- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي في سورة هود إلى قوله تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28) ﴾
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
المؤمن في سعادة عميت على غيره :
أيْ أنَّ هذه الرحمة لا يعرفها إلا من ذاقها، كما أنَّ العلماء يتمتّعون في الدنيا بِسَعادة لا يعرفها الأغنياء، فإذا أنكر الأغنياء على العلماء سعادتهم فَمِن قبيل الجَهل، هذا في الدنيا، ولكنّ الأنبياء والصدّيقين وكِبار المؤمنين يتمتَّعون بِسَعادةٍ لا يعرفها إلا من ذاقها، فإذا نطقوا بها أنكرها عليهم أهل الدنيا
﴿
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ
1 ـ المالُ شيء عزيز على الكافر :
يبدو أن المالَ شيء ثمينٌ جدّاً عند الكافر، فإذا كلَّفتَه مالاً، أو إذا طالبتَه بمالٍ قد يستغني عن الهداية كلها، لذلك سيِّدنا نوحٍ طمأنهم إلى أن استجابتكم لهذه الدعوة، وإيمانكم بالله سبحانه وتعالى، واستماعكم إليَ لا يكلِّفكم مالاً .
2 ـ من علامة الدعية الصادق أنه لا يسأل مالا مقابل دعوته :
والقرآن الكريم في آيات كثيرة تحدَّث عن علاماتٍ للصادقين، فمن هذه العلامات
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
هذه علامةٌ كبرى على صدق الداعي، لا يسألكم أجراً، لا أجراً ماديّاً ولا معنوياً، لا مباشراً ولا غير مباشر
3 ـ خشية الله وحده :
علامة أُخرى من علامات الصدق في الدعوة إلى الله
﴿
إذا خشيَ الداعي غيرَ الله نطق بغير الحق، وسكت عن الحق، فإذا سكت عن الحق و نطق بالباطل فماذا بقيَ من تبليغ رسالات الله ؟ لم يبقَ شيءٌ .
إذاً العلامة الأولى
﴿
4 ـ تبليغ الدعوة على بصيرة وعلمٍ :
فعلامة المتَّبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوك على بصيرة، فالأمور واضحة تماماً، والهدف من الخلق واضح، هناك انسجام بين الآيات والأحاديث، هناك هدف كبير يوضِّحه لك، وهناك شرائع دقيقة يبيِّنها لك، هناك تعليلات منطقيَّةٌ للعبادات
5 ـ أفعال الداعية تشهد له على صدقه :
و أما العلامة الرابعة فقوله تعالى :
﴿
العالم الصحيح هو الذي يشهد لك عدالتُه، ويشهد لك أسماؤه الحسنى، فهو يفسِّر أفعالَه بما يتوافق مع أسمائه الحسنى، فمن علامات العالم الصادق
6 ـ النجاح في الابتلاء والامتحان :
علامة أُخرى
﴿
أي أن النجاح في الامتحان، يُمتحن الإنسان بماله، ويمتَحن في صحَّته، يُمتحَن في رزقه فيصبر، ولا يرى إلا الله، ويرى حكمة الله كما يرى رحمة الله عز وجل
7 ـ الصبر :
علامة أُخرى
﴿
هذه بشارات لك أيها المؤمن :
الصبرُ والنجاح في الامتحان، و تبيان عدالة الله عز وجل، هذه كلُها من علامات الدعوة الصادقة، لذلك:
(( " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " . ))
(( " يا ابنَ عمر، دينَك دِينَك، إنه لحمُك ودمُك، خذْ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا " ))
فما أكثرَ الذين مالوا عن طريق الحق، وما أكثر الذين زيَّفوا الدينَ، وما أكثر الذين أدخلوا في الدين ما ليس منه، وما أكثر الذين جعلوا من الدين شيئاً يذوب في الحياة العصرية جعلوه وفق أهوائهم، خُذْ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا
(( لا تجلسوا عند كل عالمٍ إلا عالما يدعوكم من الخمس إلى الخمس، ومن الشكِّ إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد ))
فإذا كنتَ قبل أن تحضر هذه المجالس راغباً في الدنيا، ثم أصبحتَ زاهداً فيها فهذه بشارة لك، ولمن يدعوك إلى الله عز وجل، وإذا كنت قبل أن تحضر هذه المجالس تؤثر الرياء على الإخلاص، ثم أصبحتَ مخلصاً فهذه بشارةٌ لك ولمن يدعوك إلى الله عز وجل، وإذا كنت قبل أن تحضر هذه المجالس تؤثر العداوة على النصيحة، ثم أصبحتَ نصوحاً لله و لرسوله ولعامة المسلمين فهذه بشارةٌ لك، وإذا كنت قبل أن تعرف الله متكبِّراً، ثم تضاءلتْ نفسُك فأصبحت متواضعاً، فهذه علامةٌ طيِّبةٌ لك، ولمن يدعوك إلى الله عز وجل، وإذا كنت متشكِّكا من بعض الأمور، ولستَ متأكِّداً ويخامرك الشكُّ في بعض المعتقدات، ثم بلغتَ مستوى اليقين الناصع كما قال عليه الصلاة والسلام
(( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ ))
فهذه بشارةٌ طيِّبةٌ لك ولمن يدعوك إلى طريق الله سبحانه وتعالى، إذاً دينَك دينَك إنه لحمُك ودمُك، خذ عن الذين استقاموا، و لا تأخذ عن الذين مالوا، إن هذا العِلم دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم
مجالس العلم والدعوة لا تكلف مالاً :
اطمئنوا، هل تستطيع أن تقابل محامياً وتستشيره في موضوع ما من دون أن تدفع له ثمن الاستشارة؟ وهل تستطيع أن تضرب موعداً لدرس خاص في أيِّ مادةٍ من المواد الدراسية دون أن تدفع الثمنَ ؟ و هل تستطيع أن تزور طبيباً و ليس في جيبك مال؟ و هل تستطيع أن تتلقَّى خدمةً أو استشارةً أو شيئاً من أشياء الدنيا من دون ثمن إلا إذا جئتَ إلى مجالس العِلم فتجدها مجَّاناً والدعوة عامة
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا
1- الكبراء يستنكفون عن مجالسة الفقراء :
هناك عقبتان، العقبة الأولى خوف هؤلاء الكفار في عهد نوح أن يكون هناك التزام مالي، فجاءت الآيةُ، وبشَّرتهم بأن الالتزام المالي ليس موجوداً إطلاقاً، ليس هناك التزام مالي، بقي هناك عقبةٌ ثانية أن هؤلاء الكُبراء، هؤلاء الأغنياء، هؤلاء الوجهاء الذين ينغمسون في النعيم، إذا حضروا مجلس نوح عليه السلام يترفَّعون، ولا يجالسون الضعفاء، ولا الفقراء الذين يزعمونهم أراذل القوم بالمعنى اللغوي، فقال سيدُنا نوح
معنى : إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ
المعنى الأول :
أنا لا أستطيع طردهم، لماذا؟
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3) ﴾
المعنى الثاني :
2 ـ المترَفِّع عن الناس جاهلٌ :
النبي الكريم أشد الناس تواضعاً :
مَن أنتم؟ دخل أعرابيٌّ على النبيِّ صلى الله عليه و سلَّم فأصابته الرعدة من شدَّة الهيبة
(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ : هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
ودعاه صحابيٌّ جليل إلى خبزٍ وخلّ ما قولُك؟ إذا دُعيت إلى وليمةٍ، وقدَّم لك الداعي خبزاً وخلًّاً، وقال لك تفضَّلْ، ما قولك؟ فقال عليه الصلاة و السلام :
(( نِعْمَ الْأُدُمُ، أَوْ الْإِدَامُ الْخَلُّ ))
قال عليه الصلاة و السلام من باب التواضع قَالَ :
(( لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ، أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))
حينما دخل مكة فاتحاً دخلها مُطأطِئ الرأس، وحينما سمع رجلاً يقول لرجل: يا ابن السوداء قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، هذا هو الإسلام
﴿
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
إن طردتُهم لأرضيكم أتحمونني من الله عز وجل؟
أرسل رجلٌ إلى سيدنا عمر بن الخطاب كتاباً قال فيه :
يبدو أن رجلاً غنيّاً طرق بابَه سائل، وكان يأكل دجاجاً، فهمَّتْ زوجتُه أن تعطيه شيئاً من الدجاج، فنهرها، و قال: اطرديه، فطردتْه تنفيذاً لأمره، وبعد سنوات عدَّة نشب خلافٌ بين الزوجين، و طلَّقها، و أكرمها الله بزوج آخر أفضل منه، وعاشت معه سنوات، وبينما هما جالسان يتناولان دجاجاً إذ طرق البابَ طارق، فذهبتْ لتفتح الباب، فعادت مضطربة، قال: من الطارق؟ قالت : سائل، لماذا اضطربْتِ؟ قالت أتدري من السائل؟ إنه زوجي الأول، فقال: أتدرين من أنا؟ أنا السائل الأول.
وهذا مثال آخر: أرادت امرأةٌ أن تغيظ ضرَّتَها فقالت لها: في بطني ولد، وعلى يدي ولد، طبعا ذكر صبي، وكذلك على الأرض ولد، لها ثلاثة صبية، وضرَّتها عاقر لا تلد، لم تمضِ سنوات حتى مات الولدُ الأوَّلُ والثاني والثالث، ورزق اللهُ ضرَّتَها صبيّاً أول و ثاني وثالث،
﴿
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ
1 ـ الأنبياء أصحاب صدق وموضوعية مع الناس :
انظُرْ إلى الأمور النظرة الموضوعية، هذا الذي يوهم الناس أنه فوق البشر إنما هو مراءٍ ظالمٍ
﴿
2 ـ الأنبياء لا يعلمون الغيب :
(( مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ))
ومن أتى ساحراً فلم يصدقه لم تُقبَل له صلاة أربعين صباحاً، لأنه لا أحد يعلم الغيب إلا الله .
أقرأ أحياناً في بعض الدول عن شخصيات كبيرة جداً تذهب إلى بعض المُنجِّمات، وتسألها عن المستقبل، وقد يحمل هذا السائل دكتوراه، شيءٌ مضحِك، أن يكون الإنسان محصِّلاً شهادةً عاليةً في الدنيا، ويذهب إلى منجِّمةٍ ليطمئن من خلال كلامها على مستقبله
(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ ))
سيدنا نوح أعطى نفسه حجمه الحقيقي، لستُ غنيّاً، ولن أستطيع أن أمنح الغنى لأحد، و لا أعلم الغيب، ولا أدَّعي أنني فوق البشر، إنني بشر.
لو أنَّ رجلاً يبتغي الرفعة عند الناس، وقال له الناس: هذه الظاهرة من أجلك، تقول له: بارك الله بك يا ولدي، يؤكِّدها، ويرضى بها ليزداد رفعة عند الناس، لكنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: لا، هذا هو الحجم الحقيقي، هذا الذي يدعوك إلى الله، لا يعلم الغيب، ولا يملك لك نفعاً ولا ضرّاً، و يخاف إن عصى ربَّه عذاب يوم عظيم، استمعوا لآيات القرآن الكريم
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) ﴾
﴿
هذا حجم النبيِّ، فهل يستطيع وليّ أن يدَّعيَ حجماً أكبر من هذا؟
3 ـ ليس هناك رجل فوق النبي مهما كان :
هناك قصصٌ كثيرة لا طائل منها تُروَى عن بعض العلماء، إنها ليست من عندهم، إنها لُفِّقتْ على ألسنتهم، وهم بريئون منها، مثلاً يقولون: هناك بعض العلماء إذا نظر إلى إنسان اهتدى، هذه لم يملكها النبيُّ الكريم
﴿
﴿
وإذا كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام لا يهدي من أحبَّ، أفيأتي رجلٌ من أتباعه ينظر في الرجل فيهديه؟!
﴿
وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْرًا
1 ـ الكبراء مخطئون في تصوراتهم :
هؤلاء الكبراء يحسبون أن الدنيا لهم والآخرة لهم، ويحسبون أن الله سبحانه وتعالى يحبِّهم دون سواهم، حتى إذا ذهب أحدُهم في نزهةٍ إلى مشارق الأرض، ومغاربها، قال لك بالحرف الواحد: إذا أحبَّ اللهُ عبدَه أراه ملكَه، وقد يذهب من فندق إلى فندق، ومن معصية إلى معصية، ومن شبهة إلى شبهة، ويقول لك: إن الله يحبُّني، هؤلاء لا يحتملون أن يكونوا عند الله عز وجل، شأنهم كشأن غيرهم، مَن أنا؟
﴿
التواضع علامة الإيمان، قال الشاعر:
فانظُرْ إلى الأكحال و هي حجارة لانَتْ فصار مقرُّها في الأعين
2 ـ شأن العباد وأمْرهم إلى الله تعالى وحده :
هذا من شأن الله عز وجل، لا تسألني عن شخصٍ ما، جيِّد أم سيء، هذا من شأن الله لا من شأني، من يعلم الغيب إلا الله؟ من يعلم ما في نفسه
﴿
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ
1 ـ من وسائل معارضة الكفار للأنبياء إغلاق باب النقاش :
أي بالغتَ في الجدال وبالغت في الخصومة، وملَلْنا من هذه الموضوعات، دعْنا منها، و ضعْ حدّاً لها، وأقفِلْ باب النقاش فيها إلى متى؟
2 ـ من وسائل معارضة الكفار للأنبياء العنف والتهديد :
وحينما يفلس الإنسان فكرياً يلجأ إلى وسيلة أُخرى، إما إلى التهكُّم، وإما إلى الضرب، هذا الذي يفقد الحجَّة يلجأ إلى العنف، ولا يستخدم العنفَ بعد المناقشة إلا من خسِرَ المناقشة، لذلك يقول الإمام الغزالي:
3 ـ من وسائل معارضة الكفار للأنبياء طلب العذاب من الأنبياء :
من أنا؟ أنا لا أقدر أن آتيكم بما يعِدُكم الله، أنا عبْدٌ فقير، ومخلوق عاجز، ولكن هذا بِيَدِ الله عز وجل
﴿
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
1 ـ العذاب بيد الله نوعا وكمًّا وزمانا ومكانا ومعَذَّبا :
الله عز وجل حكيم، ويعرف متى يرسل العذاب؟ ومتى يوقفهُ؟ ومتى يمْنعهُ؟ هو الذي يتصرَّف
2 ـ الله لا يعجزه شيء :
إذا كانت آلة كهربائيّة فيها مفتاح كهربائي، فمهما علا صوتها فبِضَغطة زرّ توقِفُها، وهكذا الإنسان مهما علا وتكبَّر، ومهما بدا للناس قويّاً إذا قطَعَ الله عنه الإمداد ثانيَةً واحدة أصبح جثَّةً هامدة !! فهذه الحركة من الله عز وجل، وهو الذي أمدَّك بها، فإذا قطع عنِّه هذا الإمداد ثانيَةً واحدة أصبح الإنسان جثَّة هامدة
يُرْوى أنَّ سيّدنا سليمان - هذه قصّة - جاء إليه ملكُ الموت، وعنده رجل، فصار ملَكُ الموت يُحدِّق في هذا الرجل تحديقاً غريباً، قال: يا نبيّ الله، من هذا الذي يُحدِّق فيّ؟! فقال: هذا ملكُ الموت!! فانْخَلَعَ قلبهُ خوفاً، وقال: خُذْني إلى أقصى الدنيا، وقد أوتي الرياح، فنَقَلَهُ إلى الهند، وهناك قُبِضَتْ روحُه، فلمَّا سأل نبيّ الله سليمان ملَكَ الموت لماذا فعلْت هذا؟ وحدَّقتَ فيه هذا التحديق!! فقال: عَجِبْت للأمر، فأنا موكّل بِقَبض روحه في الهند، فلما رأيْتُهُ هنا قلتُ: ماذا يفعل هنا؟!!
في بعض المعامل معامل الصلب يُنقل الحديد الخام من مكان إلى آخر بِرافِعة مِغناطيسيَّة، عبارة عن دائرة من الحديد لُفَّ حولها وشيعة، فإذا سرى التيار في الوشيعة أصبح هذا الحديد ممَغْنطاً يحمل عشرة أطنان، إنَّك لن تستطيع إنزاْل قِطعة حديد مهما أوتيتَ من قوَّة من شِدَّة الجذب، فإذا ضغط عامِلُ هذه الرافعة الزرّ وقطع التيار الكهربائي، فهذه الأطنان العشرة تقع فوْراً، ضغطة زرّ، فهذا الذي تراه كبيراً وقوياً إذا قطع الله عنه الإمداد ثانيةً واحدة أصبح جثَّةً هامدة، فلذلك يقول الله عز وجل:
لا تأمن الموت في طرْفٍ ولا نفسِ وإن تمنَّعْت بالحجاب و الحــرس
فمـا تـزال ســـهام المــوت نافــذة في جنـب مــدَّرِع منها ومتـــّرسٍ
أراك لسْت بِوقـــاف ولا حـــــــذِرٍ كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكــها إنّ السـفينة لا تـجري على اليبــس
﴿ وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) ﴾
وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
1 ـ تأويل الآية :
هذه الآية من الآيات المتشابهات تحتاج إلى تأويل دقيق، هذا الإنسان إذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى امتلأ قلبه شهواتٍ خبيثةً، فإذا أصرَّ على هذه الشهوات، وكانت هذه الشهوات حِجاباً بينه وبين الله سبحانه وتعالى أصبحت هذه الشَّهوات وقْراً في أُذُنَيه، وغِشاءً على عَيْنيه، وإنَّ أحْكمَ ما يكون أن تخرج هذه الشَّهوات إلى حيِّز التنفيذ، فإذا رأيْتَ أنَّ ابنك تعلَّق بهذه اللُّعبة، ولن يسمعَ منك كلمةً، ولن يفتح كتاباً، ولن يذهب إلى مدرسةٍ، ما لم يُفَكِّك هذه اللعبة، ويستمتع بها، أنت كأبٍ مربٍّ ترى من الأنسب أن تُعْطِيَهُ سؤْلهُ لِتَشْفيه من هذه الشَّهْوَة، فإذا شفِي منها عندئذٍ يُصْغي إليك، فقد تقتضي حِكمة الله سبحانه وتعالى لإنسانٍ أصرَّ على المعصيَة، وتشبَّث بها، وجعلها كلّ همِّهِ، أن يُعينهُ الله على تنفيذ هذه الشَّهوة، في أثناء هذه المرحلة، هذا الإنسان أصمّ أعمى لا يستجيب لِنَصيحة، ولا يصغي إلى خير
2 ـ لا ينفع نصحٌ لمن تعلق بالدنيا وشهواتها :
أيْ إذا تعلَّقتُم بالدنيا، واسْتحكَمَت الشَّهوات في نفوسكم إلى درجة أنَّها أصبَحَت غِشاءً على أعينكم، ووقْراً في آذانكم، عندئذٍ نُصْحي لا ينفعكم ولا يُجدي، ولن تتأثَّروا به، ولن تستجيبوا له، والله سبحانه وتعالى هو الذي يتولَّى مُعالجتكم بِإخراج هذه الشهوات من نفوسكم، فهذا الذي امتلأ قلبه من شهوات الدنيا الخسيسة، ولْتَكُن الزنا مثلاً، لن يستطيع أن يستمع إليك حتى تخرج هذه الشهوة من قلبه ونفسه، يسوقهُ الله إلى زانيَةٍ مثله، ثمّ يأتي العِقاب الأليم، فيصاب بالإيدز ربّما يستفيد بعدها، وإذا أخْرجَ الإنسان شهوته التي أصرّ عليها، ثمّ جاءهُ العِلاج الأليم ربّما تاب، وربّما أصغى للحق، وأحياناً ترى شخصاً في عمى، وشهوته صارَتْ حِجاباً، ولا يعي خيراً، ويرى ذاته مضخَّمةً، ولا يرى معها أحداً، هذا لا يُجديه النُّصْح حتى تخرج هذه الشهوة الخسيسة من نفسه عندئذٍ يُصغي
3 ـ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
بمعنى يُخْرج هذه الشهوات التي امتلأتْ قلوبكم بها، أحياناً قد يتجمَّع قيْحٌ تحت الجلد، ماذا يفعل الطبيب؟ يضعُ مرْهماً أو دواءً ليزيد هذا التجمّع تمهيداً لِشَقّ الجلد، وإخراج القيح كلّه، وهذه العمليّة البسيطة مثلٌ بسيط لما يفعله الله في النفوس، تمتلئ النفس شهواتٍ خسيسة، ويصرّ عليها الإنسان، ويتشبّث بها، ويضعها حجاباً أمام عيْنيه ووقْراً في أُذنيْه، ولا يعي على خير، ويسوق الله له الشيطان، ويزيّن له هذه الشهوة حتى تخرج منه فيَشْفى منها، وكم من إنسانٍ تابَ بعدما أخرج ما في نفسِه من شهوات، وكم من إنسان أناب بعد أنْ اسْتراحَتْ نفسُهُ مِن ثِقَل الشهوات التي يحملها
إذا كان في بيتٍ من البيوت مُبيد زِراعي، وكان في متناوَل أيدي الأطفال، وقد شَرِب بعض الأطفال هذا المُبيد، وبدأ فِعْلُ هذا السمّ القاتل في الأحشاء، في هذه اللحظة هل ينفع هذا النّصح؟ وهل يُجدي العِتاب؟ ماذا ينبغي أن نفعل؟ يجب أن نأخذ هذا الطِّفل إلى المستشفى، ونُجْري له غسيل معِدَة، هذا الكلام وهو النُّصْح، متى يجب أن يكون؟ قبل أن يشْرب هذا المبيد، ولكن بعد الشّرب الكلام، والعتاب والنّصح لا يجدي، إلا أنّ قبله قد يجدي، ضَعْ هذا المبيد في مكانٍ بعيد، انْتبِه لمكان وجوده، وحين اسْتِعماله، فهذا الذي امتلأتْ نفسُه شَهَواتٍ لا يُجدي معه إلا أن تخرج هذه الشهوات من قلبه ونفسه كَغسيل المعدة تمهيداً لِتَوبتِهِ، فقد ترى طالباً غافلاً عن الدراسة والعِلْم، والنتائج والمستقبل، وهو غارق في بعض الشهوات، هذا لن يُعطيك أُذناً صاغِيَة إلا بعد ضرْبةٍ قاسِيَة مِن قِبَل الله عز وجل، وكذلك منحرفٌ إذا أوْدى به انحِرافهُ إلى عُقوبةٍ بالغة عندئذٍ يُصغي إليك، وهذا هو المعنى الدقيق لهذه الآية .
أما أن تظنّ أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يُغْوِيَ الإنسان من دون ذَنْبٍ ارْتَكَبهُ فهذا لا يليق بِحَضرة الله سبحانه وتعالى، ولا يتناسب مع أسمائه الحسنى، والدليل قوله تعالى :
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5) ﴾
لأنَّهم فاسقون زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، فهذه الآية تقترب من هذه الآية
هُوَ رَبُّكُمْ
1 ـ دِقَّة القرآن :
دِقَّة القرآن هو ربكم فإذا قلنا: شاءَت الأمّ أن تمْنَعَ ابنها طعامها اللذيذ فهي أُمّه، أقرب الناس إليه، وأكثرهم عطفًاً عليه، وأكثرهم حناناً، وما من أحدٍ يحبّه كحبها فهي أمه، فالتعقيب هنا: هو ربّكم، ولم ينتبه بعض الناس إلى هذا التعقيب
2 ـ إغواء رب العالمين تمهيد للشفاء :
كلمة ربّكم تكفي لإلقاء الضوء على كلّ هذه الآية، لو فرضنا أنَّ إنساناً صار معه الْتِهاب الزائدة، ماذا يفعل أقرب الناس إليه؟ وأشدّهم عطفًا عليه؟ أكثرهم رحمةً به؟ يأخذه إلى المستشفى الذي يستدعي طبيباً ماهراً لِفَتحِ بطنِهِ يُخدّره فَيُغْمى عليه، ويفتح بطنه ويسيل الدم، تؤخذ هذه الزائدة وتستأصَل، وهذا ما يفعله الأب الرحيم، والأم الحنون، وهذا ما يفعلهُ الأخ، فالإغواء مِن قِبَلِ الله تعالى هو الشِّفاء فإخراج هذه الشهوات تمهيداً للشّفاء، ففي هذه المرحلة مرحلة إجراء العمليّة الجراحيّة لا ينفعُ النّصح
والحمد لله رب العالمين