وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 13 - سورة القصص - تفسير الآيات 64 - 72 لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

تذكير بما سبق:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث عشر من سورة القصص.

لا زلنا في الآيات التي ردَّ الله بها على قول كفَّار مكة: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾، ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ .. لو أن الإنسان أحجم عن الهدى، أو رفض الهدى، أو لم يعبأ به، اتباعاً لكبراء القوم، وانصياعاً لسادتهم، وإرضاءً لأسياده، فالله سبحانه وتعالى قَصَّ علينا مشهداً من مشاهد يوم القيامة، حيث يتخلى هؤلاء الكبراء عن أتباعهم..﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا﴾ ، أي يدَّعون أننا أغويناهم..﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ ليسوا مقهورين، هم مخيَّرون، إنما وافقت شهواتهم دعوتنا فظلوا معنا، إذاً يُسْتَنتج من هذه الآية أن أحداً في الأرض لا يستطيع أن يُضِلَّ أحداً، لسببٍ بسيط هو أنه لا سلطان لأحدٍ على أحد من حيث التفكير والسلوك، والدليل:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

﴿وَقِيلَ ادْعُوا﴾ ، هذا شُرِحَ في الدرس الماضي ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ﴾ .

 

لا طاعة لِمَخْلوق فِي معصية الله عز وجل:


ولكن الوقفة التي ينبغي أن نقف عندها.. ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ .. أي إذا جاء العذاب هذا الذي أطعته وعصيت الله عزَّ وجل هل يستطيع أن يصرف عنك العذاب؟ هذه الآية لو وَسَّعنا مفهومها في حياتنا اليومية، أي لو أن إنساناً أطاع شخصاً ما، وعصى الله عزَّ وجل، واقتضت هذه المعصية عقاباً من الله عزَّ وجل، فهذا الذي أرضاه وأطاعه هل يستطيع أن يمنع عنه هذا العذاب؟ الجواب: لا يستطيع، لذلك: عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . ))

[ المسند لشاكر: إسناده صحيح ]

قبل أن تطيع فلاناً وتعصي الله فَكِّر ملِياً، لو أن مرضاً خبيثاً، مرضاً عضالاً، هل بإمكان هذا الذي أَرْضَيته وعصيت الله عزَّ وجل أن يصرفه عنك؟ لو أن فقراً شديداً قَدَّره الله عليك فهذا الذي أطعته، وأرضيته، وعصيت الله هل بإمكانه أن يصرفه عنك؟ أجمل تعليقٍ يقال في هذه الآية حينما قال أحد التابعين لوالٍ من ولاة يزيد، وقد جاءه توجيهٌ من يزيد بخلاف ما أمر الله عزَّ وجل، فقال: ماذا أفعل؟ فقال هذا التابعي الجليل: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله". قبل أن تعصي الله، قبل أن ترضي الناس، قبل أن تُرضي شريكك، قبل أن ترضي زوجتك، قبل أن ترضي مَن هو فوقك، قبل أن ترضي مَن هو دونك، قبل أن ترضي جارك، قبل أن ترضي رفقاءك، حينما تُرضي أشخاصاً، وتعصي خالق الكون، هؤلاء الأشخاص على كثرتهم، على قوَّتهم، على اتصالهم الشديد، على حبهم لك هل بإمكانهم أن يمنعوا عنك مصيبةً قدَّرها الله عزَّ وجل؟ لا،  يتعاطفون معك بكلماتٍ معسولة، يقولون لك: والله نحن تألَّمنا لهذا المصاب كان الله بعونك، وإذا كان الأجل أرسلوا إكليلاً من الورود وعليه عبارةٌ لطيفة، وانتهى الأمر، هذا كلُّ ما يفعله الناس إذا أرضيتهم، وعصيت الله عزَّ وجل.

 

عدم استجابة الشركاء لمتّبعيهم:


﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ .. هؤلاء الذين ادَّعَيْتُم أنَّهم آلهة، في عصر النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: اللات والعُزَّى آلهة، وإذا أنتَ في عصرٍ آخر توَهَّمت أن شخصاً ما بيده الخير والشر، بيده أن ينفعك أو أن يضرك، أنت لم تقل: هو إله، ولكنك أعطيته صفات الإله، إذا توَجَّهت إليه بكليَّتك، إذا رأيت أن غضبه خطير، وأن رضاه كبير، إنَّك جعلته إلهاً وأنت لا تدري، ليست العبرة أن تقول: هذا الإنسان إله، هذه لا يقولها أحد، في عصر النبي، في عصر الجاهلية، في العصر الجاهلي كانوا يقولون: إن ودّاً ويغوث ويعوق ونسرا آلهة، ولكن

(( عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ فَذَكَرْتُهُ فَأَبْكَانِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ.))

[ أحمد و ابن ماجه عن شداد بن أوس ]

إذا اتجهت نفسك إلى الأشخاص لترضيهم، وهم في نظرك كبار جداً بيدهم نفعك وَضَرّك فهذا الشرط، هذا الذي يعيق الإنسان عن طاعة ربه، فلذلك.. ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ﴾ .. لو أنهم كانوا يهتدون إلى الله عزَّ وجل لما عبدوهم، ولما أطاعوهم، ولما خضعوا لهم، ولما استسلموا لمشيئتهم، ولما رأوا حجمهم الكبير، ولم يروا أن الله أكبر، هذه كلمة (الله أكبر) والله لو أن الإنسان قالها ألف مرة وأطاع مخلوقاً وعصى ربه ما قالها ولا مرة، لأنك لو رأيته أكبر من هذا لما عصيته، دائماً لو أنه جاءك أمر من شخص مهم وشخص أقل أهمية، ترعى حق المهم، لمجرد أن تطيع الله عزَّ وجل، وأن تعصي زيداً أو عبيداً، ولو لم تقل بلسانك: الله أكبر قلتها بنفسك، أما لمجرد أن تعصي الله عزَّ وجل كي تطيع إنساناً فأنت في أعماقك، بل في شعورك، بل لسان حالك يقول: فلانٌ أكبر من الله، لأنك أطعته، وعصيت الله، إذاً: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ(65)﴾ .

 

لا مخرج إلا بالتوبة:


وقفت في الدرس الماضي وقفةً أُخرى عند هذه الآية: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ .. ليست العبرة أن تجيب، أنا أذكر طبيباً نصح مريضاً بترك التدخين، ونصحه في وجودي، كنت معه، بعد أشهرٍ عِدَّة أصابه مرضٌ عضالٌ بسبب التدخين، فهذا المريض سكت لم يجب، الطبيب نصح، والمريض سكت، ما هي الإجابة؟ لو أنه هزَّ برأسه ليست هذه هي الإجابة، أي ما موقف هذا المريض من التدخين؟ هل امتنع عنه؟ إذاً: أجابه بالإيجاب، هل تابع التدخين؟ أجابه بالسلب، أي ما موقفك من هذه الدعوة؟ ما موقفك من هذا الأمر الإلهي؟ ما موقفك من هذا الحكم؟ ما موقفك من هذا التوجيه؟ هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما الموقف الذي وقفتموه؟ هل ناصرتموهم؟ هل عاديتموهم؟ هل صَدَّقتموهم؟ هل كَذَّبتموهم؟ هل استجبتم لدعوتهم؟ هل رفضتم هذه الدعوة؟ ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)﴾ .. دائماً وأبداً الله سبحانه وتعالى يفتح باب التوبة، أي ما من شيءٍ يبُثُّ الأمل في النفس أشدَّ من أن الله سبحانه وتعالى جعل باب التوبة باب النجاة، التوبة صَمَّام أمان، أي إذا زاد الضغط على الإنسان تأتي التوبة صمَّام أمان، إذا غرق الإنسان في ذنوبه تأتي التوبة حبل نجاة، إذا أُحْكِمَت عليه السبل كانت التوبة باب الخلاص، أي كُلَّما ضاقت بك الأمور، كلما سُدَّت أمامك السبل فالله سبحانه وتعالى يفتح لك باب التوبة..﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ وقلنا وقتها في الدرس الماضي إن كلمة (عسى) تفيد الرجاء، ترجيح الرجاء، أي هذا الذي يبقى والذي يُخِلُّ بصِحَّة التوبة وبصحة الإيمان هو عدم الإخلاص، فإذا كان مخلصاً: ﴿فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ .

 

الردّ القرآني السادس على قول المشركين:


والآن جاء الردُّ السادس على قول هؤلاء المشركين: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ، ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ .. الآن مشيئة الله عزَّ وجل مشيئةٌ صحيحة، لأن مشيئة الإنسان أحياناً الإنسان قد يختار شيئاً وهو مكرهٌ، ومضغوط عليه، وقد يختار شيئاً بدافع الرغبة والإغراء، فإذا كان الإنسان تحت تأثير الضغط أو الإغراء يختار شيئاً غير صحيح، وغير حكيم، وقد يكون جاهلاً، وقد يكون مُسَيَّراً، إذاً مشيئة الإنسان ليست كمشيئة الله عزَّ وجل، الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، ليس في الكون كلِّه جهةٌ تستطيع أن تمنع الله أن يفعل ما يشاء، ولا أن تدفعه إلى أن يفعل ما لم يشأ، والله حكيمٌ وعليمٌ وقديرٌ وغني، إذاً: مشيئته هي المشيئة الصحيحة.


لا يقع في الكون فعلٌ إلا بمشيئة الله:


﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ يخلق ماذا؟ عندنا خلق تكويني، أي لا يقع في الكون فعلٌ إلا بمشيئة الله، هذه الفكرة كفكرة استيعابها سهل، أما أن تعيش هذه الفكرة فقد طهرت نفسك من كل قلق، إذا شعرت أن هذا الكون العظيم بمجَرَّاته، بسماواته، بأرضه، بالبشر جميعاً، الأقوياء منهم والضعفاء، بالذين يملكون أسلحةً فتَّاكة، إذا شعرت أنه لا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم، وهو العليم، وهو العادل، وهو القدير، وهو اللطيف، إذاً: هذا التشعُّب، وهذا التشرذم، وهذا الضيق، وهذا الشرك الذي يأكل القلوب.

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾

[ سورة الشعراء ]

أساساً: من علامات قيام الساعة كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾

[  سورة يونس ]

أي شعر بعض البشر الأقوياء أنَّهم قادرون عليها، أن الأرض كلَّها في قبضتهم، يرون ما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون، ولكن الله سبحانه وتعالى كذَّبهم في آياتٍ كثيرة، فقال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

قال تعالى:

﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

آيات كثيرة، الفكرة هنا أنه لا يقع شيءٌ في الكون، لا يحدث حادث، لا يتحرَّك متحرِّك، لا ينطلق حجر، لا يهبط بناء، لا يتزلزل جبل، لا ينفجر بركان، لا يفيض نهر، لا تشِحُّ الأمطار إلا بإذن الله عزَّ وجل، هذا هو جوهر الإيمان، إذا شعرت أن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء. 

 

العباد لهم الاختيار فقط أما الذي يخلق أفعالهم فهو الله عزَّ وجل:


أفعال العباد فيها للإنسان الكسب فقط، أو الانبعاث إلى العمل، أنت تختار أن تذهب إلى المسجد، هذا الاختيار الله سبحانه وتعالى يعطيك القوة كي تُحَقُّقه، فمجيئك إلى المسجد هو باختيارك، ولكنه بفعل الله عزَّ وجل، وإذا أراد إنسان أن يؤذي إنساناً، الإنسان له المشيئة والاختيار، والكسب والانبعاث، ولكن القوة التي يؤذيه بها هي قوة الله عزَّ وجل، هذا هو التوحيد، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، أي الأشياء لا تفعل بذاتها، بل بمشيئة الله، عندها لا بها، هذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ الأفعال كلها من خلق الله، فهذا الذي يقول: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ كأنَّه مُشْرك، كأنه يرى أن الله عزَّ وجل لا دخل له بأفعال العباد، ماذا قال الله عزَّ وجل:

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف  ]

﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾

[  سورة النحل  ]

فحينما توَهَّم هؤلاء: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ، الفعل بيد من؟ لو كان بيد جهة أخرى غير الله عزَّ وجل الكلام مقبول وصحيح، ولكن الفعل كلَّه بيد الله، فكيف يُعْقَل أن تهتدوا إلى الله وأن تأتي جهةٌ وتوقع فيكم الأذى؟ فلذلك مثلاً: لو أن مؤسسةً، أو وزارةً، أو معملاً، أو منشأة لها مدير عام بيده كل شيء، لا يمكن أن يحدث شيء في هذه المُنْشَأة إلا بعد موافقة المدير العام، إذا كان هذا المدير العام قد أرسلك في مهمَّة، تقول له: أخشى أن أُعاقب غداً بسبب الغياب عن الدوام؟ يقول لك: من يعاقبك غيري؟ أنا الذي أعاقب، أنا أرسلتك بمهمة، أيعقل أن أعاقبك على أنَّك نَفَّذت هذه المهمة؟ لا ينفذ قرار عقابك إلا بتوقيعي، إذا قال هذا الموظف لهذا المدير العام الذي بيده كلُّ الأمور: أخشى أن أنفذ هذه المهمة فأعاقب غداً لتخلُّفي عن الدوام؟ يقول لك: عجباً ! هل في هذه الدائرة إلا مديرٌ واحد؟ وهل ينفذ كتاب عقابٍ إلا إذا وقَّعته أنا؟ أنا الذي أرسلتك ﴿إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾   الله عزَّ وجل ردَّ عليهم فقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ .. هو الخلاق، هو الذي يخلق أفعال العباد، العباد لهم الاختيار فقط، أما الذي يخلق أفعالهم فهو الله عزَّ وجل.

 

مشيئة الله هي النافذة فقط: 


حينما توهَّم المعتزلة أن الإنسان خالق أفعاله، ضلُّوا ضلالاً مبيناً، الإنسان لا يخلق أفعاله، الإنسان ينبعث إلى أفعاله، يكسب أفعاله فقط، أما فعلُ الإنسان فهو فعل الله عزَّ وجل، الإنسان له الثواب أو العقاب على انبعاثه لهذا العمل، على كسبه له، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

فمعنى هذه الآية: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ أي مشيئته هي النافذة.

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الكهف ]

﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ .. ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ، ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ ..

﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ هذه الآيات كلها تؤكِّد ذلك..

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف  ]

الإنسان أحياناً يبيع طائرة، لكن أمر هذه الطائرة ليس للشركة الصانعة، لمن يركبها، قد تهوي، قد تقصِف، هذا الشيء لا ينطبق على خلق الله عزَّ وجل، كلُّ شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل..﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ أي أمر هذا المخلوق بيد الله عزَّ وجل:

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

 

الأفعال كلها بيدِ الله وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق:


لو أنكم تقرؤون كتاب الله عزَّ وجل، وتبحثون عن آيات التوحيد، آيات التوحيد تَبُثُّ في النفس الطمأنينة، تَبُثُّ في النفس الشعور بالأمن، الأمر بيد الله عزَّ وجل، كن مع الله ولا تبال. 

كن مع الله تر الله معك                 واترك الكلَّ وحاذر طمعك

* * *

أساساً: ما يجري بين الناس من خوف، ومن قلق، ومن شعور بالقهر، هذه كلُّها مشاعر الشرك، لأنك ظننت أن زيداً أو عبيداً بيده كلُّ شيء، بيده أن ينفعك، أو أن يضرُّك.

(( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ .  ))

[  الترمذي حَسَنٌ صَحِيحٌ ]

هذا هو الاعتقاد الصحيح.. ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ هذا الخلق التكويني، أي خلق الشمس، خلق القمر، خلق الليل، خلق النهار، خلق الأمطار، وخلق شُحَّ الأمطار، بيده الأمر، وخلق الغنى، وخلق الفقر، وخلق القوة، وخلق الضعف، وهو الذي خلق هذا الزلزال، وأجرى هذا البركان، وفاضت الأنهار، أو شَحَّت الينابيع، يخلق ما يشاء، هذا الخلق التكويني، وفلان تطاول على فلان، وفلان ذاق بأس فلان، والآية معروفة:

﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ هذا الخلق التكويني، خلق الكون، وخلق مظاهر الكون، وخلق الأفعال، فالأفعال كلها بيدِ الله، لذلك من أجمع عبارات التوحيد، أن كلَّ شيءٍ وقع أراده الله، وأن الله إذا أراد شيئاً وقع، فلك أن تفهم هذه العبارة على شكلين، شاء الله أن يكون هذا الأمر فكان، كان هذا الأمر إذاً شاءه الله، مادام هذا الأمر قد كان إذاً شاءه الله، مادام الله قد شاء هذا الأمر لابدَّ من أن يكون، وقد ورد: "وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ"، فمشيئته متعلقةٌ بالحكمة، وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق، دائماً مشيئته حكيمة، كل شيءٍ وقع لو لم يقع لكان نقصاً في الحكمة ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ ..

 

الفرق الكبير بين الأمر التكويني والأمر التكليفي:


والآن.. ويختار، أي يختار ماذا؟ ويختار ما يشاء، قال العلماء: هذه يختار أي يختار لكم التشريع المناسب، ربنا عزَّ وجل خلق الإنسان، وعلَّمه القرآن، خلق السماوات والأرض، وأنزل على عبده الكتاب، هناك خَلق وهناك توجيه، فالتوجيه أمر تكليفي، أما الخَلق فأمر تكويني، الخلق كن فيكون، لذلك يوجد فرق كبير بين الأمر التكويني والأمر التكليفي، فربنا عزَّ وجل إذا قال لهذا الجبل: زُل يزول فوراً..

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾

[  سورة يس  ]

فوراً، هذا أمره التكويني، أما أمره التكليفي فقد أمرنا بغض البصر، وهناك آلاف آلاف الأشخاص يطلقون أبصارهم، إذا عُصِي أمر الله التكليفي شيء طبيعي جداً، هو لم يأمر أمراً تكوينياً، بل أمر أمراً  تكليفياً.. نحن نضع إشارة منع المرور بلوحة صغيرة حمراء على عمود على يمين الطريق، هل معنى ذلك أن هذه اللوحة تمنع المركبة من السير في هذا الطريق؟ لا، لا تمنعها، ولكن تُحَذِّر، فهذه اللوحة منع للمرور هذا أمر تكليفي، أما إذا وضع في عرض الطريق قطع إسمنتية كبيرة ومكعبات كبيرة جداً، كل مكعب خمسة أمتار مكعَّبة مع إسمنت مسلح، نقول: هذا أمر تكويني، أي هذه الحواجز تمنع مرور المركبات فهو منع تكويني، أما لوحة "ممنوع المرور" هذا أمر تكليفي، فيجب أن نفرِّق دائماً بين الأمر التكويني  والأمر التكليفي، الأمر التكويني: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ، زُل فيزول، ليس في الكون كله شيءٌ يستعصي على أمر الله، فإذا استعصى إنسان على أمر الله، لأن الأمر تكليفي لا تكويني، لو أن ربنا عزَّ وجل أراد لنا الهدى القسري لجعل تكاليفه أوامر تكوينية لا أوامر تكليفية، إذاً يمكن أن أمنع المرور من الطريق لا بأمرٍ تكويني بوضع مكعّبات من الإسمنت المسلّح كبيرة لا.. لا، أنا أمنع المرور بأمر تكليفي بلوحة صغيرة، والإنسان بإمكانه أن يخترق هذا الأمر، أن يعصي هذا الأمر ، لأنه أمر تكليفي، أما الأمر التكويني فهو المنع، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ هذا الأمر التكويني،  ﴿وَيَخْتَارُ﴾ هذا الأمر التكليفي، هناك شيء الله خلقه، وأعطاك توجيهاً، فأنت مخير إما أن تستجيب أو لا تستجيب، فربنا عزَّ وجل نصحك بأن تستجيب، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[  سورة الأنفال ]

 

وجوبُ الانقيادِ إلى حُكم الله ورسوله من غير تردد ولا نقاش:


إذاً: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ المعنى دقيق جداً، هذا المعنى الأول ينطبق على قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ .. إنّ الإنسان إذا أمره الله بأمر الإنسان العاقل ليس له مع أمر الله رأي إطلاقاً، الله عزَّ وجل اختار لنا هذا التشريع، نحن ليس لنا خيار فيه، لأنه من عند حكيمٍ عليم، أن تقول: أنا أفعل أو لا أفعل، أنت مخير، ولكن إذا اخترت ألا تفعل هناك ثمن باهظ، إذا كنت عاقلا تختار أن تفعل، في الأصل أنت مخير، لك أن تفعل أو ألا تفعل، ولكن رأي العبد الحادث الضعيف لا شيء أمام هذا التشريع الحكيم، إذاً أنت أيها الإنسان ليس لك اختيار إذا كنت عاقلاً ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ إذا أعطى الله عزَّ وجل في موضوع حكماً، مثلاً الله عز وجل أعطى حكمه في الربا، وقال: 

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا حُكم الله عزَّ وجل، تقول لي: رأيي الشخصي، وقناعاتي، وأنا قارئ مقالة، وفلان له رأي في الموضوع، أقول: هذا كله كلام فارغ، رأي، وقناعة، ورؤية، وحقيقة، وقضية نسبية، وهناك ظروف صعبة، معنى ذلك أنك تبدي مع الله رأياً، معنى ذلك أنك ترى أن حكم الله عزَّ وجل فيه خلل، وأنت ترممِّ هذا الحكم، لذلك الآية الكريمة:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

الشيء اللطيف أن سيدنا عمر كان وَقَّافاً عند كتاب الله، هكذا يأمر الله عزَّ وجل، سمعاً وطاعةً يا رب، هكذا يأمر النبي عليه الصلاة والسلام، سمعاً وطاعةً يا رسول الله، إلهي العظيم، آمنت به رباً عظيماً، وخالقاً حكيماً، ورؤوفاً رحيماً، هكذا، وهذا أمره، فكلما وقع الإنسان في مشكلة هناك جواب مُسكِت، أتحب الله عزّ وجل؟ نعم، أنت واثقٌ من حكمته؟ واثقٌ من عدالته؟ واثق من رحمته؟ نعم، واثق من لطفه؟ هذه مشيئته، إن لم ترضَ بها فأنت لا تعرفه، وأنت لست مؤمناً به، هذا هو الإيمان، لذلك النبي الكريم إذا جاءت الأمور كما يحب كان يقول: عن عائشة أم المؤمنين :

(( أنَّهُ كان إذا رأى ما يسرُّهُ قالَ : الحمدُ للَّهِ الَّذي بنعمتِه تتمُّ الصَّالحاتُ، وإذا رأى ما يسوؤُه قالَ الحمدُ للَّهِ على كلِّ حالٍ. ))

[ إسناده جيد : صحيح ابن ماجه ]

وإذا جاءت على غير ما يحب يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)) ، والحديث المعروف، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ خلقك، واختار لك هذا الشرع الحكيم..

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)﴾

[  سورة الكهف ]

خلق الكون، أعطاك التوجيهات، مثل بسيط مبسَّط؛ شُقَّ الطريق، وضعت الشاخصات؛ هنا منزلق خطر، وهنا تقاطع خطر، وهنا طريقٌ ضيِّقة، وهنا طريقٌ صاعدة، وهنا منعطفٌ حاد، هذه لوحات قبل مسافات، قبل ألف متر، قبل خمسمئة، شُقَّ الطريق وضعت الشاخصات، خلق الكون أُنزل الكتاب، خلق الله الكون ونَوَّره بالقرآن:

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)﴾

[  سورة النور ]

عندك آلة معها تعليمات، يوجد شيء مادي معه توجيهات، أنت آلة مخلوق من أعقد الآلات في الكون، معك كتاب تعليمات الصانع، وهو القرآن الكريم.

 

اختيار الإنسان اختيار جزئي لا كلي:


﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ .. هناك معنى آخر دقيق، المعنى الآخر أنه عندما يختار الإنسان شيئاً فاختياره جزئي لا كُلي، لماذا جزئي؟ لأن الفعل ليس له، لو فرضنا إنسانا اختار أن يقتل إنساناً، هو اختار فقط، أما المشيئة فتحتاج إلى اختيار، إرادة، وإلى قدرة، هو يملك الإرادة، لكنه لا يملك القدرة، إذاً: مشيئته ناقصة حتى يسمح الله، هذه عقيدة مريحة جداً، لو كان لك عدو مخيف قوته بيدِ الله عزّ وجل، قد ينوي لك هذا العدو شراً كبيراً، لكن لا يستطيع أن يوقع من شرِّه إلا بالقدر الذي يسمح الله له به، إذاً أما أنتم أيها البشر ما كان لكم الخيرة الصحيحة، الخيرة الكاملة، لأن قوتكم بيدِ الله عزّ وجل، فتختارون شيئاً، فالله عزّ وجل إما أن ينفِّذ أو لا ينَفِّذ، مخلوق مربوط بزمام متين، أنت أرخيت الزمام فيتحرك، هو يبدو لك أنه حر، يتوهم أن حركته حرة، لكن في أية لحظة يُشَدُّ الزمام فإذا هو في القبضة، إذاً المعنى الأول: أن الإنسان لعلمه الناقص، لعبوديته لله عزّ وجل، لأنه كائن حادث محدود، علْمُه من علم الله، ما كان لهذا الإنسان أن يكون له اختيار مع اختيار الله عزّ وجل، ما كان له أن يبدي رأياً مع شرع الله عزّ وجل: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ لا في الخَلق، خلق الله أكمل خلق، فأي تغييرٍ في خلق الله يدفع الإنسان الثمن باهظاً، الآن هناك أمراض، أمراض العصر كلها بسبب تغيير في خلق الله، مثلاً: هذه الدجاجة يجب أن تنمو في أربعين يوماً، إذاً يجب أن نعطيها الهرمونات التي تُسَرِّع النمو، لكن هذه الهرمونات إذا تراكمت في جسم الإنسان قد تسبب السرطانات، الإنسان خلق خلقاً ولكنه غير كامل، أي شيءٍ صممه الإنسان على المدى البعيد له أخطار وبيلة، يبدو لأول وهلة وفي المدى القريب أنه رائع، شيء مريح، شيء كامل، لكن كل شيء يغيِّر الإنسان فيه خلق الله عزّ وجل فالثمن التلوث، التلوّث الآن هو الطامة الكبرى في العالم، ما التلوث؟ هو تغيير في تصميم الخلق، المركبة تسبب أمراضاً وبيلة جداً، أما الحصان فيقي من أمراض القلب، ومن أمراض الكبد، والكليتين. 

 

خلاصةُ المعنيين في الآية:


المعنى الأول: أن ربنا عزَّ وجل خَلَقه خلق كامل، وربنا صمم طبيعة نظيفة، نحن لوثناها بهذه الغازات، بهذه السموم، جعل طبقة أوزون تحمي الناس من أشعة الشمس القاتلة، خرقناها بالأقمار الصناعية إلى أن تخلخلت، عندما تخلخلت ارتفعت نسبة سرطانات الجلد إلى سبعين في المئة في أماكن التخلخل في تلك البلاد، الأوزون تخلخل، الحرارة ارتفعت، أصبح في البلاد التي لم تألف المكيَّفات أصبح المكيف ضرورة، بسبب أن الحرارة في الأرض ارتفعت درجة، كلمة درجة شيء مخيف جداً، ارتفعت درجة بسبب ازدياد غاز الفحم في الجو، هذا من تغيير خلق الله عزّ وجل، البحث يطول، هذه المبيدات نستعملها بشكل كبير جداً، هذه قتلت كل الكائنات الطبيعية، كان هناك توازن بين الكائنات، هذه الحشرة تقضي على هذا المن فلمَّا أبدنا الحشرات بالكيميائيات أصبح هناك خلل بالتوازن، أي في الزراعة، في الصناعة، في التجارة، في البيئة، في الأجواء، حتى في مساكننا، حتى في الضجيج مثلاً، التلوث، هذا كله خطأ أو تغيير لخلق الله، وربنا عزّ وجل قال ذلك، قال: 

﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)﴾

[ سورة النساء ]

 فالإنسان ما كان له أن يختار شيئاً أكمل من خَلق الله عزّ وجل، لله الكمال المطلق، وما كان له أن يختار شرعاً أكمل من شرع الله، شرع الله هو الكامل، فأنت إنْ في الخلق، وإن في التشريع أمام كمال مطلق في الخلق، وكمال مطلق في التشريع، بل إن معظم الأمراض التي يعاني منها الناس اليوم إنما هي أمراض بسبب خلل في تطبيق منهج الله عزّ وجل، والدليل ربنا عزّ وجل قال:

﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)﴾

[ سورة الشعراء ]

ما قال: وإذا أمرضني فهو يشفين، قال: وإذا مرضت، المرض عُزِيَ إلى الإنسان لخلل في حياته.

رجل كان في بلد غربي التقى مع شخص فقال له: أنا من بلد مسلم، سمّى له اسم البلد، فمن حديث إلى حديث قال له: الإسلام سببُ تخلُّفِنا نحن، فهذا الشخص الأجنبي أخذه من يده إلى أضخم مستشفى في هذه البلدة في أوروبا، وقال له: اقرأ، كُتِبَ على هذه المستشفى بحرفٍ كبير: "نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع"، وكُتب تحتها: محمد بن عبد الله، قال له: هذه الكلمات هي الطبُّ الوقائي كلُّه.

أنت أولاً ليس لك الحق أن تصوِّر خلقاً آخر غير خلق الله عزّ وجل، هو الخلق الكامل، وحتى في التشريع فإن تشريع الله هو الكامل، فأول معنى: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ ما كان لهذا الإنسان أن يختار خلقاً آخر، أو أن يختار تشريعاً آخر فالخلق كامل. 

المعنى الآخر: الإنسان اختياره جزئي، العمل يحتاج إلى إرادة وإلى قدرة، الإنسان يملك الإرادة، أما القدرة فلا يملكها، لذلك يأتي اختياره ناقصاً.

 

الله تعالى يعلم السر وما يخفيه كل إنسان:


﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(69)﴾ يا ترى عندما قالوا: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ .. أحياناً الإنسان يحتجّ يقول: أنا ليس عندي وقت لأن أحضر الدروس، فالله يعرف الحقيقة، أليس عندك وقت أم أنت لا ترغب؟ الإنسان له أن يقول ما يشاء، وله أن يدَّعي ما يشاء، وأن يعلن ما يشاء، ولكن ما يكِنُّه صدره من الداخل يعلمه الله عزّ وجل:

﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[  سورة طه  ]

يعلم السر الذي تكتمه عن الناس، ويعلم الشيء الذي يخفى عنك، هذا علم الله عزّ وجل، يعلم علانيَّتك  ويعلم سريرتك ويعلم ما يخفى عنك أيضاً، ثلاثة مستويات، يعلم علانيَّتك، أي ما تقوله، ويعلم سرك، ويعلم ما يخفى عنك:

﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)﴾

[ سورة النمل  ]

 

القلب السليم رأس مال الإنسان:


لذلك إذا شعر الإنسان أن الله يراقبه يستقيم قلبه، الغِل، الحسد، الضغينة، التنافس، الغيرة أحياناً، هذه كلها مشاعر مرضية يعلمُها الله عزّ وجل، فالإنسان رأس ماله القلبُ السليمُ:

﴿  يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[  سورة الشعراء  ]

هذا الذي لا ينطوي على حقدٍ، ولا على ضغينة، ولا على شعورٍ بالعلو، هذا القلب السليم رأس مال الإنسان يوم القيامة، لأن كل شيء يفنى، كل قيمته، كل متاعه، كل دنياه تفنى، ويبقى القلب السليم. 

 

الله مصدر النعم في الدنيا والآخرة:


﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾ .. في الدنيا وفي الآخرة هو مصدر كل النعم، له الحمد، لو قال: الحمد له، أي الحمد له ولغيره، أما له الحمد، حينما قدمنا له على كلمة الحمد أصبح هنا معنى القصر، أي الحمد كلُّه لله عزّ وجل، وأيُّ نعمةٍ جاءتك من إنسانٍ إنما هي من الله في حقيقتها، فلذلك إذا جاءت الإنسانَ نعمةٌ من إنسان أول شيءٍ يشكرُ الله عزّ وجل، لأنه خلق هذه النعمة، ومكَّن منها هذا الإنسان، وألهم هذا الإنسان أن يقدمها لك: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ الحكم له، أي الرأي الأخير له، كل شيء متوقفٌ على حكم الله عزّ وجل، المرض يشفى هذا المريض أو لا يشفى، له الحكم، يوفَّق هذا التاجر أو لا يوفَّق له الحكم، ينجح هذا الزواج أو لا ينجح، له الحكم.

 

ارتباط الاستقامة بالإيمان بالله واليوم الآخر:


﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ما دُمت راجعاً إليه، وسوف يحاسبك، لابدَّ من أن تستقيم على أمره، أي لابد من أن تعبده، لذلك قال بعض الفلاسفة:  "لا معنى للأخلاق من دون إيمانٍ بالله، وإيمانٍ بيوم الحساب، وحسابٍ في هذا اليوم"  أي هناك إيمان بالله، واليوم الآخر، والحساب، إذا اختل أحد هذه الثلاثة الإنسان لا يستقيم على أمر الله، لا يستقيم ولن يستقيم إلا إذا آمن بالله، وآمن باليوم الآخر، وآمن بالحساب الدقيق في هذا اليوم: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .

 

الردُّ السابع على قول المشركين:


أما آخر آية في هذا الردّ على قول هؤلاء المشركين: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ لماذا لا يطيع الإنسان الله عزّ وجل؟ لأن معرفته بالله ضعيفة، أنت لا تطيع إنساناً إلا إذا عرفت قيمته، وإلا إذا عرفت ما عنده من خيرٍ إذا أطعته، وما عنده من عقابٍ أليمٍ إذا عصيته، إذاً: معرفة الآمر يجب أن تكون قبل معرفة الأمر، فكيف تعرف الله عزّ وجل؟ هذا الكون الذي أمامك ربنا عزّ وجل قال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)﴾ ..

كلمة أخيرة: ربنا عزّ وجل انتقل فجأةً إلى آيةٍ كونية، الحديث عن قول الكفار: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ واللهُ ردّ على هؤلاء أول رد، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، فجأةً: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)﴾ ..

 

الله عز جل رسم لنا طريق النجاة:


قد يسأل السائل: ما علاقة هذا الموضوع بالموضوع المتسلسل؟ الحقيقة توجد علاقة متينة جداً، هؤلاء الذين قالوا: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ ، لم يروا عظمة الله عزّ وجل، ولا وحَّدوه، كيف نعظمه؟ وكيف نوحده؟ إذا فكرنا في مخلوقاته،  الآن ربنا عزّ وجل رسم الطريق، أي هذا التوهُّم بأن الطاعة تضر والمعصية تنفع، هذا الظن، هذا الشرك، هذا الخوف، هذا القلق، كلُّ هذه الأمراض الناتجة عن الشرك، كل هذه المعاصي أساسها ضعف الإيمان بالله، فالآن خذ لنفسك مقياساً، حينما تعصي الله فاعلم علم اليقين أن معرفتك بالله لازالت قاصرة، وهي في حجمٍ لا يكفي لطاعته، متى يكون حجم المعرفة كافياً؟ إذا حَمَلَتْك المعرفة على طاعة الله عزَّ وجل، إذا وُجدت المعاصي فمعناه أن حجمَ المعرفة قليل، ما عرفت الخالق العظيم، ولا المسيِّر الحكيم، لم توحِّد خالقك، ولم توحِّد الألوهية، ولم توحِّد الربوبية، لا رأيت رباً واحداً، ولا إلهاً واحداً، ولا خالقاً واحداً، ولكن رأيت زيداً وعبيداً، إذاً: هناك شرك، إذاً إذا كان للطاعة والمعصية عداد أو مؤشّر فتأكَّد أن هذا المؤشر يتزامن ويتوافق مع مؤشِّر الإيمان، كلما ازداد إيمانك ازدادت طاعتك، وازداد ورعك، وازداد خوفك، وازدادت خشيتك، وكلما ضعف الإيمان ضعفت الطاعة، والورع، والخشية، والشوق وما إلى ذلك، فربنا عزّ وجل دلَّنا على الطريق فقال: إنكم لن تستطيعوا أن تطيعوني إلا إذا عرفتموني، لن تستقيموا على أمري إلا إذا خفتم مني، لن تعملوا الأعمال الصالحة إلا إذا رجوتم جنَّتي، فإذا لم تعرفوا قدر الله عزّ وجل، وما عنده من نعيمٍ مقيم ولا ما عنده من عذابٍ أليم، قد تضعف الطاعة، فربنا عزّ وجل رسم الطريق طريق النجاة، أي فكروا في الليل والنهار. وإن شاء الله في الدرس القادم نفصّل في هذه الآية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ﴾ مرة ثانية: إذا فكَّر الإنسان فيها فيما بينه وبين نفسه شيء رائع جداً بعد صلاة الصبح: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ﴾ .

 

سِرُّ الليلِ والنهار:


ما سِرُّ الليل والنهار؟ أي متى يصبح النهار سرمداً؟ الأرض تدور توقفت عن الدوران، أو الشمس انطفأت، أو دارت دورةً مع دورتها حول الشمس كالقمر، يصبح الليل سرمداً والنهار سرمداً، أو دارت على محور أفقي، نهار وليل، موضوع دقيق جداً أي متى يكون الليل سرمداً والنهار سرمداً؟ في أي الأحوال؟ الأرض كرة لها محور مائل دورة حول نفسها، دورة حول الشمس، هذه الموضوعات موضوعات علمية، فربنا عزّ وجل يُلْفِت النظر لهذا الموضوع: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً﴾ .

النهار سرمد، أي الحرارة ثلاثمئة وخمسون درجة فوق الصفر، والليل سرمد أي الحرارة مئتان وخمسون تحت الصفر، فالحياة مستحيلة، لو جعل الله الليل سرمداً أو النهار سرمداً لكانت الحياة مستحيلة، يقول الله عزّ وجل: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ هل هناك جهة قوية في العالم تجتمع وتتخذ قراراً وتصنع الليل؟ ألا يوجد عندكم ليل؟ هذا ليل، أية فئة، أية دولة قوية، أية مجموعة، أية منظَّمة، تجتمع، وتقرر إحداث الليل، أو إحداث النهار: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)﴾ إذاً: هذه الآية الكونية من هنا الطريق إلى الله عزّ وجل، فكِّر في خلق الله عزّ وجل حتى تعرفه، حتى تعرف عظمته، وربوبيَّته، وألوهِيَّته، ووحدانيته، حتى تستقيم على أمره، إذاً هذه الآية فيها مفتاح الخلاص، لئلا يقول الإنسان: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ تأتي هذه الآية لتبيِّن للإنسان الطريق إلى معرفة الله عزّ وجل.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور