- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (038)سورة ص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الاستفهام يُحْمل على التشويق أو على إبراز الإعجاز الإخباري في القرآن الكريم:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة ص، ومع الآية الحادية والعشرين، يقول الله عز وجل:
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)﴾
أولاً: (هل) حرف استفهام، وهذا الاستفهام يُحْمل على محمل التشويق
أنت لا تعرف هذه القصص، ولا تعرف ما جرى، هل أتاك نبأ الخصم؟ لم يأتك به أحد، فمن أين جاءك إذاً؟ من الله عز وجل وأنت رسول.
التوازن بين التعبد وبين خدمة الخلق هو الأسلوب الأمثل والسلوك الأقوم:
سيدنا داود له ساعة مع ربه، له وقت يخلو فيه مع ربه، كما مهدت لكم في درس سابق، هاتان القصتان في مجموعهما متكاملتان، نبي آثر العبادة على العمل الصالح فترك الأَولى، ونبي آثر العمل الصالح على العبادة فترك الأَولى، ومن مجموع القصتين يتضح أن التوازن بين التعبد وبين خدمة الخلق هو الأسلوب الأمثل، والسلوك الأقوم.
لكل قصة مغزى يتجه إلى القصد النبيل الذي أراده الله عز وجل:
ربنا عز وجل لعلمه بأن هذا النبي الكريم يؤثر جانب التعبد على جانب خدمة الخلق فربنا عز وجل أراد أن يلفت نظره، أراد أن يضعه في ظرف يكشف له تركه للأولى، فجعل له هذه القصة، سيدنا داود وهو في محرابه، والمحراب مكان العبادة، مكان محاربة الشيطان، أوجه غرفة في البيت كما تروي كتب اللغة، أي أشرف غرفة يقال لها: محراب، أو أشرف مكان في الغرفة يقال له: محراب، فالإنسان يذكر الله عز وجل، ويتعبد في مكان طيب طاهر بعيد عن الضوضاء والضجيج، سماه الله عز وجل محراباً، ومنه سمِّي المحراب في المسجد محراباً لأنه أشرف مكان في المسجد، فالله عز وجل يُخاطب النبي عليه الصلاة والسلام يقول له:
بالمناسبة هناك أقوال كثيرة جداً جداً حول هذه القصة، بعضهم قال: اللذان دخلا المحراب ملكان طاهران، وبعضهم قال: إنهما رجلان حقيقيان، وبعضهم قال: إنهما ملكان في صورة رجلين.
دائماً وأبداً القصة لها مغزى، وفيها تفصيلات، وفيها تفصيلات لم تُذكر، فيها تفصيلات ذُكرت وتفصيلات لم تذكر، فالتي لم تذكر لا حاجة إليها إطلاقاً، وينبغي أن نسكت عما عنه سكت الله، لو أن فيها فائدة لذكرها الله عز وجل، فالجزئيات والتفصيلات التي لم تُذْكر لسنا بحاجة إلى ذِكرها، ولا إلى البحث عنها، ولا إلى التنقيب فيها، والتفصيلات التي ذُكرت نكتفي بها، لكن بعيداً عن التفصيلات ينبغي أن نتجه إلى الكليات، ينبغي أن نتجه إلى القصد النبيل الذي أراده الله عز وجل من هذه القصة، إذا قرأنا قصة في القرآن ووضعنا أيدينا على مغزاها، أو على الهدف الكبير التي أراده الله منها فقد قرأناها، أما إذا ضعنا في تفاصيل الجزئيات، وفي روايات الإسرائيليين، وفي تخرصات المتأولين، أي إذا دخلنا في هذه التفاصيل ننسى الهدف الكبير الذي وراء هذه القصة.
آيات كثيرة تؤكد أن بعض الأنبياء خافوا:
بعضهم قال: ملكان، بعضهم قال: رجلان، بعضهم قال: ملكان في صورة رجلين، على كل ربنا عز وجل سماهما خصمين، أي شخصان مَثُلا أمام سيدنا داود.
﴿
قيل: فَزِع منهما لأنهما دخلا عليه في وقت غير مناسب، أو لأنهما دخلا عليه بطريقة غير مناسبة ففَزِع منهما، وهذه القصة تثبت أن الأنبياء يفزعون، وهناك آيات كثيرة تؤكد أن بعض الأنبياء خافوا.
﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)﴾
﴿
إذاً لولا أن صفات البشر تجري على الأنبياء لما كانوا سادة للبشرية:
﴿
أي يخاف كما يخاف الناس، ويجزع كما يجزعون، ويتألم كما يتألمون، ويحب كما يحبون، ولكنه سمَا عن سقطات البشر وعن أوحال البشر، لولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، إنسان لا يجوع إذاً ليس له أجر لكن يجوع ويصبر، إنسان لا يخاف ليس له أجر في خوض المعارك لكنه يخاف على حياته ويضحي بها.
لكل قصة مغزى عميق:
هذان الملكان على قول، أو هذان الرجلان على قول آخر لم يدخلا إليه من باب محرابه، ولم يدخلا إليه في الوقت المناسب، بل تسورا المحراب، فلما تسورا المحراب فزع منهما، فالفزع يصدق على الأنبياء، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك:
(( كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ - وَهي أُمُّ أَنَسٍ- فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ اليَتِيمَةَ، فَقالَ: آنْتِ هِيهْ؟ لقَدْ كَبِرْتِ، لا كَبِرَ سِنُّكِ، فَرَجَعَتِ اليَتِيمَةُ إلى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: ما لَكِ يا بُنَيَّةُ؟ قالتِ الجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا -أَوْ قالَتْ: قَرْنِي- فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ما لَكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ، أَدَعَوْتَ علَى يَتِيمَتي؟! قالَ: وَما ذَاكِ يا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قالَتْ: زَعَمَتْ أنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا، قالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ، أَمَا تَعْلَمِينَ أنَّ شَرْطِي علَى رَبِّي، أَنِّي اشْتَرَطْتُ علَى رَبِّي فَقُلتُ:
على كلٍّ القصة لها مغزى عميق هو أن في الإنسان شيئاً كامناً في نفسه، هذا الشيء الكامن قد لا يظهر، لكن في ظروف معينة وفي شرائط معينة هذا الشيء الكامن يظهر، يخرج إلى السطح.
حدثني أخ كان في مصر أثناء الزلزال، طبيبان في مستشفى، متعمقان في علمهما، أنيقان في مظهرهما، وديعان في معاملتهما، لما حصل الزلزال واحد ترك المستشفى واتجه نحو الإسكندرية، والآخر بقي يعمل أربعاً وعشرين ساعة حتى تورمت قدماه، في المظهر متشابهان، في الشهادة متشابهان، في العلم متشابهان، في اللباقة والكياسة متشابهان، لكن هذا الزلزال كشف حقيقة كل منهما، واحد ضحى بنفسه وقدم علمه سخياً لكل المصابين، وواحد نجا بنفسه وآثر سلامته على إسعاف المصابين.
فالقصة فيها مغزى عميق، كل إنسان يوجد بنفسه شيء كامن، هذا الشيء الكامن لا يتبدَّى إلا في بعض الظروف، لو أن الإنسان ساكن مع زوجته وحده ووالدته في بيت آخر، يمكن لا يظهر إيثاره للحق، لكن أحياناً تنشأ خصومة بين الزوجة والأم، هنا يظهر موقف الزوج إما أن ينحاز إلى أمه انحيازاً أعمى، وإما أن ينحاز إلى زوجته انحيازاً أعمى، وإما أن يقف الموقف الدقيق ويعطي كل ذي حق حقه، لولا هذه الخصومة لما ظهر ما في النفس من كمال أو من نقص، هذا معنى قول الله تعالى:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
كل إنسان يوضع في ظروف دقيقة جداً، أي الإنسان يُكشف، هذا يدّعي الكرم يوضع في ظرف فيظهر أنه بخيل، هذا يدَّعي أنه بار بوالديه يوضع في ظرف معين فيظهر أنه عاق لوالديه، هذا يدَّعي حبّ الله عز وجل يضعه الله في ظرف فيه إغراء شديد فيميل مع الشهوة، يظهر أن ادعاءه كان كاذباً، لابدّ من أن تمتحن، قل ما تشاء، صِفْ نفسك بأي صفة، ادَّع ما تشاء، حدثنا عن نفسك ما تشاء، الله عز وجل وحده يتولى كشف الحقائق عن طريق ظروف دقيقة دَقيقة، صَعبة صعبة يجتازها الإنسان.
النبي معصوم عن الخطأ:
قد يترفع الإنسان عن أخذ مبلغ مال حرام ويتبجح ويقول: أنا نزيه، أنا كذا، هو ليس كذلك، يُعْرض عليه مبلغ كبير عندئذ يقبل، معنى هذا أن ادعاءه كان كاذباً.
مغزى القصة أن كل إنسان لابدّ من أن يُفتن، ومعنى يفتن أي يكشف على حقيقته، تقول ما تشاء والله يتولى كشف صدقك أو عدم صدقك، فهذا النبي العظيم، النبي الكريم كان في عبادته، وكان في تلاوته، وكان في تسبيحه، وكان في استغفاره، وكان في خلوته، وُضِع في ظرف صعب فجأة رأى نفسه أمام رجلين في محرابه ففزع منهما، طمأناه فقالا: لا تخف، لن ننالك بأذى،
إنهاء سيدنا داود الخصومة بين الخصمين بالاستماع إلى أحدهما فقط:
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)﴾
أي ضمها إليّ حتى أتكفل إطعامها،
﴿
ظلمك ظلماً صارخاً:
الإنصاف من علامات الإيمان:
الآن هذه حكمة أنطق الله بها هذا النبي الكريم:
الدنيا دار امتحان:
يبدو أن هذين الرجلين اختفيا فجأة، حينما اختفيا فجأة تيقن داود أنهما ليسا برَجُلين، وهذه القصة التي روياها له ليست حقيقية إنما فتنة فتنه الله بها،
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾
يبدو أن النبي حينما اختفى هذان الرجلان المتسوِّران، هذان الرجلان أو الملَكان، حينما اختفيا فجأة، استمع للأول وحكم عليهما بأن الثاني ظالم ظلماً صارخاً، ولم يلتفت لقول الطرف الآخر، ولم يسأله، ولم يستمع إلى إقراره، ثم اختفى الأول والثاني فجأة فعرف هذا النبي الكريم أن الله جلّ جلاله قد امتحنه.
من صفات المؤمن أنه كثير الأَوبة إلى الله عز وجل فهو توّاب أوّاب أوّاه:
﴿
الله عز وجل يؤدبنا جميعاً، أي ترك الأَولَى لفت نظره، بيّن حاله، فغفرنا له ذلك،
في الدنيا العمل مقدم على المتعة الروحية:
الآن جاء العتاب الإلهي:
﴿
هنا السؤال: إذا عُزي الهوى إلى نبي فأي هوى هذا؟ إذا عُزِي الهوى إلى ساقط معروف، الهوى المنحط، إما إذا عُزِي الهوى إلى نبي عظيم أيّ هوى هذا؟ هو أن يحب الله عز وجل، أي حبه لله عز وجل، رغبته بالقرب منه، خلوده إلى الذكر، إلى التسبيح، إلى التحميد، هو الذي صرفه عن أن يحكم بين الناس بالعدل، إذاً هو مُلام عند الله عز وجل، وقد ترك الأَوْلى لكن لا كما يتوهم بعض الساقطين من أن هواه إلى ما يهواه الناس عادة هو الذي صرفه عن الحق، لا.
قلت لكم في بداية القصة وفي الدرس الماضي أن هذا النبي الكريم ترك الأَوْلى، بمعنى أنه لم يوازن بين أن يكون مع الحق وأن يكون مع الخلق، بل آثر أن يكون مع الحق على أن يكون مع الخلق، فلما جاء الوقت المناسب ليكون مع الخلق حكم سريعاً، واستمع من واحد، ولم يستمع من الآخر، وأنهى القضية ليعود إلى ما كان عليه.
ظنّ بعضهم من أن النعجة هنا هي امرأة، هذا قول ضعيف جداً، لأنه أن يكون عنده تسع وتسعون امرأة ويطمع في امرأة أحد قواده، كما قلت قبل قليل هذه رواية إسرائيلية دخلت بعض التفاسير.
مشكلة حقيقية بين رجلين، أو مشكلة افتراضية بين مَلَكين، مشكلة حقيقية بين رجلين إن قلنا رجلين مُنِعا من الدخول فتسورا المحراب، وإن قلنا ملكين تسورا المحراب، والمشكلة افتراضية، المغزى أن هذا النبي حكم سريعاً، وعاد إلى مُصلاه، وإلى محرابه، وإلى متهجده، وإلى تسبيحه وتحميده وتلاوته،
﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)﴾
اقرأ، واذكر، وتهجد، وصلِّ، واستغفر، وسبِّح، واحمد، وكبّر، وهلِّل، لا يوجد مانه، بالعكس هذه عبادة، والعبادة لها شأنها في الإسلام، أما إذا خيرت بين عبادة وخدمة فاختر الخدمة.
سبيل الجنة هو العمل الصالح:
سيدنا ابن عباس كان في معتَكَفه، دخل عليه رجل رآه كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال: والله هي ديون لزمتني لا أطيق وفاءها، قال: لمن هي؟ قال: لفلان، قال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج من معتَكفه، قال له رجل: أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله، ولكن سمعت صاحب هذا القبر وأشار إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خيرٌ لي من أن أعتكف شهراً، وفي قول: سنة، معنى ذلك أنك إذا خُيِّرت بين عمل صالح وبين اعتكاف أو ذكر أو تلاوة يجب أن تختار العمل الصالح، لأنك جئت إلى الدنيا من أجل العمل الصالح، والدليل أن الإنسان حينما يموت يقول: رب أرجعوني لعلي أعمل صالحاً، لكن العمل الصالح لا يكون إلا بالذكر، ما لم يكن لك صلة بالله، وإقبال عليه، لن تنطلق إلى العمل الصالح، إذاً لابدّ من الموازنة كما بدأت القصة، لابدّ من أن توازن بين العمل الصالح وبين التعبد، والإنسان لو نظم وقته، جعل لله وقتاً، ولعباده وقتاً، ولأهله وقتاً، ولجسده وقتاً، أعطِ كل ذي حق حقه، إن لزوجك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً فأعطِ كل ذي حق حقه، إذاً:
الطريق إلى الله عز وجل أساسه العلم والعمل، هذا كلام دقيق، فكل من ترك العمل، واعتمد على ذكره، أو اعتمد على عبادته من دون عمل، كانت مرتبته في الآخرة أقل بكثير من مرتبة العاملين، لقوله تعالى:
﴿
الطريق الموصل إلى الله عز وجل هو الطريق الذي سلكه النبي عليه الصلاة والسلام:
(( وعظنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومًا بعد صلاةِ الغداةِ موعظةً بليغةً ذرفَتْ منها العيونُ ووجِلتْ منها القلوبُ فقال رجلٌ إنَّ هذه موعظةُ مُودِّعٍ فماذا تعهد إلينا يا رسولَ اللهِ قال أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ وإن عبدٌ حبشيٌّ
اختلاف بين جوهر الدين وبين ما آل إليه، قد يصبح الدين في آخر الزمان حركات ورقص وحضرات، وقد يصبح أناشيدَ وطرباً، وقد يصبح فكراً فقط، فمن أدرك هذا الزمان فقال: عليكم بسنتي، عُودوا إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
ضرورة تحقيق التوازن بين متطلبات العقل والقلب والسلوك:
الإسلام واسع جداً وفيه جانب علمي، وجانب سلوكي، وجانب عملي، وجانب انفعالي، فإذا ظننته قلباً فقط فقد ضللت السبيل، سلوكاً فقط ضللت السبيل، فِكْراً فقط ضللت السبيل، يجب أن تجمع بين الفكر وبين القلب وبين العمل، فكر متشبع بالعقيدة الصحيحة، تصوّر صحيح عن كل قضية في الدين، قلب مفعم بمشاعر الإيمان من حبّ وإنابة وتوكل وتواضع، وسلوك منضبط وفق الشرع، فمن رجَّح السلوك وغفل عن قلبه فقد ضلّ سواء السبيل، من رجَّح القلب وترك العمل الصالح فقد ضلّ سواء السبيل، من اعتنى بعقله وفكره على حساب انفعالاته وسلوكه فقد ضلّ سواء السبيل.
نحن في هذه القصة المقصود التوازن، تحقيق التوازن بين متطلبات العقل والقلب والسلوك، قلب وعقل وسلوك هذه القوى الثلاثة المجتمعة، فإذا طغت إحداهما على الأخرى فقد تركنا الأَولى، وربما انحرف بنا هذا التولّي عن التوازن إلى ما لا تُحمد عقباه.
الحق هو الشيء الثابت والباطل هو الشيء الزائل:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27)﴾
معنى ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، الشيء الباطل هو الذي يعاكس الحق، عندنا الحق والباطل، نُعَرِّف الحق بأنه الشيء الثابت، فالباطل الشيء الزائل، جدار اِبْنِهِ على الشاقول يدوم طويلاً، اِبْنِهِ بلا شاقول لابدّ من أن يقع، فكل شيء بُنِيَ على أساس من طاعة الله عز وجل فهو حق، أما إذا بُنِي على معصية فهو باطل، فالباطل الشيء الزائل، الحق الشيء الهادف، الباطل الشيء العابث، إذاً الباطل ما كان زائلاً وعابثاً أي لعباً، عمل بلا هدف، وبلا أصول، بلا أصول سيقع، وبلا هدف سيتلاشى بحكم انقضائه.
إذاً ما هو الباطل؟ الشيء الزائل، أيُّ نظرية قائمة على الباطل لابدّ من أن تزول ولو عمّرت سبعين سنة، باطل، تتداعى وحدها، عندك اعتقاد باطل، هناك عادات باطلة، هناك شروط باطلة، هناك قوانين باطلة، الشيء الباطل ليس له أساس من الحق، والشيء الباطل ليس له هدف، هدفه محدود جداً، هدفه عبث، لعب، فربنا عز وجدل مُنزه عن أن يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، خلقهما بالحق والحق هو عكس الباطل، لكن هؤلاء الذين ظلموا والذين فروا يظنون أنه خلقهما باطلاً.
القرآن يبين لنا أن الدنيا لم تُخلق عبثاً:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
بيّن لك، قال لك:
﴿
قال لك:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)﴾
﴿
فالقرآن ينبئنا، أما إذا قلت: لا أدري، ولا أعلم، والدنيا خلِقت عبثاً، فهذا ظنّ الذين كفروا، هذه عقائد أهل الكفر،
ظنّ الذين كفروا أن الله يعامل المؤمن كما يعامل أهل الفسق والفجور:
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾
أي معقول؟! معقول إنسان آمن بالله، وعمل عملاً صالحاً، واستقام على أمره، الله عز وجل يُعامله في دنياه كما يُعَامِل أهل الفسق والفجور؟! كما يعامل الكفار؟! كما يعامل المنحرفين؟!
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
آيات تؤيد أن الفاسق والفاجر يبتليه الله ويدمره ويمحق ماله ويشقيه:
هنا يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
لذلك الله عز وجل يقول:
القرآن الكريم لا تُقْطف ثماره يانعة إلا إذا عَمِلت بأحكامه:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾
هذا القرآن فيه خبر عن كل شيء، أي أنت كإنسان هذا القرآن خطاب لك، يعرِّفك بحقيقة الدنيا، يعرِّفك بحقيقة نفسك، يعرِّفك ماذا بعد الموت، ماذا كان قبل الموت، يعرِّفك بالطريق إلى الله عز وجل، يعرِّفك بطريق الإيمان بالله، بطريق القرب منه.
هذا الكتاب كتابنا المقرر، هذا الكتاب تعليمات الصانع، هذا الكتاب حبل الله المتين، هذا الكتاب هو الصراط المستقيم، هذا الكتاب هو الدستور، هذا الكتاب كتاب مذكرة إيضاحية للإنسان، فلذلك:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)﴾
هذه قصة أخرى، لكن هذه القصة تقع في الطرف الآخر، نبي كريم ابن هذا النبي الكريم سلك سلوكاً آخرَ حينما آثر حبّ الخير على ذكر الله عز وجل، فالقصد هو التوازن.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين