وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 13 - سورة هود - تفسير الآيات 96 – 104 السعادة والشقاء من عمل الإنسان
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في سورة هود إلى آخر قصةٍ من مُجمل القصص التي أوردها الله سبحانه و تعالى، التي أوردها لتكون لنا درساً بليغاً، فالسعيد ـ كما يقال ـ من اتّعظَ بغيره، و الشقيُّ لا يتَعظ إلا بنفسه.


قصة موسى عليه السلام :


﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(96) ﴾

[  سورة هود  ]

الآيات هي المعجزات التي أجراها الله على يديه، كأن تُصبح العصا ثُعباناً مبيناً، هذه الآيات لا يستطيعها بشر، فرعون جمع السحرة، ووعدهم أن يجعلهم وزراءه المقرَّبين إذا هم أبطلوا هذه المعجزة، فلمّا رأوا هذه العصا قد أصبحت ثعباناً مبيناً 

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ (70) ﴾

﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73) ﴾

[ سورة طه  ]

قد يأتي الساحر بحبل يلوِّنه، ويحرِّكه ليوهم الناس أنه ثُعبان، لكنَّ السحرة رأوا بأُم أعينهم أن هذه العصا أصبحت ثعباناً حقيقياً مبيناً، وأن هذا ليس من عمل السحرة، إنه معجزةٌ أجراها الله على يد هذا النبي الكريم، وحينما أعملوا تفكيرهم آمنوا بموسى وهارون، استخدمهم فرعون ليُبطلوا هذه المعجزة، فكانوا أول من آمن بها.


تتابع الرسل :


﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ في معنى هذه الآية تتابعُ الإرسال، أرسلنا صالحاً ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ﴾ قوم عاد وقوم ثمود وقوم تُبَّع، سيِّدنا شُعيب، هؤلاء كلهم أُرسلوا من قِبَل الله عز وجل ليكونوا منذرين ومبشِّرين.


حُجج الأنبياء :


﴿ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ فما هو السلطان؟ العلماء قالوا السلطان هو الحُجَّة، أو هي الحُجَّة

﴿  وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117) ﴾

[ سورة المؤمنون  ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144)﴾

[  سورة النساء  ]

السلطان الحُجَّة، فالنبيُّ الكريم إضافةً إلى هذه المعجزات التي جاء بها يملك الحُجَّة على قومه

﴿  وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

وقد سمَّى الأوَّلون الحاكم سلطاناً، لأنه يملك الحُجَّة، لأنه أعلم أهل زمانه، له الحُجَّة على من يحكمهم، فالسلطان إما أن تُؤخذ من الحُجَّة، وإما أن تؤخذ من السلطة، وعلى كلٍّ صاحب الحُجَّة القوية يملك السلطة.

مثلاً: إذا ذهبتَ إلى طبيب، وفحص أعضاءك، وأعطاك تعليماتٍ دقيقة، نظراً لِثِقَتِك بِعِلمه، ونظراً لأنَّك واثق من حُجّته، ولأنّ هذا الطعام لا يجوز أن تأكله، وهذا البيت المرتفع لا يجوز أن تبقى فيه، اُنظر إلى نفسك تجدها تنصاع إلى أمره، فلأنَّه يمْلك الحُجّة صار له سلطان عليك.

إذا ذهبت إلى محامي وأنت واثقٌ من عِلمه ومن خبرته بالقوانين، ونصحك أن تدفع الأجرة في الوقت المناسب، لماذا تنصاعُ له؟ لأنَّه يملك الحُجَّة، ولأنه ملكَ الحُجَّة ملَكَ عليك السُّلْطة، فكلمة سلطان مأخوذة من الحُجّة البيِّنة، مُضافاً إليها السلطة، ولا تنبعُ السُّلطة إلا من الحُجّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى خالق الكون، وخالق البشر أعلم بما ينفعهم، لذلك له سلطان عليهم

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(123)﴾

[ سورة هود  ]

أما الآية الكريمة: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144)﴾

[  سورة النساء  ]

هذا الإنسان إذا انحرف، أو طغى، أو بغى، أو عصى، أو خالف صار لِزاماً أن يُعالَج، لأنَّ الله تعالى رحيم، ولأنَّه رحيم فلا بُدّ من أن يُعالجه، لم يتْركه هملاً، أصبح معنى السلطان الحُجَّة، ومن مقتضيات الحُجَّة السلطة، فلذلك قال ربنا عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ معه آياتٌ بيّنات، فتح طريقاً في البحر يبساً، ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين

﴿  قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) ﴾

[  سورة طه  ]


حُجّة المؤمن :


المؤمن معه حُجّة، فهو يعرف مَن خلق الكون، ولماذا خلقه؟ وأين كنا؟ وما جدوى حياتنا؟ وإلى أين المصير؟ يعرف قيمة كلّ شيء، وحقيقة كلّ شيء، ما اتَّخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتّخذه لعلَّمهُ، المؤمن على بيّنةٍ من ربّه، والأمور عند المؤمن واضحةٌ كالشمس، يعرف طريق الخير من طريق الشر، ويعرف طريق الفلاح من طريق الشقاء، ويعرف كيف يُعامل زوجته وفق الشرع، وكيف يُعامل جيرانه؟ وكيف يُربِّي أولاده؟ هذا كلّه من الحُجّة التي آتاه الله إياها ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ .

إذا كنت موظَفاً، واتّخذت قراراً، واسْتدعاك رئيسك لِيُحاسبك، فإن كان معك حُجَّة مُقْنِعَة سَكَتْ، لماذا فعلتَ كذا؟ ولماذا نقلت فلاناً من هذا المكان إلى ذاك المكان؟ يقول: لهذه الأسباب، فتجِدُه يسكُت، السؤال اللطيف: أيّ فِعْلٍ تفعله في الدنيا تصوَر أنَّ الله سبحانه وتعالى سيُحاسبك عنه في الآخرة، أَمَعَكَ حُجَّة؟ لماذا طلَّقتها؟ هل معك جواب؟!! لماذا فعلْتَ بِجِيرانك ما فعلت؟ لماذا أوْقَعت بهم الأذى؟ لماذا فرَّقت بين هذا الزَّوْج وزوجته؟ لماذا رفعت السِّعر على هؤلاء الناس؟ ما حُجّتك؟ المشكلة أنَّك إذا ملكت على كلّ تصرّف حُجّة نجوْتَ، فإن لم تمْلك الحُجّة فالويل لك.


التبعية :


هذه الآية فحْواها أنّ اتِباع الناس ِبَعضهم لبعض، الناس مراتب فيهم القويّ والضعيف، وفيهم الغني والفقير، وفيهم المتْبوع والتابع، وفيهم من شهرته واسعة، ومن هو مغْمور

﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) ﴾

[  سورة الإسراء ]

ففي الحياة تابعٌ ومتبوع، لا حُجّة للذين يتَّبِعون بعضهم بعضاً أمام الله عز وجل، لو أنَّك في مكانٍ تستطيع بِحُكْم عَملك أن توقع الأذى بِفُلان، ولا أحدَ يُحاسبُك، إنَّما أعطاك إياهُ من هو أعلى منك، من قوّة على من هو أدنى منك، لا يُعْفيك من المسؤوليّة اتِّجاه الله عز وجل، تبعيَّة الناس لبعضهم بعضاً لا يُعْفيهم من مسؤوليتهم اتِّجاه خالقهم، أحدهم كان يطوف بالبيت ويقول: يا ربّ اغْفِر لي ذنبي ولا أظنّك تفْعل! فسمِعَهُ رجل من ورائِهِ، فقال: يا هذا، ما أشدَّ يأسَكَ من رحمة الله!! فقال: ذنبي عظيم، دخلَ إلى بيتٍ لِيَسلبه فرأى فيه رجل فقتلهُ، فرأى امرأةً ومعها ولدان، فقال: أعْطِني كلّ ما عندك، فأعطتْهُ سبعة دنانير من الذهب فقَتَلَ الولد الأوّل!! فلما رأتْه جادّاً في قتْل الثاني أعْطتْهُ دِرْعاً مُذهَّباً فأمْسكَها وتأمَّلها، وأعجبتْهُ هذه الدِّرْع، ثمّ قرأ عليها بيتان من الشِّعر فَوَقَعَ مغْشِيّاً على الأرض، قرأ على هذه الدِّرْع: 

إذا جـار الأمير وحاجِباه     وقاضي الأرض أسْرفَ في القضاء

فــوَيْلُ ثمَّ ويـلٌ ثمّ ويــــل     لِقاضي الأرض من قاضـي السماء

***

إذا الواحد استطاع أن يوقعَ بين الناس بِحُكم عمله، لِيَذْكر هذا القول: 

فــوَيْلُ ثمَّ ويـلٌ ثمّ ويــــل   لِقاضي الأرض من قاضـي السماء

***

سمعتُ أنَّ رجلاً أوْقَعَ أذًى كبيراً بإنسانٍ هو بريء، وهو يعلم أنَّه بريء، ولكن هكذا! مضى ثلاثون يوماً، كان يرْكب سيارةً مُسْرعاً بها فأصابتْهُ غفْلةٌ فدَخَل في شاحنة، فَنُزِعَ رأسُهُ من المقعد الخلفي! والآية الكريمة: 

﴿  أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79) ﴾

[  سورة الزخرف  ]

هكذا قرَّرت؟ ونحن اتخذنا في حقك هذا القرار، فالآية مُلخَّصها أنَّ تَبَعِيَّة الناس بعضهم لبعض لا تعفيهم مِن مسؤوليتهم اتِّجاه خالقهم.

إن كنتَ تكتب هذا الضبط التمويني لِتُخالف هذا البائع وأنت موقِنٌ أنَّه بريء، وأنّ رأسَ مال هذه البِضاعة مرتفِعٌ، إن كتَبْتَ هذا الضَّبْط وأنت واثقٌ من أنَّه بريء إرْضاءً لِمَن هو فوقك، فهذا العمل لا يُعفيك من مسؤوليتك اتِّجاه خالقك، وهذا في أيِّ عملٍ، وفي أيّ وظيفة كنت، ولو كنت مُغطَّى من قِبَل القانون، يجب أن تكون مُغطَى مِن قِبَل الله عز وجل، لذلك

﴿  وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(96)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(97)﴾

[  سورة هود  ]

أمره ليس بِرَشيد، أمره يؤدِّي بهم إلى الهلاك، أمره يُبعدهم عن الله سبحانه وتعالى، أمرهُ لن يستطيع أن يحول بينهم وبين العذاب الذي أعدَّه الله لهم ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾

أحد الوُلاة كان عنده بعض التابعين، فجاءهُ توجيهٌ مِن يزيد بن مُعاوِيَة، وهذا التوجيه قد لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وقَعَ هذا الوالي في حيرَة فسأل هذا التابعي الجليل، وقال: ما أفعل؟! فقال هذا التابعي كلمةً تُكْتب بِماء الذّهب: " إنَّ الله يمْنعُكَ مِن يزيد ولكنَّ يزيد لا يمنعُكَ من الله "! فأنت في أيِّ مجال، سلْ نفسكَ هذا السؤال: هذا الذي أمرني أن أعصي الله أو هذا الذي أمرني أن آخُذَ مال فلان، إنَّ الله يَحْميني منه، ولكنّه لا يحميني من الله سبحانه وتعالى ﴿ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾

﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) ﴾

[ سورة هود  ]

هم كما قال الله عز وجل في آية أُخرى: 

﴿  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54) ﴾

[  سورة الزخرف  ]

لأنَّهم كانوا قوماً فاسِقين أطاعوه، ولأنَّهم أطاعوه كان دليلهم إلى النار ﴿ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(97)يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

كما أنَّه قاد قومه في الدنيا يقودهم في الآخرة إلى جهنَّم، اتَّبعوه ولم يُحَكِّموا عُقولهم، اتَّبعوه وقد عطَّلوا عقولهم، اتَّبعوه حُباً في الدنيا واتَّبعوه ولم يُفكِّروا في هذا الاتِّباع ﴿ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(97)يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾


من باب التقريب :


من باب التقريب: إذا كان للإنسان محلّ تِجاري، وله زوجة وأولاد، ويسكن في بيتٍ مريح، ويبيع ويشتري، وهو في بَحْبوحةٍ، ومطْمئنّ البال، جاءهُ رجل فقال له: هل لك في تغيير هذه البِضاعة وهذه المصلحة إلى مصلحة أكثر ربْحاً؟ فقال: وما هي؟ فقال: كذا وكذا، فغيَّر ترتيب المحل، وبدَّل هذه البِضاعة بِبِضاعةٍ ممنوعة، ضُبِطَ متلبِّساً بِبَيْع هذه البِضاعة، قيدَ إلى السِّجْن، ففرضوا عليه غراماتٍ باهظة واضْطرُّوه أن يبيع بيته، وهو في السِّجْن باع البيت، ودفَعَ المبلغ الباهظ، وهو يُعاني سنواتٍ طويلة في السِّجن، ماذا يقول في نفسه؟! كنت في بحبوحة، وكنت في يُسْرٍ، وكنت في راحة بالٍ، وجاء هذا ودلَني على عملٍ أوصلني إلى ما أنا فيه، عندئذٍ يتمنَّى أن يُقطّعه إرْباً إرباً.

فرعون يقْدُم قومه يوم القيامة ويوردهم النار ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ النار كأنها نبْعُ ماءٍ، جاء بهم لِيَردوها، فإذا هي نارٌ محْرقة، قال لهم: ماءٌ نمير عذْبٌ فرات، تعالوا معي، وامْشوا ورائي، واقْتفوا أثري، فلما وصلوا إذا هي نارٌ محْرقة 

﴿ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ﴾

[ سورة هود  ]

أيْ أُتبِعُوا لعنةً في الدنيا ولعنةً يوم القيامة، واللَّعْنُ هو الإبعاد، فالله سبحانه وتعالى يلْعنهم، ومعنى يلعنهم، أي لأعمالهم المنحطّة، ولأنَّهم عطَّلوا تفكيرهم، واتَّبعوه بالباطل لعنهم الله، وأبعدَهم عن جنابه العالي.

