- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في سورة هود إلى قوله تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
1 ـ الإرسال دليل رحمة الله بعباده :
الإرسال أوَّلاً دليل رحمة الله سبحانه وتعالى، فالمُعَلِّم يُدرِّسُ طلابه، فإذا وجَدَ في أحدهم تَقصيراً هل يدَعُهُ إلى الامتحان كي يرْسب؟ لا بدّ من أن ينْصحَهُ، ولا بدّ من أن يضيّق عليه، فَمُجرّد إرسال الأنبياء للعِباد دليل رحمة الله سبحانه وتعالى، وإنَّ الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تَحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يُكَلِّف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً .
2 ـ الفائدة من التكلم بصيغة الجمع :
أما كلمة أرسلنا بِضَمير الجَمع، معنى ذلك أنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى تدخل فيها كلّ أسمائه، فأيّ فِعْلٍ لله عز وجل فيه رحمةٌ، وفيه لُطْفٌ وفيه عَدْلٌ، وفيه غِنًى، وفيه تَقْديرٌ، وفيه عِلْمٌ، وفيه خِبْرةٌ، فإذا تحدَّث الله سبحانه وتعالى عن ذاته استخدم ضمير المفرد
﴿
3 ـ الأنبياء صفوة الخَلق :
هذا الذي أرسله صَفْوَةُ القوم
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ﴾
فالأنبياء كما قال الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ
صَفْوَة الخلق الأنبياء، وصَفْوَةُ الصَّفْوَة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلَّم
4 ـ الانتساب إلى الأنبياء شرف بشرط اتباعهم :
نُسِبوا إليه تشريفاً لهم، قَوْمِهِ، ونحن مِن أُمَّةِ سيّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلَّم نُسِبْنا إليه تَشْريفاً لنا، تشَرَّفْنا به فإن نُسْبْنا إليه ينبغي أن نكون عند أمره ونهْيِهِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
ما هو الإنذار ؟
ما معنى الإنذار؟ هو بيان الأخطار، وبيانُ طُرُق الوِقاية منها هذا هو الإنذار، والإنذار لا يكون بعد فوات الأوان، لابدّ مِن أن يأتي في الوقت المناسب، فالإنذار بيان الأخطار، ولكن هذا الإنذار مُبين، أحيانًا ينهاك الطبيب عن المِلْح ويسكت، أنت لا تعرف لِمَ ينهاكَ ؟ فلو كان طبيباً حكيماً لبيَّنَ لك مضارّ المِلح، المِلح الزائِد يحْبس في الجسد سوائل زائدة، والسوائل الزائدة تجعل الشرايين منتفخة، فيرتفع الضغطُ فيجهد القلبُ بالملح الزائد، فإذا أنذرتَ المريض بمغبّة تناوله الملح، وبيَّنت له كيف أن الملح يرفع الضغط، ويجهد القلب فهذا إنذارٌ مع تبيين، فالإنذار وحده لا يكفي، ربُّنا عز وجل حينما ينذرنا يبيِّن لنا مغبَّة الذي ينذرنا به
الإرسال رحمة من الله، و ( نا ) دليل أن أسماء الله الحسنى كلها داخلة في هذا الإرسال، نوحاً صفوة القوم
من صفات الإنسان الكامل الخلقُ الحسنُ :
الله سبحانه وتعالى كماله مطلَق، لذلك الكامل لا يقرِّب إليه إلا الكامل، أما بنو البشر فلأسباب خاصة ولأسباب تتعلَّق بمصالحهم يقربون إليهم من هم ليسوا في مستوى هذا التقريب، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا يقرِّب إليه إلا مَن كان كاملاً رحيماً، لذلك النبيُّ عليه الصلاة والسلام كان أرأفَ وأرحم الخلق بالخلق، استخلف أبا بكر وقال: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، واستخلف أبو بكر عمر، وقال: أرحم أمتي بأمتي، هؤلاء الكُمَّل لا يقرِّبون إليهم إلا من كانوا على شاكلتهم، لذلك طرق القرب من الله عز وجل أسبابها الكمال، أما الإنسان فقد يقرِّب إليهم من كان شرِّيراً، ومن كان ناقصاً لمصلحة ما، ولكن الله سبحانه وتعالى إذا اصطفى الأنبياء فهم صفوة البشر، جاءه جبريل وقد ردّه أهل الطائف فقال: يا محمد أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك لو شئتَ لأطبَقت عليهم الجبلين، قال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، لا يا أخي عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد اللهَ، هكذا الأنبياء، وهكذا الصدِّيقون، وهكذا المؤمنون، ولن يكون المؤمن مؤمناً إلا إذا كان كاملاً، صار مقياس الرفعة في سلَّم الإيمان الخُلق الحسن، وما من شيء أثقل في الميزان من الخُلق الحسن، ولم يُوصف النبيُّ عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم إلا بصفة واحدة، وهي الخُلق الحسن، وما جاء الأنبياء إلا ليرقوا بأتباعهم إلى المستوى الرفيع .
(( خرج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ من بعضِ حجرِه ، فدخل المسجدَ ، فإذا هو بحلقتين إحدُاهما يقرأون القرآنَ ويدعون اللهَ والأخرى يتعلَّمون ويعلِّمون فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلٌّ على خيرٍ، هؤلاء يقرأون القرآنَ ويدعون اللهَ ، فإن شاءَ أعطاهم وإن شاء منعَهم وهؤلاء يتعلَّمون ويعلِّمون، وإنما بعثتُ معلِّمًا فجلس معهم ))
(( بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ ))
فالخُلق الحسن والسُّموُّ النفسي هذا هو الهدف الأكبر من الدين، تسمو نفوسنا فنصبح أهلاً لأن نكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، تسمو نفوسنا كي نكون أهلاً لجنةٍ عرضها السماوات والأرض
﴿ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
1 ـ الفائدة من صيغة النفي والاستثناء : لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
لم يقل الله عز وجل أن اعبدوا الله، هناك آيات أن اعبدوا الله، أما الآية هنا:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) ﴾
2 ـ : إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41) ﴾
العاقل هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها، والجاهل هو الذي يعيش لحظته، يعيش وقته يعيش عصره كما يقولون، مع الناس، و مع ضلالاتهم، و مع انحرافاتهم، مع علاقاتهم المشبوهة التجارية، مع أكلهم الحرام، مع أكلهم الربا، مع الاختلاط، يقول: أنا مع الناس ، قال الشاعر الجاهلي:
و ما أنا إلا من غزِية إن غوت ْ غويتُ و إن ترشد غزيةُ أرشدِ
***
هذا الذي يقول: أنا مع الناس، مع العادات و التقاليد مع ظروف البيئة، مع معطيات الحياة، مع تيارات الحياة، مع عصر العِلم، مع عصر الانفتاح، هذا الذي يضع الشَّرعَ وراء ظهره، و يضع هذا الكتاب الذي أنزله الله ليكون دستوراً لنا يضعه خارج اهتمامه، ويعيش وقته و لحظته، و يأخذ و يعطي، و يفعل ما يحلو له من دون ضابط من كتاب الله، و من دون أن يكون وقَّافاً عند كتاب الله، سيِّدنا عمر رضي الله عن عمر كان وقَّافاً عند كتاب الله، والمؤمن في ليله ونهاره يطرح على نفسه هذا السؤال، هل هذا العمل الذي أفعله مطابق للشرع؟ وهل يرضى الله عنه؟ وهل فيه زيغٌ؟ وهل فيه انحرافٌ؟ و هل فيه تقصيرٌ؟ وهل فيه تجاوزٌ؟ وهل فيه بغيٌ؟ وهل فيه عدوانٌ؟ هل فيه خروجٌ؟ وهل فيه فسقٌ؟ هذا الذي لا يسأل لا يبالي، ولا يبالي، إذا كان عمله صحيحاً أم غير صحيح، أكان مستقيماً أم غير مستقيم، أكان عمله مطابقاً للشرع أم غير مطابق، كلمته الثابتة أنه لا يبالي، فالله سبحانه و تعالى يقول:
3 ـ لا تعبد مع الله غيره :
إذا كنت تصلي و تصوم و تحج و تزكي فأنت لا شك تعبد اللهَ، و لكن هل: لا تعبدوا إلا الله، إن فعلتَ هذه العبادات فأنت تعبده، ولكنَّ المهمَّ النهيُ: ألا تعبد إلا الله، هل تعبد مع الله جهةً أُخرى؟ إنه من ضعف اليقين أن ترضيَ الناسَ بسخط الله، هذا من ضعف اليقين، ربُّنا عز وجل و صف حالتين مَرَضيتين: الحالة الأولى، وهي قوله تعالى :
﴿
دقة الآية متناهية، قال تعالى :
﴿
هذا الذي يقول مثل هذا الكلام هو منافق لا شك، هذا الذي يقول إذا طبَّقتُ الشرع أخاف على نفسي، أو أخاف على دخلي، أو أخاف على رزقي، و لو حضرتُ معكم مجلس عِلم أخاف على رزقي أن ينقطع، هذا الذي يقول هذا منافق و ربِّ الكعبة
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175) ﴾
لا تخافوهم، ألا تعبدوا إلا الله، فرقٌ كبير بين أن يقول الله سبحانه وتعالى:
فرقٌ كبير بين أن تقول: نعبد اللهَ وبين أن تقول: " إياك نعبد "، حينما تقدَّمت إياك على نعبد أفادت الحصرَ، يعني لا نعبد إلا الله
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6) ﴾
المؤمن متميز عن غيره في كل شيء :
لا بدَّ من التمايز، إذا كنتَ مختلطاً مع الكفار فهذا يذيب الإيمانَ كما يذوب الملح في الماء، تذوب فيهم، تتعلم منهم فيسحبونك إلى صفهم، ويقلِّبونك كما يريدون، أنت مؤمن يجب أن تبقى متميِّزاً عنهم، و لا تذهب حيث يذهبون، ولا تجلس حيث يجلسون، ولا تخوض في حديث كما يخوضون، ولا تنظر كما ينظرون، ولا تسمر كما يسمرون، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
﴿
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا
1 ـ الملأ :
الملأ هم علِيَّة القوم الذين يملئون السمع و البصر
﴿
ثيابهم فاخرة، وبيوتهم واسعة، ومركباتهم فارهة، وحياتهم ناعمة هؤلاء علية القوم، الأغنياء منهم
2 ـ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا
أي أنت واحدٌ منا تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب، وتمشي في الأسواق، وتأكل الطعام، ومن قال : إن الأنبياء لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، فهم مفتقرون إلى الطعام، ومن أجل تأمين الطعام هم مفتقرون إلى العمل، هذا الإنسان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، بشريتهم حجبتهم عن حقيقتهم، إذا التقيتَ بأكبر جرَّاح قلب في العالم ماذا سوف تُريك عيناك به؟ أترى له رأسين؟ لا، سترى رأساً واحداً، أربع أيدٍ؟ لا، بل له يدان اثنتان مثلك، إنه مثل أيِّ إنسان آخر، ما أجهل القائل! هذا أكبر جرَّاح قلبٍ في العالم، وقد أجرى مائة ألف عملية قلب مفتوح ونجحت كلها، وهو الذي امتلأ عِلماً و خبرةً في القلب، تقول له عينان كعيني فلان، له أذنان كأذني فلان، له رأس كرأس كل إنسان، له قامةٌ منتصبة، فإذاً ماذا تريده أن يكون؟ هؤلاء الكُبراء هؤلاء علية القوم، هؤلاء الذين يملئون عين أهل الدنيا، هؤلاء الملأ
﴿
بمعنى أن في جوانحي عواطف و أحاسيس، اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، و أرضى كما يرضى البشر، يجوع النبي ويعطش، و يشعر بالحرِّ و يشعر بالقرِّ، و يشعر بالدفء، ويتزوج، و يأتيه أولاد، إنه بشر و لكن لا كالبشر، محمدٌ بشرٌ و ليس كالبشر، بل هو جوهرةٌ و الناس كالحجرِ، الجوهرة حجر و ليست كالحجر، حجر كريم
فإن تفُقِ الأنامَ فأنت منـهم فإن المسكَ بعض دم الغزال
***
أي أنت منهم، ولكنك فقتَهم
(( مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ ))
سيدنا ابن الوليد رضي الله عنه أبو سليمان خالد بن الوليد كان قصير القامة أسمر اللون، لكنه خاض مائة معركة أو زُهاءها، و ما في بدنه كما يقول وهو على فراش الموت موطن شبر إلا و فيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، عزلَه سيدنا عمر فجاءه إلى المدينة فقال: يا أمير المؤمنين لِمَ عزلتني، خاف أن يكون قد اقترف إثمًاً أو فعل شيئاً، لأنَّ رضاء عمر مِن رِضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ورِضاءُ رسول الله مِن رِضاء الله، هكذا قال سيّدنا عمر:
وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
3 ـ معنى الأراذل ومدلولها :
معنى كلمة أراذلنا، هذه الكلمة لها معنى لغوي، تعني ضعفاءنا وفقراءنا، وهذه الكلمة فيها استعلاء، هؤلاء الذين اتَّبعوك من الطبقة الدنيا في المجتمع، فقراء أصحاب مصالح، أصحاب حِرف، يكسبون قوت يومهم، ولا شأن لهم، بيوتهم صغيرة، أموالهم قليلة، حياتهم خشنة، هؤلاء لا نرضى أن نجلس معهم، ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾ ﴾
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) ﴾
﴿
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ(12) ﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) ﴾
(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
لا طبقية في الإسلام :
ودخل سيدنا عمر المسجد فداس على يد أحد المصلين، ويبدو أنه تألَّم فقال: أأعمى أنت؟ قال: لا، فقال له مَن معه: أيخاطبك هكذا؟ قال: سألني فأجبته، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام كان متواضعاً، فكان يجلس جلسة العبد، وكان يخصف نعله، و يرفو ثوبه، و يحلب شاته، و كان في مهنة أهله، و كان يصغي الإناء للهرة، و ربما أخذت بيده الجارية الصغيرة فقادته في أطراف البيت، هكذا كان الأنبياء، أما الذين يستعلون في الأرض
﴿
سيدنا بلال عبدٌ حبشي، كان عبداً مملوكاً عند صفوان بن أمية، وكان يعذِّبه لأنه آمن، ويقول: أَحَدٌ أحَد، أراد الصدَّيق رضي الله عنه أن يشتريه ويعتقه، فذهب إلى سيِّده، ونقده الثمن، و أراد أن يعلن عن أخوَّته، فوضع يدَه الكريمة تحت إبط بلال، وأن تضع يدك تحت إبط أخيك هذه رمز المودَّة والأخوَّة والتساوي، فاغتاظ صفوان وقال: واللهِ لو دفعتَ به درهماً واحداً لبِعتُكَهُ، فأراد الصدِّيقُ أن يرفع من شأن بلال، قال: واللهِ لو طلبتَ له ثمناً مائة ألفٍ لأعطَيتُكَها، هذا أخي حقًّاً، هذا الإسلام، طبقة واحدة، الطبقية غير موجودة بين المسلمين
لا طبقية في الإسلام، مقياس رفعة الإنسان عند الله طاعتُه لله، كان يقول عليه الصلاة و السلام إذا دخل عليه معاذ قال توَدُّدا له :
(( هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ ))
عيَّنه سيدُنا أبو بكر قائداً لجيش القادسية، وقال له:
على جنب النبيِّ الأيسر كان يجلس رجل عظيم الشأن في قومه، جاءه ملَكُ الموت فطلب قميص رسول الله، فقال: " أعطوه قميصي، الآن استقرَّ في جهنم، كأنه حجرٌ يهوي سبعين خريفاً إلى قعرها "، فمهما كنتَ قريباً جسمياً من رسول الله فلا ينفعك إلا عملُك
4 ـ بَادِي الرَّأْيِ
بادي الرأي، يعني هم تسرَّعوا وآمنوا، بدا لهم أن دعوتك حقٌّ فآمنوا بها، لم يتعمّقوا، ولم يحلِّلوا النيات، ولم يتفهموا، هؤلاء الكفار الماكرون يشوّهون كلَّ شيء، ويظنون السوء بكلِّ شيء، كلما دعوتَهم إلى الله عز وجل قالوا: ماذا يريد من هذه الدعوة، و ماذا يبتغي منها، أن يعلُوَ علينا، وأن يستعليَ في الأرض، وأن يخضعنا
﴿
باديَ الرأي يعني أنهم قالوا: اتخذوا هذا الرأي السريع، و اعتنقوه ديناً وعقيدة لم يكن رأيهم متعمِّقاً، و لم يحلِّلوا، و لم يشكِّكوا
5 ـ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ
دائماً هذه كلمة الكفر، و الكفار يعلنون دائماً أن المؤمنين ليسوا أفضل منهم، يقول أحدهم : صحيح أنا لا أصلِّي، ولكن قلبي نظيف، ونسي أن الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10) ﴾
راقِبْه أين يسهر، و كيف معاملته للناس، إذا اقترض منهم مالاً فهل يؤديه لهم؟ نفسُه الدنيئة و مواعيده التي يخلفها، حبُّه لِذاته، استعلاؤه وأنانيته
6 ـ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ :
﴿
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
1 ـ الأنبياء معهم حُجة وبينة :
يعني معي هذا الكتاب، ومعي هذه الحجّة، ومعي هذا المنطق
2 ـ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
لم يقل الله عز وجل: فعمَّاها الله عليكم! لا، فَعُمِّيَتْ عليكم، أيْ حبّكم للدنيا حجَبَكم عن هذه الحقيقة، وحبّكم للعلوّ في الأرض حجَبَكم عن هذه الحقيقة
3 ـ المؤمن سعيد في جميع أحواله :
المؤمن في سعادة ينكرها عليه المنافق أو الكافر، لِسان حال المؤمن أن يقول: أنا سعيد بِهذا الدَّخْل القليل، وبهذا البيت الصغير، وبهذه الزوجة، وبهذا العمل المتواضع، مالي حلال وأنام مطمئناً، لم أبنِ ثروتي على فقر الآخرين، ولم أبْنِ مجدي على أنقاضهم، ورفعتي على تعاستهم، وحياتي على موتهم، وأنا سعيد راضٍ عن الله، والله راضٍ عنِّي! لا
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اسمعوا وأطيعوا، ولو تولّى عليكم عبْد رأسُه كالزبيبة، وأنا جدّ كلّ تقيّ، ولو كان عبداً حبشيّاً، تروي السيرة أن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا بلال يا ابن السوداء فغضب النبي عليه الصلاة والسلام غضباً لم يغضبه من قبل فقال :
(( يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ ))
كلّنا لآدم، وهذا هو الإسلام
4 ـ المؤمن راحمٌ مرحوم :
المؤمن مرحوم، رحم الله عبْداً سَمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى، ورحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى، الله سبحانه وتعالى يرحمه
5 ـ المؤمن يؤثر الآخرة على الدنيا :
أنتم لا تريدونها، أنتم آثرتم الدنيا، آثرتم جمْعَ الدِّرْهم والدِّينار، آثرتم بيتاً بالحرام، ومحلاً تِجارياً محرَّماً، وبضاعة محرّمة، وعلاقة ماليّة محرّمة وآثرتم الاختلاط، آثرتم الغرْب وتقليد الأجانب، وآثرتم شهواتكم، و آثرتم عاجل دنياكم
﴿
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا
من علامات الصدق الترفعُ عن الدنيا :
هذه علامة الصادقين
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9) ﴾
علامة الإخلاص الترفّع عن الدنيا، فلا تبتغي أجراً ولا شكراً، ولا ذِكراً ولا تنويهاً، ولا تلميحاً، ولا تصريحاً، ولا إشادةً، ولا شيئاً من هذا القبيل
خاتمة :
فهذه قصّة ولكنّ قصص القرآن الكريم كلها وقائع ونحياها، لأنَّ الإنسان هو الإنسان، والكافر هو الكافر، والمؤمن هو المؤمن، والحق هو الحق، والباطل هو الباطل، وقديماً قالوا: التاريخ يعيد نفسه، فأنت إن دعوتَ إلى الله أصحاب المال المتْرفين عارضوك، وأما إن دعوت المفكِّرين الصادقين المستبصرين اتَّبعوك، وهذه سنَّة الله في خلقه، وقيمة الإنسان بإيمانه وأخلاقه ولو كان من أراذل القوم أي من فقرائِهم، ولو كان من كُبرائهم، وكان بعيداً عن الله عز وجل فهو في أسفل سافلين.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين