- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم، وصلنا في الدرس الماضي في تفسير سورة هود إلى قوله تعالى:
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ
1 ـ النبي عليه الصلاة والسلام ضاق صدره من قول الكفار :
النبي عليه الصلاة والسلام ضاق صدره بالكفار، لأنَّهم لم يُقَدِّروا رِسالته، ولم يعرفوا نُبْلَ هدفه، ولم يُعْطوهُ أُذُناً صاغِيَةً، بل سألوه أسئلةً سخيفة، وطالبوه بِأدِلّةٍ لا يليق به أن يُطالبَ بها، جاءهم بالحق فقالوا:
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ
2 ـ القرآن معجزة :
فأخذتهم الصاعقة، فالكفار دائماً إذا دُعُوا إلى الله سبحانه وتعالى يتحجَّجُون ويُطالبون، مع أنَّ الكون كلّه معجزة، هذا الذي يُريد خرقاً لِقوانينه مُتَعَنِّتاً، غاب عنه أنَّ خلقهُ معجزة، أنَّ خلقه من ماءٍ مهين، وأنَّ أولاده، طعامه، وشرابه والبيت الذي يأوِي إليه والزوجة التي يسْكنُ إليها، ما حوله، وما أمامه، وما وراءهُ، في كلّ شيءٍ له آية تدلّ على أنَّه واحِدُ، لذلك قال بعضهم: لم أجِد أشدَّ صمَماً مِن الذي يريد ألا يسْمع، فالذي يتكلّم عن الله سبحانه وتعالى إنَّما يتكلَّم بإقبال الناس عليه، وبِتَشْجيعِهِم له، وبِقَبُول كلامه، وبإصْغائِهِم إليه، فإذا صَدُّوا وأعْرَضُوا وتعنَّتوا وطالبوا وسَخِروا، واسْتخَفُّوا وتتبَّعوا بعض الهَنات، فإنَّ المتكلِّمَ تَضيقُ نفسهُ، ولا ينطلقُ لِسانهُ، لأنَّ المُسْتَمِع ليس مُصَدِّقاً، إنَّما هو متعَنِّت، لذلك هناك سائلٌ يسأل سؤالَ من يريد أن يعلم، سؤال المستفهم تُجيب عنه بِنَفْسٍ رَضِيَّة، ولكن سؤال المتعنِّت تُجيب عنه ونفسُكَ ضيِّقَةٌ به، فالنبي عليه الصلاة والسلام، الله سبحانه وتعالى أراد أن يُبيّن تعنّت الكفار وسخفهم ومطالبتهم النبي عليه الصلاة والسلام بأشياء من باب التعجيز، فهذه حقيقة والله سبحانه وتعالى في الوقت نفسه يُسَلِّي نبيّه عليه الصلاة والسلام ويثبِّتهُ ويَدْعوه أن يُواجه هذه المتاعب بِثَباتٍ وأنَّ حِسابهم ليس عليه إنَّما على الله رب العالمين،
أحياناً يُسأل الإنسان سؤالاً عن حُكْم الشرع في هذا الموضوع، فيقول المسؤول: ليْتَهُ لم يسألني هذا السؤال، لأنّني إذا أجبته وِفْقَ الحق قد لا يتحمَّل هذه الإجابة، وإن قلتُ له : إنَّ هذا العمل كله حرامٌ فإنه يقول: هذا عملي، فماذا أصنعُ به؟ لو كان الإيمان بِدَرَجةٍ أكبر لضحَّى الإنسان بِكُلّ شيء اتِّجاه مرضاة الله ربّ العالمين، فالإنسان في أوَّل الأمر ليس له أن يُكْثِرَ الأسئلة، لأنَّه إن أكثرها ضاق عليه الشرع، وضاق إلى درجة أنَّه قد لا يحْتمِلُ مُتابعة الطريق، فالإنسان...
﴿
إذا عرفت الآمر قبل الأمر هان عليك أمرهُ :
لأحدهم محلٌّ تجاري، والبِضاعة كلّها حرام، تعاملُهُ كلّه حرام، فإذا سألك عن شرْعِيَّة هذا العمل فأنت ليس لك خِيار، لا بدّ أن تقول الحق كائناً ما كان، وليَكُن ما يكون، فالإنسان في أوَّل الطريق عليه أن يتعرّف إلى الله رب العالمين، وأن يلْتَفِت إلى الكون لِيَرى عظمة الخالق، فإذا عرف عظمة الخالق هانَ عليه طاعتهُ مهما كان ثمنها باهظاً، فلو تعرَّفْت على إنسان يستطيعُ أن يُمِدَّك بآلاف الملايين، وقال لك: سلِّم هذا المحلّ، فُروغُهُ خمسون ألفاً، إذا عرفْت حجْم ماله وحِرْصهُ على منْفَعَتِك وصِدقهُ في وعدهِ، وغِناهُ، إذا عرفْت كلّ هذه الحقائق يهون عليك إذا وجَّه لك أمراً أن تُسلِّم هذا المحل أنْ تستجيب له، لذلك المشكلة دائماً أن تعرف الآمِرَ قبل أن تعرف أمرهُ، فإذا عرفت الآمر قبل الأمر هان عليك أمرهُ، فإذا تعرَّفْت إلى أمرهِ قبل أن تتعرَّف إليه صَعُب عليك أمره وهذه هي المشكلة، النبي عليه الصلاة والسلام أمضى مع أصحابه الكرام بضْع عشرة سنة في مكة المكّرمة، يُعَرِّفهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويَلْفِتُ نظرهم إلى الكون
﴿
﴿
﴿
هذه الآيات إذا الْتَفَتْنا إليها، وعرفنا مدلولاتها، وعرفنا الخالق العظيم الذي خلقها والمُرَبِّي الكريم الذي أمدّها، والمُسيِّر الحكيم الذي سيَّرَها، إذا عرفناه حقّ المعرفة هان علينا أن نترك كلّ شيءٍ من أجله
إذا صحّ منك الوصل فالكلّ هيّن وكلُّ الذي فـوق التراب تراب
***
الذي أتمنَّى عليكم أن تتَّجِهوا بِكُلّ طاقاتكم إلى معرفة الله، فإذا عرفتموه حقّ المعرفة هانَ كلّ شيءٍ في سبيله .
فلو شاهَدَت عيناك من حسننا الذي رأوْهُ لما ولَّيْت عنَّا لِغَيرنــا
ولو سَمِعت أذنك حُسْن خِطابنا خَلَعْتَ عنك ثِيابَ العُجْب وجِئتنـا
ولو ذُقْتَ من طَعْم المحبّة ذرَّةً عَذَرْتَ الذي أصحى قتيلاً بِحُبِّنـا
ولو نسَمَتْ مِن قُربنا لك نسْمةٌ لَمُتَّ غريبًا واشْتِياقاً لِقُربنــــا
فما حُبُّنا سهل وكلّ من ادَّعــــى سهولته قلنا له قد جهلتنـــــا
فأيْسَرُ ما في الحبّ للصدّ قتله وأصعبُ مِن قتل الفتى يوم هجرنا
***
أنت طالبٌ وُدَّ الله عز وجل، وطالب وُدَّ خالق الأكوان، ويجب أن تدفعَ الثَّمَن، ألا إنَّ سِلعة الله غالية
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) ﴾
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) ﴾
لا بدّ مِن أن تُمْتَحَن، ولا بدّ مِن أن يمتحن إيمانك ولا بدّ من أن يُمْتَحَن توكّلك وصبركَ، ولا بدّ من أن يُمتحن حبّك، مثلاً لو أنَّ أُمّاً تسْكنُ عند ابنها، وهو يملأُ سمعها من ألفاظ الإخلاص والوُدّ والطاعة وما شاكلَ ذلك، فقالتْ لهُ مرّةً: أعْطِني هذه الغرفة أختص بها؟ فقال: لا أستطيع!! هذا الكلام الذي يقوله تلاشى أمام رفضِه لِهذا الطَّلَب، لأنَّه حينما رفض طلبها تبيّن أنّ البقاء بِهذه الغرفة أغلى عليه من رِضاها، هذا مثلٌ، وأحياناً يعصي الإنسان ربّه من أجل شَهْوةٍ، ماذا يعني ذلك؟! يعني ذلك أنَّ هذه الشَّهوة أغلى عليه مِن ربِّه، إذا قال لك واحدٌ من الناس: لا أستطيع أن أغضّ بصري، هل تعرف ماذا تعني هذه الكلمة؟ تعني أنّ اسْتِمتاعه بالنَّظر إلى النِّساء أغلى عليه مِن رِضاء الله رب العالمين
فلما يتعرّف الإنسان إلى الله عز وجل معرفةً حقيقيّة ثم سمع أمره طبَّقه طواعِيَةً، وليس في حياةِ المؤمن شيءٌ مستحيل ما دام يُرضي الله رب العالمين، ذهب إلى الطائف مشياً على قَدَميه، وتهجَّم عليه أهل الطائف، وردُّوه وكذَّبوه، واسْتَخَفُّوا به، ثم قال :
(( اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ، أرحمُ الراحمينَ أنتَ ؛ ارحمْني، إلى منْ تكلُني ؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُني، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمري ؟ إن لمْ تكنْ غضبانًا عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزلَ بيَ غضبَكَ أو تُحلَّ عليَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك ))
وكُلٌّ يدَّعي وصلاً بِلَيلى، فما مِن مؤمن على وجه الأرض إلا ويدَّعِي محبّة الله عز وجل، ولكنّ المحبّة لها ثمن، آيات كثيرة بهذا المعنى
﴿
الآن تستحقّ أن تكون إماماً، بعد أنْ امْتَحَنْتُكَ وبعد أن نجحْت في الامتِحان، فلا بدّ من مرحلة مكِّيَّة في كلّ عصرٍ، ولا بدّ مرحلةٍ مدنيَّة في كلّ عصرٍ، ففي المرحلة المكيّة نتعرّف إلى الله عز وجل، وفي المرحلة المدنيّة نتعرّف إلى أوامره، فإذا جاءَت معرفة الله قبل أوامره هان علينا تطبيق أوامره، فإذا جاء تعريف الناس بالأوامر قبل معرفتهم بالله تملَّصُوا منها كما يتملّص المُخادع من أمْرٍ نزَلَ به، فَكُلُّكُم يعلم كيف أنَّ الناس يحْتالون على الشَّرْع، فالشخص الذي يضع أمام دكانه صندوقاً من الشاي، ويأتيه رجل ليستقرض منه دَيناً بالربا، يقول له: بِكَم تبيعني هذا الصندوق من الشاي؟ فيقول مثلا: بألف، فيقول: اشْتريتُ، سجِّلهُ عليّ ديناً، ثمّ يقول له: أتشتري منِّي هذا الصندوق فيقول له: نعم، فيقول: بِكَم، فيقول الآخر: بثمانمائة نقداً، فهذه عمليّة ربا، هذا الصندوق يبقى سنوات وسنوات، لا ينتقل إلى المشتري ولا إلى البائع، إذا عرفت الأمر الإلهي قبل أن تعرف الآمر تحتال على الأمر، الذي شرّع لنا يخفى عليه هذا الإحتيال؟ إذا عرفتَ الأمر الإلهي قبل أن تعرف الآمر تحتال على الأمر، كما فعل اليهود حينما نُهُوا عن الصَّيْد يوم السبت، فَحَفروا الحفر إلى جانب البحر، ودخلتها الحيتان يوم الجمعة، وأغلقوها يوم السبت واصطادوها يوم الأحد! نفَّذوا الشرع لكن مع الاحْتِيال!! لذلك لا بدّ من أن نعرف الله سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافيَة
شبهة الكفار في صدق النبي :
1 ـ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَك
كان فقيراً عليه الصلاة السلام فقال: جاءني جبريل فقال لي: يا محمّد أتحبّ أن تكون نبيّاً ملِكاً أم نبِيّاً عبْداً؟ فقال: بل نبيّاً عبداً، أجوعُ يوماً فأذكرهُ وأشبَعُ يوماً فأشْكرهُ، دخل عليه عمر بن الخطاب مرّة فرآه مسْتَلْقِياً على الحصير، وقد أثَّرَ على خدِّه الشريف فبكى عمر، قال: يا عمر ما يُبكيك؟! فقال عمر: كِسرى ملك الفرس ينام على الحرير ورسول الله ينام على الحصير! فقال: يا عمر إنما هي نبوّةٌ وليسَتْ مُلكاً!! هنا قالوا: لولا أنزل عليه كنزٌ، لو كان غنيّاً أو له مظهر فخم أو جاء معه ملَك، يُؤيِّدُهُ ويُصدِّقهُ
2 ـ الردُّ الإلهي : إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل
ربنا عز وجل قال:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾
﴿
تهمة قديمة متجدِّدة :
1 ـ يَقُولُونَ افْتَرَاه
من التُّهَم التي ضاق النبي عليه الصلاة والسلام بها ذرعاً أنَّهم قالوا: إنَّ هذا القرآن من صنعِهِ
ومِن نَظْمِه وصِياغَتِهِ
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾
2 ـ الردُّ الإلهي :
أي أنتم ومن معكم ومن حولكم واستَعينوا بالخُبراء واللُّغَوِيِّين والأُدباء والعلماء، لن تستطيعوا أن تأتوا بِعَشر سُوَرٍ مِن مثل هذا الكتاب
﴿ فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾
فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ
1 ـ القرآن حوى جميع أنواع الإعجاز :
الحقيقة هل تستطيع أن تُلقي على الناس محاضرة، ثمّ يُكتشف من هذه المحاضرة أنَّ فيها كلمات متوازية مع كلمات أُخرى، مثلاً عدد حروف الجر ( الباء )كعدد حروف الجر (من) ؟ هذا فوق طاقة البشر، فإنك تجد في القرآن الكريم كلمة اليوم مذكورة فيه ثلاثمائة وخمساً وستين مرَّة بالضَّبط، وكلمة شهر مذكورة فيه اثنتي عشرة مرَّة، وكلمات الملائكة تُكافئ كلمات الشياطين، وكلمات الجنّة تُكافئ كلمات النار، وكلمات الدنيا تكافئ كلمات الآخرة، هذا فوق طاقة البشر، فلو تتبَّعنا تَكرار الكلمات الحِسابي، لوَجَدنا العَجَب العُجاب، فهناك إعجاز حِسابي، وهناك إعجاز رياضي، وهناك إعجاز بياني، وهناك إعجاز تشريعي، وهناك إعجاز لُغوي، لأنَّ الله عز وجل كماله مطلق، فكما أنّ كماله مطلق فكمال كلامه مطلق
2 ـ هل أنتم مستَسْلِمون لما في القرآن من حقائق ؟
لا مُسيِّر إلا الله ولا خالق إلا الله، ولا مُربِّيَ إلا الله أنتم ماذا تنظرون؟ فهل أنتم مسلمون؟ أيْ مستَسْلِمون لما فيه من حقائق .
أحياناً يكون الإنسان مريضاً، فيأتيه الطبيب ويصِفُ له دواءً، إذا تيقَّن المريض أنّ هذا الطبيب عالم، وأنّ هذا الدواء يشفيه من مرضه، وأنّ اتِّباع تعليمات الطبيب لِمَصلحته يستسلم لأوامر الطبيب، وهذا الاستِسْلام مهمّ جدًّا، فالناس الآن لم يسْتَسْلِموا لله عز وجل، هذا يأكل الربا! إذاً: هو ما استسلم لأمر الله، والآخر يؤثر الاختلاط، فهذا لم يستسلم لأمر الله أيضاً، وغيره لا يبالي بِأغلاط وأخطاء لِسانه، من غيبة إلى نميمة إلى فحشٍ، إذاً: لم يستسلم لله عز وجل، الإسلام الأوَّل أن تستسلم لأوامر الله صغيرها وكبيرها، هذا القلب وِعاء عليك أن تخرج منه كلّ شيء، وألا يبقى في قلبك إلا الله، هذا القلب بماذا ملأتَهُ؟
﴿
لك قلب واحد، ولا يتَّسِع إلا لشيء واحد، ما هذا الشيء الذي يملأ قلبك؟ قد تكون الدنيا، إذاً حب الدنيا رأس كلّ خطيئة، وقد يكون حبّ المال أو الجاه أو حبّ العلوّ في الأرض، أو حبّ الحياة بأوْسع معانيها، أو حبّ الملذات، أو حبّ السمعة، أو حبّ ما في الحياة من مالها وأولادها ونسائها، ما الذي يملأ القلب؟ الدعاء الكريم : اللهمّ لا تجعلها في قلوبنا، واجعلها في أيدينا، إن كانت في القلب أعْمَت وأصمَّت، وإن كانت في اليدين كانت قوَّةً لك على أمر دينك ودنياك
3 ـ الإيمان مراتب متفاوتة :
هل أنتم منقادون لهذه الأوامر؟ على كلٍ الإيمان مراتب، هناك أُناسٌ مشغولون بِمُدافعة التدنِّي، وهناك أُناس مشغولون بِمُتابعة الترقّي وشتان بين الفريقين! مِن الناس من شُغلهُ الشاغل ألا يقع في الغلط وألا ينظر إلى النّساء وألا يكذب، مشغول بِمُدافعة التدنِّي، هذه مرتبة العابدين، ولكنّ في الإيمان صنفاً آخر مشغولٌ بِمُتابعة الترقِّي، ماذا عرفت عن الله اليوم؟ كيف تقرَّبْت إليه؟ وماذا فعلت من أجله؟
موضوع الإستقامة موضوع مفروغ منه، فأنت بين أن تكون مشغولاً بِمُدافعة التدنِّي وبين أن تكون مشغولاً بِمُتابعة الترقّي، وهذه مرتبة المؤمنين الصادقين .
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ
مَن طلب الدنيا وجَدَها :
إذا أصْررْت على طلب الدنيا تأتيك الدنيا، إذا أصْررْت على أن تكون غنيّاً فسوف تكون غنيّاً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى حينما جاء بك إلى الدنيا وعدَكَ أن يُعْطِيَكَ سُؤْلَكَ
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُوراً(18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً(19 (كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً(2) ﴾
وأنا أقول لكم هذا الكلام: اُطلب من الله بِصِدْق لا بدّ من أن تناله، اُطلب المال الوفير تُصبح غنياً كبيراً، اُطلب الجاه العريض يصبح لك شأنٌ كبير، ولكن
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
﴿
1 ـ الصدق والعدل ينظمان علاقة العبد بربه :
يا عبادي كلمتان تنظِّم العلاقة بيني وبينكم، الصِّدْق والعَدل، فمنكم الصِّدق ومنِّي العَدل، أي إن طلبتم منِّي طلباً بِصِدق لا بدّ من أن تنالوه، وأنا أعْدلُ بينكم
لذلك لو جئتَ في آخر العمر، وتولَّدَ في نفسك طلبٌ للحق وحبّ لله عز وجل، لا بدّ من أن تتقلَّب في معارج القدس، لا بدّ من أن تسْمُوَ نفْسك، فأنت في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ عصرٍ، وفي أيِّ مِصْرٍ، إذا صدقت في طلب معرفة الله عز وجل لا بدّ من أن تعرفه
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69) ﴾
2 ـ القرآن غِنًى لا فقْر بعده، ولا غنًى دونه :
لكنّ المشكلة أنَّك إذا طلبت من الله الدنيا وجاءتك الدنيا، فهل أنت رابح ؟! لا والله، لو كان دخلك باليوم مليون فهل أنت رابِح؟ لا والله! لا بد من الموت
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) ﴾
﴿
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ
فالأنبياء ماتوا، التاريخ الإسلامي الذي نعرفه جميعاً، أين النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهو أسعدنا، توفَّاه الله.