((  يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك ))

[ أخرجه الترمذي ومسلم ]

ما استرذل الله عبداً إلا حضَرَ عليه العِلم والأدب، قد يُعطيك الله مالاً وفيراً، وقد يعطيك صحة كالحصان، وقد يُعطيك جمالاً لا مثيل له، وقد يعطيك ذكاءً وقادّاً، وقد يعطيك قرباً منه، هذا القرب أثْمنُ شيء في الأرض، إنَّ رحمة الله قريب من المحسنين، هذا القرب هو أثمن ما تملكُه، إنَّ الله يعطي الصحّة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنّه يعطي السكينة بِقَدَرٍ لأصْفِيائه المؤمنين.

﴿ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ الرِّفْد هو العطاء، والمرفود هو المُعْطَى، بئس هذا المكان الذي أوْصَلهم إليه، وبئس هذا العطاء الذي أعطاهم إياه ﴿ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ(97)يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾

هذه القصّة على إيجازها الشديد، وعلى عرضها السريع، إنَّما تعني أنَّ اتِّباع الناس بعضهم بعضاً لا يُعْفيهم من مسؤوليتهم اتِّجاه خالقهم.

مثلاً:

 إنْ قالتْ لك أمّك: طلِّق هذه الزَّوجة! فطلقَّتها إرضاءً لها، فهذا لا يُعفيك من المسؤولية اتِّجاه الله سبحانه وتعالى، إن قال لك تعالى: لمَ طلَّقت زوجتك؟ تقول: إرضاءً لأمِي! فيقول لك: وهل كان لِزاماً عليك أن تُرْضِيَها في معصية الله؟  

﴿  وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

كل إنسان يعمل بِعَمل إن سمحَ له عمله أن يوقع الأذى بالناس، وهو مغطّى من قِبَل من هو أعلى منه لِيذكر أنّه محاسب عند الله حِساباً شديداً، وأنّ اتِّباعه لِمَن هو أعلى منه لا يُعْفيه من المسؤوليّة اتِّجاه خالقه، فإذا كنت تبيع وتشتري، وكلّما جاءك إنسانٌ لِيَشتري خفْتَ من الله أن تغشَّه، وخفتَ من الله أن تبْخس ماله، وخفْت من الله أن تكتم عليه هذا العيب، فالله سبحانه وتعالى يَحميك، ويحْفظك مِمَّا منه الناس وجِلون، ومنه خائفون، ومن خاف الله خافه كلّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء. 


الغاية من القصص القرآنية :


إذًا المغزى من هذه القصّة القصيرة أنَّك مسؤولٌ اتِّجاه الخالق وحده، وأنَّه لا طاعة لِمخلوقٍ في معصية الخالق، وأنَّ أيّ عمل تعمله في بيتك، ومع زوجتك، ومع أولادك، كتبْتَ هذا البيت لهذا الولد، ما حُجَّتك يوم القيامة إذا سألك الله عز وجل: لمَ فضّلت هذا على هذا؟ إن كان معك حُجّة كان بها، وإلا فالويل لك! حرمْت البنات من الإرث لماذا؟ أأَنْت المُشرِّع أم الله؟ الله كتب لهم نصيباً من الإرث، إذا قلت: هذا المال تعبْتُ عليه أفيأخذه الأصهار؟! أأَنت أعلم أم الله؟! إذا حرمْت البنات من الإرث تذكَّر وقفتك يوم القيامة، عبدي أعطيْتُك مالاً فماذا صنعْت فيه، يقول: يا ربّ لم أنْفق منه شيئاً مخافة الفقْر على أولادي من بعدي! يقول الله عز وجل: ألم تعلم أنِّي أنا الرزّاق ذو القوة المتين، إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد ألحقْته بهم! ويقول لِعَبدٍ آخر: أعطيتُك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا رب أنفقتُهُ على كلّ محتاجٍ ومسكين، لِثقَتي أنَّك خيرٌ حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، فيقول الله تعالى: أنا الحافظ لأولادك من بعدك ، الذي أريده من هذه القصّة، أيُّ حركةٍ أو سَكنةٍ، وأيّ إجراءٍ أو سلوكٍ أو تصرّفٍ، أو تقسيمٍ، ما حُجَّتُك أمام الله عز وجل، يعلم السِرّ وأخفى، لِمَ طلّقت هذه الزوجة؟ لعن الله الذواقين والذواقات! لِمَ حرمت هذه البنت من الإرث؟ وما حُجّتك؟ قد تُلبّس من يطلب منك النصيحة بضاعةً كاسدة بسِعرٍ مرتفع، وتظنّ بأنك شاطر وأنّ هذا ذكاء، وأنّ هذا هو البيع! فالويل لك إذا وقفت بين يدي الله عز وجل، وقال لك: لقد اسْتنْصحك لِمَ لمْ تنْصحْهُ؟؟

إذا غفل الإنسان عن الله عز وجل يقَعُ في شرّ عمله، الذي أرجوه وأن يكون واضحاً أنَّ هيئ الحُجّة اتِّجاه الله تعالى بِكُلّ عمل، لا تعبأ بِقَول الناس، ومن عرف نفسه ما ضرَّتهُ مقالة الناس به، اعْبأ بِمُحاسبة الهت عز وجل

﴿  وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24) ﴾

[ سورة الصافات  ]

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾

[  سورة الحجر  ]

إنَّ لكلّ حسنةٍ ثواباً، ولكلّ سيِّئةٍ عقاباً، فابْحث عن الحُجّة لكي لا تقع تحت معنى هذه الآية، حُجَّتهم داحضةٌ عند ربِّهم.

انْتهت القصص التي جاءت في هذه السورة، والآن إلى نهاية هذه القصة وفيها مجموعةٌ من التعقيبات والتعليقات، ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) ﴾

[  سورة هود  ]

الإنسان إذا قرأ التاريخ أو إذا قرأ القرآن يجب أن يستنبط من أخبار الماضين مواعظ بليغة ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾

بعضهم قال: منها قائمٌ الذين يعيشون هذه الأيام، وحصيد الذين أهلكهم الله عز وجل، وبعض العلماء قال: منهم قائم الذين أهلكهم الله ولهم أثار باقية، فالأهرامات تدلّ على الفراعنة، وبعض القصور تدلّ على الأنباط، وآثار تدمر تدلّ على التدمريِّين، منها قائم وحصيد، إما أن لهم آثاراً تدلّ على عظمة ملكهم، وإما أنَّ الله سبحانه وتعالى أهلكهم ومحى آثارهم ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾ .


ظلم الإنسان لنفسه :


﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) ﴾

[  سورة هود  ]

عرَّفَ العلماء الظُلم أن تضعَ الشيء في غير موضعِهِ، فلو كان عندك أوراق امتِحان وفي السؤال مسألتان، والطالب حلَّ مسألتين، أعطَيْتَهُ صِفْراً، والذي لم يحلّ المسألتين أعطَيْتَهُ علامةً تامَّة! فهذا ظُلْمٌ، بِمَعنى أنك أوْقَعْت الشيء في غير موضِعِه، فالعلامة التامة لِمَن حلَّ المسألتين، وعلامة الصِّفر لِمَن لم يحلّهما، وعلامة الخمسون لِمَن حلّ واحدة، فالظُّلم أن تضَع الشيء في غير موضعِهِ.

الله سبحانه وتعالى أوْدَع فينا بعض الشَّهوات، فإذا أفْرغْت هذه الشهوة في موضِعِها الصحيح فهذا هو العَدْل

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) ﴾

[  سورة المعارج  ]

إذا نظرْت إلى امرأةٍ لا تحِلّ لك، وسألتها وسألتك، وأدَرْتَ معها حديثاً ممْتِعاً فهذا ظُلمٌ، لأنَّ هذا الحديث الممْتِع كان يجب أن تُديرهُ مع زوْجتك التي خصَّها الله لك، فالظُّلْم أن تضَع الشيء في غير موضعِهِ، إنْ في العلاقات الاجْتِماعيّة، أو في العلاقات الاقتصادية، أو في العلاقات الأُخرى، إذا وضَعت الشيء في مكانه الصحيح فهذا هو العدل، وإن لم توقِع هذا الشيء في مكانه الصحيح فهذا هو الظُلم ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ﴾

كلمة (وما ظلمناهم) ، هذا كلام الله ربّ العالمين، فإذا قلتَ أنت: فلان والله مظلوم، وفلان لا يستأهل هذه العقوبة، فكأنَّك مِن طرْفٍ خفيّ تطْعنُ في عدالة الله سبحانه وتعالى، ربّنا قال: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ لا في الدنيا ولا في الآخرة

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) ﴾

[ سورة النساء  ]

﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) ﴾

[ سورة النساء  ]

﴿ الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) ﴾

[ سورة غافر ]

﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

((  يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ  ))

[ رواه مسلم  ]

ستة آلاف مليون من البشر لو أن واحداً منهم ظُلِم لما كانت هذه الآية صحيحة، لأن الله سبحانه و تعالى كمالُه مُطلق، قد نقول للقاضي: إنك عادلٌ إذا كانت أكثر أحكامه عادلة لأنه بشر، قد يغلط، ولكن هذا لا يصحّ بِحَقّ الله تعالى، الله تعالى مُطلق، عدالته مُطلقة، ورحمته مُطلقة، فلو أنّ إنساناً واحداً من بين ستة آلاف مليون من البشر ظُلِمَ، لما كانت هذه الآية صحيحة ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾

 (( يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))

ذلك لأنّ عطائي كلام وأخذي كلام، فمن وجد خيراً فلْيحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، ما من عثرةٍ ولا اختِلاج عرقٍ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدَّمَتْ أيديكم وما يعْفو الله أكثر

﴿  وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59) ﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

إذا اعْتقدت أو توهَّمْت أو ظننْتَ أو تخيَّلْت أنَّ في الأرض ظُلماً فهذا عَيْنُ الضَّلال، فقد يكون في الأرض ظُلْمٌ ظاهري، وقد يظلم إنسانٌ إنساناً، ولكنّ هذا الظالم جعله الله سَوْطاً ينتقمُ به، ثمّ ينتقم منه

﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

فالظالم سوط الله ينتقم به ثمّ ينتقم منه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾

هؤلاء الذين اتَّبعوا من هُم أعلى منهم في معصية الله تعالى ما منعوهم من عذاب الله، وما خلَّصوهم من عقاب الله، بل زادوهم خسارةً على خسارة.


نهاية كل ظالم :


﴿ وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) ﴾

[  سورة هود  ]

أخبار البراكين والزلازل والفيضانات وأخبار الصِّراعات الداخليّة عند بعض الشعوب، والتي يذهب ضحيّتها آلاف الناس، هذه الأخبار ليْسَتْ عنكم بِبَعيد ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ .

 (وهي ظالمة) جُملة حاليّة، أيْ حالة هذه القرية الظُلم، فأخذها الله أخْذ عزيز مقتدر، فبعض المدن السِّياحيّة على الشاطئ الأطلسي تمتدّ المسابح التي يسبح الناس فيها عُراةً إلى أربعين كيلو متر! أصابها زلزالٌ جعلها رُكاماً في ثلاثة دقائق، كلّ يوم نسمع نبأ فيضانٍ أو بركانٍ أو نبأ زلزالٍ، أو نبأ صراعٍ بين الشعوب أودى بآلاف الضحايا، فإن علمْتَ عِلْم اليقين أنَّ هذه القُرى ما كان الله لِيُهْلكها إن كانت على الحق وعلى صراط مستقيم ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ ، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101) وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾

إنَّ الله يُمْهل ولا يُهْمل، وإنَّ الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلتْه

﴿  يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)  يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ﴾

[ سورة الحج ]

لا تنسى هذه الآية: ﴿ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ تأتي المصائب مجتمعةً، مصيبةٌ في الجسد، ومرضان متعاكسان، دواء هذا المرض يؤذي هذا المرض ودواء هذا المرض يؤذي ذاك المرض، زوجة مشاكسة، ودَخْلٌ قليل ومشكلات بعضها فوق بعض، أولاد عاقُّون

﴿  إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾

[  سورة البروج  ]


يوم القيامة :


الويل لِمَن لا يخاف من الله عز وجل، لأنَه أحمق

﴿  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) ﴾

[  سورة هود  ]

هذا اليوم الذي وعدنا الله به، لا بُدّ من أن يقع

﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3) ﴾

[  سورة الواقعة  ]

سُمِيّت واقعة لأنها لا بُدّ من أن تقع، ترفع أُناساً وتخفض أُناساً آخرين، في الدنيا مقاييس والله سبحانه وتعالى يُطَبّق على الناس يوم القيامة مقاييسه، مقياس الاستقامة والخير، والطُّهْر والإخلاص، أما في الدنيا فهناك مقاييس كمِقْياس المال، يرفعُ إنساناً، ويخفض آخر، ومِقياس القوة يرفعُ إنساناً، ويخفض آخر، ولكنّ المقياس عند الله تعالى مِقياسٌ أخلاقي

((  كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ   ))

[ الترمذي  ]

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ﴾ فالمؤمن العاقل لا يغيب عنه يوم الدِّين، يوم القيامة ولا دقيقة، في كلّ حركة، في تبَسُّمِهِ وفي كلامه وفي مُزاحِهِ وفي جِدِّه وفي عمله وفي بيته وفي الطريق والنّزهات وفي المعمل ووراء مكتبِهِ لا يغيب عنه ساعة الحِساب، ساعة أن يقف بين يدي الله عز وجل، ويسأله: لمَ فَعَلْتَ كذا وكذا؟ وما حُجّتك؟ هذه ليْسَت حُجّة، لماذا كنت تابعاً له؟ أين عقلك؟ أين تفكيرك؟ لو أنَّ واحداً ذهب إلى مركز الشرطة وادّعى أن إنساناً أوْقَعَهُ في حفْرةٍ من المياه الآسنة! قال له المحقّق: أدَفَعَكَ إلى هذه الحفرة؟ تقول: لا، أشَهَرَ عليك سِلاحاً وقال لك: انزِلْ! قلت: لا، قال: حمَلَكَ وأوْقَعَكَ فيها؟ قلت: لا، فقال: لمَ تشتكي عليه؟ يقول: لأنَّه قال لي انزِل فنَزَلْت! هذا يحتاج إلى مشفى المجانين

﴿  وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22) ﴾

[ سورة إبراهيم  ]

لا تقل: فلان قال لي ذلك! هذا كلام مرفوض، لمّا خلق الله العقل قال له أقْبِل فأقْبلَ، ثمّ قال له أدْبِر فأدْبر، قال: وعِزَتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ منك، بك أعْطي وبك آخُذ! أين عقلك؟ وأين محاكمتك؟ أين تفكيرك؟ لِمَ اتَّبَعْتَهُ على ضلال؟ الإنسان عليه أن يُفَكِّر، وعليه أن يكون حُرّاً في تفكيره، إنَّا وجدنا آباءنا على أُمَّة، وإنا على آثارهم مقتفون

﴿  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ (76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80 وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) ﴾

[  سورة الشعراء  ]

إذًا: الإنسان لا يُعْفى من المسؤوليّة إذا قال: فلان قال لي، أحدُ العلماء الكبار قال: ما جاءنا عن رسول الله فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن غيره فنحن رجالٌ وهم رجال! أين حُجّتك؟ قلتَ لي: افْعَل هذا فهل هناك آية تثبتُ ذلك؟ وقلت لي: لا تفعل هذا! فهل هناك آية تمنع من ذلك؟ هل هناك حديثٌ صحيحٌ في الكتب المعتمدة ينهى عن ذلك؟! أم أنَّك تتَّبعُ الهوى؟ 

﴿  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102)إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104)  ﴾

[  سورة هود  ]

أجلٌ محدَّد، أما ما يُقال من أنّ بعض العلماء لقّموا بعض الحاسبات الإلكترونيّة آيات القرآن الكريم فعرفوا متى يوم القيامة، فهذا كلام مرفوض، وهذا كلام لا يقبله العقل

﴿  إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34) ﴾

[  سورة لقمان  ]

﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)﴾

[ سورة هود  ]


أصحاب الحجج :


في الدنيا هناك أشخاص عندهم طلاقة لِسان، وعندهم قدْرةٌ على إقْناع الآخرين، وعندهم قدرةٌ على قلْب الحق باطلاً، والباطل حقّاً، إذا تكلّموا أنْصّتَ إليهم، وأدْلَوا بِحُجَّة قويّة، أنت تعلم أنَّهم مخطئون، فإذا تكلّموا علمت أنَّهم مصيبون، هؤلاء الذين يُلَفِّقون، ويُزَيِّفون، ويُزَوِّرون، إذا وقفوا يوم القيامة بين يدي الله عز وجل لا ينطقون

﴿  الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65) ﴾

[ سورة يس  ]

هذه الحُجّة والطلاقة وقوة الإقناع هذه في الدنيا، أما إذا وقف العبد المذنب يوم القيامة بين يدي الواحد القهار لا يستطيع أن يكذب، ولا أن يُزَوِّر، ولا أن يُغَيِّر

﴿  وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24) ﴾

[ سورة الصافات ]

لذلك السكوت هناك من تمام العدالة الإلهيّة، اسكُتْ فيسْكُت

﴿  اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14) ﴾

[  سورة الإسراء  ]


الإنسان مخير ومسيّر :


﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ سامح الله من يقول:

 إنَّ الإنسان من عالم الأزل كتبَ الله عليه الشقاء، فإذا جاء إلى الدنيا لا بُدّ من أن يعصي الله تنفيذاً لِحُكم الله فيه، ولا بُدّ من أن يدخل إلى النار إلى الأبد تنفيذاً لِحُكم الله فيه، ولا يكفي هذا الوقت القليل المتبقّي من الدرس للخوض فيها، وتبيان مراد الله فيها الآية:

﴿ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌوَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(107( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ  ﴾

[  سورة هود  ]

معضلات هذه الآية كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى قيَّد البقاء في النار والبقاء في الجنة بِبَقاء السماوات والأرض، ولو أنّ السماوات والأرض زالتا أتنتهي الجنة والنار؟! هذا سؤال مهمّ.

والسؤال الثاني:

 إلا ما شاء ربّك، أيَدْخل أهل النار الجنة في النِّهاية؟

والسؤال الثالث والأهمّ:

 هؤلاء الذين هم في الجنة هناك اسْتِثناء إلا ما شاء ربك، أيَدْخلون النار بعدها؟

هذه الأسئلة الدقيقة نُرجئها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

من الآيات المعضلة، أنتم فكِّروا فيها ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌوَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾

سأُنهي الدرس بهذا النص لِسَيِدنا الحسن بن عليّ عليهما رضوان الله، قال سيّدنا الحسن:

"من حَملّ ذنبه على ربِّه فقد فجَر " أيْ إذا قال: إن الله قدَّر عليّ ذلك.

جيء بشارب خمر إلى عمر بن الخطاب، و قد شرب الخمر فقال: أقيموا عليه الحدَّ، قال: واللهِ أيها الأمير إن الله قدَّر عليَّ ذلك، قال: أقيموا عليه الحدَّ مرَّتين، مرة لأنه شرب الخمر، و مرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك إن قضاء الله لم يخرجك مِن الاختيار إلى الاضطرار، أنت مخيَّر.

 فسيدنا الحسن يقول:

" من حمل ذنبه على ربه فقد فجر، إن الله تعالى لا يُطاع استكراها، ولا يُعصى بغلبة، فإن عمل الناس بالطاعة، لم يحول بينهم وبين ما عملوا " أي إن عملت بالطاعة فلا بُدّ من أن تقطف ثمارها، والله سبحانه وتعالى أعزّ وأكرم من أن يحول بينك وبين ثِمار طاعتك ﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77)﴾

 وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم.

﴿  سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

هذا كلام الشِّرك، أن تفعل المعصيَة وتقول: الله قدّرها عليّ، فهذه ثلاث كلمات قالها سيّدنا الحسن:" ولو أجبرهم على الطاعة لأسقط الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عَجْزاً في قدرته "

كأن يهمل الأب ابنه ويقول لك لم أقدر عليه، فهذا دليل على عجزه، فإن عملوا بالطاعة فله المِنَّة عليهم، وإن عملوا بالمعصيَة فله الحُجّة عليهم، خلقهم وأمدّهم وأرشدهم وهداهم وقدّر عليهم الخير، فإن عملوا بالطاعة فله المِنَّة عليهم، وإن عملوا بالمعصيَة فله الحُجّة عليهم 

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾

[ سورة الإنسان   ]

﴿  وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾

[ سورة البقرة  ]

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ (12) ﴾

[  سورة يس  ]

بعد أن فعلوا وأصرُّوا على فعلهم نُسّجلُه عليهم، لا أن نكتب عليهم قبل أن يفعلوا، إذاً لا ثواب ولا عقاب، أكان مسيرنا إلى الشام بِقَضاءٍ من الله وقَدَرٍ، قال سيّدنا عليّ: ويحَكَ لعلّك ظننتَ قضاءً لازماً، أو قدراً حاتِماً، إذاً لبطل الوعد والوعيد، ونُفِيَ الثواب والعقاب، إن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُطَع مكرهاً، ولم ينزِّل الأنبياء عبثاً هذا هو الحق.

كلمة (فمنهم شقيّ و سعيد) أي إذا قُرع جرس الامتحان والطُلّاب انتظموا في مقاعدهم، قبل أن يكتبوا، نقول مِن هؤلاء الطّلاب مَن أعدَّ العُدة لهذا اليوم العصيب طوال العام، فلا بُدّ مِن أن ينجح ومن هؤلاء الطُلّاب مَن أمضى وقته باللعب وهو جاهلٌ جهلاً مطبقاً، فلا بُدّ من أن يرسب، يوم القيامة منهم شقي بمعصيته ومنهم سعيد بطاعته، وكانوا من قبل مُخيرين، فلماذا حمَلَ بعض المفسّرين هذه الآية على أنَّ الشقيّ من شقِيَ في الأزل، وأنّ السعيد من سعد في الأزل، هذا هو الحق المبين، وعلى كلٍّ لنا عودةٌ لهذه الآية في الدرس القادم إن شاء الله بِشَكل تفصيلي، كيف قيّض الله عز وجل البقاء في الجنة وفي النار ببقاء السماوات والأرض، وكيف استثنى إلا ما شاء ربك، كيف استثنى أهل النار وكيف استثنى أهل الجنة، وما الفرق بين قوله تعالى إن ربك فعّالٌ لِما يُريد وبين قوله تعالى عطاءً غير مجذوذ، هذا كله إن شاء الله نبحثه في الدرس القادم والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور