- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي من سورة هود، عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى:
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾
مقدمة بين يدي الآية :
هذه الآية قادَتْني إلى موضوع دقيقٍ جدّاً في الإسلام، هذا الموضوع سأُسَلْسِلُهُ وَفْق الترتيب التالي:
1ـ الدِّين له جَوْهر :
أوَّلاً: ما هو جَوْهر الدِّين؟ في الدِّين أشياءُ مُتَعَلِّقةٌ في الجوهر، وأشياءُ متعلّقةٌ بِجُزئيَّاتٍ لا علاقة لها بالجوهر، فسيِّدُنا عمر رضي الله عنه حينما رأى بدَوِيّاً يرْعى شِياهاً، وقال له: بِعْني هذه الشاة، وخُذْ ثمنها، قال: ليْسَتْ لي، فقال ابن عمر: قُلْ لصاحبها ماتتْ أو أكلها الذئب، فقال: والله لو قلتُ لِصاحِبِها ماتَتْ أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإنِّي عنده صادقٌ أمين، لكن أين الله؟! يعني هذا البدَوِي قد تكون معْلوماته الفقْهِيَّة محدودة، وقد تكون معلوماته في عِلم المواريث محدودة، وقد لا تجد في خَيْمتِهِ مكتبةً، ولكنّه خشي الله تعالى في الغيب، هذا البدَوِي وضَعَ يدهُ على جوهر الدِّين.
و قد تلتقي بإنسانٍ يحْمِلُ أعلى الشهادات، وله مؤلفات، وفي بيته مكتبةٌ عامرة، وآتاه الله ذكاءً ولِساناً طليقاً، ومع ذلك على الرغم من كلّ هذا الاطّلاع، وهذا العِلْم الظاهري، وهذه الشهادات قد لا يضَعُ هذا الإنسان يدَهُ على جوْهر الدّين!
فالدِّين له جوهر، لمّا عرف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جوهر الدِّين، فتَحوا الآفاق ونفَّذ الله وعدهُ:
﴿
جوهر الدّين لمسه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فَسَعِدُوا وأسْعَدوا ودانَتْ لهم الأرض، ورفَعَ الله ذِكْرهم، وأعزَّهم ومكَّنَ لهم دينهم، وبدَّلَهم من بعد خوفهم أمناً، وقد تجدُ الصحابة الكرام لا يزيدون على ألف، وقد تجد ألف مليون من المسلمين في بيتِ معظمِهم مكتباتٌ عامرة، وسائر المعلومات متوافرةٌ بين أيديهم، مساجدهم فَخْمة ومُزَيَّنة، وجميع وسائل نقل المعرفة متوافرٌ في عصرهم، ولكنّ معظم هؤلاء ما وضَعوا أيديهم على جوهر الدِّين، فخَذَلهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم في آخر الأُمم، وجعل كلمتهم ليْسَت هي العليا، فالذي أريد أن أقوله لكم: هو أنّ في الدِّين حقائق متعلّقةٌ بِجَوهره،
﴿ كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ ﴾
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ ... ))
ما جوهر الدِّين؟ انتَهَيْتُ الآن إلى أنَّ في الدِّين جوهر، وفي الدِّين عرَض، كما أنَّ في السيارة محرِّكاً هو المعوّل عليه في حركتها، وهناك أشياء كثيرة تُزيّنها وتُحسّنها، ولكن لا علاقة لها بِتَحريكها، إذا كان في السيارة شيءٌ أساسي إذا تعطّل تعطَّلَت السيارة، وفيها أشياء ثانويّة لا تُقدّم ولا تؤخّر، فأين جوهر الدِّين؟ ليس من عندي شيء، من عند الله
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول إلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25) ﴾
2ـ جوهر الدين عبادة الله وحده :
الأديان كلّها التي جاء بها الأنبياء الكرام كلُّها جوهرُها
(( وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
لا إله إلا الله لا يسبقها عملٌ، ولا تترك ذنباً.
﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ
﴿
و إلى، و إلى، الأنبياء جميعاً في بعض السور كلامُهم موحَّد، أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هذه الكلمة، كلمة التوحيد يقولها الإنسان في اليوم عشرات المرات، بل مئات المرات، الأديان كلّها متعلّقةٌ بهذه الكلمة، لا إله إلا الله تعني أنّ الأمر كلُّه لله،
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) ﴾
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ
﴿
﴿
بيده ملكوت السماوات والأرض.
﴿
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ
3ـ كلمة التوحيد بين الجانبين النظري والتطبيقي :
جوهر الدِّين أن تعتقد أنَّ الأمور كلها، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، بِيَدِ الله سبحانه وتعالى، هذا الكلام كفِكْرة يسْهُل إدراكها، أما كحَقيقة تعيشها النّفس فهذا يحتاج إلى جهدٍ كبير، أنْ تُدْرِكَ بِعَقلِكَ أوبفِكرك أنّ الأمور بيد الله قضيَّةٌ سهلة، ولكن أن تعيش هذه الحقيقة فلا ترى مع الله أحداً، ولا ترجو غير الله، ولا تُعلِّق الأمل على غير الله، ولا تخْشى إلا الله، ولا تخاف من غير الله، ولا تحبّ غير الله، هذا هو التوحيد، وما تعلمَّت العبيد أفضل من التوحيد، لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106) ﴾
(( إنَّ أخوفَ ما أخاف على أُمَّتي الشركُ والشهوةُ الخفيَّةُ التي هي أخْفى من دبيبِ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ . ))
لذلك جوهر الدّين التوحيد، إذاً يقتضي التوحيد أنَّ ربوبيّة الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، وألوهيّته، وأسماؤُهُ الحسنى تقتضي ألَّا يُسلم أمرَك لإنسان، لو أنه أسلم أمرَك لإنسان، كيف يقول لك
لماذا تعتقد شيئاً وتفعل شيئاً؟ إما أن تعتقد أن الأمر كله بيد الله، وهذا يقتضي ألَّا تخاف إلا من الله، و ألّا ترجوَ غير الله، و ألّا تعتقد أن في الكون فاعلاً إلا الله، و ألّا تخشى إلا الله، و ألّا تحبَّ غير الله، فهذه الحقيقة، حقيقة التوحيد تقتضي أن أمرك كله بيد الله، لكنَّ بعض العلماء وقفوا عند قوله تعالى:
﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ(53) ﴾
تساءل بعضُهم، إذا آلتْ الأمور إلى الله يوم القيامة، ففي الدنيا بيد مَن كانتْ؟ سؤالٌ دقيق، هم تساءلوا و هم أجابوا، قالوا: الأمور كلها بيد الله في الدنيا والآخرة، و لكنه في الدنيا يبدو لعامة الناس أن الأمور بيد فلان أو فلان، ولكنه في الحقيقة الأمر كله لله.
﴿
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
﴿
﴿
الأمر كله لله في الدنيا والآخرة، ولكنَّ هذه الحقيقة مُستترة في الدنيا، تحتاج إلى كشف، المؤمن كشف الحقيقة، وغيرُ المؤمن متعلِّقٌ بظواهر الأشياء، ولكنه في الآخرة هذه الحقيقة المستترة تغدو مُشرقةً واضحةً لكل الناس، في الدنيا يُمَيَّز المؤمن عن غير المؤمن بأنَّ المؤمن كُشف له الحجابُ، وعرف أن الله وراء كلِّ شيء، كُشِف له الحجابُ فعرف أن يدَ الله فوق أيديهم، و كُشِف له الحجابُ فلم يَرَ مع الله أحداً، الآن يقتضي التوحيدُ أنَّ أمرك كلَّه بيد الله، ومعنى كلَّه، يعني أمر ُصحَّتك، إلى أمر عملك، إلى زواجك، إلى أمر بيتك، إلى أمر مكانتك، إلى أمر تعقيدات الحياة الاجتماعية، إلى أمر ما سيكون، إلى أمر ما هو كائن إلى أمر ما يجب أن يكون، هذا كلُّه بيد الله.
الآن نعود إلى آية الدرس،
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا
1ـ أمرُ الحياة والموت :
أبرز هذه الأمور أمرُ الحياة والموت وأمر الرزق، وهل يعصي الناسُ ربَّهم إلا من أجل حبِّهم للحياة، وخوفهم على ضيق الرزق،
إذاً: الموضوعان الكبيران اللذان يحملان الناسَ على المعصية والكذب والدَّجل والخداع والاغتصاب، وأكل المال بغير الحق هو خوف الموت و خوف ضيق الرزق.
2 ـ آيات خاصة بذكر الموت :
بحثتُ في القرآن الكريم عن الآيات المتعلِّقة بالموت، آياتٌ كثيرة، فانتقيتُ لكم أبرزَها.
الآية الأولى :
ربُّنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿
أشدُّ أنواع النفيِ في القرآن الكريم هذه الصياغة، و ما كان، يعني أنه مستحيل:
من لم يمُتْ بالسيف مات بغيره تنوَّعت الأسباب والموتُ واحدٌ
الآية الثانية :
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا(44) ﴾
أنه أمات وأحيا، لم يقل الله كذلك، وأنه هو تأكيدٌ، الذي يميت هو الله، و الذي يحيي هو الله، ولا يملك إنسانٌ كائناً من كان على وجه الأرض أن يُحيي وأن يميت .
الآية الثالثة :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
الآية الرابعة :
﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23) ﴾
الآية الخامسة :
﴿ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) ﴾
لذلك:
إن الطبيب له علمٌ يُدِلُّ بــه إن كان للناس في الآجال تأخيرُ
حتى إذا ما انتهت أيام رحلته حار الطبيبُ و خانته العقـاقيرُ
***
3ـ أمرُ الحياة والموت بيد الله :
طائرةٌ احترقتْ فوق جبال الألب على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم، احترقت وانفجَرَت، مكان التَّصدّع وقع راكبٌ منها، لم ينتَهِ أجلهُ بعد، نزَلَ مِن على ارتِفاع ثلاثة وأربعين ألف قدَم، ووصَلَ إلى غاباتٍ يُجَللها الثَّلج بِسَماكة خمسة أمتار، فكانت هذه الأمتار الخمسة، وأغصان الصَّنوبر الليِّنة قد امْتصَّت كلّ هذه الصَّدمة، ونزل واقفاً على الأرض، لم ينتَهِ أجلهُ بعد، إنسانٌ خاض معركةً، فدَخَلَتْ رصاصة في بطنه، وهذه الرصاصة دخلت في بطنه وخرجت من ظهره، أما كيف سارَتَ بِخَطٍّ مُتعرِّج بحيث لم تثْقِب الأمعاء لا أحدَ يعرف! وخرجَت وأمعاؤُهُ سليمة.
سيّدنا خالد رضي الله عنه قال:
فرعون رأى في المنام أنَّ طِفلاً من بني إسرائيل سوفَ يقضي على مُلكِهِ فقال: القضيَّة سهلة؛ سأقتل جميع أبناء بني إسرائيل، أما الطِّفل الذي قضى على مُلْكِهِ فقد ربَّاه في قصره.
هذا هو التوحيد، الإيمان بأنَّ لك أجلاً لا يزيد ولا ينقُص، لا ينقُص ثانِيَةً واحدة، ولا يزيد ثانيَةً واحدة هذا يبثّ في نفسك الطمأنينة والشَّجاعة، والتَّوكّل والرّضا، والتوازن، فأحَدُ أسباب القلق عند الناس شُعورهم أنَّ حياتهم تمتلكُها عوامل عديدة فالمرض لا يُميت
حتى إذا ما انقضَت أيام رِحلتِهِ حار الطبيب وخانته العقاقير
***
قال الطبيب: المريض ميؤوس من حياته، ما هي إلا ساعةٌ أو تزيد، ويكون في عِداد الموتى، فانطلق الأهل لِيَضَعوا مُسْودَّة النَّعْي! وانطَلَق الآخرون لِيَشْتروا الكفن، وتوزّع الإخوة الكُثر ليعدوا لهذه المناسبة الحزينة، وبعد ساعةٍ قوِيَ النَّبض قليلاً، وارتفع الضغط قليلاً، وما هي إلا ساعات حتى اسْتعاد هذا المريض صِحَّتَهُ، ثمّ بعد أشهر عديدة صار صحيحاً صِحَّة تامّة، والذي كتب النِّعي الآن تحت أطباق الثرى!! الذي كتب مسودة النَّعي توفي، وهذا الذي كان مُتوقع أن يموت هو الآن حيٌّ يُرزق!
طبيبٌ صديقٌ قال لي: اسْتُدعيتُ لإسعاف امرأةٍ ميؤوسٍ من حالتها، وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى فارقَت الحياة، فقلتُ لهم: عظَّمَ الله أجركم، وليأتِ أحد منكم إلى عِيادتي لأُعطيه ورقة الوفاة، كيف عرف هذا الطبيب أنَّ هذه المرأة قد تُوُفِّيَت؟ الضَّغط صفر، والنَّبض متوقّف، وحدقة العين لم تستَجِب للضَّوء، والمرآة على فم المريضة لم تتأثَّر بِبُخار الماء، والأطراف باردة، والجسم أزرق، كلّ علامات الوفاة، فغادر الطبيب البيت، وركب سيارته، وهو في طور إقلاعها سَمِع صوتاً يُناديه؛ تعالَ أيُّها الطبيب فقد تحرَّكت رجلها! فقال لي: عُدْتُ إلى المريضة، ووضَعتُ السماعة على صدرها، فقال لي: كلّ دقيقتين نبضة واحدة، يدور عقرب الدقائق دورة ودورة ثانية نبضة! تسارعَتْ هذه النَّبَضَات إلى أن أصبح نبضها طبيعِيّاً، وقال لي: وزارتني بعد ثلاثة أعوام من هذه الحادثة في عِيادتي!! فأَمرُ الحياة والموت بيَدِ الله سبحانه وتعالى.
4ـ عمرُ الإنسان في الدنيا هو الأنسب له :
هناك موضوع دقيق، وهو أنَّ هذا العُمر الذي سطّره الله لنا، الذي أعطانا إياه، كذا سنة، يا ترى هل بُنِيَ على حقيقةٍ على أساسٍ، على حِكمةٍ؟ الجواب: نعم، عمرُ الإنسان في صالحه، فحينما يقوم الناس لربّ العالمين، يرَون أنّ هذا العمر الذي عاشوه في الدنيا هو أمثل عُمرٍ لهم، فهذا الذي يموت في سنٍّ مُبكِّرة يقول الناس عنه: مِسكين! ولكنّ هذا المِسْكين بالذات حينما يأتي يوم القيامة يرى أنَّ هذا العمر القصير هو أنسبُ عمر له، فالأعمار بيَدِ الله والآجال بيَدِ الله، ولكلٍّ مِنَّا أجلٍ محتوم ومحدود، ولكن يجب أن نعتقد أنّ هذا الأجل المحتوم المحدود الذي سطَّرهُ الله عز وجل هو في صالحنا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(( مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ، وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ))
الشيء الظاهري أنَّه مات، ولكنّ الحقيقة أنَّهُ بِهذا الموت استراح من عناء الدنيا، ودخل جنَّةً عرضها السماوات والأرض.
الرزق :
الموضوع الأوّل هو الموت، والموضوع الثاني هو الرِّزق.
1ـ آيات قرآنية في ذكر الرزق :
الآية الأولى :
ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿
ما دام هذا الفم يتكلّم فله عند الله تعالى رزق .
الآية الثانية :
وقال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
بالمناسبة لفَتَ نظري آيتان، الآية الأولى:
الآية الثالثة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أنت مأمورٌ بالإنفاق من هذا الرِّزق الحلال الذي أعطاك الله إياه، كما أنَّك مأمور أن تأكل منه، فيجب أن تأكل وأن تُطْعم
الآية الرابعة :
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾
إن كان الفقْرُ حقيقةً واقِعة، لا تخشَ الفقرَ ولو كان واقعاً بك؛ نحن نرزقكم وإياهم!
الآية الخامسة :
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(31) ﴾
الآية السادسة :
﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212) ﴾
إذا أعطى الله تعالى أدْهش .
الآية السابعة :
﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3) ﴾
إذا شحَّت السماء بالأمطار، انقطاع الماء بسبب شحّ الأمطار، وانقطاع الكهرباء بسبب شح الأمطار، قِلَّة الموارد بِسَبب شحّ الأمطار، هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟ الله هو المُسَعِّر.
حدَّثني صديق عنده مزرعة، يزرعها تفاحّاً، قال لي: في إحدى السَّنوات ثلاثمائة دُنُم مزروعةً من صنف التفاح لم تُنْتح إلا ثلاثة عشر صندوقاً، وفي بعض السَّنوات أنتَجَت الشجرة الواحدة طنّاً وربعاً!
الآية الثامنة :
﴿
هؤلاء الذين قالوا: اسْتغنينا عن رحمة السماء، من يرزقنا إن أمْسَكَ رزقه؟!
في إفريقيا خلال سبع سنوات كانت مجاعة، مات أُناسٌ كثيرون وماتَتْ الماشية، وجفَّ النبات، ويبسَت الأشجار، ولم يبْق على الأرض شيء.
الآية التاسعة :
﴿
بالمناسبة، إنّ الله عز وجل إذا قنَّنَ فَتَقْنينُهُ تَقنين تأديبٍ ومعالجة، لا تَقنين عَجْزٍ كما نُقنِّنُ نحن، نحن إذا قَنَّنا فهو تَقْنين عَجْزٍ، لكنّ الله تعالى إذا قنَّن فتقنينه تقنين معالجةٍ وتأديب، والدليل قوله تعالى :
﴿
الآية العاشرة :
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
(( هَلُمُّوا إِليَّ . فأَقبَلُوا إليه فجَلَسُوا، فقال: هذا رسولُ ربِّ العالمِينَ؛ جِبريلُ نَفَثَ في رُوعِي: إنَّه لا تَموتُ نفسٌ حتى تسْتكمِلَ رِزْقَهَا وإنْ أبطأَ عليهَا، فاتَّقُوا اللهَ؛ وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يحْمِلَنَّكم اسْتِبْطاءُ الرِّزقِ أن تَأخذُوهُ بِمعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عِندَه إلا بِطاعتِه . ))
الآية الحادية عشرة :
ربنا عز وجل قال:
﴿
الآية الثانية عشرة :
﴿
(( لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ، قَالُوا : وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ ؟ قَالَ : يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ ))
في موضوع الرِّزق هناك أحاديث كثيرة، هذا الصحابي الجليل الذي جاء المدينة مهاجراً، فقال له أخوه: يا أخي دونَكَ مالي فَخُذْ نصفهُ، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بارك الله لك في مالك، ولكنْ دُلَّنِي على السوق !
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ))
(( ما نقصتْ صدقةٌ من مالٍ قطُّ ، وما مدَّ عبدٌ يدَه بصدقةٍ إلا أُلقيتْ بيدِ اللهِ قبلَ أن تقعَ في يدِ السائلِ ، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ له عنها غِنًى إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ))
(( أبَى اللهُ أن يرزُقَ عبدَه المؤمنَ إلَّا من حيث لا يحتسِبُ .))
وإنّ الله حيِيٌّ كريم يستحي من عبده إذا بسط إليه يديه أن يردّهما خائِبَتين، فاتقوا الله عباد الله فيما تدعون .
2ـ الاعتقاد بأجل الموت وكتابة الرزق سبيل للعزة :
عَوْدةٌ إلى الآية التي وصلنا إليها، إذا اعْتَقدنا أنّ حياتنا بيَدِ الله، وموتنا بيَدِ الله، ورِزْقنا بِيَدِ الله، رفعنا رؤوسنا، وكُنَّا أعِزَّةً، وقد قيل للإمام الحسن البصري: " ما سرّ عِزِّك يا إمام؟ فقال: عَلِمتُ أنّ رزقي لا يأخذه أحدٌ غيري فاطمأنَّتْ نفسي " .
الرزق له أسباب :
ولكن الله سبحانه وتعالى جعل للرِّزق أسباباً، وما لم نأخذ بالأسباب فنحن لسْنا مُتَّبِعين لِهَدي الله في كتابه الكريم،
(( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصاً، وَتَرُوحُ بِطَاناً ))
تغدو أي تنطلق باحثةً عن رزقها، أما أن يبقى هذا الطَّيْرُ في عُشِّه، ويظنّ أنّ الله يرزقه فليس هذا من نواميس الكون في شيء، تغدو وتروح
﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا(25) ﴾
لا بدّ من حركة، إنّ الله كتب عليكم السَّعيَ فاسْعَوا، سيّدنا عمر رأى أُناساً محتاجين، فقال :
أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام رأوا شاباً ينطلق من بيته مُبكِّراً، فقال بعضهم: لو كان هذا الشباب في سبيل الله ! فقال عليه الصلاة والسلام:
(( لو أنّ هذا الشابّ خرج من بيته يسعى على أطفال جِياع فهو في سبيل الله ))
3ـ كسب الرزق جزءٌ من طاعة الله :
كَسْبُ الرّزق جزءٌ من طاعة الله عز وجل، من باتَ كالاًّ في طلب الحلال بات مغفوراً له، كسْبُ الرِّزق من طريق مشروع، وبِشَكلٍ لا يطغى على العبادة هو أحدُ أنواع العِبادة، والآية الكريمة:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
1ـ ما هي الدابّة ؟
الدابة كلمة واسعة جداً، كُلُّ مخلوقٍ يدبّ على وجه الأرض دابّة، أحياناً وأنت تكتب على دفترك ترى نقطةً لا يزيد قطرها على عُشر الميليمتر! نقطة لا تكاد تراها قد تَلفتُ النَّظر، لأنّ هذه النقطة تتحرّك، إذاً هي مخلوق، هذه دابَّة، والجراثيم دابّة، والفيروسات دابّة، وحيوان وحيد الخلية دابة، والرَّخَوِيَّات دابة وديدان الأرض دابّة ، والبعوضة دابّة، قال تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾
كل ما يدبّ فهو دابة، صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها:
هذه البعوضة التي إذا قتلتها لا تشعر بِوَخز الضمير أبداً، لأنها هيِّنةٌ على الناس
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
فهذه البعوضة التي تحتقرها فيها جِهاز رادار، تعرف النائم على الوِسادة مِن الوِسادة! فتنطلق إليه مباشرةً، وفيها جهاز تحليل دمّ، دم هذا النائم يناسبها، ودم ذاك النائم لا يناسبها، قد ينام أخوان على فراش واحد فيستيقظان، أحدهما قد مُلئ من لدِغ البعوض، والثاني معافى من لدغه! فيها جهاز رادار، وجهاز تحليل دم، وجهاز تخدير، تُخدِّر الإنسان حين تُدْخل خرطومها في جلده، وفيها جهاز تمْيِيع دم، رادار، وتحليل، وتمييع، وتخدير، ولها ثلاثة قلوب! وأجنحتها ترفّ أربعة آلاف رفَّةٍ في الثانية الواحدة، وليس لها صوتٌ، بل لها طنين، والطنين هو هذا التواتر في أجنحتها، ولها في أرجلها مخالب، إذا كان السَّطح خشِناً، ولها محاجم إذا كان السَّطح أمْلس، هذه دابّة رزقُها مِن دم الإنسان، لها رزقٌ عند الله.
والحوت الذي يزن مائةً وخمسين طنّاً، وطوله أربعون متراً، وفيه خمسون طناً دهناً، وخمسون طناً لحماً، وتسعون برميل زيت، ووجْبتُهُ المعتدلة أربعة أطنان، وولده يرضع ثلاثمائة كلغ، هذا الحوت أيضًا له على الله رزق، رزقه في اليوم عشرة أطنان إلى خمسة عشرة طنّاً من السَّمَك.
وهذه الدابة الصغيرة التي لا تُرى بالعَين رِزقها على الله تعالى، وهذا الحوت الكبير رزقه على الله، وهذا الفيل رزقه على الله، والإنسان رزقه على الله، ما من دابَّة! والدابّة كلّ ما يَدِبُّ على وجه الأرض، صَغُرَتْ أم كَبُرَت، رأيتَها أم لم تراها، دخلَتْ في عِلمك أم لم تدخل في عِلمك، إنَّ الله يرى دبيب النَّمْلة السوداء، على الصَّخرة الصَّماء، في الليلة الظلماء .
هناك بعض الوُعول تعيش في قِمَم الجِبال، وفي قِمَم الجِبال شيءٌ لا يُصَدَّق، في قِمَّة الجبل نبْعٌ، كيف نُفسِّر وُجود هذا النَّبْع في قِمَم بعض الجِبال؟ لا بدّ أن يكون خزَّان هذا النّبْع في جبلٍ آخر أعلى منه، وهناك تَمديدات دقيقة من الجبل الكبير الأعلى إلى الجبل الصغير، أو إلى قِمَّة الجبل الصغير، لأنّ هذا الوعل الذي يعيش في قِمم الجِبال رِزقه على الله،
(( مَهْلًا عن اللهِ مَهْلًا، فإنه لولا شبابٌ خُشَّعٌ وبهائِمُ رُتَّعٌ، وأطفالٌ رُضَّعٌ، لَصُبَّ عليكم العَذابُ صَبَّا ))
2ـ الفائدة من حرف من تنكير دابة وإيراد ( مِن ) :
أما كلمة مِنْ، قال العلماء: مِن للاسْتِغراق، اسْتِغراق أفراد كلّ نَوْعٍ على حِدة، قد تقول: طلاَّب هذا الصَّف مدْعوُّون إلى حفلة، الطلاب ثلاثة وأربعون، فإذا قلنا: ما من طالب إلا و هو مَدْعُوٌّ إلى هذه الحفلة، أي أنَّك تُبَلِّغُهم واحداً واحداً وتأخذ توقيعهم، وهناك دعوة عامَّة قد لا تُعَلِّق أهَمِيَّة على حضور الطلاب جميعاً أو بعضهم، أما إذا قلتَ: ما من طالبٍ إلا و مَدْعُوٌّ لِهذا الاحتِفال، فَمِنْ هذه لاسْتِغراق أفراد كلّ نَوْعٍ على حِدَة، فإذا قلنا: عالم النَّمْل على الله رِزقهُ، أما قولنا: ما من نملة إلا على الله رزقها، أيْ لو أحصَينا النِّمال على وجْه الأرض نمْلةً نملةً، كلّ نملةٍ على الله رزقها، فتنكير كلمة دابَّة هو تنكير الشُّمول، يعني أنواع الدَّواب قاطبةً، وأما مِن فلاسْتغراق أفراد كلّ نوعٍ على حِدَة، أما كلمة ما مِنْ إلا، هذه الصِّياغة صِياغة قَصر، فلو قلنا الدَّواب على الله رِزقها، يعني رِزقها على الله، وقد يكون رزقها على غير الله، إذا قلتَ: هذه الآلة لي، هذه العِبارة تعني أنَّ هذه الآلة لي، ولا يمْنعُ أن تكون هذه أيضاً لي، ولكن إذا قلتَ: ليس لي إلا هذه الآلة، هذا قَصْر، فنحن لمّا قلنا: الدّواب على الله رزقها، أيْ قد يكون على الله رزقها، وقد يكون على غيره رزقها! أما إذا قلنا: ما من دابّة إلا على الله رزقها فيعني أن الرِّزق مَقصورٌ حصراً على الله سبحانه وتعالى، وأنواع الدّواب وأفراد كلّ نوعٍ على حِدَة، والرّزق مقصورٌ على الله وحدهُ.
3ـ الفائدة من الحرف ( على ) :
أما كلمة على، فتعني الإلزام، إنَّ الله سبحانه وتعالى ألْزَمَ نفسهُ مُختاراً بِرِزْق العِباد، لو لم يقل على، لو قال: ما مِن دابّةٍ إلا الله يرزقها! يرزقها أو لا يرزقها، ولكن ما من دابّةٍ إلا وعلى الله رزقها فتعني عليه رزقها على وجه الإلزام، الإلزام الله سبحانه وتعالى ألْزَمَ نفسهُ بِرِزْق العِباد،
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا
1ـ مستقر ومستودع الإنسان معلومان عند الله :
كلّ إنسان أين مستقرّه؟ مَعلومٌ عند الله تعالى، وأين مستودَعُ رِزْقه؟
أحيانًا تكون فِرْقة عَسْكريّة موجودة بالمكان الفلاني، لها مستودعات للإمداد والتَّموين، فكلّ إنسان مكانه ومستقرّه معلومٌ عند الله، ومستودع رِزقه معلومٌ عند الله، لذلك في الحديث القدسي : " عبدي، لي عليك فريضة، ولك عليّ رِزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك"! فهذا هو الذي يبعث في نفسك الطمأنينة، أنّ رزقك على الله، ولكن يحتاج إلى سعيٍ، لماذا ؟ لأنَّ سنّة الله في الخلق أنَّه أودع في الأرض الأرزاق، وأودع في التربة العناصر المغذيّة للنبات، وأنزلَ من السماء ماءً وخلق البذور .
2ـ النبات معجزة من معجزات الرزق :
إن معجزة النبات وحدها معجزةٌ رائعة! تأكل الفاكهة وفي نواتها بذرة، إذا زرعتها أنْبَتَتْ لك فاكهةً جديدة، وتأكل الخضراوات وفيها بذور تزرع البذور فتُنْبت خضراوات أُخرى، فَنِصفُ غرام من بذور البندورة ينتج خمسمائة كيلو، يعني نصف طن! الغرام من هذه البذور يُنتج طناً.
سألت مزارع يزرع الخيار بذوراً، سألته هذه البذرة كم تنتج؟ فقال اثني عشر كيلو إلى خمسة عشرة، بذرة الخيار الواحدة من اثنا عشر إلى خمسة عشر كيلو! تبذر القمح في سنوات الخير سنوات الاستقامة ينتج مد القمح مائة مدّاً في حوران! أما الآن فعشرة ، ثمانية سبعة أمدد
﴿ وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16) ﴾
أحياناً شجرة التفاح تنتج طنّاً أو أكثر، فَفِكرة أن الله أودعَ في التربة المواد المغذية، وأنزلَ من السماء ماءً، وخلقَ البذور وأعطاها الحياة، في كل بذرة رُشَيم، هذا الرُّشيم هو الجزء الحي من البذرة، إذا جاءته رطوبة ينبت سُوَيق وجُذَير، ويستهلك هذا الرُّشيم ما في البذرة من مواد غذائيّة إلى أن يخلق الله له جذيراً يمتصّ الغذاء من الأرض، فتكون هذه الحبّة قد فرغَت ، ضَع حبّة فاصولياء في قطن مبلّل تَرَى أنَّ هذه الحبّة نما لها سوَيْق، ونما لها جُذَير، إلى أن يُصبِحَ الجذير قادراً على امتِصاص الغذاء من التربة، وترى أنّ الحبّة من الفاصولياء أصبَحت فارغة، هذا النشاء الموجود في حبّة الفاصولياء صارَ سُويقاً وجذيراً، ويأتي الغذاء من الأرض، والماء من السماء فيَنْبُت!
إذاً كلمة رزق كلمة واسعة جدّاً، لولا هذا التصميم تصميم البذور، هناك بذور، هناك التطعيم، يعني أنواع للتكاثر كثيرة في النباتات.
3ـ الإنسان له قدرات على طلب الرِّزق :
الشيء الآخر أنَّ الله عز وجل أعطى الإنسان قدرات على طلب الرِّزق ألْهَمَ كلّ إنسان مصلحة، هذا يزرعها، وهذا يحرثها، وهذا يبذرها، وهذا يحصدها، هذا يعمل في الأخشاب، والإنسان بِحاجة إلى آلاف الحاجات، جعل الله سبحانه وتعالى كل إنسان يتقن واحدة من هذه الحاجات، بها يكسب رزقه، مَن الذي جعل الحرّ يرتفع قليلاً ؟ يرزق مِن الحرّ مئات الألوف بل الملايين الذين يعيشون على ارتفاع درجة الحرارة أناس كثيرون، والذين يعيشون على انخفاض درجة الحرارة، المدافئ والتدفئة والصوف والألبسة الصوفية، والذين يعيشون على طول شعر الإنسان كثيرون، وإذا خلق الله حشرةً زراعيّة فالذين يعيشون بِفَضلها كثيرون، الذين يبحثون عن دواءٍ لها، والمِضَخَّات، ونقل الأدوية، والاستيراد، والموانئ والحمولات، كلّ هذا بِفضل هذه الحشرة، فربنا عز وجل خلق في الإنسان إمكاناتٍ لِكَسب الرّزق، وخلق في الأرض معايِشَ وسُبلَ ووزَّع الرّزق على العباد توزيعاً فيه حكمةً بالغة، وهذا كله من معنى قوله تعالى :
4ـ كلّ إنسان له رزقه المحدَّد فليطمئِن :
آخر فكرةٍ، أنّ كلّ إنسان له رزقه عند الله، فهذه الشَّجرة كأنّ كلّ تُفاحة كُتبَ عليها اسم آكِلِها، كأنَّ كلّ خوخةٍ كُتِب عليها اسم آكلها، كأنَّ كلّ ليمونةٍ كُتِب عليها اسم آكلها، فواكه مسوَّمة، وانتقال هذا الطَّعام إليك باختيارك، قد تأخذه شراءً، وقد تأخذه هدِيَّةً، وقد تأخذه ضِيافةً، وقد يأخذه بعض المنحرفين سرقةً وقد يأخذه تسوُّلاً، وقد يأخذه اغتِصاباً، وقد يأكله دناءةً، فانتقال هذا الطعام إليك باختيارك، أما هو لك علمت أنّ رزقي لا يأكله أحد غيري فاطمأنَّت نفسي، إذا أحرزَت النَّفس قوتها اطمأنَّت! فأيَّة فِكرة تبعث على الطمأنينة كهذه الفِكرة؟ حياتك و موتك ورزقك بيد الله، كلمة الحق لا تقرّب أجلاً ولا تقطعُ رزقاً، فَكُن مع الله ولا تبالِ، ولا تخش في الله لومة لائم
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175) ﴾
وأبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب.
الملف مدقق
والحمد لله برب العالمين