وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة هود - تفسير الآيات 35 – 49 الهداية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل السلام وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .

أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في قصة سيّدنا نوح عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى:

﴿  وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) ﴾

[  سورة هود  ]


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُون


1 ـ التفاتٌ من قصة نوح إلى النبي عليه الصلاة والسلام :

هذا في أُصول التعبير اسمه الالتِفات، وبينما نحن في نَشْوة قصّة سيّدنا نوح، الله سبحانه وتعالى يلتفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾

2 ـ جريمة قريش في رميهم القرآن بالافتراء :

زعماء قريش وكفارها يتَّهِمون النبي عليه الصلاة والسلام بأنّ هذا القرآن من عنده، أو أنَّ قصّة نوحٍ مِن نسْجِ خَيالِهِ ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وصَفَ الافتراء على الله سبحانه وتعالى بأنَّه جريمة، أن تفتري على الله هذه جريمة، أن تقول على الله ما لا تعلم، أن تقول على الله كذباً، وأن تقول: أُوحِيَ إليّ، ولم يُوحَ إليك، أن تقول: رأيتُ في المنام كذا وكذا، وأن تقول: حدَّثني قلبي عن ربِّي ! بما يخالف الشرع، فأحبابنا اختاروا المحبّـة مذهباً وما خالفوا عن مذهب الحبّ شرعاً.

قيل للجُنَيْد: " من هو وليّ الله؟ أَهُوَ الذي يطير في الهواء؟ أم الذي يمشي على وجه الماء؟! فقال: الوليّ الذي تراه عند الحلال والحرام "، فلو أنَّ إنساناً قال: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وقال لي كذا وكذا، وهذا القول مخالف للشَّرْع، يثبت الشَّرْع وتُرَدُّ الرؤيا، ديننا لا يؤخذ عن المنامات، الرؤيا يُسْتأنس بها، أما أن يُبْنى عليها تَشريع فحاشا لله ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾

3 ـ أساس الضلال الافتراء على الله :

أساساً الذين ضلّوا وأضلّوا، وأساس الضلال في الأرض أنَّ إنساناً افترى على الله الكذب، فمثلاً تجد أن فلاناً قال: رُفِعَتْ عنكم الصلاة فلا تصلوا! وإنساناً آخر ألغى الصّيام، و إنسان ثالث ادَّعى النبوَّة، فهذا الذي يفتري على الله الكذب وصفه الله سبحانه وتعالى بأنَّه مجرم، فالحقّ حسب ما جاء في هذا الكتاب، والباطل كل ما حاد عنه، تركتم على بيضاء نقيّة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال، ما جاءنا عن صاحب هذه القبّة الخضراء ـ يعني النبي عليه الصلاة والسلام ـ فعلى العَين والرأس، وما جاءنا عن سواه فهم رِجالٌ ونحن رِجال، وكلّ إنسان يؤخذ منه ويُردّ عليه إلا صاحب هذه القبّة الخضراء، وما من إنسان أكبر من أن يُنْقَد، وما من إنسان أصغر مِن أن يَنْقُد، لذلك من افترى على الله الكذب فقد أجرم .

هذا الذي يُوجّه الآيات توجيهًا يتوافق مع هواه هو مُجْرِم، وهذا الذي يقول لك: لا تأكل الربا أضعافاً مضاعفة، أيْ أنَّ الله سبحانه و تعالى نهانا عن النسب العالية في الربا،‍ هذا مجرم، لأنّه دفع الناس إلى أكل الربا، وهذا الذي يقول: الخمر ليْسَت محرّمة، وليس في القرآن آيةٌ تحرِّم الخمر، إنما قال سبحانه وتعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾  

[ سورة المائدة  ]

 هذا مجرم، لأنَّه افترى على الله الكذب، لأنه وجَّهَ الآيات توجيهاً يتوافق مع الهوى ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ .

4 ـ المفتري على الله عليه إجرامه :

هذه جريمة، فلو أنَّني افتريْتُ هذا القرآن من عندي، أو لو أنني تأوَّلت القرآن بالكذب فسوف أُحاسب عند الله بِجَريمتي ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ وهذا الذي يكذّب بالحق، ولا يعبأ به، ولا يصدّقه، ولا يأْتَمِرُ بما أمر الله، ولا ينتهي عمَّا نهى عنه الله، يستخفّ بالدِّين وبِقَواعِدِ الدِّين يأخذها على سبيل الهزل، لا يعبأ بِمَن يعلِّمه الحق، هذا عند الله مجرم أيضًا، فأَنْ تفتري على الله الكذب جريمة، وأن تردّ الحقّ جريمة

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ أنا مُبرَّأٌ مِن مواقفكم ومِن خِذلانكم، ومن تكذيبكم، ومن ردِّكم للحق، ومِن سعْيِكم لإطفاء نور الله، أنا بريء من هذه الجريمة، جريمة التَّكذيب، وبريء من جريمة الافتراء على الله سبحانه وتعالى . 

5 ـ هذه الآية من حيث خصوص سياقها وعمومه :

بعض المفسِّرين قال: هذه الآية تتعلّق بسيِّدنا نوح، مراعاةً للسِّياق العام، وبعضهم قال: هذا التفات من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام لِتَسْلِيَتِهِ والتخفيف عنه حينما شعرَ بالضِّيق مِن جرَّاء تكذيب قومه له، فالآية هذه تُحْملُ على مَحْمَلَيْن، والقرآن الكريم كما قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه حَمَّالُ أوْجُه ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ أي يقول كفار قوم نوح إنّ هذا النُّصح الذي نصحهم إياه افتراه على الله، وهو من عنده، قُلْ لهم يا نوحُ: إن افتَرَيْتُهُ فعليَّ إجرامي، والأقرب إلى النصّ اللّغوي أن تكون هذه الآية التفاتٌ كريم من الله سبحانه وتعالى إلى النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام مسلِّياً إياه، ومُخَفِّفًاً عنه، ومثبِّتاً لِعَزيمته، يُذكِّرُهُ بأنّ هؤلاء الذين يتَّهِمونه بالكذب إنَّما هم مجرمون في حقّه، وأنَّه بريءٌ من هذه الجريمة ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ .

﴿  وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) ﴾

[  سورة هود  ]


وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ


1 ـ طُرقُ هدايةِ الله لخَلقه :

الحقيقة أنّ الله سبحانه وتعالى يستخدم كلّ الطُّرُق لهِداية الخلق، طريقة بثّ الآيات في الأرض، هذه طريقة، وطريقة بثّ الآيات في السماء، وبثّ الآيات في الطعام والشراب، وبثّ الآيات في النبات، وبثّ الآيات في الحيوان، وبثّ الآيات في ظواهر الكون، وظواهر الأرض، هذه طريقة مثلى.

 طريقةٌ ثانية: إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب .

 طريقةٌ ثالثة: تسخير الناس ليعِظَ بعضهم بعضاً .

 وطريقة رابعة: المصائب والهموم والأحزان، والشدّة والفقْر والمرض .

إنّ كلّ هذه الطُّرُق استخدمها الله سبحانه وتعالى لِيَلفِتَ هذا الإنسان إليه، ومع كلّ هذه الطّرق يبقى الإنسان كافراً جاحداً، مُدْبِراً معْرِضاً، أي أن الله سبحانه وتعالى يستنفذ كلّ الوسائل لهِداية الإنسان، فإذا لم تُجدِ معه كلّ هذه الوسائل أهلكه الله سبحانه وتعالى .

2 ـ استنباط من الآية : الله لا يهلك إنسانا فيه بقيةُ خيرٍ :

يُسْتَنبَطُ من هذه الآية أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُهْلك إنساناً فيه ذرَّة خير، وما دام في هذا الإنسان ذرَّة من خير فإنَّ الله يمدّ بِأجله ويمهلهُ ويُعطيهِ فرصةً كي يتوب، من الآيات الأولى في سورة البقرة تؤكّد هذا المعنى، وهو أنَّ من المنافقين 

﴿  مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)﴾

[ سورة البقرة  ]

أي أهلكهم إلى أن تصبح الدنيا في أبهى زينة، وإلى أن يمتلك من المال ما شاء، ومن الجاه ما شاء، ومن وسائل الدنيا ما شاء، وإلى أن ينغمس في الملذات ما شاء يقبض الله روحه فجأةً ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ هذه الدنيا العريضة، وهذا المال الوفير، وهذا البيت الفخم، وهذه المكانة الرفيعة، وهذه الأدوات الحديثة، هذه الحفلات، وهذه السهرات وهذه النزهات وهذه الرّحلات، هذا العزّ، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بِنُورهم، أي أهلكهم

﴿  فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾  

[ سورة القصص  ]

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)﴾

[ سورة القصص  ]

﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾

[ سورة البقرة  ]

 فهذا نوعٌ من أنواع المنافقين يَقْصمُهم الله سبحانه وتعالى قصماً، ويهلكهم، لأنَّه لا خير فيهم

﴿  أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾

[  سورة البقرة  ]

 وهناك صِنفٌ آخر من المنافقين إذا لاحَتْ لهم الجنَّة، وإذا قرؤوا في القرآن وصفَ الجنَّة اشتاقَتْ نفوسهم للجنة

﴿  يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20) ﴾

[ سورة البقرة  ]

إذا كلَّفتهم بِغَضّ البصر، وإذا كلفتهم بتحرير الدَّخل، وإذا كلَّفتهم بِعَدم الاختلاط، إذا جاء الشرع موافقاً لِشَهواتهم، يقول لك: الزواج سنَّة!! أو ليس غضّ البصر كذلك من السنَّة؟! ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ لكنّه لم يذهب لا بِسَمعهم ولا بأبصارهم، لماذا؟ لأنَّ فيهم بقِيَّة خير، ما دام البرق قد أضاء لهم فمشَوا فيه، فهذا يعني أنَّ فيهم بارقة أمل، واستنبط علماء التفسير من هذه الآية أنَّ الإنسان أيّ إنسان ما دام فيه بارقة أمل فلن يهلكه الله سبحانه وتعالى

(( عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما يَرْوِي عن رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالَى، قالَ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، وإنْ هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ سَيِّئَةً واحِدَةً. وفي رواية: وزادَ: ومَحاها اللَّهُ ولا يَهْلِكُ علَى اللهِ إلَّا هالِكٌ. ))

[  مسلم  ]

فالطالب متى يفصل من المدرسة؟ إذا نال في كلّ المواد صفراً، ولا أمل فيه، أما إذا كانت مادّة أو مادَّتَان أو ثلاث فيوضع خطّ أحمر تحت هذه المادة، ويُسْتدعى الوليّ، ويؤخذ عليه تعهّد، ويضيّق على الطالب، ما دام هناك أمَل، هناك عمل، فإذا ذهب الأمل حقّ الهلاك، والذي أريد أن أُثبِّتهُ في أذهانكم أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُهْلكُ إنساناً فيه بقيَّة خير، إذاً معنى قوله تعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ الله خبير عليم، خبير بِنُفوس عباده، حينما استنفذ الله سبحانه وتعالى كلّ الوسائل، وحينما حكم عليهم بِعَدم الإيمان قرَّر إهْلاكهم ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾

3 ـ أمرُ الله نوحًا بعد الحزن على قومه الضالين :

 أيْ لا تَحزَن من تكذيبهم إيّاك فهؤلاء ليس في قلوبهم ذرَّة خير، وليس في أدْمغتهم ذرّة من عقل، لا عقل ولا خير ﴿ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

معنى آخر لقوله : فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

 وهناك تفسير آخر لهذه الآية: أنّني إذا أهلكتهم فلا تبتئِس عليهم لأنَّني أُهلكهم باسْتِحقاق

﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)﴾

[ سورة الأنفال ]

إنما أُهلكهم بعدما اسْتَحكم الكفر في قلوبهم، وبعد أن سَدُّوا آذانهم، ووضَعوا على أعينهم غِشاوَةً، وصرفوا أنفسهم عن الحق فاسْتَحَقوا الهلاك ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ﴾

تروي القصص أنّ نفراً لا يزيد على سبعين رجلاً من قومه آمنوا به، وهم من ضِعاف القوم، من الفقراء، من أصحاب الحِرَف ذات المستوى الأدنى ﴿ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ .

﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) ﴾

[ سورة هود  ]

 عليك أن تدْعُوَ إلى الله، ولكن ليس عليك هُداهم، ولكنّ الله يهدي من يشاء

﴿  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56) ﴾

[ سورة القصص  ]

 لا يهتدي المهتدي بِتَعَلّق إرادتك بِهُداه ولكنّ المهتدي يهْتدي إذا أراد هو الهُدَى ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ آية في القرآن تؤكّد هذا المعنى

﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

من يشاء من العباد الهدى يهتدي ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ لا تبتئس يا نوح بِتَكذيبهم، ولا تبتئس يا نوح بِمُعارضتهم، ولا تبتئس يا نوح بِسُخريتِهِم، إنهم جاهلون، إنهم فاقدو الوعي، وفاقدو الإدراك، وإنَّهم صمَّموا على الكفر، إنَّهم اختاروا الكفر، إنَّهم انْغَمسوا في الشهوات .

﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) ﴾

[ سورة هود  ]

 أعطاه الله سبحانه وتعالى أمْراً أوَّلِيّاً ﴿ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ 


وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا


1 ـ حفظُ الله لنوحٍ عليه السلام :

 جمْعُ العين هنا جمع تعظيم لا جمع تكثير ﴿ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ أيْ أنت يا نوح بِعَين الله، عَيْنُ الله تحرسك، وعين الله تدفع عنك أعداءك، وعين الله تحفظك، وعين الله توفقك . 

2 ـ لكلّ مؤمن من هذه الآية نصيب :

 وأنا أقول: إن لكلّ مؤمن من هذه الآية نصيب

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) ﴾

[  سورة الطور  ]

المؤمن له من هذه الآية نصيب، أنت في حفظ الله، " يا عبدي، أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ قال: يا ربّ أنفقته على كلّ محتاج ومسكين لِثقتي بأنَّك خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين، قال: يا عبدي، أنا الحافظ لأولادك من بعدك "، فإذا كنت في عين الله فَنَمْ مُطمئناً 

وإذا العناية لاحظتك جفونها    نَمْ فالمخاوف كلهنّ أمان

[ عمر اليافي  ]

 ما مِن إحساسٍ يفوق إحساس المؤمن بالأمن، كيف لا؟ والله سبحانه وتعالى الذي بيَدِهِ ملكوت كلّ شيء راضٍ عنك، لذلك( رضي الله عنه ) مرتبة لو يعلم الناس ما فيها، إنَّها أعلى مرتبة في الوجود، أن يكون الله راضياً عنك 

فليتك تحْلو والحياة مريرة    وليتك ترضى والأنام غِضاب

ليتك ترضى عنِّي يا رب، والأنام غِضاب ﴿ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ ينادى له في الكون أنا نحبّه فيسمع من في الكون أمر مُحبِّنا 

3 ـ حفظُ الله للأنبياء :

 سيّدنا موسى قال الله في حقّه:

﴿  وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي(41)اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي(42) ﴾

[  سورة طه  ]

﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46) ﴾

[ سورة طه  ]

 سيّدنا إبراهيم ألقوه في الجحيم

﴿  قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) ﴾

[  سورة الأنبياء  ]

 سيّدنا موسى تبعه فرعون وجنوده، والبحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من ورائهم

﴿  فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62) ﴾

[  سورة الشعراء  ]

 فانفلق البحر، وصار طريقا يبساً، سيّدنا يونس دخل في بطن الحوت في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة بطن الحوت وظلمة البحر! 

﴿  فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾

[  سورة الأنبياء  ]

سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في غار ثَور مع صاحبه أبي بكر، فعَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ:

((  لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ : مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا  ))

إن كنت صادقاً في محبّة الله، وفي طاعتك لله، وإن كان عملك طيِّباً، ولسانك رطباً بذِكر الله، ومخلصاً لله عز وجل فلا بدّ من أن يكون لك من كلّ هذه الآيات نصيب، ولو اسْتمعتَ إلى مؤمن يروي لك كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى يُنَجِّيه 

﴿  قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ(64) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

ما من مؤمن كريم إلا ويعرف مئات القصص، كيف أنّ الله نجّاه من عدوِّه؟ وكيف وفَّقه؟ وكيف نصره وحفظه وسدَّده؟ وكيف أكرمه؟ هذه قِصص وقعت، وسوف تقع مع العباد في أثناء حياتهم وأمثالها يقع ﴿وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ .

4 ـ معنى : بِأَعْيُنِنَا

أي بِحِراستنا وبحفظنا ولطفنا، ووحينا، فمثلاً: الأم إذا كان ابنها يلعب أمامها فنقول: إنّ هذا الطفل بِعَين أُمِّه، فكلّ حركاته وسكناته تحت رقابة ِعَيني أُمّه ﴿ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾

5 ـ معنى : وَوَحْيِنَا

الوحي هنا الإرشاد، أي أن الله سبحانه وتعالى تولى إرشاد سيّدنا نوح لِصُنع السفينة كيف يصنعها؟ وكيف يُصمِّمها؟ وكيف يجمع الأخشاب؟ وكيف يصنعُ هيكلها ﴿ وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾


وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُون


1 ـ آخرُ العلاجِ الكيُّ :

لمْ أرَ مثالاً أقرب لفهم هذه الآية من أنّ أحد الناس له ابن، وأصابه مرضٌ الموات ( الغرغرين)، وبدأ ينتشر في قدميه، فسارع إلى الطبيب فقال له: لا بدّ من قطعهما، وليس لك أن تعترض، فمهما توسّل هذا الأب لهذا الطبيب فلا جدوى، إذ ليْسَت القضيّة قضيّة توسّل، ولكنّ القضيّة قضيّة عِلْم، إنّ هذا المرض سريع الانتشار، ولا بدّ مِن بتْر العضو ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ أي أنَّ الله سبحانه وتعالى قرَّر إهلاكهم بعد أن اسْتنفذ كلّ السُّبُل، وبعد أن حكم عليهم بأنهم لا يهتدون، وبعد أن عرف من طوِيَّتهم أنَّهم لا يستجيبون، إذًا: هلاكهم خيٌر لهم ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له، ليس معنى لا مردَّ له أي أنّ الله تعالى لا يعْفو، لا ليس من هذا القبيل، ولكن لأنَّ هذا المرض الذي فشا فيهم لا بدّ من معالجته، وبتْر هذا العضو، فلو كان الطبيب مختصّ بهذا المرض، وابنه فلذة كبده أُصيب بهذا المرض الموات، لا بدّ من أن يقرّر الأب الطبيب قطع هذه اليد، لكي لا يسري هذا المرض في بقيّة الأعضاء ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، لا بدّ من ساعة يُحاسب فيها الإنسان، ولا بدّ من ساعة يدفع ثمن المعاصي باهظة ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾

﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)﴾

[  سورة هود  ]

حكاية الله لصناعة نوحٍ للسفينة :


1 ـ حكاية حال نوح مع السفينة على اليابسة :

نقَلَنا الله سبحانه وتعالى إلى صورةٍ أمام أعْيُنِنا، عن طريق الفعل المضارع، ويصنع الفلك، أي بدأ نوحٌ بِصِناعة الفلك ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾   يعني بِحَسب معطياتهم أنّ هذه السفينة تُصنع على اليابسة، لو أنّ إنساناً في تدمر أراد صُنْع سفينة ماذا تفعل السفينة هناك؟ فلا بحر ولا نهر هناك! بِحَسب معطياتهم وتفكيرهم ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾

2 ـ استهزاء قومِ نوح به :

 يا نوحٌ أأَصْبحت نجاراً بعد أن كنتَ نبيّاً؟ أتخَلَّيْت عن النبوَّة؟ أسْتبْدلْتَ بها هذه الصَّنعة ﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾

3 ـ الفائزُ مِن يضحك في الأخير :

 من هو البطل؟ الذي يسخر في آخر الأمر، وليس في أوّله، من الذي يسخر في النهاية؟ 

﴿  تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107)قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110) ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

 وفي آية أُخرى 

﴿  فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) ﴾

[  سورة المطففين  ]

 فالبطولة أن تضحك من الذين ضحكوا منك آخر الناس

﴿  فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82) ﴾

[  سورة التوبة  ]

4 ـ في هذه الآية تسلية للمؤمن :

أما المؤمن فيبكي قليلاً ليضحك كثيراً، فسيّدنا نوح نبيّ كريم سَخِروا منه، ولك به أُسوةٌ حسنة، لو أنّك امتنَعْتَ عن مُصافحة امرأةٍ، وسَخِر منك أصدقاؤك فلا تبتئس أبداً، ولك بهذا النبي الكريم أُسوةٌ حسنة، ولو أنَّك امتنعت عن أكل الربا، وسخر منك أصدقاؤك فلك بهذا النبي الكريم أُسوةٌ حسنة، لو أنَّك امتنعت عن رحلة مختلطة ممتعة على حدّ قول أهل الدنيا، وسخر أصحابك منك، فلك بهذا النبي الكريم أُسوةٌ حسنة، لو أنَّك رفضْت أن تبيع ديناً بِسِعْرٍ مرتفع ورَعاً وخوفاً مِن الله عز وجل، وسخر منك كلّ من في السوق، وقالوا لك: هذا هو العُرْف التِّجاري، إذا سخروا منك فأنت الرابح الأكبر ﴿ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ 

((  اطَّلعت على أهل الجنّة فرأيت عامة أهلها من البُله  ))  

[ الجامع الصغير عن أنس، وسنده ضعيف  ]

وما اتَّخذ الله وليّاً جاهلاً لو اتَّخذه لعلَّمه، فكيف يكون أهل الجنّة من البُلْه؟! بعض علماء الحديث وجَّه هذا الحديث توجيهاً رقيقاً لطيفاً، قال: إنّ هذا المؤمن في نظر أهل الدنيا أبله! يعني أن يمتنعُ عن وضع ماله ليأخذ عليه فائدةً كبرى، يقول لك: هذا المليون فائدته مائتا ألف! امْتنَعْتَ أنت عن قبض هذا المبلغ ورعاً؟ إنك أبله في نظرهم، هذا العمل يجلب لك مئات الألوف، لأنه في مكانٍ حسّاس، يدخل إلى جيبك كل يوم مائة ألف ليرة إذا تساهلتَ، تشتري البيوت والسيارات، وتعيش حياة البذخ، هذا الذي امتنع عن أكل المال الحرام في نظر أهل الدنيا أبله، عُرِض على شخص أن يذهب إلى بلد فاسد، و يقيم في هذا البلد أسبوعين يتعرّف على معالمها السياحية، لكنه يخشى على دينه وعلى نفسه الموصولة بالله، فيمتنع عن الذهاب يُقال عنه: إنه أبله، والحقيقة أنهم هم البُله، وهو العاقل فيهم! 

﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ(80)فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ(81) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿  تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ بعضُ العلماء في أوربا اكتشف كروية الأرض، و لكنَّ قومه آذَوْه، وسخروا منه وقد عُرِضتْ هذه المسرحية حديثاً في بعض المدن الأوربية، فالمشاهدون يسخرون اليوم ممَّن يسخرون من هذا الإنسان بالأمس، سخرية مزدوجة، فإن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، و لا بدَّ من أن نسخر منكم في وقت ما

﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) ﴾

 

[ سورة هود  ]


فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ


المستهزئ المنحرف ينتظره عذاب دنيوي يخزيه وأخروي مقيم :

يعني: هذا العاصي هذا المنحرف، وهذا الفاسق، وهذا الكافر، وهذا الماجن، وهذا المكذِّب، و هذا المنافق لا بدَّ من أن يأتيه عذابٌ يخزيه في الدنيا، و لا بدَّ من أن يُكشَف على حقيقته، ولا بدَّ من أن يُفتَضح أمرُه، ولا بدَّ من أن يهبط من حيث المكانةُ الاجتماعية ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ لا بدَّ من أن يصبح حديث الناس، حديث القوم، لا بدَّ من أن يصبح حديثاً بعد أن كان شخصاً ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾


حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ


1 ـ صدور الأمر الإلهي بالإهلاك :

 ويحل عليه في الآخرة عذاب مقيم

﴿  حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) ﴾

[  سورة هود  ]

 القرار صدر بإهلاكهم، وله أجلٌ زمني لتنفيذه، فقد يصدر القاضي حكماً بالإعدام على هذا المجرم، ويتأخر موعد تنفيذه، لقد أُصدِرَ الحكم على قوم نوح، و صُدِّق الحكم، وبقيَ تنفيذ الحكم ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ .

2 ـ وَفَارَ التَّنُّورُ

والتنور من معانيها وجه الأرض، أي فارت الأرض بالينابيع، ومن معانيها أنَّ تنوراً في بيت سيدنا نوح جُعِل علامةً لبدء الطوفان، يفور الماء من وسطه، أو أن فار التنور: كناية ككناية "حمِيَ الوطيس"، يعني اشتدَّ الأمر ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾

3 ـ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ

القراءة هكذا "من كلٍّ زوجين اثنين " لم يقل الله سبحانه و تعالى: " من كلِّ زوجين، ولو أن الله سبحانه و تعالى قال: من كلِّ زوجين" أي من كلِّ مخلوق زوجين، لما اتَّسعتْ هذه السفينة لكلِ مخلوقات الله في الأرض، لكن من كلٍّ، سوف تحتاج إلى غنمةٍ واحدة وفحلها وشاةٍ، واحدة وفحلها، و بقرةٍ واحدة وفحلها، وهي الحيوانات التي يحتاجها الإنسانُ لقوام حياته، قال تعالى : ﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾

4 ـ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْل

 أي زوجتك وابنك

﴿  ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10) ﴾

[ سورة التحريم  ]

﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾ طبعا زوجين أي مثنى، إذا قلت: أخذتُ زوجين من الأقلام، يعني قلمين، لأن كل واحد يُسمَّى زوجاً، ولكنَّ الزوج هو الشيء الذي لا يستغني عن قرينه، قال أحدهم: بكم ثمن هذا الحذاء، فقال البائع: بأربعين، فقال: الزوجين معاً، هذه الأولى يُستغنَى بها عن الثانية، أتكفي؟ لا تكفي، فمعنى زوج هو الشيء الذي لا يُستغنَى عن قرينه، لكن الزوج تعني واحداً، الواحد يتكامل مع الزوج الآخر﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ يعني امرأته وابنه ﴿ وَمَنْ آمَنَ ﴾  يعني احمل فيها من كُلٍ زوجين، و أهلك و من آمن بك

5 ـ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ

﴿ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ يعني أنت كُن مع الأقلِّية المؤمنة

﴿  وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿  وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)  ﴾

[  سورة يونس  ]

﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41)﴾

[   سورة هود  ]


وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا


 للكلمتين قراءات عديدة، على كلٍّ ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾  

1 ـ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا

المُجرى مكان الجري، والمُرسى مكان الإرساء، فإما أن تعني هذه مكان بدء الرحلة، ومكان استقرارها، أو زمان بدئها، و زمان استقرارها، والمَجرى اسم زمان، أو اسم مكان على وزن مفعَل، المُجرى اسم مكان أو اسم زمان من فعل رباعي، جرى مَجرى، أما أجرى يُجري مُجرَى، أما رسا، يرسو مَرسى، و أرسى يُرسي مُرسى، فاسم المكان الرباعي على وزن مُفعَل بضم الميم ﴿ بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

2 ـ بِاِسْمِ اللَّهِ

قال بعضهم، أي إذا قلتَ: باسم الله مَجراها، يعني أُجريها باسم الله، أي تجري بأمر الله، أي بشرع الله، إذا ركب الواحد سيارته ليذهب إلى نزهة فيها معصية لا يسمي، لأن هذه التسمية خلاف هذه المعصية، إذا ركبتَ السيارة لتنطلق منها إلى عملك فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا ركبت السيارة لتخدم بها إنسانا فقل: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ و معنى باسم الله، أي أنا أفعل هذا الشيء مرضاةً لله، و بأمر الله، ووفق شرع الله، و مخلصاً لله، هذا هو معنى باسم الله ﴿ بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

3 ـ مِن آداب السفر وركوب الدابة :

 فالإنسان إذا ركب دابة أو سيارة أو طائرة يقول 

﴿ لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) ﴾

[ سورة الزخرف ]

إن الإنسان يسافر أحياناً، و لكن هناك سفر بعيد، و سفر قريب، السفر الذي يعود منه سفر قريب، و هناك سفرةٌ واحدة يذهب و لا يعود، و هذا هو السفر البعيد، فإذا رأيت جنازةً فاعلم بأن بداخل النعش مسافراً سفراً بعيداً غادر البيت، و لن يعود .

كلُّ ابنِ أنثى و إن طـالتْ سلامتُه  يوماً على آلة حدباء محمول

فإذا حمـلتَ إلـى القـبور جنـــازةً   فاعــلم بأنـك بعدهـا محمـول

[ كعب بن زهير ]

﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) ﴾

[  سورة هود  ]


مشاهد عظيمة من قصة نوحٍ :


1 ـ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ

هذه الآية لا يتذوَّقها إلا من ركب البحر، و هاج به البحرُ، و رأى كلَّ موجة كالجبل و كاد قلبه يقف من شدَّة الخوف ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ ربُّنا يقول: كالجبال، المتكلِّم هو الله سبحانه و تعالى ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ أي في معزل عنه ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا ﴾

2 ـ نداء نوحٍ ابنَه ليركب معه :

 اركب و اخْزِ الشيطان، دعْ ضلالتك ودع كفرك، واركَب معنا وانجُ، ولا تكن مع الكافرين

﴿ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) ﴾

[  سورة هود  ]

3 ـ اعتراض ابن نوح على كلام أبيه :

وهذه قصّة الناس اليوم، فهذا يستغني بِماله عن الله، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب، ويأتيه مرض لا ينفعُ معه المال، كنتُ عند بعض الأطباء، وقد جاءتْهُ مخابرة سمِعْتُ الطبيب يقول: لا جدوى، وبعد أن وضعَ السماعة مكانها قال لي: إنّ مريضهم مُصاب بِمَرض خبيث، وعرضوا عليّ أن نأخذه إلى أيّ مكانٍ في العالم، وأن يدفعوا لمعالجته من المال مهما بلغ بالملايين، فقلتُ لهم: لا جدوى! و أحدهم فتح دار سينما، وكسب منها المال الوفير، وجمّع، ثمّ جلس على فراشه يبكي، دخل عليه ابن أُخته، وكان طالباً عندي، قال له: يا خالي ما لك تبكي؟! وكان معه مرضٌ خبيث، فقال: جمعت المال كلّه كي أعيش سنوات في هناءةٍ ويُسْرٍ، ولكنّ هذا المال لن ينفعني بعد أن أُصِبْتُ بهذا المرض ﴿ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ ﴾

4 ـ جواب نوح ابنَه : قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ

واستنبط العلماء أنَّه لا يجوز أن يُعذَّب الابن أمام أبيه، ولو كان مستحِقّاً هذا العذاب، رحمةً من الله أهلكه بعيداً عن عين أبيه، وجعل موجةً تحول بين نوحٍ عليه السلام وبين ابنه ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ ﴾ .

5 ـ مصير ابن نوح : وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِين

 هذه نهاية الكافرين

﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) ﴾

[  سورة هود  ]


وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ


كناية لطيفة، اسْتقرَّت سفينة نوح على جبل في منطقة الموصِل من أرض العراق يُقال له الجودي ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ هذه نهاية الكفر، هلاكٌ مُدمِّر، وانتهى الأمر

﴿  تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46) ﴾

[ سورة هود  ]


وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ


1 ـ قرابة النسبِ بلا إيمان لا فائدة منها :

بمعنى أنَّ أهلَكَ مَن آمنوا بك، فالذين لم يؤمنوا بك ليْسُوا من أهلك، بل القرابةُ قرابةُ دين، وقرابة عقيدة، لا قرابة نسب، بل قرابة النسب لا قيمة لها

﴿  تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) ﴾

[  سورة المسد  ]

مع أنَّه عمّ النبي صلى الله عليه وسلّم، الحِبّ ابن الحِبّ أُسامة بن زيْد، ففي الإسلام النسَبُ هو نسَبُ الإيمان، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ ﴾

2 ـ عتاب الله لنوحٍ حين سأله عن ابنه :

 لو أنَّك رجَوْتني في ابنك الذي مات كافراً لكنت من الجاهلين

﴿  الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67) ﴾

[ سورة الزخرف  ]

تقعُ عَيْنُ الأُمّ على ابنها يوم القيامة فتقول له: يا بنيّ، جعلتُ لك صدري سقاءً وبطني وِعاءً، وحجْري وِطاءً، فهل من حسنة يعود عليّ خيرها اليوم؟‍ يقول لها: ليتني أستطيعُ ذلك يا أُمَّاه، إنَّما أشْكو مِمَّا أنتِ منه تَشْكين!! 

﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ(47)قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) ﴾

[  سورة هود  ]


وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ


أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهم، يقول لك يا أخي: بلاد كالجنَّة، الطرقات والحدائق، وتحت الأرض مواصلات، والأبنية الشاهقة والدَّخْل مرتفِعٌ جدّاً، وكل شيء متوفر، والعيش رغيد ﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي هناك أُمَم يمَتِّعُهم الله تعالى في الدنيا، بلاد خضراء، وأمطار غزيرة، وفِسْق لا حدود له، والزنا يرتكب على قارعة الطريق، ليس هناك شيء عندهم حرام، والدنيا واسعة عطاؤها عريض ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ تكفي هذه الآية

﴿  تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49) ﴾

[  سورة هود  ]


تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا


1 ـ قصص الأنبياء تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام :

 الآن جاءت التَّسلية وجاء دور النبي عليه الصلاة والسلام ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

2 ـ خلاصة قصة نوح : فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

والله الذي لا إله إلا هو، لو لم يكن في هذه القصّة إلا هذه الكلمات فاصبِر! ربٌّ كريم يقول لك: فاصْبِر إنّ العاقبة للمتقين، وأنت أيها الأخ الكريم، اصبِر على بعدك عن المعصيَة، واصبِر على الطاعة، واصبِر على تربية الله لك ﴿ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ إن لم يكن لك أولاد ذكور، فاصْبِر، عقيم، فاصْبِر، دخلك محدود، فاصْبِر، عملك شاقّ، فاصْبِر، زوجة مُشاكسة، فاصْبِر، بيتك صغير، فاصْبِر، مرض طفيف أو مرض كبير، فاصْبِر ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ والصَّبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان، فاصبر إن العاقبة للمتقين .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور