وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة ص - تفسير الآيات 41- 66 الإنسان ممتحن في الدنيا
  • تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
  • /
  • (038)سورة ص
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

القصة لها مغزيان أساسيان العبرة والتثبيت:


أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الخامس من سورة ص، ومع الآية الواحدة والأربعين.

في الدرسين السابقين كانت الآيات حول نبيين كريمين، الأول سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والثاني سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكل نبي من هذين النبيين الكريمين كان له قصة بليغة يمكن أن تضيء الطريق أمام المؤمنين، واليوم نبي ثالث هو سيدنا أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. 

الحقيقة أن قصصاً كثيرة جداً جِداً وردت في التفاسير معظمها أو جلّها مقتبس من روايات إسرائيلية ما أنزل الله بها من سلطان، فأعوذ بالله من أن نتورط في رواية هذه القصص التي ليست مقبولة ولا معقولة، ولكن نبقى في حدود ما قال الله عز وجل، قال: 

﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)﴾

[ سورة ص ]

ماذا نفهم من كلمة عبدنا؟ أو لماذا أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصة أيوب؟ الله عز وجل قال:

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾

[ سورة يوسف ]

فالقصة فيها موعظة، والقصة فيها تثبيت:

﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾

[  سورة هود  ]

فالقصة لها مغزيان أساسيان: العبرة والتثبيت، أنت إذا سمعت قصة مؤمن لاقى في سبيل الله ما لاقى ثم جاء الجزاء والتكريم والشفاء والتقريب، هذه القصة بحدّ ذاتها تعطيك دفعاً قوياً في طريق الإيمان.

 

في كل قصة جانب فكري وجانب نفسي:


القصص التي تنطوي على عِبَر وعلى أمثلة لها فائدتان؛ الفائدة الأولى أن تستقي منها حقيقة، هذه الحقيقة الفكرية، والفائدة الثانية أن تكتسب منها قوة نفسية، أنت أيها المؤمن إذا سمعت عن رجل استقام على أمر الله، آثر جانب الحق، أعطى لله، منع لله، بذل في سبيل الله الشيء الكثير، وضاقت به الدنيا ثم فرّج الله عنه، وأكرمه، وجازاه خير الجزاء، هذه قصة فيها شيئان: فيها حقيقة، وفيها قوة نفسية، ﴿وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ يمكن أن تكون الدعوة إلى الله أساسها قصص واقعية جرت مع أناس قَدَّموا لهذه الدعوة نماذج جيدة وواضحة، من هذا القبيل نستنبط حقيقة ونعطي المستمع قوة نفسية، عندنا جانب عقلي وجانب انفعالي، جانب فكري وجانب نفسي في كل قصة، والجانب الفكري: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ ، الجانب النفسي: ﴿وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ فالله عزّ وجل نبيه عليه الصلاة والسلام واجه من المحن ما واجه، وواجه من الصعاب ما واجه، واجه معارضة، واجه تآمراً، واجه إخراجاً، واجه تنكيلاً، فالنبي يريد الله عز وجل أن يثبته، أن يقويه، قال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ لذلك كتطبيق عملي أنت أحياناً تستمع إلى قصة فيها مغزى كبير، إما فيها حقيقة صارخة تؤكد عدالة الله، أو تؤكد رحمة الله، أو تؤكد أن الأمر بيد الله وحده، أو تؤكد أن هذه الآية القرآنية حقّ ولابدّ من أن تقع، أو تؤكد وعد الله أو تؤكد وعيده، أيَّة قصة تؤكد ما في القرآن الكريم هذه إذا رويتها يمكن أن تقرر فيها حقيقة، ويمكن أن تقوي بها نفوساً.

 

العبرة أن تمتلك معنويات عالية وروحاً قوية تتحمل كل المضايقات:


الإنسان أحياناً يعيش أكثر ما يعيش بحالته النفسية، حالته النفسية تقوى أو تضعف، القصص التي تبين عدالة الله عز وجل، وتؤكد أن العاقبة للمتقين، وتؤكد أن الله لن يتخلى عن المؤمنين، وتؤكد أن الله سينصرهم، وسيعلي قدرهم.

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾

[  سورة آل عمران  ]

مثل هذه القصص إذا رويت قوَّيت بها معنويات المؤمنين.

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾

[  سورة آل عمران ]

أردت من هذه المقدمة أن حالة المؤمن أساسية، المؤمن له حالة نفسية، هذه الحالة إما أن تقوى وإما أن تضعف، ما الذي يقويها؟ أن يستمع إلى قصة مغزاها أن زيداً آثر جانب الله فأكرمه الله، ونصره، وأيّده، ورفع شأنه، وأن علاناً آثر شهوته أو مصلحته فخذله الله عز وجل، وخسر الدنيا والآخرة.

إذاً القصة لها جانب تقريري وجانب تأثيري، جانب عقلي وجانب نفسي، الجانب النفسي يُقوِّي، أحياناً الإنسان يتحمل المشاق لكن معنوياته عالية جداً، يتحمل بعض المضايقات لكن معنوياته عالية، فالعبرة أن تمتلك معنويات عالية وروحاً عالية قوية تتحمل كل هذه المضايقات.

 

معاني العبودية:


النبي عليه الصلاة والسلام واجه من المعارضة، ومن المشاكسة، ومن التكذيب، ومن السخرية، ومن الإيذاء، ومن التنكيل بأصحابه الشيء الكثير، فربنا جلّ جلاله يخبره عن نبي كريم اسمه أيوب لاقى في جنب الله ما لاقى ومع ذلك إنا وجدناه صابراً. 

أحياناً الإنسان يتأثر لبعض الآيات تأثرّاً انفعالياً: 

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾

[ سورة ص ]

أنت كعبد أنت مستسلم لأمر الله، مستقيم على أمر الله، محب لله، جاءت الأمور على غير ما تريد، لم تقل كلمة واحدة بل ما زدت عن أن شكرت الله، عن أن حمدته، عن أن رضيت بهذا الذي أصابك الله به، رضيت بقضاء الله وقدره، رضيت بحظك من الله عز وجل، كنت صابراً صبراً جميلاً، هذا النبي الكريم قدوة لنا معشر المؤمنين، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ كلمة عبدنا أرقى مرتبة، الآن في الجامعات أعلى شهادة الدكتوراه، يوجد أعلى منها أن يكون معه جائزة نوبل مثلاً بالعرف الحديث، أعلى مرتبة في الأرض في حقل الدين، في علاقة الإنسان بربه، في عالم الحقائق، في عالم القرب من الله، في درجات المؤمنين عند الله، ما هي أعلى مرتبة؟ قال: أعلى مرتبة أن تكون عبداً لله، العبودية لله تعني أن تكون خالص الانصياع لله، الطاعة مع الانصياع مع الحب مع التوكل مع الرضا، معاني الطاعة، معاني الاستسلام، معاني التفويض، معاني التوكل، معاني الحب، معاني الشوق، إذا بلغتَ غاياتها، إذا ألغيتَ وجودك، ألغيتَ هوى نفسك فهذا معنى من معاني العبودية، فربنا عز وجل رفع هذا النبي إلى أعلى درجة حينما قال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾ لذلك الإنسان إذا قرأ القرآن، وقرأ قوله تعالى: قل يا عبادي، العلماء قالوا: هذه إضافة تكريم وتشريف، أي الله عز وجل كرَّمنا فنسبنا إلى ذاته:

﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة العنكبوت ]

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾

[ سورة الزمر ]

فكلمة عباد تعني هنا أن هذا الإنسان عرف عبوديته لله عز وجل، وتتحقق بها فانطلق من خلالها.

 

المؤمن مخير في المباحات أما في العبادات فقد التغى اختياره أمام اختيار الله له:


قال تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

أنت كمؤمن عبد لله، متحقق في عبوديته لله، إذا قضى الله ورسوله أمراً ليس لك خيار، أنت لك خيار أن تشتري هذا البيت أو هذا البيت، أن تسافر إلى هذه الجهة أو إلى هذه الجهة، أنت مخير كمؤمن في المباحات، أما في العبادات، والطاعات، والأمر والنهي، ألغيتَ اختيارك أمام اختيار الله لك. 

يبدو أن هذا النبي العظيم كان متحققاً أكمل التحقق بعبوديته لله عز وجل، فكان خالص الخضوع لله، خالص الحب له، خالص الصبر على قضائه، خالص الاستسلام له، خالص الرضا بقضائه والقبول بقدره، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾ .

كما قلت قبل قليل: هذا النبي ابتلاه الله، بعض المفسرين قالوا: ابتلاه الله بماله وأهله وصحته، والإنسان كما تعلمون حينما يُبتلى بجانب من جوانب حياته يجمع كل طاقاته، ويواجه هذه المشكلة، أما متى يُسْقط في يده؟ حينما تأتيه المشكلات من كل جانب، من صحته، ومن ماله، ومن أهله، هكذا ورد في بعض التفاسير، أي ابتلاه الله ابتلاء شديداً، وبالمناسبة الإنسان يمكن أن يكون مطيعاً لله عز وجل، وينطوي على حبّ لله عز وجل وهو في الرخاء، هذا لا يكفي، أي:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]


مستحيل أن يصل المؤمن إلى جنة عرضها السماوات والأرض دون أن يمتحنه الله:


حقيقة أضَعُها بين أيديكم أنتم كمؤمنين، مستحيل أن يصل المؤمن إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أن يُعطى عطاءً أبدياً سرمدياً، أن يصل إلى أعلى درجات النعيم وهو في الدنيا في الرخاء، في البحبوحة، لابدّ من أن يمتحنه الله عز وجل، لابدّ من أن يبتليه الله عز وجل، امتحاناً يُظهِر إخلاصه، ويُظهِر حبه، ويُظهِر ثباته:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

حتى حينما جاءت موقعة الخندق كما تعلمون، وجاء الأحزاب من كل جانب، وما اجتمع في الجزيرة العربية كلها جيش يَعُد عشرة آلاف مقاتل في تاريخ الجزيرة، كلهم جاؤوا لا ليحاربوا محمداً وأصحابه، جاؤوا ليستأصلوا الإسلام كله، جاؤوا ليُنهوا كلمة الدين، جاؤوا ليبيدوا المسلمين، جاؤوا من كل جانب:

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)﴾

[  سورة الأحزاب ]

حتى إن اليهود في ظهرهم نكلوا بوعودهم، ونقضوا عهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، فأصبح المسلمون محاصرين من كل جانب، وأصبح الإسلام كله، والدين كله، والرسالة كلها، مجرد ساعات ليس غير، إلى أن قال أحدهم: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟! الله عز وجل قال:

﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾

[  سورة الأحزاب ]


محور الدرس اليوم أن الإنسان ممتحن:


الله عز وجل يعطي المؤمن صحة فيشكر الله عليها، يأتيه شبح مرض وبيد الله الشفاء ماذا يقول في المرض؟ يعطيه مالاً فيشكر الله عليه، يحرمه المال أحياناً ماذا يقول في الحرمان؟ يعطيه ما يعطيه فيمتحنه، ويأخذ منه ما يأخذ منه فيمتحنه، فنحن ممتحنون في الخير والشر، في العطاء والمنع، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، في القوة والضعف. 

إذاً محور الدرس اليوم أن الإنسان ممتحن:

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾

[  سورة الإنسان ]

لابدّ من أن تمتحن إما بالعطاء وإما بالمنع، إما بالقوة وإما بالضعف، إما بالصحة وإما بالمرض، إما بالغنى وإما بالفقر، إما بإقبال الدنيا عليك وإما بإدبارها عنك.

 

مهما أسأت الظن بنفسك فهذا عمل جيد ومهما أحسنت الظن بإخوانك فهذا عمل جيد:


﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ ماذا قال؟ قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ هذه الآية لها معان كثيرة، أقول من معانيها، وحينما أقول من معانيها أعني بعض المعاني التي تحتملها، ماذا يفعل النبي؟ يدعو إلى الله، يُرَسخ الإيمان، وماذا يفعل الشيطان؟ عمل الشيطان دائماً عمل مناقض لعمل النبي، الشيطان يبث الضلال، يبث البغضاء، يُغري بالفاحشة، يأمر بالفاحشة، يُخوِّف، يُضيق، فدائماً عمل الأنبياء في واد وعمل الشياطين في واد آخر.

يمكن أن نفهم هذه الآية أن هذا النبي الكريم كلما دعا إلى الله رأى الشيطان يغري أتباعه فيصرفهم عن طريق الحق، أي الإنسان إذا كان له دعوة إلى الله ورأى شخصاً يحاول أن يفسد عليه المدعوين، أن يصرفهم إلى الدنيا، أن يشككهم بالدين، أن يزهدهم بالآخرة، أن يحببهم بالدنيا، أن يبث الشبهات والشكوك، هذا الإنسان يكون قد أصاب هذا الداعية بإيذاء شديد، ليس الإيذاء مادياً لكنه إيذاء روحي من نوع آخر. 

إذاً يمكن أن نفهم من هذه الآية أن هذا الشيطان نصب الشِّباك لأتباع هذا النبي ليصرفهم عن دعوته، وليحبب إليهم الدنيا، وليدفعهم إلى المعاصي، فهذا نوع من إيذاء هذا النبي الكريم، ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ النُّصب هو التعب، والعذاب معروف، بعضهم قال: لا، حينما ابتلاه الله عز وجل هذا الابتلاء في ماله وفي صحته وفي أهله، ماذا قال الشيطان لأهله؟ لو أنه على حق لما أصابه ما أصابه، فهذا إيذاء. 

إنسان مؤمن امتحنه الله عز وجل ببلاء، فالذين حوله إذا شمتوا به، أو استنبطوا من هذا الابتلاء من أنه ليس على حق، وأنه يستأهل ذلك هذا من أشد أنواع الأذى للمؤمن، لذلك نستفيد من هذه النقطة في هذا الدرس إلى تقرير حقيقة، الإنسان ليس له حق كمؤمن إن رأى أخاه قد ابتلاه الله بشيء أن يستنبط أن الله يعاقبه، وأن الله ما أصابه بما أصابه إلا لذنب اقترفه، هذا الاستنباط يؤذي المؤمنين، لذلك أكمل صفة في المؤمنين أنه إذا نزل بلاءٌ بإخوانهم يُحسِنون الظن بهم، ويظنون أنه تَرقِية إلى الله عز وجل، لكن إذا نزل البلاء بساحة المؤمن فالمؤمن يجب أن يتهم نفسه. 

القاعدة: إن جاء البلاء إلى المؤمن عليك أن تتهم نفسك أشدّ الاتهام، ولا تُحْسن الظن بها، ولا تبرئها، أما إذا نزل البلاء بأخيك المؤمن فعليك أن تُحْسن الظن به، هذه قاعدة، مهما أسأت الظن بنفسك فهذا عمل جيد، ومهما أحسنت الظن بإخوانك فهذا عمل جيد.

 

إيذاء النبي أيوب وكيف أن الشيطان مسه بنصب وعذاب يُحْمل على محملين:


إذاً عند البلاء لا تُحْسن الظن بنفسك بل أحسِنِ الظن بالآخرين، هذا الموقف الكامل لا كما يفعله بعض الناس كلما جاءته مصيبة يقول: هي رفع لقدري عند الله، هي ترقية لدرجاتي عند الله، فإذا ألمت مصيبة بأخيك المؤمن اتهمته في دينه، فإيذاء هذا النبي الكريم وكيف أن الشيطان مسه بنصب وعذاب يحمل على محملين: إما أن الشيطان بسعيه لإضلال البشر، ولإبعادهم عن طريق الحق، ولإغرائهم بالدنيا، وصرفهم عن الآخرة، وتشكيكهم في هذه الدعوة، وإلقاء الشكوك في نفوس أتباعه، هذا إيذاء وأي إيذاء! إنسان افتتح مدرسة ليُعّم الناس الحق، فإذا كان في البلدة دعوة لإلغاء العلم، وإلى التزهيد به، وإلى إغراء الناس بالمال، وصرفهم عن هذه المدرسة، هؤلاء الذين يدعون هذه الدعوة المناقضة هم في الحقيقة يؤذون صاحب هذه المدرسة، هو يريد أن يُعلِّم الناس والآخرون يصرفونهم عن العلم، هو يريد أن يُهذبهم والآخرون يريدون أن يُسْقطوهم في وحول الشهوة، هذا نوع من الإيذاء، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ .

 بالمناسبة الإنسان أحياناً تأتيه مصيبة فيظنها أبدية، مع أن الله جلّ جلاله قادر دائماً أن يجعلك تنسى هذه المصيبة، كيف أنه يخلق المرض يخلق الشفاء، كيف أنه يخلق العسر يخلق اليسر، كما أنه يخلق الفقر يخلق الغنى، الغنى له أسباب والفقر له أسباب، الصحة لها أسباب والمرض له أسباب، أحياناً الناس كلهم يعملون ضدّ الإنسان، ما القصة؟ كلهم يعادونه، فإذا رضي الله عز وجل كلهم يكرمونه، فربنا عز وجل قادر على كل شيء.

 

المؤمن لا يقنط لكن الكافر يقنط:


لذلك من علامات النفاق اليأس من رحمة الله، القنوط من رحمة الله، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ، المؤمن لا يقنط، المؤمن وهو في أشد الحالات شدة، وهو في أشدّ المصائب يأمل بعفو الله، ورحمته، وإكرامه، لكن لا يقنط إلا الكافر، لا ييئس إلا الكافر، فالله عز وجل على الرغم من أن هذا النبي كان في محنة، وفي شدة في ماله وأهله وصحته لم يقنط. 

الإنسان أحياناً إذا ألمَّ بصحته ما ألمَّ، الأهل يعتنون، الأولاد يعتنون، في مال مقابل الأطباء والتحاليل والأدوية، فمصيبة واحدة يمتصها الإنسان أحياناً، يوجد مشكلة مع الأهل، والصحة طيبة، والدخل جيد، تنحل، يوجد مشكلة بالمال لكن هناك تفاهم زوجي وسرور وصحة، لكن أن تأتي المصائب من كل جانب من جهة الأهل والمال والصحة هذا شيء يعجز عن تحمله عامة الناس، لكن الأنبياء لمعرفتهم بالله عز وجل، ولإقبالهم عليه، ولرؤيتهم أن الفعل فعله، وأن اليد يده، وأن لا فاعل إلا الله، هذا كله يجعلهم يتقبلون هذه المصائب، والدليل حينما انتهى الامتحان، ونجح هذا النبي، الإنسان أحياناً يُمتحن لينظر كيف تقول، يا ربي لك الحمد أنا راض. 

حدثنا أخ طبيب قال: كان عندنا في المستشفى مريض مصاب بمرض خبيث في أمعائه، كلما دخل عليه عائد يعوده يقول له: اشهد أنني راض عن الله، يا ربي لك الحمد، أيام ثلاث وتوفاه الله، هذا نجح نجاحاً باهراً، ولو أن حياته قد انتهت، هناك بعد الحياة جنة عرضها السماوات والأرض، المشكلة أن تأتي المصيبة ليسمع الله منك: يا رب لك الحمد، يا رب أنا عبدك وابن عبدك وابن أَمَتِك، ماضٍ فيّ قضاؤك، نافد فيّ حكمك، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وصَلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزِل بي سخطك، أو تَحلّ بي غضبك، ولك العتبى حتى ترضى ولكن عافيتك أوسع لي. 

العبرة أن تقف هذا الموقف، لذلك الله عز وجل بعد أن أصاب هذا النبي ما أصابه من محن ألمت بصحته، لكن ما يصفه الوصّافون أن كل جسمه قيوح، الأنبياء مبرؤون من هذه المصائب، هذا يُمَثِّل دين الله عز وجل، أي مبالغات وقصص ما أنزل الله بها من سلطان، لا تعبؤوا بها، ولا تلتفتوا إليها، أكثر التفاسير قيمة أَنْكَرَها وأسقطها من حسابه، قال: هناك امتحانات امتحن الله بها هذا النبي الكريم جملة لا تفصيلاً، هناك بلاء.

 

استنبط العلماء من هذه الآية أن هناك علاجاً داخلياً وعلاجاً خارجياً:


أحيانا الإنسان يعاني من معارضة قومه، ومن سعيهم لإحباط رسالته معاناة أشد من معاناة المرض، فإذا كان هذا النبي يدعو إلى الله، وينشر الحق، والشيطان ينصب لأتباعه الشِّباك ليحبط إيمانهم، وليصرفهم عن دينهم، وليشككهم في نبيهم، فهذا أذى وأي أذى للنبي، قال: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ معنى اركض برجلك أي اضرب الأرض برجلك، فلما ضربها نَبَع ماء اغتسل منه فشفى كل شيء وشرب منه، أي جعل الله الشفاء في هذا الماء الذي نبع من ضرب قدمه في الأرض.

﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)﴾

[ سورة ص ]

هناك أطباء استنبطوا من هذه الآية أن هناك علاجاً داخلياً وعلاجاً خارجياً، مغتَسل: علاج خارجي، وشراب: علاج داخلي، على كلّ حينما آن الأوان وشاءت مشيئة الله أن يشفى، وأن يصح، وأن يرتد إليه أهله معظمين مبجِّلين انتهى كل شيء، الله عز وجل قادر دائماً وأبداً أن يجعل من المصيبة التي أضْنت وآلمت ذكراً، ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ .

 

الإنسان عندما يشعر أن الله يرى ويسمع هذا الشعور وحده مُسعِد:


﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)﴾

[ سورة ص ]

أي أهله التفوا حوله، وصحته عادت كما هي، وردّ الله له ماله، بماذا استفاد من هذه المصيبة؟ أنه امتحن فنجح.

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)﴾

[ سورة ص ]

أشعر بمشاعر خاصة مع هذه الآية: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾ الله عز وجل يعلم أن هذه القضية مزعجة، أحياناً الإنسان تأتيه مشكلة لا يحتملها، يا رب هل ترى؟ نَعم الله يرى، يعلم حجم المصيبة، ويعلم مدى الإيذاء، ومدى الضرر، ومدى الضيق، والله يقدر الليل والنهار، كل شيء يقدره، لذلك سيدنا إبراهيم قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي، ويُعاب من يشكو الرحيم إلى من لا يرحم، عندما يشعر الإنسان أن الله سبحانه وتعالى يرى ويسمع ويعلم، وأن هذا من عند الله، وهو صابر على قضاء الله وقدره هذا الشعور وحده مُسعِد.

 

الآية التالية تعطينا رخصة للتكفير عن اليمين بطريقة لا تؤذي الآخرين:


﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)﴾

[ سورة ص ]

تروي التفاسير أن هذا النبي حلف يميناً أن يضرب بعض أهله مئة ضربة، فقال له: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ أي مجموعة حشيش فيها مئة عود واضربْ بها ضربة واحدة ولا تحنث:﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ الإنسان أحياناً يحلف يميناً، يرى الخير في عدم إيقاعها ماذا يفعل؟ قال العلماء: هذه آية تعطينا رخصة للتكفير عن اليمين بطريقة لا تؤذي الآخرين، أي هو حَلَف أن يضرب مئة ضرب، قال له: خذ بيدك ضغثاً أي عزقاً من النخيل فيه مئة عود واضرب به ضربة واحدة، هذه الضربة الواحدة تقابل مئة ضرب، ﴿وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أيضاً نأخذ هذه الآية على مجملها من دون تفاصيل كما وردت في كتب بني إسرائيل، يمكن أن نستفيد من هذه الآية أن الإنسان أحياناً يتمكن من أن يُحقق يمينه بطريقة لا تؤذي ولا تترك أثراً سيئاً في الآخرين، ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ هذه إنا وجدناه صابراً، لذلك الناس دائماً كلما ألمَّ بهم مكروه يقولون: يا صبر أيوب، أصبح هذا النبي الكريم مضرب المثل في الصبر.

 

كلمة الصبر لها معانٍ كثيرة:


الحقيقة كلمة الصبر لها معانٍ كثيرة، من معانيها أن الإنسان حينما يسلك طريق الإيمان الله عز وجل يُعَرضه لظروف معينة ولأزمات ولمشكلات، هذه كلها من أجل أن ترفع من مستوى إيمانه، كلها من أجل أن تُقوي عوده في الإيمان، من أجل أن تُقوي يقينه بالله عز وجل، دائماً وأبداً المصيبة تأتي إذا أصابت المؤمن واستفاد منها تذهب عنه، وقد زادته إيماناً، وحباً لله عز وجل. 

مرة السيدة فاطمة سألها النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا بك يا بنيتي؟ قالت: حمى لعنها الله، قال: لا تلعنيها، فو الذي نفس محمد بيده لا تدع المؤمن وعليه من ذنب، اعتقدْ هذا الاعتقاد أن كل مصيبة إِنْ في صحتك، أو في أهلك، أو في مالِك، طبعاً هذا الخطاب للمؤمنين، تأتي وترحل، إن جاءت ورحلت وكنت صابراً ورضيت بقضاء الله وقدره، ماذا تترك في نفسك هذه المصيبة من آثار إيجابية؟ تزداد بها معرفة بالله عز وجل، وتزداد به حباً، مثلاً جهة قوية أرادت بالإنسان مكروهاً، أنت ليس لك أحد، لا تملك أن تدفع هذه المصيبة، لا تملك إلا الدعاء، فدعوت الله عز وجل بقلب مخلص، صليت الليل ودعوت الله عز وجل، أنت ما كنت لتفعل هذا لولا هذه المصيبة، ما كنت لتقف هذا الموقف المضطر، ما كنت لتصلي الليل، لتتهجد، لتسأل الله في أثناء الليالي تقول: يا رب ليس لي سواك، هذه القوة الغاشمة التي تريد بك مكروهاً تراها بقدرة قادر على خلاف نواميس الأرض تنصرف عنك، أو تأتي قوة أخرى فتصرفها عنك، ماذا حصل؟ ازداد إيمانك بأنه لا إله إلا الله، وأن الأمر كله بيد الله، وأنه لا فعّال إلا الله، ولا نافع ولا ضارّ إلا الله، ازداد إيمانك بأن الأمر بيد الله، وازداد إيمانك بأن الله سمعك في دعائك، وازداد حبك له، اعتقد هذا الاعتقاد، أي مصيبة تترك مزيداً من معرفة الله، ومزيداً من الحب له، هذا إذا أصابت المؤمن.


  الكافر بين مصيبة القصم ومصيبة الردع:


يمكن أن نفسر هذا الموضوع بالشكل الآتي: هناك مصائب تصيب أهل العصيان والفجور، وهناك مصائب تصيب أهل الإيمان والحبور، مصائب أهل العصيان عقاب وهي نوعان: مصائب قصم ومصائب ردع، كما قال الله عز وجل:

﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾

[  سورة هود ]

الإنسان أحياناً قد يبلغ من الكفر، والانحراف، والإصرار على إيذاء الناس درجة بالغة، عندئذ هذا لا ينفعه إلا مصيبة القصم، ربنا عز وجل يبطش به، ينهيه، الآية الكريمة:

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾

[ سورة البروج ]

أنا سمعت قصصاً كثيرة عن أناس شريرين يحبون إيقاع الأذى بالناس، تراهم بحادثٍ أصبحوا قِطعاً ثلاثة، هذه مصيبة قصم، الإنسان إذا أراد إطفاء نور الله عز وجل، إذا أراد إيقاع الأذى بالمؤمنين، إذا أراد أن يمنع دعوة إلى الله عز وجل، إذا أراد أن يلصق تهمة بإنسان بريء، إذا أراد أن يصرف الناس عن طريق الحق، هذا يتعرض لغضب الله الشديد، وقد يبطش الله به، هذه مصيبة القصم، وأحياناً يكون في هذا الإنسان بقية خير، تأتيه مصيبة من نوع الردع، مصيبة مؤلمة جداً قد تفقده بعض أعضائه، قد تفقده بعض حواسه، فالكافر العاصي الفاجر المنحرف بين مصيبة القصم ومصيبة الردع.

 

مصائب المؤمنين:


لكن المؤمنين لهم مصائب من نوع آخر، قال تعالى:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾

[ سورة البقرة  ]

المؤمن يخاف، يفتقر، قد لا يملك قوت يومه، يفلس، أحياناً تبور تجارته، يضطر إلى دريهمات يقترضها من بعض الناس، وقد يفقد بعض أولاده، وقد يُحرق الله بستانه، يقول لك المحصول تلف كله، بعد كل هذا:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)﴾

[ سورة البقرة  ]

النبي عليه الصلاة والسلام قال مرة: إن لله ما أعطى وله ما أخذ، كلام بليغ عظيم، له ما أعطى وله ما أخذ، شيء أعطاني الله إياه ثم استرده مني، فهذا الذي بيدي عارية مستردة، فلذلك هذه المصيبة الثانية.

المصيبة الأولى مصيبة المؤمنين مصيبة دفع إلى باب الله، يكون هناك تقصير، من قصّر بالعمل ابتلاه الله بالهمِّ، يكون هناك عبادة شكلية، صلاة صورية، تساهل ببعض الطاعات، تقصير في الصلوات، تلاوة القرآن عنده شكلية ليس فيها عمق، وليس فيها خشوع، من قصَّر بالعمل ابتلاه الله بالهمِّ، مصيبة المؤمنين مصيبة دفع، يوجد تقصير، سرعة بطيئة وفيه خير، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه. 

المصيبة الثالثة مصيبة الرفع، هو مستقيم وسرعته عالية في طريق الإيمان، لكن يمكن أن يرقى عند الله إلى درجات أعلى، فلذلك إضافة إلى استقامته وإلى إخلاصه وإلى أعماله الصالحة يحمِّله الله بعض المتاعب كي يكون مثلاً أعلى في تحمله إياها، وصبره عليها، هذه مصيبة الرفع، فالمؤمن بين الدفع والرفع، إما أنه يدفعه إلى بابه، وإما أنه يرقى به.

أما الأنبياء المكرمون فهؤلاء تنطوي نفوسهم على خير، وعلى حبّ، وعلى كمال لا يظهر إلا بالمصائب، فأنَّى للنبي الكريم أن يظهر ما عنده من حبّ للآخرين، من رحمة بهم، من حلم على أعمالهم، لولا أنه ذهب إلى الطائف على قدميه مع سيدنا زيد ودعاهم إلى الله عز وجل، فسخِروا منه، وكذبوا دعوته، وبالغوا في إيذائه، وشتموه، وضربوه، جاءه جبريل قال: يا محمد أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، قال: لا يا أخي، اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون، لعل الله يُخرج من أصلابهم من يوحده، هذا الذي حصل، إذاً هناك خمسة أنواع من المصائب، مصيبة القصم ومصيبة الردع للعصاة، ومصيبة الدفع ومصيبة الرفع للمؤمنين، والكشف للأنبياء.

 

الأنبياء وصفهم الله بصفتين صحة الرؤية وصلاح العمل:


ثم يقول الله عز وجل: 

﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)﴾

[ سورة ص ]

أولي الأيدي أي أولي القوة، والأبصار الرؤية، هؤلاء الأنبياء وصفهم الله بصفتين: الأولى أنهم أصحاب بصيرة نافذة، والثانية أن لهم أعمالاً صالحة جليلة، أجمل وصف وأدق وصف، إذا صحت رؤيتك وصَلُح عملك فأنت في المقدمة، صحة الرؤية وصلاح العمل، ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾

 

من نعم الله على الإنسان أن تكون الآخرة دائماً في ذهنه:


﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)﴾

[ سورة ص ]

 أي الدار الآخرة دائماً يعيشونها، دائماً ماثلة بين أعينهم، إذا كان الإنسان غافلاً فمن شقاء الإنسان أن يغفل عن الدار الآخرة وأن يعيش الدنيا وحدها، لكن من نعم الله على الإنسان أن تكون الآخرة دائماً في ذهنه، دائماً يذكرها، دائماً يعمل لها، دائماً يتقي عذابها، ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ أي أنهم يذكرون الدار الآخرة هذا شأن ثابت من شؤونهم.

﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)﴾

[ سورة ص ]

 أي الله عز وجل اصطفاهم على العالمين، هم خيرة خلقه، لذلك هذا مدح لهم، فأية قصة لا تليق بهم تجعلهم كعامة الناس، أية قصة تجعلهم يثأرون لأنفسهم أو يُقبلون على شهواتهم هذه قصة مرفوضة من أصلها لأن الله نفاها عنهم.

 

وصف قريب لأذهان الناس في الجنة:


﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)﴾

[ سورة ص ]

 الآن ربنا عز وجل بعد أن ذكر بعض الأنبياء ذكراً سريعاً، وصفهم بأن لهم بصائر نافذة وأعمالاً صالحة جليلة، ثم وصفهم بأنهم مع الدار الآخرة دائماً لا ينسونها، وهم مُصطَفَون أخيار، يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ما هذا المآب الحسن؟ قال: 

﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ(50)﴾

[ سورة ص ]

 تكريماً لهم، إذا الإنسان كان مدعواً، وكان له شأن كبير، طبعاً الأبواب مفتحة له قبل أن يأتي، أما إذا إنسان عادي حينما يأتي يطرق الباب فيفتح له، فتفتيح الأبواب قبل أن يأتي تكريم كبير له من الله عز وجل.

﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)﴾

[ سورة ص ]

أي جلسة مريحة جداً، وطعام نفيس، وحورية تملأ القلب سروراً، هذا وصف قريب لأذهان الناس في الجنة.

 

الفرق بين مرتبة أهل الجنة ومكانة أهل النار:


مع أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ جلسة مريحة جداً، يقول لك أحياناً ريش نعام مريح، جلسة مريحة جداً.

﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ أنفس أنواع الفاكهة وأطيب أنواع الشراب، ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ أي من سنِّهم، وقاصرات الطرف هذه الحورية لا تنظر إلى غيره، ولا تتطلع إلى غيره، تقصر طرفها عليه.

﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)﴾

[ سورة ص ]

الإنسان في الدنيا يوجد قلق يقول: غداً أكبَر، الكِبَر مقلق، الفقر مقلق، وأحياناً يكون في منصب حساس يقول لك: عليّ ضغط، لي منافسون، في الآخرة ليس هناك قلق، وما هم منها بمخرجين، ولا يوجد كِبر، ولا يوجد مرض، ولا يوجد غم، ولا يوجد حزن.

﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ﴾

[ سورة ص ]

الذين طغوا في الدنيا ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ أَسْوَأُ رجعة.

﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)﴾

[ سورة ص ]

الشراب يغلي، والنفس تعافه، الإنسان هل يستطيع أن يشرب شراب غسالة، بقايا الإنسان إذا غسل، هل يمكن أن يشرب الإنسان ما يحصل من تنظيف أنفه، هذا الغسَّاق شيء لا يحتمل، حار يغلي ومُنَفِّر إلى أقصى درجة.

 

أهل الجنة على سرر متقابلين في محبة وود على عكس أهل جهنم في عداوة وبغضاء:


﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)﴾

[ سورة ص ]

 أنواع منوعة من أنواع الشراب التي لا يسيغها الإنسان ولا يحتملها.

﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59)﴾

[ سورة ص ]

أهل الجنة على سرر متقابلين، في محبة، ومودة، وأنس، ولطف، وسرور، أهل جهنم بالعكس يوجد عداوة وبغضاء.

﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)﴾

[ سورة ص ]

يتلاومون، أنتم ضلَّلتمونا، أنتم علمتمونا الانحراف، أنتم دللتمونا على المنكر، أنتم أقنعتمونا أنه ليس هناك إله، دائماً الحوارات في جهنم كل طرف يُنَحي باللائمة على الطرف الآخر، ﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ*قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ﴾ ..

 

ربنا عز وجل وصف لنا في قرآنه الكريم مشاهد من يوم القيامة:


آخر فقرة في الدرس: 

﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)﴾

[ سورة ص ]

أثناء الحوار، والخصومات، وتقاذف التهم في جهنم، ولا مرحباً بكم بل أنتم لا مرحباً بكم، أين فلان؟ هناك فلان مؤمن مستقيم صالح يخاف الله عز وجل، يتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، يُمضي الليل راكعاً وساجداً، يقدم للناس المعونات، يدعو إلى الله، يرحم الناس، هذا عند أهل الكفر شرير، هذا إنسان شِرِّير، في أثناء النقاش بين أهل النار وهم في النار يتصايحون قالوا: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ﴾ أين فلان؟ وفلان؟ وفلان؟ 

﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)﴾

[ سورة ص ]

 هؤلاء الذين كانوا يعدونهم أشراراً هم في الجنان الآن، يتنعمون في الجنة، على سرر متقابلين، يأكلون ويشربون وهم في ظلّ الرحمن منعمون.

قال: 

﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)﴾

[ سورة ص ]

كما أن أهل الإيمان قال: إنه كان لي قرين فاطَّلع فرآه في أصحاب السعير، كذلك أهل النار: أين فلان الذين كنا نعُده من الأشرار؟ هذا مؤمن، هذا راقٍ، مستقيم، يخاف الله عز وجل، ربنا عز وجل وصف لنا في قرآنه الكريم مشاهد من يوم القيامة، هذا الوصف قبل أن يأتي رحمة بنا، أي يا عبادي انتبهوا، هذه المواقف سوف تقفونها، هكذا أهل الجنة وهكذا أهل النار، فالإنسان في الدنيا ليكن مع أهل الإيمان، ليكن مع الأتقياء الأبرار، ليكن مع المؤمنين الطاهرين، مع المستقيمين العابدين، مع الأولياء الذين يحبون الله عز وجل، وإلا فمصيره معروف.

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)﴾

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور