- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
مقدمة :
أيها الإخوة المؤمنون، في سورة هود وفي قصة سيدنا نوح عليه السلام جاءت الآياتُ الأخيرة تنبئ أن هناك أُمَماً سوف يمتِّعهم الله، ثم يمسهم عذاب أليم .
قد يرى الإنسانُ أمّةً بمقياس العصر راقيةً، مشكلاتها معظمُها محلولة، رخاءٌ ودخلٌ كبير، آلاتٌ حديثة، ورفاهٌ منقطع النظير، إن كانت هذه الأمة إنما بَنَتْ رفاهها ودخلها الكبير، واستمتاعها بالحياة على ظلمٍ أو على قهرٍ للشعوب الأُخرى فربّنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(48)﴾
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً
1 ـ قصة سيدنا صالح مع قومه :
من هذه الأمم التي متَّعها الله سبحانه و تعالى، ثم مسَّها عذاب أليم، هذه الأمة التي أرسل الله سبحانه وتعالى إليها نبيّاً كريماً هو سيدنا صالح عليه السلام، فقال تعالى :
﴿
بعد أن أهلك اللهُ عاداً، وقد أرسل فيهم سيدنا هوداً عليه السلام، و بعد أن أهلكهم جاء من بعدهم قومُ ثمود، فحينما استعلوا في الأرض، و ضلّوا، وأضلّوا، وتاهوا عن طريق الحق، أرسل الله إليهم أخاهم صالحاً .
2 ـ كل نبيٍّ يُبعث من قومه :
حدّثتكم في الدرس الماضي كيف أنّ حكمة الله سبحانه وتعالى تتجلى في أن يكون النبي الرسول من بني البشر، تربطه بِقَومه الأخوّة الإنسانيّة، وكيف أنَّ قرابةً أُخرى يجب أن تربطه بقومه؟ يجب أن يكون منهم، نشأ بين ظهرانيهم، رأوْهُ، ورأوا صدقه، ورأوا أمانته ورأوا عفافه، وعرفوا نسبه، واطمأنوا إليه
3 ـ كلمةٌ أجمع عليها كلُّ الأنبياء : اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ
لعل أحدنا يظنّ أنّ سيّدنا صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لقومه هذه الكلمة! هذا الذي قاله ملخَّصٌ لِحديثٍ طويل، ولأدلةٍ كثيرة، ولِجُزئيات ولتفصيلات، كل الذي دعاهم إليه يتلخَّص بهذه الكلمات النيِّرات
﴿
4 ـ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قولٌ وعملٌ، وليس كلاما وتمنيات :
بعض الناس يظنّ إذا قالها فقط دخل الجنَّة، يجب أن يكون واضحاً في أذهان الإخوة الأكارم أنَّ كلمةً تقولها لا تستحقّ الجنَّة عليها، بِشَكل عابر، وأنت عاداتك ليْست إسلاميّة، وتصرّفاتك ليست إسلاميّة، وسلوكك ليس إسلامياً، تنساق إلى نفسك، وتتمنّى على الله الأماني، وتعطي نفسك هواها، ولا تنضبط بالشَّرع، فَمِثل هذا الإنسان ولو قال: لا إله إلا الله، لا يستحقّ بها الجنَّة.
أي في مقاييس الأرض هل يكفي أن يقول الطالب كلمةً لينال بها درجة دكتوراه؟! يقول كلمة، وينال بها شهادة عُليا يستحقّ بها التبجيل والتعظيم في مجتمعه؟ هذا مستحيل، هذا في مقياس البشر، ألا إنّ سلعة الله غالية، هذا الذي يظنّ الإسلام كلمات تردَّد وطُقوس تمارس وهو مع شهواته، هذا بعيد بُعْد الأرض عن السماء عن أن يفْهم الدِّين، الدِّين انضِباط وسُموّ روحي، الدِّين عمل وتضحية، والدِّين ورع، والدين معاملة، والدِّين صِدْق، أن يكتفي الإنسان بِقول: لا إله إلا الله، فهذا فهْم ساذج لا يتناسب مع عظمة الله، ولا مع كمال الله ، ألا إنّ سلعة الله غالية، يؤكِّد هذا قوله تعالى:
﴿
من وقتك الثمين، ومن مالك الذي حصّلتَهُ بِعَرق جبينك، ومن الشيء الغالي عليك، والعزيز عليك، هذا يجب أن تنفقهُ في سبيل الله، أما أن تُتْبِعَ نفسك هواها، وأن تعيش مع الناس بِعاداتهم وتقاليدهم ومرحهم وطربهم، وتستمعُ ما يستمعون، وتنظر إلى ما ينظرون، وتلهو كما يلْهون، وتستيقظ كما يستيقظون، ويعنيك ما يعنيهم، ويؤْلمُكَ ما يؤلمهم، وثم تقول: أنا مسلم، وتتمنى على الله الأمانيّ! الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
﴿
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(111)﴾
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(80) بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)﴾
فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
هذا الكلام، لكي لا يغترّ الإنسان بالله سبحانه وتعالى
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) ﴾
لا تغترّ بالدنيا، أيْ إياك أن تنظر إليها بِحَجم أكبر من حجمها، هي يسيرة وعند الله صغيرة، ولا شأن لها، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، لا تدوم لإنسان
﴿ وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ
إياك أن تنظر إلى الدنيا بِحَجم كبير! وإياك أن تنظر إلى الدنيا فتملأ قلبك! إياك أن يكون عِلمُك منتهياً عند الدنيا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ عِلمنا، إياك أن تجعلها في قلبك، وهذا هو معنى قوله تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48) ﴾
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19) ﴾
هذا هو الحق، إنَّ لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيِّئةٍ عقابا، ليس هذا من باب التشديد، ولكن هذا من باب الواقع، فلذلك
هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ
1 ـ أصل خَلق الإنسان من التراب :
﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29) ﴾
أما أنت أيها الإنسان فقد خُلِقْت من تراب الأرض، حينما يولدُ الإنسان لا يزيدُ وزنهُ على ثلاثة كيلو غرامات، وكلّ واحد مِنَّا وزنه ستون فما فوق، هذا الوزن من أين جاء؟ من الطعام والشراب، وهذا الطعام والشراب من أين جاء؟ من التراب، الأرض تنبت هذه الفواكه والخضراوات والكلأ الذي يأكله الحيوان، ونأكله نحن في النِّهاية، إذاً الله سبحانه وتعالى خلقنا من ترابٍ أصلاً وأفراداً
﴿
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
1 ـ الاستعمار بالمفهوم القرآني والمعنى الهامشي :
أي جعلكم تعمرونها، ألْقِ نظرةً على مدينة ترى فيها بنياناً، وفيها طرقات وفيها جُسور، وفيها معامل وفيها مدارس، وفيها جامعات وفيها دوائر حكوميّة، وفيها أنظمة، وفيها مستودعات وفيها وقود، وفيها أغذية، وفيها ملبوسات، استعمركم فيها، هؤلاء الذين قالوا: الإنسان أصلهُ قِرْد، اُنظر إلى مجتمع القِردَة هل تطوَّر مجتمعهم من وضعٍ إلى وضع عبر آلاف السنين؟ القرد هو القرد، أما الإنسان فتطوَّر
2 ـ لا يستطيع الإنسان أن يحيا وحده على الأرض :
استعمركم فيها، فلا يستطيع الإنسان أن يحيا وحده فيها، ولو كُلِّفتَ أن تصنع رغيفَ خبزٍ، تصوَّر، يجب أن تشتري أرضاً، ويجب أن تستخرج الحديد من الأرض، ويجب أن تصنع محراثاً، ويجب أن تقتنيَ بقرةً أو ثوراً، ويجب أن تحرث الأرض، وأن تلقيَ الحَبَّ، وأن تسقيَ الزرع، وأن تحصد، وأن تدرس الحصاد، وأن تنظّف، وأن تطحن الحبَّ، وأن تعجن، هذا شيءٌ مستحيل أن تفعله وحدك، لكنك تشتري الخبز جاهزاً، آلاف الرجال ساهموا في صنع الرغيف، كذلك الثياب، فالقطن و الصوف جُمِع كل منهما، وغُسِل، وصار غزلاً، وصُدِّرَ، وصار خيوطاً ونُسج، وخاطه لك الخيَّاطُ، ولبسته أنت
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
1 ـ اقتران الاستغفار بالتوبة دليل الصدق :
يعني اطلبوا منه الشفاء، و طهِّروا أنفسكم بالقرب منه، واستقيموا على هذا، ولا تكن هدايتكم ومضات، هذا الذي يتوب، ثم ينقض التوبة، يهتدي ثم ينتكس، هذا لا خلاق له عند الله، و إذا تعاملت مع الله سبحانه وتعالى فكنْ صادقاً
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
هذا قرار تتَّخذه مع الله سبحانه وتعالى، مع الله رب العالمين، أترجع عنه؟ أتندم عليه؟ أتغيِّر؟ أتبدِّل؟ ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم مصيبة انقلبوا على رؤوسهم، وذلك هو الخسران المبين، أما المؤمن فلا يغيِّر ولا يبدِّل
﴿
إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيب
1 ـ معنى : قَرِيبٌ مُجِيب
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ
2 ـ الله قريب من العبد من كلِّ شيء :
إذا أمسكتَ آلةً تعمل على الكهرباء، وضممتها إلى صدرك، وأحطت بها، أنت أقرب إليها أم الكهرباء؟ الكهرباء التي في داخلها أقرب، ولو فرضنا مسجلة لو أمسكتها بيديك الكهرباء التي بداخلها تحرِّك أقراصها أقرب إليها منك، فربنا سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من روحه
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ
فربنا عز وجل قريبٌ و مجيب
﴿
من لا يدعوني أغضب عليه، و إن الله يحب الملِحِّين في الدعاء
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)﴾
﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا
1 ـ هذا ما قاله قوم صالحٍ لنبيهم :
أي حينما دعوتنا إلى عبادة الله تغيّرتْ نظرتُنا إليك، كنتَ قبل هذه الدعوة معقد الآمال، وكنا نتوسَّم فيك الصلاح، وكنا نعلِّق عليك الآمال، و كنا ننتظر منك أن تكون معيناً لنا، أمَا وقد دعوتنا إلى أن نعبد اللهَ، و ندع ما يعبد آباؤنا فقد خيَّبتَ ظننا، فالإنسان الكافر هو الإنسان الكافر لا يتغيَّر، و لا يتبدَّل، هذا القول الذي قاله قومُ صالح لسيدنا صالح حينما دعاهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى
قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف اليهود منه : حادثةٌ وعِبرٌ :
هذا القول ذكَّرني بقصةٍ كنتُ قد ألقيتها وهي قصة عبد الله بن سلام، هذا رجل من اليهود أدرك بعثة النبيِّ عليه الصلاة و السلام، لا أريد أن أطيل عليكم، سأقرأ لكم قصته كما رواها هو، يقول عبد الله بن سلام:
2 ـ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ
نحن نشكُّ في دعوتك ونحن لا نصدِّق ما جئتَ به، ونحن نعبد ما يعبد آباؤنا، ونحن متعلِّقون بالتقاليد والعادات والتراث والقيم الجاهلية
﴿
فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُه
1 ـ لا أحدَ ينصرك من الله :
مَنْ يضمن لي إن عصيتُ اللهَ أن ينصرني؟ أموري كلُّها بيد الله سبحانه وتعالى، ومن يستطيع أن ينصرني من الله؟ و من يستطيع أن يمنعني من الله؟
أحدُ الولاة جاءه رجلٌ تابعيٌّ جليل، وكانت قد جاءت الوالي رسالةٌ من أمير المؤمنين تأمره بما لا يرضي اللهَ، فقال: يا أيها العالِم الجليل، ماذا أفعل، هذا أمر من يزيد أمير المؤمنين يأمر بما لا يرضي اللهَ، أفأُطيعه أم أعصيه؟ فأجابه التابعيُّ بكلماتٍ وجيزات، قال: " إن اللهَ يمنعك من يزيد، ولكنَّ يزيد لا يمنعك من الله "، فإذا أطعتَ صديقَك ـ على وجه التقريب ـ وعصيتَ اللهَ سبحانه وتعالى، فإذا جاء المرضُ العُضالُ مثلاً فماذا يفعل الصديقُ؟! قد يتكرَّم عليك بالزيارة، وإن كان صديقاً حميماً قد يزورك مرَّتين، وإن كان أشدَّ من ذلك قد يأتي معه بهديَّة، وإذا جاءت المنيَّةُ يبعث لك بإكليل ورد، هذا كلُّ ما عنده .
2 ـ كلُّ شيء بيد الله :
أما من يملك لك الصِّحةَ؟ ومن يملك لك الحياة السعيدة في الدنيا؟ ومن يملك لك قوَّةً؟ ومن يملك لك رخاءً؟ اللهُ سبحانه وتعالى، إنَّ الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله، فلذلك
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ
ومَن يستطيع أن يمنع عني قضاءَ الله
﴿
فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
أي أنا إن اتَّبعتُ أهواءكم واستجبتُ لكم، وتخليتُ عن هذه الدعوة، وعصيتُ اللهَ لأرضيكم أكُن من الخاسرين، ضع في ذهنك قوله تعالى:
﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ
مهما دارت الأيامُ، فإن المؤمن في النهاية هو الرابحُ، وكفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله، وما دمتَ في طاعة وعدوُّك في معصية فأنت منتصر عليه لا محالة .
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً
﴿
1 ـ الناقة معجزة صالح :
يبدو أنهم أصرُّوا على كفرهم، و استعلوا وركبوا رؤوسهم، واتَّهموا نبيَّهم الكريم بالكذب والأغراض الشخصية، وقالوا: له أغراض شخصية من هذه الدعوة، إنه يريد أن يستعليَ علينا، وأن يتفضَّل علينا، وأرادوا أن يتحدَّوه، وأرادوا أن يضعوه في وضعٍ حرِجٍ، إن كنتَ تدَّعي أنك رسول الله، وهذا مستحيل، إن كنتَ كذلك فأخرج من هذا الجبل ناقة، فدعا الله تعالى أن تَخرُج الناقة، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعوته ليثبت نبوَّته ورسالته، فانفلق الجبلُ فخرجت منه ناقةٌ عظيمة
إذا طلب شيئاً خارقاً للعادة شيئاً فوق التصوُّر شيئاً غير طبيعي، و كان قد علَّق إيمانه على هذا الشيء، وجاء النبيُّ بهذا الشيء، ولم يؤمن به فلا معنى لحياته إطلاقاً، واستنفد الله سبحانه و تعالى معه كلَّ الفرص، لذلك حقَّ هلاكُه
2 ـ كيف تعامل قوم صالح مع الناقة ؟
طلبوا الناقة متحدِّين، وجاءت الناقة، ولم يعجبهم ذلك، وأرادوا أن يقتلوها، خاف عليهم نبيُّهم صالحٌ عليه الصلاة والسلام، خاف عليهم إن قتلوها أن يهلكهم الله سبحانه وتعالى هلاكاً مُبرَماً
﴿
هنا سؤال، قوم صالح جميعاً عقروها؟ كيف؟ الذي عقرها واحد، والعلماءُ استنبطوا أنه إذا أقرَّ الإنسان عملاً شائناً فقد شارك الفاعل في الإثم، وأشقى قوم صالح عقَر الناقة، وإقرارهم لهذا العمل يعني أنهم كانوا شركاءَ في الإثم و الجريمة، لذلك سيدنا عمر استنبط أن أهل قريةٍ لو ائتمروا على قتل واحدٍ لقتلَّهم جميعاً، لأنهم جميعاً قتلة، لذلك
3 ـ مصير قوم صالح بعد عقر الناقة : فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
بعد أن عقروا الناقة، وعلى وجه التقريب تقول: يا رب إنْ نجحت واللهِ لأُصلِّين، فينجح بمعجزة، ويكون ضعيف في هذه المادة، ويأتيه سؤال يتوقَّعه و قد درسه و لما يأتي السؤال كما يتوقع و ينجح و لا يصلي يستحق العذاب الأليم، ولئن أنجيتني من هذا المرض لأكونن طائعاً لك يا رب، و ينجيه الله من هذا المرض، فلا يطيعهُ، لذلك يأتي العذاب الأليم، فإذا علَّق الإنسانُ إيمانه على شيء من الله عز وجل، و جاء هذا الشيءُ فلم يؤمن، و لم يتُبْ فلينتظرْ مصيبةً كبيرةً قياساً على هذه الحقيقة
﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(66)﴾
جاء وقت إنجاء صالح ومن آمن معه :
مَن كان مع الله العزيز كان عزيزا :
كنْ مع القويِّ العزيز تكنْ عزيزاً، و تنجُ من كلُّ همٍّ و ألمٍ:
اجـعلٍ لـربِّك كــلَّ عزِّك يستقرُّ و يثـبت
فإذا اعتززْتَ بمن يموت فإن عزك ميِّتُ
إذا أردتَ العزة فاعتزَّ بالله سبحانه وتعالى، سبحانك إنه لا يذلُّ من واليتَ، و لا يعزُّ من عاديتَ
﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(67) ﴾
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
بيْن مخَلَّد الذِّكرِ وخبر في طي النسيان :
صيحةٌ واحدة كأن لم يغنوا فيها، كأنهم لم يكونوا، صفحةٌ و طُوِيتْ، والإنسان يحيا إن عصى اللهَ سبحانه و تعالى و ظلم و بغى، فيأتِي الموتُ فينهيه كأن لم يكنْ، ويصبح خبراً، وبعد أيام يُنسَى، و انتهى الأمر، و بقي في العذاب إلى الأبد، و لكنَّه إذا جاء للدنيا، و أطاع اللهَ عز وجل خلَّد اللهُ له ذكرُه، و جعله في قلوب المؤمنين .
كيف أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام بعد ألفٍ و خمسمائة عام تقريباً؟ اِذهبْ اليوم إلى المدينة المنورة، و ادخُلْ إلى مسجد النبيِّ عليه الصلاة و السلام ماذا ترى؟ ترى الشيءَ الذي يُبكِي، أُناس من كلَّ قوم و من كلِّ عِرق و من شرق آسيا و من مشارق الأرض ومغاربها و من إفريقيا و من بلاد العرب و من الشرق الأوسط، كلُّهم يناجونه، و يبكون، ماذا فعل النبيُّ عليه الصلاة و السلام؟ دعانا إلى الله سبحانه و تعالى، إذاً: إذا عرفتَ اللهَ في الدنيا جعل اللهُ ذكرَك في قلوب الناس، و يحيي ذكرَك، و تكون مع السُّعداء، فإذا جاء الإنسانُ للدنيا، و انغمس في شهواته يأتي الموتُ، و يُطوَى، و كأنه لم يكن
﴿ نَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ
كأن لم يغنوا فيها، أين بيوتهم؟ وأين مساكنهم؟ وأين صولتهم؟ وأين جولتهم؟ وأين مكانتهم؟ وأين عزُّهم؟ و أين حفلاتهم؟ و أين سهراتهم؟
﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۗ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ (68) ﴾
بَعَدوا عن الله سبحانه وتعالى وأبعدهم ولَعنهم، فصاروا مع الأشقياء .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين