضي الناس وقتهم الطويل وراءها إلى ساعةٍ متأخرة من الليل، ساعات الرحمة، ساعات التجَلِّي، ساعات الصلاة، ساعات الذكر، ساعات تلاوة القرآن، ساعات الأنوار، الدعاء، التَهَجُّد، الناس نيام. كنت البارحة في المسجد في صلاة الفجر، فرأيت سبعة يصلون فقط، والمسجد في حي مكْتَظ، فقلت:  سبحان الله ! كل هذه الأبنية، كل بناء فيه خمسة أو ستة طوابق، كل طابق فيه شقتان أو ثلاث، سبعة أشخاص أو ثمانية، الآن اعمل جولة في مساجد دمشق صباحاً تر قليلاً جداً، صفاً ونصفاً أكثر شيء، ورَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  عن أبي هريرة رضي الله عنه : 

(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. ))

[ صحيح البخاري ]

ولكن أصبح ليلُ الناس نهاراً، ونهارهم ليلاً، وتصميم ربنا غير هذا، التصميم: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ في الليل سكن وراحة.. ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ .. الابتغاء من فضل الله إما بالعمل بكسب الرزق، وإما بكسب العمل الصالح، أنت في النهار تدعو إلى الله، تأمر بالمعروف، تنهى عن المنكر، تتصدَّق، ترعى اليتيم، ترعى الأرملة، تُعِين أخاك، أو أن تكتسب مالاً تكفي نفسك وأهلك وأولادك، تنفق منه في طاعة الله، إذاً:  ربنا عزّ وجل صمم الليل للسكن والراحة والنوم، وصمم النهار للعمل الصالح.

 

الأمر التكويني والأمر التكليفي:


﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ .. في هذه الآية إشارة إلى الأمر التكويني، وإشارة إلى الأمر التكليفي، فالله كَوَّن الأرض ليلاً ونهاراً، الليل للسكن، والنهار للعمل، ولكنَّه أمرك أن تشكره لهذه الآيات الدَّالة على عظمته.. فيا أيها الإخوة الأكارم؛ على الإنسان أن يفكر في هذه الآيات التي لا تعدُّ ولا تحصى، والتي أحاطنا الله بها، لقوله تعالى: 

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾

[  سورة الذاريات ]

 

الحق لله فقط:


﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ .. هؤلاء الذين زعمتم أنَّهم آلهة، أو أعطيتموهم صفات الآلهة، في الماضي قالوا: هذا ودُّ إلهٌ، إله الشمس، إلهُ القمر، إله المطر، إله الخير، إله الشر، هكذا كان الإغريق، الشعوب التي في آسيا وفي إفريقيا الوثنية تَدَّعي أن هذا الشيء إله، وفي بلاد المسلمين أحياناً الإنسان يدَّعي أن زيداً إله، لا يقول: هو إله، يقول:  يؤذيني، ينفعني، يرفعني، يخفضني، يعطيني، يحرمني، فمعنى هذا أنك عملته إله، فإما أن تدَّعي أن هذا الشيء إله، وإما أن تُسْبِغَ على إنسانٍ ما صفات الإله؛ بالعطاء، والمنع، والضرِّ، والنفع، وما إلى ذلك، فربنا عزّ وجل يوم القيامة يقول: ﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ .. هذا شهيد الأعمال، اقرأ كتابك، شهيد على أعمالنا: ﴿فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ لماذا فعلتم كذا وكذا؟ ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ﴾ .. لا لهذه الجهة، ولا لتلك الجهة، ربنا عزّ وجل قال: 

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)﴾

[ سورة النور ]

ولكنها عُلوية، الحق عُلوي، لا يوجد حق شرقي، وحق غربي، الحق عُلوي.

 

قارون مثَلٌ بشري في القرآن على الطغيان:


 ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ .. كلُّ هذه النظريات، وهذه الدعاوى، وهذه الأضاليل، وهذه الأوهام، وهذه التحَزُّبات، وهذه الانقسامات، هذه كلها ما أرادها الله، وما أنزل الله بها من سلطانٍ، لأن الحق واحد لله، الحق له فقط.

الآن شاهد عملي، كل الآيات مترابطة: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ هؤلاء آثروا دنياهم على هُداهم. 

الآن هذا مَثلٌ عملي:  قارون آثر دنياه على الهُدى:  ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ ، هذه القصة إن شاء الله نتركها للدرس القادم.


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور