الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللغة أو البيان آية من آيات الله الدالة على عظمته:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الأول من سورة ص.
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ صاد حرف من حروف الهجاء، أشار بعض المفسرين إلى أن في ذكر هذا الحرف لفت نظر للإنسان، أي يا أيها الإنسان هل فكرت في هذه الحروف التي تخرج من فمك؟ هل فكرت في هذا الجهاز الصوتي الذي أودعه الله فيك؟ الله جلّ جلاله يقول:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
من ثمانية وعشرين حرفاً تتكلم آلاف الكلمات، في بعض معاجم اللغة أكثر من ثمانين ألف مادة، والمادة كما تعلمون تتفرع إلى كلمات كثيرة، عين لام ميم مادة، يوجد فعل ماض، فعل مضارع، فعل أمر، اسم فاعل، اسم مفعول، اسم مكان، اسم زمان، اسم تفضيل، اسم آلة، صفة مشبهة باسم الفاعل، يوجد فعل ثلاثي، رباعي، خماسي، سداسي، يوجد فعل مجرد، فعل مزيد، كلها مادة واحدة، ثمانون ألف مادة في بعض معاجمنا، وأصل كل هذه الكلمات ثمانية وعشرون حرفاً.
الإنسان يُعَبر عن معان دقيقة جداً من خلال اللغة، واللغة مكونة من ثمانية وعشرين حرفاً، فلك أن تَعُد اللغة أو البيان آية من آيات الله الدالة على عظمته، فالصاد تفخيم السين، سين صاد، والطاء تفخيم التاء، والضاد تفخيم الدال، حروف انفجارية، حروف صفير، حروف همس، مقاطع، حروف لين، حروف ساكنة، حروف متحركة، حروف مَبنَى، حروف معنى، حروف مد، حروف صوت، اللغة من آيات الله الدالة على عظمته، اللغة أداة اتصال بين أفراد النوع، لولا اللغة كيف بإمكانك أن تُعَبر؟ أن تنقل مشاعرك وأفكارك لبني البشر؟ شيء صعب، بكلمة واحدة يفهمها الناس جميعاً، يفهمون مرادك.
الله عز وجل شاءت حكمته أن يخلق الأشياء من مواد بين أيدينا:
على كل ليس القصد أن نغوص في معاني اللغة، وفي فلسفة اللغة، وفي تفسيرها النفسي والاجتماعي والبيولوجي، الهدف أن الإنسان حينما يتكلم كل حرف - كما قال علماء اللغة وعلماء الطب أو علماء التشريح- كل حرف تصنعه سبعة عشر عضلة،
فكلمة من خمسة أحرف، وجملة من خمس كلمات، وكلمة من خمس جمل، ومحاضرة من آلاف الجمل، هذا اللسان يتحرك، تارة يلتصق بسقف الحلق، تارة يُؤَنف، تارة يفلطح، تارة يلتصق بأسفل الفم، تارة يأتي بين الأسنان وأنت لا تدري، فربنا عز وجل يقول:
﴿ص﴾ أي هذه الآية الدالة على عظمة الله عز وجل.
هناك معنىً آخر هو أن الله عز وجل شاءت حكمته أن يخلق الأشياء من مواد بين أيدينا، لماذا خلق الإنسان من طين؟ الطين بين أيدينا، هل هناك جهة في الكون تستطيع أن تجعل هذا الطين إنساناً؟ مئة وأربعون مليار خلية في الدماغ هذه استنادية سمراء لم تُعْرف وظيفتها بعد، أربعة عشر مليار خلية قشرية تتم فيها المحاكمة، والتفكر، والتذكر، والتصور، والتخيل، والاستدلال، والاستنتاج، والمقايسة، ومركز السمع، والبصر، والرؤية، والحركة، والإدراك. وهناك قلب، وأوعية، وشرايين، وأوردة، وأعصاب حس، وأعصاب حركة، وعضلات ملساء مخططة، وعظام، ومفاصل، أشياء معقدة جداً لا يزال العلم حتى الآن عاجزاً عن إدراك عظمة خلق الإنسان، هل في الأرض كلها جهة تستطيع والطين بين أيدينا؟
﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)﴾
هذه البيضة موادها الأولية بين أيدينا، ما يأكله الدجاج تراه بعينك ماذا يأكل؟ هل في الأرض كلها جهة تستطيع أن تصنع من طعام الدجاج بيضة؟ الحليب نشربه كل يوم، مواده الأولية بين أيدينا، ماذا تأكل البقرة؟ تأكل حشيشاً، هل في الأرض كلها جهة تستطيع أن تصنع من الحشيش حليباً؟
كل مشتقات الحليب مادة أساسية لحياتنا، هذا هو الإعجاز.
ربنا عز وجل شاءت حكمته أن يصنع شيئاً مواده الأولية بين أيدينا، نحن عاجزون ولكن الله جلّ جلاله يتجلى على الشيء فيجعله شيئاً بالغ التعقيد، عظيم النفع.
هذه الزهرة التي تُبْهج النفوس من التراب، الألوان، تناسب الألوان، الرائحة العطرة من أين جاءتها؟ اللون الأصفر مع اللون الأخضر، تدرّج ألوانها، دقة تصميمها، روعة شكلها، من أين جاءت؟ من التراب، هذا هو الإعجاز، النبات شيء معجز، الحيوان الصغير، بيضة لا تبتعدوا كثيراً كيف تصبح بعد أيامٍ عدَّة صوصاً؟
كائن يتحرك، يرى، يسمع، يُصوّت، يأكل، جهاز هضم، جهاز تنفس، جهاز دوران، جهاز عضلي، جهاز عصبي، عينان، أذنان، من بيضة، كيف تحولت هذه البيضة إلى هذا الصوص؟ هذا هو الإعجاز، طعام الدجاج يصبح بيضة، والبيضة تصبح صوصاً. والإنسان نقطة من ماء مهين يصبح كائناً سوِيّاً، الأجهزة التي في الإنسان لا يستطيع الإنسان أن يعقلها، المعجزة أن تكون معافىً سليماً، حينما نستمع من بعض الأطباء الكرام عن أعراض المرض نسبة كذا ارتفعت، ونسبة كذا هبطت، معناها أن الإنسان حينما يشعر أنه بصحة جيدة معناها آلاف الأجهزة وآلاف النسب الدقيقة جداً هي منتظمة في دمه، وفي عضلاته، وفي غدده الصماء، هذا هو الإعجاز. كل هذه الأمثلة مهدتُ بها لهذا المثل، و(ص) هذا الحرف بين أيديكم، هو بين أيديكم وأمثاله بين أيديكم، الحروف الهجائية كلها بين أيديكم اصنعوا قرآناً، فيه نظام تشريعي كامل، نظام صحي كامل، إخبار عن الماضي، إخبار عن المستقبل، آيات دالة على عظمته، بيان، وبلاغة، وعلم، وخبر صادق، وحكم، وأمر ونهي، وحلال وحرام، وحكمة وموعظة، وتاريخ ومستقبل، كله في هذا الكتاب، هذا هو الإعجاز، أي إذا تجلى ربنا على الحروف صارت قرآناً، تجلى على الطين صار إنساناً، تجلى على هذه المواد أصبحت وروداً وأزهاراً، تجلى على هذه النطفة فصارت إنساناً سوياً كاملاً.
الذي أردت أن أمهد لكم به هو أن القرآن من هذه الحروف، وهذه الحروف بين أيديكم.
العلماء أوردوا حول كلمة (ذي الذكر) معانيَ كثيرة:
1 ـ ذي الذكر أي أنك إذا قرأته وطبقته رفع الله لك ذكرك:
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ القرآن هو الذي يُقرأ، كتاب الله عز وجل، الكتاب هو القرآن والقرآن هو الكتاب، إذا كتبته فهو كتاب، وإذا قرأته فهو قرآن، كلام خالق الكون، لكن: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ العلماء أوردوا حول هذه الكلمة معانيَ كثيرة..
فأول معنى أن هذا القرآن ذي الذكر أي ذي الشرف، أي إذا قرأته أيها الإنسان تشرف بين الناس، إن الله رفع بهذا القرآن أقواماً ووضع به آخرين، إذا تعلمت تلاوته تَشْرف بين الناس، إذا فهمت معانيه تشرف بين الناس، إذا طبقته تحلّق في سماء القرب، من أي طريق أخذته يعلو بك القرآن، ﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ هذا مستنبط من قوله تعالى:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
الإنسان قد يكون خاملاً، مغموراً، لا أحد يعرفه، فإذا قرأ القرآن، إذا تعلّم القرآن، إذا تلا القرآن، إذا أحكم القرآن، إذا فهم معاني القرآن، إذا طبق القرآن رفعه الله في أعلى عليين، ﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ أي كل من يأخذ به يشرف عند الله وعند الناس، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: عن عثمان بن عفان:
(( خيرُكمْ من تعلّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ. ))
﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ..
2 ـ ذي الذكر أي ذي الشرف بذاته لا لغيره :
شيء آخر: ذي الذكر أي ذي الشرف بذاته لا لغيره، المعنى الأول أنك إذا قرأته، إذا تلوته، إذا جوّدته، إذا فهمت معانيه، إذا طبقته رفع الله لك ذكرك، كبار قرّاء القرآن الكريم لهم حرف كغيرهم، ولكن الناس ينسون حرفهم، ويلتفتون إلى تمكنهم من كلام الله عز وجل، لذلك إذا أردت أن ترتفع فتعاهد هذا الكتاب تلاوة وفهماً وتطبيقاً، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ كل من تعلمه يرفعه الله عز وجل.
المعنى الثاني: ذي الذكر أي شريف بذاته، أي فيه من الإعجاز اللغوي والبياني والأدبي، فيه من الإعجاز العلمي والتشريعي والتاريخي والإخباري الشيء الذي لا يصدق، معنى إعجاز: أي يعجز البشر لو اجتمعوا عن أن يأتوا بآية منه، وقد تحدى الله البشر بهذا فقال:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
فهو يُشَرِّف من تعلمه وهو شريف بذاته، هذا المعنى الثاني من معاني: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ..
3 ـ ذي الذكر أن به ذكراً لكل ما تحتاجه:
ومعنى ذي الذكر أيضاً أن فيه ذكراً لكل ما تحتاجه، مستنبط هذا من قوله تعالى:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
كتاب تام كامل، تام في عدد الموضوعات التي عالجها، وكامل في طريقة المعالجة، أي تام وكامل، منهج كامل لا يحتاج إلى منهج آخر، لهذا أية زيادة أو أي حذف كفر بالقرآن الكريم لأنه كلام الله عز وجل، كل ما تحتاجه في شأنك مع الله، في شأنك مع أهلك، في شأنك مع الناس، في زواجك، في بيعك، في شرائك، في مهنتك، في حرفتك. بل إن العلماء يقولون: إن في القرآن الكريم إشارات بليغة إلى أصول العلوم كلها، إلى الأصول لا إلى التفاصيل، حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)﴾
هذه إشارة لطيفة إلى علم الذرة، كل مادة خلقها الله عز وجل لو حللتها لوجدتها تنتهي إلى ذرات، والذرة نواة وكهارب وكهرباء، هذا للذكر.
4 ـ ذي الذكر أي فيه ذكر لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى:
وبعضهم قال: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ أي فيه ذكر لأسماء الله الحسنى ولصفاته الفضلى، الله عز وجل ذكّرنا وذكر لنا في كتابه الكريم ما يتعلق بذاته.
بالمناسبة الإنسان بعقله يؤمن بأن لهذا الكون خالقاً، لكن من هذا الخالق؟ ما اسم هذا الخالق؟ لماذا خلق؟ ما الحكمة من خلقه؟ هذا جاء في القرآن الكريم، قال لك الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)﴾
[ سورة إبراهيم ]
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
5 ـ ذي الذكر أي فيه ذكر لما عجز العقل عن إدراكه:
بيَّن لك من خلق؟ ولماذا خلق؟ وماذا بعد الخلق؟ وماذا بعد الموت؟ هذا كله بيّنه الله عز وجل، إذاً فيه ذكر لما عجز العقل عن إدراكه، الشيء الذي أدركه العقل بذاته شيء جيد، لكن كل ما عجز العقل عن إدراكه جاء القرآن وذكره لهذا العقل، فهناك تكامل بين التفكر العقل في السماوات والأرض وبين تلاوة القرآن، العقل له مهمة والنقل له مهمة، العقل يتأمل في الخلق فيستنبط بعض الحقائق، والعقل يقرأ القرآن فيكمل به ما فاته بعقله.
6 ـ ذي الذكر أي فيه تذكير لك أيها الإنسان بمهمتك:
﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ ..فيه تذكير لك أيها الإنسان بمهمتك، بحقيقتك، بما ينتظرك من مسؤولية، من حساب، من عقاب، من جنة، من نار، والقرآن فيه إجمال معجز، علماء البلاغة يقولون: الكلام بين الإيجاز المخل والإطناب الممل، فهناك إطناب مملّ يمله السامع، وهناك إيجاز مُخِل لا يفي بالغرض، أيضاً يتأذى منه السامع، كلام ليس له معنى، لشدة اختصاره ليس له معنى، لكن كلام الله عز وجل إعجازه في إيجازه، وإيجازه ليس مُخِلاً، وإطنابه ليس مملّاً.
الحديث عن كتاب الله حديث يطول، وكل إنسان بنفسه تصور عن هذا الكلام بقدر تأمله في هذا الكلام، بقدر حضوره مجالس العلم، بقدر اهتمامه بهذا الكلام، اهتمامك واستماعك وتأملك يحددان حجم معرفتك بهذا الكلام.
الكافر موقفه من كلام الله عز وجل موقف المكذب المتأبي المستكبر:
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ لكن هذا القرآن على عظمته، وهذا القرآن على علوّ شأنه، وهذا القرآن على أنه حبل الله المتين، على أنه الصراط المستقيم، على أنه النور، على أنه البيان، على أنه البرهان، على أنه كتاب الهدى، على أنه المنقِذ، على أنه المنهج، على كل ذلك: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ معنى العزة هنا التأبِّي، هم يرفضون تلاوته، يرفضون فهمه، يرفضون أن يُذعنوا أنه كلام الله عز وجل، تأبى نفوسهم ذلك، عزة الشيطان هذه، عزة الكفر، عزة الاستكبار.
﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)﴾
المؤمن موقفه من كلام الله عز وجل موقف المصدِّق، موقف المستأنس، موقف المُقبل، موقف المهتم، موقف المعتقد، لكن الكافر موقفه من كلام الله عز وجل موقف المكذب، المتأبي، المستكبر، ﴿فِي عِزَّةٍ﴾ أي في إباء عن سماعه، وعن فهمه، ألا ترون معي أن إنساناً كافراً مهما حاولت أن تُسْمعه القرآن يتأبى؟ يبحث عن أغنية يطرب لها، مهما حاولت أن تسمعه شريطاً فيه تفسير لكلام الله لا يرضى إطلاقاً، هذا هو التأبِّي، وهذه هي عزة الشيطان، لكن كما قيل: "ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا، طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرٍم لنفسه وهو لها مهين" .
القرآن الكريم كلام هداية ورشد فنظامه نظام نفسي:
أحياناً يتخيل الكافر أنه إذا تأبت نفسه عن هذا الكلام، يقول: هذا الكلام لا يصلح لهذا الزمان، هذه غيبيات، كنت مرة قال أحدهم: يقول فلان يحمل رتبة علمية عالية: القرآن ليس علمياً، ليس فيه علم، بعضهم قال: ليس موضوعياً في تناسق آياته، هذا الذي يُجَرِّح في كلام الله يتوهم أن ليس في القرآن موضوعات موحدة، من قال لك إن كلام الله كلام مدرسي أو كلام جامعي؟ كلام هداية ورشد، نظامه نظام نفسي، فتارة يصف لك مشهد من مشاهد يوم القيامة، وتارة يَلْفت نظرك إلى آية من آيات الله عز وجل، وتارة يبيّن لك حكماً شرعياً، وتارة يُتحفك بخبر تاريخي، وأخرى يخاطب عقلك، ومرة يخاطب قلبك. القصد أنك إذا قرأت هذه السورة أن تنتقل من الضياع إلى الهدى، من الشرود إلى الوجدان، من الشقاء إلى السعادة، فنظامه نظام نفسي، ومن قال لك إنه كتاب جامعي لابدّ من فصول؟ هذا الذي يقول ذلك يتوهم أنه فصل عن بني إسرائيل، فيه فهرس، فصل عن الزكاة، فصل عن الصيام، طبيعة النفس لا ترتاح لهذه التقسيمات الجافة، لكن السورة هي هداية متكاملة من أمر إلى نهي إلى موعظة إلى حُكم إلى خبر إلى آية إلى مثل إلى شاهد هكذا، ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ يرفضون سماعه، يرفضون الإذعان له، تأبى نفوسهم أن يطبقوا أوامره ونواهيه، هم فوق ذلك، في عزّة أي في تأبٍّ عنه، وفي شقاق لمن أُنزل عليه، يكرهون النبي عليه الصلاة والسلام لأنه قيّد حرياتهم، لأنه وضعهم أمام مسؤولياتهم، لأنه ذكرهم بالآخرة، لأنه جاء بمنهج تفصيلي فيه اِفعل ولا تفعل، هم يحبون أن يفعلوا ما يشاؤون، لذلك هم في عزة، في تأبٍّ واستعلاء وتكبر عن قبول هذا القرآن، ما فيه من عقائد، من أوامر، من أخبار، وشقاق لمن أُنزل عليه.
بقدر ما ينطوي قلب المؤمن على حبّ للنبي بقدر ما ينطوي قلب الكافر على كره له:
حال المؤمن مع القرآن حال التعظيم، حال التصديق، حال الهداية، وحال الحب لمن أُنزل عليه، هو الذي أنقذنا، هو الذي هدانا، هو الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، هو الذي عرّفنا بربنا، هو الذي عرفنا بالفضائل، هو الذي كان أسوة لنا، فبقدر ما ينطوي قلب المؤمن على حبّ للنبي عليه الصلاة والسلام بقدر ما ينطوي قلب الكافر على بغض له، يظهر هذا من فلتات لسانه، من استهزائه، من سخريته أحياناً، يظهر هذا إذا ذَكر النبي باسمه فقط، هذا استخفاف بالنبي عليه الصلاة والسلام، ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ لذلك اعتقدوا أن البشر على اختلاف مللهم، ونحلهم، واتجاهاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وقومياتهم، وأجناسهم، وثقافاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، هم رجلان: مؤمن وكافر، مؤمن بالله، ورسوله، وكتابه، واليوم الآخر، وقدره، ملتزم بشرعه، مُحسن إلى خلقه، مُنوَّر سعيد، وكافر بالله، وبأسمائه، وبوحدانيته، وبكمالاته، كافر بكتابه ورسوله، بقضائه وقدره، مقطوع عن الله عز وجل، متفلت من أوامره، مسيء لخلقه، شقي، وفي عمى، الناس رجلان: مؤمن وكافر، ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ يرفع قدر المؤمن، يعلي شأنه، يُذَكره بربه، يُذكره بآخرته، ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ لكن هؤلاء الذين كفروا الذين هم في عزة وشقاق لقد أهلكنا قبلهم أمثالهم، أهلكنا أقواماً كثيرين أمثالهم، الكافر دائماً يخاف بعينه، يرى أنه قوي، يرى أنه غني فيعتدُّ بقوته وغناه، ويكذب الرسل، ويسخر من دعوات الحق، لكن المؤمن يفكر، يعقل، يتأمل، يقرأ القرآن يُعمل عقله فيه، يفكر في خلق السماوات والأرض، يُحجم نفسه، يُصَدق، يطيع، يقبل، يخاف.
لكن هذا الذي ادّعى أنه فوق هذا المستوى، ادّعى أنه رجل علم، يتكلم بعض الأشخاص كلمة أشعر أنها تقطر كِبراً، وكأن الدين شيء صغير وهو عظيم جداً، أنا رجل علم، وإذا كنت رجل علم!! القرآن الكريم لو أمضيت كل حياتك في فهم دقائقه ما أحطْتَ بها، النبي عليه الصلاة والسلام إنسان يمضي سنوات طويلة لينال مرتبة علمية إذا هو فهم بعض الأحاديث الشريفة.
يا أيها الأمّي حسبك رتبة في العلم أن دانت لك العلماء
الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام كلما تقدم العلم كشفوا جانباً من عظمته، كشفوا جانباً من أن هذا الذي جاء به كيف جاء به، لم يكن هناك معطيات حينما كان النبي كيف جاء به؟
يا أيها الأمّي حسبك رتبة في العلم أن دانت لك العلماء
قال: هؤلاء الكفار الذين هم في عزة، في تأبٍّ وشقاق لمن أُنزل عليه القرآن، أهلكنا قبلهم أمثالهم، أهلكنا قبلهم أقواماً كثيرين تطاولوا، وتكبروا، وكذبوا، وسخروا، ولكن حينما جاء وقت العقاب، وقت البلاء لو رأيتهم يا محمد: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا﴾ أحياناً شخص خارج عن القانون يتبجح، ويتعالى، ويسخر من كل شخص يريد أن يضبطه، هذا حينما يقع في قبضة العدالة لو رأيته في قفص الاتهام وهو ذليل، بصره نحو الأرض، حينما يعذّب يصيح، يتوسل، ينادي، لو رأيته، كل كِبره تلاشى، كل عنجهيته تلاشت، كل غطرسته تلاشت، الكافر يخاف بعينه فقط.
أنا أعرف والله أناساً كثيرين يأتيهم مرض عضال فإذا هم كالأطفال، يصيحون، يولولون، يصرخون بويلهم، يلدمون وجوههم لمرض أوهمهم أن الأجل قريب، أين شخصيتك القوية؟ أين كِبرك؟ أين استخفافك بالدين؟ أين احتقارك للمؤمنين الصادقين؟ أين كل هذا؟ لذلك: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا﴾ قال بعض العلماء: نادوا بالتوبة، أو نادوا بالاستغاثة، إما أنهم يستغيثون الله عز وجل، وإما أنهم أعلنوا توبتهم ولكن بعد فوات الأوان.
يوم القيامة ليست الساعة ساعة خلاص هذه الساعة ساعة عقاب:
هذه ما معناها: ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ هذه كلمة منحوتة أساسها: وليس الحين حين خلاص، أي من باب التقريب: إنسان ارتكب جريمة، واقتيد إلى السجن، وحوكم، وثبتت عليه الجريمة، وصدر القرار بإعدامه، واستُؤنف الحكم، وحكمت المحكمة التي هي أعلى بتصديق القرار واستؤنف الحكم عند النقض، وحكمت محكمة النقض بإعدامه، وصُدِّق الحكم من رئيس الجمهورية، وسيق للإعدام وهو على حبل المشنقة بدأ يتوسل، نقول له: هذا التوسل لا يجدي الآن، فات الوقت، وقت التوسل، والبكاء، والاسترحام، والعويل، افعل ما شئت؛ لك أن تضحك، لك أن تبكي، لك أن تنهار، لك أن تتجشم، أن تتماسك، افعل ما شئت لابدّ من تنفيذ الحكم، هذه الساعة لا تنفع، ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ وليست الساعة ساعة خلاص، هذه الساعة ساعة عقاب، هذه الساعة ساعة إنزال البلاء، فالإنسان كما كنت أقول لكم دائماً قضية الإيمان ليست أن تؤمن أو لا تؤمن، لابدّ من أن تؤمن ولكن بعد فوات الأوان، بقيت قضية الإيمان أن تؤمن قبل فوات الأوان، القصة كلها هذه أن تؤمن وأنت شاب، أن تؤمن وأنت صحيح، أن تؤمن وأنت قوي، أن تؤمن وأنت غني، ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ وليست الساعة هذه الساعة ساعة خلاص من هذا العذاب، هذه ساعة عذاب لا ساعة خلاص، ساعة إنزال العذاب لا ساعة خلاص من هذا العذاب، أي أيها المؤمن لا تنظر إلى كِبَر الكافر، إلى عجرفته، إلى استعلائه، إلى رده للحق، إلى تأبيه عن قبول الحق، لا تعبأ، لو تنظر إليه وهو ينادي ويستغيث، لو تنظر إليه وهو على فراش الموت.
حال الكافر وهو على فراش الموت بعد فوات الأوان:
إنسان أمضى كل حياته يكسب مالاً من طرق غير مشروعة، عن طريق الملاهي والقمار حتى جمّع ثروة طائلة تقترب من ألف مليون، جاءه ملك الموت، وطالت فترة نِزاعه، أولاده أحضروا له بعض أهل العلم، سأل أحدهم: ماذا أفعل؟ فقال له هذا الرجل والله هو صادق فيما يقول، قال له: لو أنفقت هذه الملايين التي تقترب من ألف مليون أنفقتها كلها لا تنجو من عذاب الله، أين كنت حينما كنت شاباً؟ أين كنت حينما كنت متألقاً؟ لماذا غفلت عن الله عز وجل؟ لماذا نسيت أمر الله؟ لماذا نسيت هذه الساعة؟ ﴿فَنَادَوْا﴾ صرخوا، استغاثوا، استنجدوا، إما أنهم أعلنوا التوبة وإما أنهم طلبوا المعونة وهذا يحدث دائماً، لو ركب أكفر الكفار طائرة، وأصابها خطر قريب من سقوطها، انظر إلى الركاب كلهم يقول: يا الله، بعضهم كان ينكر وجود الله، مرة ركب خبراء بطائرة، الخبراء كلهم ملحدون، دخلت الطائرة في جيب هوائي فهبطت فجأة واضطربت اضطراباً كثيراً، فإذا بهؤلاء الملحدين يقولون: يا الله أنقذنا، طبعاً بلغتهم، ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ هذا المتكبر انظر إليه وهو يعاني سكرات الموت، انظر إليه وهو يعاني من الضيق، ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ* وَعَجِبُوا﴾ هنا الحقيقة ليس العجب أن يأتيك رسول من عند الله عز وجل قد أُنزل عليه كتاب، العجب ألا يأتي الرسول، لأن خالق الكون كامل ومن لوازم كماله ألا يدع خلقه بلا أمر ونهي، أب كامل، من لوازم كمال الأب تقريباً للمعنى إذا رأى الأب ابنه منحرفاً يسكت الأب؟ لا، لكن الأب الكامل دائماً ينصح أولاده، يأمرهم وينهاهم، يُقدم لهم النصائح، الإرشادات، البيان، التوضيح، النصح، لابدّ من ذلك، فهم قالوا: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ ..
النبي سيد البشر تجري عليه كل خصائص البشر:
حسناً لو جاءك منذر من الملائكة أول كلام تقوله: يا أخي هذا ملك نحن بشر، أول كلمة تقولها، لو أنه يُحس بإحساسنا لما أمرنا، لو أن الله ركّب فيه شهوات كالتي عندنا لما استقام كما ترونه، الله عز وجل أرسل رسولاً من أنفسنا، يُحس بما نُحِس، ويُحب ما نحب، ويكره ما نكره، ويغضب كما نغضب، وينسى كما ننسى، ويتألم كما نتألم، لذلك قالوا: لأن النبي تجري عليه كل خصائص البشر كان سيد البشر، لو لم يكن بشراً لما ركب الله فيه شهوة النساء، وشهوة المال، وشهوة العلو في الأرض، لولا أنه يشعر بالحر والتعب والجهد والجوع، لولا أنه يغضب لما كان في هذا المستوى الرفيع، ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ لأن دعوته تتعارض مع شهواتهم، لأن دعوته تتعارض مع رغباتهم، قالوا: ﴿هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ إذا الإنسان دعا إلى الله عز وجل وقام من يعارضه، من يُجَرِّحه له بهذا النبي الكريم أسوة حسنة، ساحر كذاب؛ سيد الخلق وحبيب الخلق، وقد يسأل سائل: لماذا أثبت الله تخرصاتهم في القرآن الكريم؟ أثبتها ليكون هذا تسلية لكل من دعا إلى الله عز وجل بعد النبي عليه الصلاة والسلام، من أنت؟ إذا تهجم الناس عليك، وجرّحوا في علمك، وانتقدوك، وقللوا من شأنك، ونظروا إليك نظرة ليست كما ينبغي، لك في هذا النبي العظيم الذي هو سيد الخلق وحبيب الحق أسوة حسنة.
أدلة تؤكد على وحدانية الله سبحانه:
﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ*أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ العُجاب أبلغ من العجيب، تقول: طويل وطُوّال، من بلغ حداً في الطول مُفرطاً يقال له: طُوّال، عجيب وعُجاب، أي شيء لا يصدق إله واحد للعالم كله؟! طبعاً، ألا ترى الانسجام؟ ألا ترى الوحدة؟ ألا ترى أن الكون كله ينطلق من مبادئ ثابتة؟ من بنية واحدة؟ الإنسان مثلاً، الآن معمل في كندا يصنع دواءً مسكناً يُشحن إلى أستراليا، يأتي طبيب في أستراليا يصف هذا الدواء لمريض يعاني من آلام في الرأس تسكن آلامه، ماذا نستنبط من هذا؟ أن الذي خلق الإنسان في كندا هو الذي خلقه في أستراليا، الخالق واحد، البنية واحدة، الخصائص واحدة، يتعلم طبيب جراح تشريح الجسم البشري في فرنسا ويعمل في الهند،
حينما يفتح البطن يقول لك: هنا يوجد شريان، يوجد هنا وريد، هنا يوجد عصب حسي، هنا يوجد عصب حركي، هنا غدة، انتبه الغدة، درست هذا في فرنسا فكيف طبقته في الهند؟ لأن البنية واحدة، ألا ترى أن لهذا الكون خالقاً واحداً؟ بل إن هناك تشابهاً في بعض الأجهزة بين الإنسان والحيوان، الخروف ما منكم واحد إلا وقف عند القصاب، فيرى الكليتين، والمعدة، والمري، والأمعاء الدقيقة، والأمعاء الغليظة، الكبد، القلب، العضلات، الدماغ ولكن هناك فرق في الدماغ، لكن يوجد تشابه كبير بين خلق الحيوان وخلق الإنسان معناه أن الخالق واحد.
بل إن هذا التوافق بين بنية الطعام وبين بنية أجهزة الإنسان، هذا الحليب لهذا الإنسان، القمح غذاء كامل،
سوق القمح غذاء كامل للحيوان، التبن غالٍ جداً، الغذاء الأول للحيوان، من صَّمم هذا؟ سوق القمح للحيوان، الثمرة للإنسان، ألا ترى هذا التوافق!
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ إله واحد، خالق واحد، رب واحد، مشرِّع واحد، قرآن واحد، بنية في الخلق واحدة، هذه وحدة الوجود.
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ﴾ الملأ عِلية القوم، أعمدة الكفر، وجهاء المجتمع، العتاة، الطغاة، ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ هذه صورة جميلة جداً، إذا وقف شخص عند بائع مثلاً فقال له: بكم هذه الحاجة، وبذهنه أن ثمنها ألف ليرة، فقال له: ثمانون ألف، فيقول له: امشِ، هذا الجواب، ما أعجبه هذا الكلام، كلام غير منطقي، غير واقعي، السعر غير معقول، كلمة امشِ أبلغ من المساومة، أبلغ بكثير، فهؤلاء الكفار حينما استمعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى كلمة التوحيد، بدل أن يقفوا، ويصغوا، ويتأملوا، ويعقلوا، ويستفيدوا، ويستجيبوا، ويثنوا على النبي خيراً، بدلاً من كل ذلك قالوا له: امشِ، ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ كن على اللات والعزى أفضل لنا، لأنه لا يوجد تكليف، ليس هنا غض بصر، هنا مسموح الزنا، والخمر، والربا، والغصب، والظلم، ومسموح أن يكون للشخص عشر زوجات، والعشرة رجال لزوجة واحدة أيضاً، هكذا كانت الجاهلية، حياة كلها فوضى، كلها ظلم، كلها غصب للأموال والأعراض، انغماس في الوحول.
الكافر يفسر كل صدق واهتمام وحرارة إيمانية بالمنافع المادية:
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ هذه مؤامرة علينا من أجل انتزاع الميزات، من أجل تحويل الناس عن هذه البلدة، دائماً الكافر نظرته اقتصادية، مهما كنت متألقاً، مهما كنت غيوراً، مهما كنت صادقاً، مهما كنت متحمساً، يُفَسر الدعوة له مقصد مادي، هدفه المادة، دائماً الكافر يفرغ كل صدق وكل إخلاص وكل حرارة إيمانية يفرغها بالمنافع المادية، لذلك: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ يُراد بكم، أي له خلفية بالتعبير الحديث، له خلفية انتبه، انتبهت لما قال كذا، ماذا قال؟ دعاك إلى الله، له خلفية، هذا يسعى إلى الزعامة، أو يسعى إلى جمع الأموال، أو يسعى إلى جمع الناس، دائماً الكافر لأنه هو سيئ يكون سيئ الظن، ما ذاق طعم الإخلاص، ما ذاق طعم الخدمة الخالصة، ما ذاق طعم القرب من الله عز وجل، فدائماً يفسر ما عند الناس كما عند نفسه، ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ أي هناك خطة ماكرة تُراد لكم، يُراد لكم أن تزول عنكم هذه الميزات، هذه المكتسبات، هذه الشهوات، ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ آخر ملة اليهودية والنصرانية، ما سمعنا أن الإله واحد، هناك ثلاثة، باللغة العامية من أين ظهر لنا هذا الإله الواحد؟ ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ ..
تعجب الكفار من إنزال الوحي على محمد عليه الصلاة والسلام:
يقولون: شخص - قلتها لكم مرة سابقاً- داعية شاب تحلق الناس حوله، وأعجبوا به من إخلاصه وصدقه، فزعزع مكانة الكبار، فمرة أراد بعض الكبار أن يسفهه فحضر مجلسه، فلما انتهى مجلسه قال له: يا هذا ما سمعنا بهذا، قال: هل حصّلت العلم كله؟ قال: لا، فقال: هذا من الشطر الذي لم تُحصله، ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ هذا مفتر﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ .
الآن الآيات دقيقة جداً، يقول الله عز وجل: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أي هو نشأ معنا من أين جاءته النبوة؟ من أين جاءه الوحي؟ هو حينما كان يتعبد في غار حراء أين كنتم أنتم؟ كنتم غارقون في ملذاتكم وشهواتكم، في الخمور والنساء والربا والسفر والصيد، والتطاول على الآخرين؟ أين كنتم يوم كان يتعبد الله عز وجل؟ هذا يحدث في كل زمان، الإنسان يكون تابعاً لشهواته، غارقاً فيها، إذا إنسان ظهر، أكرمه الله بالعلم، يقول: متى صار كذلك؟ أين كنت حينما كان هو عاكفاً على تحصيل العلم، وحينما كان يمضي الليل في التهجد أين كنت أنت؟ كنت غارقاً في السهرات المختلطة، وفي القيل والقال، والأخذ والرد، وفي إضاعة المال، وفي الانغماس في الشهوات.
إن آمنت أن القرآن كلام الله من خلال إعجازه تؤمن أن الذي جاء به هو رسول الله:
﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ هم ما قرؤوا القرآن، لو قرؤوا القرآن، وتأملوا في آياته لعرفوا أنه معجز، وأن هذا الكلام المُعجز الذي جاء به نبي قولاً واحداً، القضية دقيقة جداً، إن آمنت بهذا القرآن على أنه كلام الله من خلال إعجازه تؤمن بالتبعية أن الذي جاء به هو رسول الله، لأنك لم تؤمن بالقرآن، لم تقرأه، لم تتدبر آياته، لم تقف عند معانيه، لذلك هان عليك تكذيب النبي، لو أنك آمنت بالقرآن لآمنت بالنبي، لأن طريق إيمانك بالنبي إيمانك بالقرآن الكريم، وطريق الإيمان بالقرآن الكريم كشف إعجازه، تؤمن به من إعجازه، وتؤمن بالنبي من القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ شكّوا أن هذا كلامي، ما آمنوا بأنه كلامي، ما رأوا إعجازه، ما رأوا إحاطته، ما رأوا أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حينما لم يروا هذه الرؤية شكوا في الذي أُنزل عليه.
أحد أكبر الأسباب التي يسوق الله العذاب من أجلها هو أن يعود الإنسان لعبوديته:
شيء آخر،
﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ الإنسان الكافر مادام في صحة جيدة، ومادامت الدنيا مقبلة عليه، ومادام في حرز حريز، ومادام في بحبوحة، وفي مكانة، وله أهل وأولاد، والأمور تجري على ما يريد، يتعالى، يستكبر، يتأبّى، أما إذا أذاقه الله العذاب يصبح إنساناً آخر، لو أنهم ذاقوا العذاب عذاب الشرك لزال عنهم الشك، لذلك أحد أكبر الأسباب التي يسوق الله العذاب من أجلها هو أن يعود الإنسان لعبوديته، يزول عنه كِبره، الإنسان أيّ عضو من أعضائه، أي جهاز من أجهزته، أي غدة صماء،مركز توازن السوائل، مركز تعيير الملح، مركز تنبيه الرئتين لو تعطل هذا المركز هل بإمكانك أن تنام الليل؟ لا تستطيع.
أعرف رجلاً أصيب مركز تنبه الرئتين النوبي بتلف، لا يستطيع أن ينام، إذا نام يموت فوراً، جاءه ابنه من أمريكا ومعه دواء نادر، هذا الدواء عليه أن يأخذه كل ساعة، يضطر أن يأخذه الساعة التاسعة، والساعة العاشرة، نام الساعة العاشرة، أربعة منبهات يصحو الحادية عشر، أربعة منبهات يصحو الساعة الثانية عشرة، أربعة منبهات يصحو الساعة الواحدة يأخذ حبة، الساعة الثانية حبة، الساعة الثالثة حبة، الساعة الرابعة حبة، الساعة الخامسة حبة، الساعة السادسة حبة حتى يستيقظ، فإذا نام يموت، لأن مركز تنبيه الرئتين النوبي في الجملة العصبية تخرب، في الإنسان عشرات الغدد الصماء لو تغير معيارها.
مركز توازن السوائل لو اختل الإنسان يدع مكتبه التجاري، يدع تدريسه، يدع عيادته، يدع متجره، يدع كل شيء، يجب أن يبقى بين الصنبور والمرحاض، يشرب عشرين ثلاثين لتراً من الماء في اليوم ويبولهم، هذا إذا تخرب مركز توازن السوائل فقط، يا ترى مركز توازن السوائل، مركز التوازن يحتاج إلى أدوات يتحرك على أساسها، ثلاث قنوات لو تخربت الإنسان لا يقف عندئذ، لا يستطيع أن يقف وحده،
عاد طفلاً، الإنسان إذا عصى الله على ماذا يعتمد؟!!
الكفار لو عرفوا أن القرآن كلام الله لما شكوا في رسالة النبي:
﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ سمعت هذا أن إنساناً يدفع لرجل عشرة آلاف ليرة في الشهر لأن مستقيمه أصابه شللاً، فالعضلات التي تطرح الفضلات خارج الجسم هذه العضلات أصيبت بالشلل، فلابدّ من إنسان بآلة أو بأداة ينزلها له، عشرة آلاف ليرة بالشهر، لو أصيب مستقيمه بالشلل أصبحت الحياة لا تطاق، لو أن قناة الدمع سُدت يفيض الدمع، ويحفر الدمع أخدوداً لأن الدمع مادة قلوية، حياة الإنسان تغدو جحيماً لو سُدت إحدى قنوات عينيه الدمعيتين،
لو تعطلت إحدى كليتيه، ماذا أقول لكم؟ الأمراض، هناك معاجم للأمراض، آلاف، مئات ألوف الأمراض، قال:
﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ لو ذاقوا عذابي، لو ذاقوا عذاب الشرك لذهب عنهم الشك، يشك ويتحفظ ويقول: أنا لا أقبل، لا أعتقد بها، من أنت؟
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند؟
من أنت؟ كلام خالق الكون، عندما الإنسان تحدثه نفسه ألا يقبل آية، أو لا يقبل حكماً يكون أحمق، هذا ليس كلام بشر، هذا كلام خالق البشر، دقيقة الآية: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ لو أنهم عرفوا القرآن أنه كلامي لما شكوا في رسالة النبي، وعلى كل لو ذاقوا العذاب لما وقفوا هذا الموقف، إذاً العذاب يحتاجونه.
﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ بإمكانهم أن يمنعوا عن النبي رحمة الله عز وجل؟ الله عز وجل إذا أعطى أدهش، وإذا أعطى لا ينتظر تزكية أحد، ولا يرد على اعتراض أحد، إذا أعطاك الله، الله لا يعبأ لا بتزكية الناس ولا بذمهم، سيان، هو أعطاك وانتهى الأمر.
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ أي هم الذين يعطونك هذا القرآن؟ هذا الوحي؟ هذا القرب؟ ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ ليمنعوا عنك الوحي، تفضلوا امنعوا عنه الوحي، لو أنهم ملكوا السماوات والأرض فارتقوا في السماوات ومنعوا عن النبي الوحي والقرآن إذاً هم آلهة، هم عبيد ضعاف، ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ* جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ كلهم عبيد لله عز وجل، مهزومون، مقهورون، هذا تعريف العبد، العبد مهزوم مقهور إلا إذا اعتصم بالله عز وجل فالله جلّ جلاله يرفع له ذكره.
الملف مدقق