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ﴾
أين أبو جهل؟ أين أبو لهب؟ أين الصدّيق؟ ماتوا جميعاً، ولكنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام منذ أن توفَّاهم الله فهم في سعادةٍ ما بعدها سعادة، مضى عليهم في هذه السعادة ألفٌ وأربعمائة عام، وأبو جهل وأبو لهب منذ أن ماتوا في شقاءٍ ما بعدهُ شقاء، ومضى لهم في هذا الشقاء ألف وأربعمائة عام
﴿
ألف وأربعمائة سنة، ضرب ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ضرب اثنان صباحاً ومساءاً!
مرَّ النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه مع أصحابه على جيفةٍ نَتِنَة فقال لهم:
(( أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا ؟ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا قَطْرَةً أَبَداً ))
فلو أنّ واحداً كانت عنده قطعة لحم متفسِّخة، هل لها قيمة؟ على القمامة فوراً .
3 ـ المؤمن معنوياته مرتفعة :
المؤمن معنويَّاته عالية جدّاً، معنويَّاته العالية نابعة مِن أنَّه عرف الحقيقة الكبرى، والهدف الذي خلق مِن أجله، مِن أنَّه على طريق مستمر إلى الأبد، طريق السعادة مهما تكن حياته متواضعة، ومهما يكن دَخلهُ قليلاً، ومهما تكن المتاعب مُحيطة به من كلّ جانب فإنه يرضى بها، لأنَّ هدفه الأكبر تحقَّق، أجوع يوماً فأذكرهُ، وأشبعُ يوماً فأشكرُه .
سيّدنا الصدِّيق كان خليفة المسلمين، جاءتهُ قضيَّةٌ فحوَّلها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، سيّدنا عمر حكمَ فيها حكماً اغتاظ منه أصحابها، فذهبوا إلى الصدِّيق لِيُوقِعُوا بينه وبين عمر، فقالوا: فعَلَ كذا وكذا، فالخليفة أنت أم هو؟ فقال: هو إذا شاء! هيِّنةٌ عليه، فأنت إذا عرفْت الله سبحانه وتعالى هانَتْ عليك الأمور، وهانَتْ عليك الدنيا، ولن ترضَ عن الله عز وجل، ولن يرضى الله عنك إلا إذا رضيتَ عن الله، وقد قال رجلٌ وهو يطوف: " يا ربّ هل أنت راضٍ عَنِّي؟ فقال له الشافعي: وهل أنت راضٍ عنه حتى يرضى عنك؟! قال: سامحك الله! من أنت يرحمك الله؟ كيف أرضى عنه، وأنا أتمنَّى رِضاه؟! فقال له الشافعي: إذا كان سُرورك بالنِّقْمة كَسُرورك بالنِّعْمة فقد رضيتَ عن الله " هذا مِقياس الرضا! فهل أنت راضٍ عن الله؟
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا
1 ـ هذا مصير مَن أحَبَّ الدنيا يوم القيامة :
أحبُّوا الدنيا وانتهى الأمر
(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ))
2 ـ الإخلاصَ الإخْلاصَ :
الإخلاصَ الإخْلاصَ أيها المؤمنون، يا معاذ أخْلِصْ دينَكَ يكْفِكَ القليل من العمل، فمع الإخلاص ينفع كثير العمل وقليله، ومن غير الإخلاص لا ينفع قليل العمل ولا كثيره! إذا أراد أحد الدنيا وصل إليها، هل لك عندي شيء؟ ماذا تريد؟ أردْت الدنيا فأعطيناك، هذه الآخرة لِمن أراد الآخرة
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾
لذلك إذا كنت أنت أيها الأخ الكريم مؤمناً فأنت مِن مُلوك الدار الآخرة
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3) ﴾
تخفض أُناساً وترفع أُناساً، ألا يا ربّ نفسٍ جائعةٍ عارِيَةٍ في الدنيا طاعمةٍ ناعمة يوم القيامة، ألا يا ربّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمة في الدنيا جائعةٍ عارِيَةٍ يوم القيامة، ألا يا ربّ مُكرِمٍ لنفسه وهو لها مُهين، ألا يا رب مُهين لِنَفسه وهو لها مُكرِم، فالبطولة
﴿ إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23) ﴾
4 ـ معنى باطل :
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81) ﴾
﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ(17)﴾
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً
1 ـ نظائر هذه الآية في القرآن الكريم :
هذه الآية تُشْبه آيات كثيرة تزيد على عشرين آية
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18) ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) ﴾
﴿
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
2 ـ الوقت هو كلّ شيء في الدنيا :
ما مضى فات والمُؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها .
***
أيها الإخوة الأكارم، لا تملكون إلا الوقت، هذه الساعة التي نحن فيها، أما كيف كنت فهذا مضى، سأتوب بعد كذا وكذا، هذا قد لا يكون، قد لا يأتي ذلك اليوم، المؤمَّلُ غيب، لذلك في كلّ يومٍ يُصبح الإنسان فيه يُنادي عليه ملَكٌ يقول متحدِّثاً بِلِسان اليوم: أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنم منِّي قبل الرحيل، استيقظتَ صباحاً، ولم تصلّ بعد الصبح، فاتك الوقت، أما اليوم فقد فاتتْك الصلاة كلها، جلست، ولم تفعَل شيئاً، وما تقرَّبت إلى الله عز وجل، وما خَدَمتَ أحداً، وما تلَوْت القرآن، فأنت اسْتَهلكتَ اليوم اسْتِهلاكاً رخيصاً، هذا من دون سيِّئات ! كأن يقدِّم الواحد امتِحاناً في مادَّة أساسية، وبقي ساعةً من دون حركة ! فلما الإنسان يستهلك يومه اسْتِهلاكاً رخيصاً يكون أحمق، ويوم القيامة لا يندم المؤمن إلا على شيءٍ واحد، على ساعةٍ مرَّتْ لم يذكر الله فيها، هذا الذي يندم عليه، فهذا اليوم يقول للإنسان أنا خَلْقٌ جديد وعلى عملك شهيد فتزوَّد منِّي قبل الرَّحيل، وهذا هو اليوم المشهود الذي لا تملك غيره، وهناك اليوم الموعود، نحن وُعِدْنا بِسَاعة اللِّقاء، وساعة الموت، وهناك يوم مورود، وهو يوم القيامة، وهناك يوم ممدود إما في الجنَّة أو النار، اليوم الممدود لا نهاية له وإلى الأبد واليوم الموعود هو الموت، وكلّ واحد له ساعة لا بد آتية، وأنّ ملَكَ الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطَّى غيرنا إلينا، كلّ يوم تمشي في الطريق ترى نعوات كثيرة، عميد أسرتهم، الشاب، الشابة، ورب البيت، والطبيب والمحامي، ووُجهاء البلد، لكن هناك يوم لا بدّ من أن يأتي، يقف الناس لِيَقرؤوا النَّعْي
﴿
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ
1 ـ الكذب أسوأ خُلُقٍ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
قبيحٌ بالإنسان أن يكذب، أما إذا كذب على الله فهذا أشدّ أنواع الكذب وأقبح أنواع الكذب أن تكذب على الله الذي خلقَكَ ولم تكن شيئاً
2 ـ الكاذبُ ظالمٌ لنفسه :
﴿
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
1 ـ الكافر همُّه الأول الصدُّ عن سبيل الله :
لا يوجد وصْفٌ أبلغُ مِن هذا الوَصْف، الكافر في الدنيا همُّه الأوَّل أن يصدّ عن سبيل الله، ويقطع الطُّرُق التي توصِل إلى الله عز وجل
﴿
2 ـ لا يعجِز اللهَ أحدٌ في الأرض ولا في السماء :
أي لا بدّ أن يموتوا، لم يسبقوا الله سبحانه وتعالى، هم بِقَبْضة الله عز وجل، كُنْ فَيَكون
3 ـ السمع والبصر مرهونان باستعمالهما :
الإنسان إذا كان مزوّد بِسَمعٍ أو بصر، فإذا استخدم السمع والبصر في معرفة الحقّ كان سميعاً بصيراً، فإن لم يستخدمهما هو والذي لم يعطى السمع والبصر سواء، إذا كانت معك بوصلة ولم تستخدمها أنت والذي لا يملكها سواء، إذا أكرمنا الله عز وجل بالفِكر وسخَّرناه للشَّهوات ولِكَسْب المال فقط وأسأنا اسْتِخدامه فكأنَّنا لا نملك فِكراً
4 ـ المفتري على الله خاسرٌ :
لأنَّ شهواتهم أغلقت عليهم منافذ السَّمع والبصر
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)﴾
لو ضيَّع أحدهم ألف ليرة، ألا يتألَّم؟ فكيف إذا ضيَّع مائة ألف؟ وكيف إذا ضيَّع كلّ ثروته؟ يقول لك: الحمد لله الأهل موجودون والكلّ يُعَوَّض!
وإن فقَدَ زوجته يقول لك: أتزوج غيرها، وإن فقَدَ ابناً له يقول لك: عسى الله أن يرزقنا غيره، أما إن أحاط به الموت، فإذا مات الإنسان فهناك آخرة، فإذا كان عمله طيّب فالحمد لله، فإذا خسِرَ نفسهُ في الآخرة فهذه أكبر خسارةٍ في الكون، أن تخسر نفسَكَ، لذا قيل: من لم تُحْدث المصيبة في نفسه عظةً فمُصِيبَتُهُ في نفسه أعظم! وأكبر خسارة في الكون أن تخسر الحياة الأبدِيَّة التي خلقك الله من أجلها، لذلك يقول الإمام عليّ :
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْأَخْسَرُونَ(22)﴾
هذا له المعنى ذاته فالذي خسر نفسه حقَّق أكبر خسارةٍ في الكون
﴿
من صفات المؤمنين الناجين :
1 ـ الإيمان والعمل الصالح :
هؤلاء الذين عرفوا الله عز وجل واستقاموا على أمره، وفعلوا الطيّبات، وانقادوا إليه ورضُوا به ربّاً، واستقرُّوا في رحمته
2 ـ الإخبات إلى الله :
﴿
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
1 ـ المؤمن سميع بصير، والكافر أعمى أصمّ :
يمكنك أن تقول للمؤمن: أنت سميع بصير، وتقول للكافر: أنت أعمى أصمّ
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(18) ﴾
لا يرى الحقائق، ولا يستمع إلى المواعظ، والضال يرى صور الأشياء، كمن يستمع إلى صدى الكلمات، وهناك كلمات خطيرة، فلو قال أحدهم : هذا البيت سقفه في خطر، وأخذت كلامه بالمزاح! وفي إحدى الليالي وجدت السقف يتحرّك، فإنك ما سمعت كلام صديقك، ولكن سمعت صدى كلامه! أما لو أخذْت كلامه على مَحْمل الجدّ لتركْت البيت منذ أن قال لك ذلك، لذلك :
2 ـ المؤمن يرى الحقيقة ويستمع إلى الموعظة :
المؤمن سميع بصير، بِمَعنى أنَّه رأى الحقيقة واسْتَمَع للموعظة فأثَّرَتْ فيه، والكافر أصمّ وأعمى، لذلك قال الله عز وجل :
﴿
لو حمَّلت على دابّة كتاب فيزياء! ولو سألتها عما فيه هل تعلم؟!! هكذا تعامل الناس مع كتاب الله.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين