- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
لا ينبغي أن تخاف أحداً ولكن ينبغي أن تخاف الله وحده:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثامن عشر من سورة الزُّمَر، ومع الآية الثانية والستين:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
ما من آيةٍ في القرآن الكريم تبث الراحة النفسية كهذه الآية، أي شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل بيده، لا يستطيع مخلوقٌ أن يتحرك إلا بأمر الله وبعلم الله، يُستنبط من هذه الآية أنه لا ينبغي أن تخاف أحداً؛ ولكن ينبغي أن تخاف الله وحده، والله سبحانه وتعالى أسماؤه حسنى إذاً ينبغي أن تخاف من نفسك، لذلك هذا المعنى مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يخافنّ العبد إلا ذنبه، خَفْ أن تأكل حقوق الآخرين، خف أن تُذْنِب، لأنك إن أذنبت فكل شيءٍ خلقه الله عز وجل بيده، يُطْلِق ويقبض، ما من مثلٍ أقرب إلى توضيح هذا المعنى من أن وحوشاً كاسرةً مخيفة كلّها مربوطة بأزِمَّةٍ محكمةٍ بيد جهةٍ قويةٍ، عزيزةٍ، عادلةٍ، بصيرةٍ، سميعةٍ، فعلاقتك أنت ليست مع الوحوش، لأنها مملوكة ومربوطة، ولكن علاقتك مع الذي يملكها فإذا أطلق أحدها وصل إليك، وإذا منعه حجزه عنك،
الشيء المخلوق بيد الله لا يتحرك إلا بأمره:
الأشياء المخيفة في الحياة كثيرة جداً، هناك أشخاص مخيفون جداً، هناك حيوانات مخيفة، هناك أعراض جوية مخيفة، هناك صواعق، هناك زلازل، هناك براكين، هناك سيول جارفة، هناك بأس الإنسان:
﴿
الصواعق والقذائف:
الدين كلُّه توحيدٌ وعبادة:
لذلك:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾
انتهى الأمر، حتى النار لم تعد ناراً، لذلك هذه الآية أو هذه الآيات التي نحن بصددها تتمحور حول كلمتين، حول التوحيد وحول العبادة، الدين كلُّه توحيدٌ وعبادة، الدين كله أن ترى أنه لا إله إلا الله، والدين كله أن تعبد الله وحده، وإذا شئت الدليل فالقرآن كله يدل عل هذين المعنيين:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
التوحيد والعبادة، نهاية العلم التوحيد، نهاية العمل العبادة، إذا وحَّدت واستقمت فقد حققت المُراد من وجودك، إذا عرفت أنه لا إله إلا الله، ما الذي يدعو إلى معصية الله؟ أن ترى مع الله شركاء، أن تخاف من غير الله، أن ترجو غير الله، أن تحب غير الله، لا تستطيع أن تتقدم في مجالات الإيمان إلا بخطين؛ بخطّ التوحيد وخطّ العبادة، بعد هذه الآية هل هناك في الأرض قوةٌ تخيف الإنسان؟
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . ))
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
التوحيد والشرك:
كل الراحة النفسية في التوحيد، كل الضغط النفسي من الشرك، كل الطمأنينة من التوحيد، كل الخوف من الشرك، كل التفاؤل في التوحيد، كل التشاؤم من الشرك، كل الرجاء في التوحيد، كل اليأس في الشرك، لذلك:
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
الشرك أن تتجه بكل طاقاتك إلى جهةٍ لا تملك شيئاً؛ لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، هذا هو الشرك، الشرك أن تعقد الآمال على جهةٍ مفتقرةٍ مثلك، أن تطلب العَوْن ممن يطلب العون، أن تطلب الغنى ممن هو فقير، أن تطلب القوة من الضعيف، أن تطلب التوفيق ممن يحتاج إلى التوفيق، هذا هو الشرك، الشرك أن تتجه إلى ما سوى الله، أن تتجه بقلبك، أو أن تعقد عليه آمالك، أو أن تتكئ عليه، أو أن تعتمد عليه، هذا هو الشرك،
كل شيءٍ خلقه الله القوة الفاعلة فيه بإذن الله لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله:
فليتك تحلو والحياة مـــريـرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خـــراب
* * *
التوحيد إرضاء الله وحده:
التوحيد أن ترضي الله وحده، التوحيد أن تعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلَّها، التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، وألا تعلِّق على غير الله أملاً، حتى الإنسان أقرب الناس إليه، إذا عقد عليهم الآمال خيبوا ظنه، يقول لك: هذه زوجة مخلصة، اعتمد عليها قد يفاجأ أنها تنكَّرت له، يقول لك: هذا الابن ادخرته لكبري، يذهب إلى بلدٍ أجنبي ولا يعود إطلاقاً وانتهى لأنه اعتمد عليه، إيَّاك أن تعتمد على غير الله، إياك أن تثق بغير الله، إيَّاك أن تسعى لغير الله، لا يليق بك أساساً كإنسان أول مكرم أن تُجير لصالح إنسان آخر، هذا لا يليق بك، هذا مما يحط من قدرك، أنت المخلوق الأول والمكرم تكون لحساب إنسان؟! إنسان ضعيف، إنسان جاهل، إنسان لئيم أحياناً.
الآية التالية تجعل الإنسان موحَّدَ الاتجاه لا مبعثر الاتجاه:
شعور الضعف والخنوع هذه كلها مشاعر الشرك:
تبدأ بالجماد، الخصائص التي أودعها الله في الجماد لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله عزَّ وجل، الحيوان، نحن نفهم أن البقر حيوان ذلول، تجد أطفالاً صغاراً يسوقون البقر من مكان إلى مكان، يحلبون البقر، والبقرة حيوان وديع مستسلم أليف مذلل، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل هناك مرضٌ يصيب البقر يجعله متوحشاً، فهذه البقرة الوديعة التي هي رمز العطاء تنقلب لعلةٍ أصابتها إلى وحشٍ كاسر، حدثني أخ أن بقرةً في بعض قُرى دمشق أصبحت متوحِّشة وقتلت رجلين وجرحت ثالثاً، فاضطر صاحبها أن يطلق النار عليها ليقتلها، وليريح الناس منها. فالحيوان مذلل من الله؟ الله عزَّ وجل، هذه الغنمة مذللة، الجمل مذلل، البقرة مذللة، أما العقرب غير مذلل، العقرب إن رأيته على جسمك تكاد تخرج من جلدك من شدة الخوف، أليس كذلك؟ وجملٌ يزن ستة أطنان لا تخاف منه بل تقوده، يقوده طفلٌ صغير، الأمر كله بيد الله،
الأمر كله بيد الله فعلاقتنا مع الله وحده:
يجب أن تؤمن أن جهةً في الكون لا تستطيع أن تفعل شيئاً إلا إذا أراد الله عزَّ وجل،
وإذا العناية لاحظتك جفونها نَم فالمخاوف كلُّهن أمان
* * *
هل هناك من راحةٍ أبلغ من هذه الراحة أن ترى أن الأمر كله بيد الله؟ ليس لك من الأمر شيء للنبي الكريم، لنبي الله عز وجل، لسيد الخلق، ليس لك من الأمر شيء، فإذا كان النبي سيد الخلق وحبيب الحق ليس له من الأمر شيء، الأمر بيد من إذاً؟ بيد الله، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لو كنت طليق اللسان، واضح الحجة والبيان، ودافعت عن نفسك أمامه في قضيةٍ هو حَكَمٌ بينك وبين خصمك، وانتزعت من فمه الشريف حكماً لصالحك، ولم تكن محقاً، لا تنجو من عذاب الله، علاقتك مع من إذاً؟ مع الله وحده،
القرآن والكون والأحداث كلها تدل على وحدانية الله:
﴿
كلمة السماوات والأرض تفيد الكون، الكون كله مقاليده قال علماء التفسير: مفاتيحه.
أحياناً تجد باباً محكماً، متيناً، قوياً، مُدَعَّماً، يأتي إنسان معه مفتاح صغير وزنه عشرون غراماً يفعل هكذا فيفتح الباب، فالبطولة لا بالمطرقة بل بالمفتاح، فالله عزَّ وجل بيده مفاتيح كل شيء، الإنسان مفتاحه بيد الله، يرضى إذا شاء الله، يغضب إذا شاء الله، يحقد عليك إذا شاء الله، يعفو عنك إذا شاء الله، مفتاحه بيد الله، حتى الأجسام المادية، حتى الكواكب، كل شيء:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ». ))
لأن هذا الجرثوم بيد الله عزَّ وجل، قال:
الآياتٌ القرآنية والكونيةٌ والتكوينية كلُّها تدل على وحدانية الله عزَّ وجل:
﴿
ضعاف، قلةٌ قليلة، قلةٌ في العَدد، وقلةٌ في العُدَد، وضعاف وفقراء، لا رواحل ولا أسلحة، وقريش بأبطالها، وخيلها، ورَجِلها، وعدَّتها، وعتادها، وكل ما تملك جاءت لتحارب المسلمين فأذلَّها الله، في حنين.
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
الآيات التكوينية تدلُّ على وحدانيته، والآيات الكونية تدل على وحدانيته، والآيات القرآنية تدل على وحدانيته، هذه آياتٌ قرآنية وكونيةٌ وتكوينية كلُّها تدل على وحدانية الله عزَّ وجل،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
هؤلاء الذين تخافهم أيها الإنسان يد الله فوق أيديهم، انتهى الأمر، هؤلاء الذين يرعبونك، هؤلاء الذين يخيفونك، هؤلاء الذين تحسب لهم حساباً، هؤلاء الذين ترتعد فرائصك من ذكرهم، أقوياء طبعاً؛ لكن يد الله فوق أيديهم، انتهى الأمر، انتهت قوَّتهم، وانتهى بطشهم، وانتهى بأسهم، وانتهى معهم كل شيء.
الإنسان إذا اعتمد على ما سوى الله اللهُ يخيّب ظنه ويؤدبه عن طريقه:
الإنسان بين حالين لا ثالث لهما بين حال التخلِّي وحال التولِّي:
أنت في حياتك بين حالين لا ثالث لهما، بين حال التخلِّي وحال التولِّي، دائماً إما أن يتخلَّى الله عنك وإما أن يتولاك، إذ اعتمدت عليه تولاك، وإذا اعتمدت على نفسك أو على من سواك تخلى عنك، فأنت بين التخلية والتولية، يوجد تولية إذاً يوجد توحيد، يوجد تخلية تخلّ يوجد شرك معنى هذا، إذا رأيت الله قد تخلى عنك، ووكلك إلى نفسك، وخيّب ظنك، وجعلك في حالة إحباط ويأس، معناها أنت معتمدٌ على من سواه، أما إذا رأيت الله عزَّ وجل يوفق، ويدعم، ويحقق، فاعلم أنك معتمدٌ عليه.
الإنسان ضعيف، نقطة دم تجعله مجنوناً، تجمد نقطة دم في رأسه تجعله مجنوناً، أو فاقداً لذاكرته، ما هذا الإنسان؟ الإنسان ضعيف، تتكل على ضعيف؟ّ وهو في أوج قوته تنمو خلاياه نمواً عشوائياً يصاب بمرض ليس له دواء حتى الآن، يقول لك: لا يوجد أمل، لو بذلت ألوف الملايين لا أمل في الشفاء، أمراض تتحدى العلم الحديث، كل التفوق العلمي، مثلاً الإيدز هذا مرض تحدّى العصر كله، عقابٌ عاجل للفحشاء والمنكر، لذلك التوحيد مريح، المؤمن يتقلَّب على فراش التوحيد، على فراش وثير، أما الكافر أو المشرك يتقلَّب على فراش القلق والخوف، خائف من فُلان، موزَّع إن أرضى زيداً غضب عُبيد، وإن أطاع فلاناً غضب غيره، مشكلة، موزَّع، مبعثر، مشتت، دائماً في توزع وفي تبعثر، المؤمن موحِّد، ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿
إذاً هذا الذي لا يسمع لا ينبغي أن تعبده، هذا الذي لا يستجيب لا ينبغي أن تعبده، هذا الذي لا يقدر على أن ينقذك مما أنت فيه لا ينبغي أن تعبده.
التوحيد هو أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على الله:
اليوم ذكر لي أخ طبيب كريم بعد الخطبة أن حالات كثيرة جداً يكون الشفاء ذاتياً بلا سبب، يسمّيه الأطباء: الشفاء الذاتي، أما اسمه الحقيقي: شفاء الله عزَّ وجل، وإذا مرضت فهو يشفيني، تجد هذا المرض تراجع بلا سبب، من طبيعته الازدياد، من طبيعته الانتشار، إذا هو يتراجع وينكمش بلا دواء وبلا سبب، هذا هو التوحيد.
بالمناسبة لو أن الأسباب فعلت فعلها دائماً لنسي الإنسان ربه، لكن شاءت حكمة الله أن يعطِّل الأسباب من حينٍ إلى آخر أو أن يلغيها، تحدث نتيجة بلا سبب، أو يكون السبب ولا تحدث النتيجة، لماذا؟ ليلفت الله نظرنا إلى أن الأسباب لا تخلق النتائج ولكنها ترافق النتائج. وأوضح سبب سيدنا عيسى بلا أب، والسيدة حواء بلا أم، وسيدنا آدم بلا أب ولا أم، والعاقر زوج وزوجة شابان ولا يلدان، الأسباب مرةً تعطل، ومرةً تلغى، السبب موجود ولا توجد نتيجة، أو نتيجة بلا سبب، هذا من أجل ماذا؟ من أجل ألا نقع في شرك الأسباب، أحياناً عندك شرك الأسباب، تأخذ الحيطة، تُعِدّ العدة، وتطمئن، ولكن يؤتى الحذر من مأمنه، حتى الإنسان لا يشرك بالله عزَّ وجل وأن يعتمد على الأسباب وحدها من دون الله، أحياناً الأسباب لا تكفي،
لذلك التوحيد أن تأخذ بالأسباب وأن تعتمد على الله، فلو أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، ولو لم تأخذ بها لعصيت، تماماً شبهت أنا التوكُّل والتوحيد بطريق على يمينه وادٍ سحيق، وعلى يساره وادٍ سحيق، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها سقطت في وادي الشرك، إن لم تأخذ بها سقطت في وادي المعصية، يجب أن تأخذ بها، وأن تعتمد على الله وحده، هذا هو التوحيد،
من أسلوب القرآن الكريم أن يكون الخطاب للنبي والمقصود أمة النبي:
الحقيقة لا يتصور أن يشرك النبي عليه الصلاة والسلام، الشرك بعيدٌ عن الأنبياء بُعْدَ الأرض عن السماء، ولكن هذا من أسلوب القرآن الكريم، خوطب النبي والمعني أمة النبي عليه الصلاة والسلام، كقول الله عزَّ وجل:
﴿
فالخطاب للنبي والمقصود أمة النبي عليه الصلاة والسلام،
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾
عمل أعمالاً جليلة لكنه ابتغى بها السمْعَة، أشرك نفسه، أو ابتغى بها إرضاء من هم فوقه، هذا هو الشرك.
التوحيد يرقى بالعمل والشرك يحبط العمل:
ممكن القاضي يحكم حكماً عادلاً وهو مشرك، هذا الحكم سوف يُراقب من قبل رؤسائه، وسوف يذهب إلى محكمة النقض، وسوف يدقق القاضي الأول في هذا الحكم، وسوف يرى ما إذا كان هذا الحكم نزيهاً أو غير نزيه، إذاً عليه أن يحكم بالعدل، وعليه أن يدقق في هذه القضية، وعليه أن يضع لقراره مسوغاتٍ قانونية حتى يضمن سلامة سمعته عند رؤسائه، هذا عمل طيب، حكم بالعدل لكنه أشرك، أراد بالعدل إرضاء من هم فوقه، ممكن.
ممكن طبيب يسارع إلى إسعاف مريض وهو يرى أن هذه الرحمة التي أظهرها ترفع من شأنه في المستشفى، وتجعله الطبيب الأول، ربما عُيِّنَ مديراً لهذه المستشفى، ممكن، العمل طيب لكن يوجد معه شرك، لذلك يوم القيامة يأتي أصناف البشر يا رب تعلمنا العلم في سبيلك، يقول الله لهم: كذبتم، تعلمتم العلم ليقال عنكم وقد قيل، خذوهم إلى النار، يا رب قرأنا القرآن في سبيلك. يقول: كذبتم، قرأتم القرآن ليقال كذا وكذا وقد قيل خذوهم إلى النار، معنى إحباط العمل، العمل طيب، لكن أراد به صاحبه غير الله، إما أراد السمعة لنفسه، أو أراد إرضاء من هم فوقه، إذا أراد سمعة لنفسه أو إرضاء من هم فوقه فقد أشرك، وإذا أشرك كأن الله عزَّ وجل يقول: هل لك عندي شيء؟ أنت فعلت هذا الشيء من أجل الناس، أحياناً الإنسان يطعم الطعام، أما هدفه أن يعرض على الناس ما عنده، وبيته وترتيباته وأناقة الطعام، لذلك موضوع الشرك دقيق جداً، ذكرت مرة: أخي أنا أمين أدفع دفعاً جيداً، لا، ليس شرطاً، عليك سند، ودفعت السند لأن صاحب السند قوي، وقد يقيم عليك الحُجَّة، قد يُشَهِّرَ بك بين الناس، قد يقيم دعوى عليك، قد يضعه في التنفيذ، دفعت هذا السند كسلوكٍ آمنٍ مدني المصلحة أن تدفع هذا المبلغ، لكن الأمانة التي هي عبادة ألا تكون مداناً في الأرض إطلاقاً، مثلاً ضربت مثلاً نادراً مرة ركبت مع شخص في سيارة قال لك: هذه مئة ألف اتركهم عندك أمانة. وصار حادث، ومات هذا الرجل فوراً، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض يعلم بوجود المبلغ عندك، فإذا ذهبت إلى الورثة وقدمت لهم هذا المبلغ فأنت أمينٌ ورب الكعبة، هذه الأمانة، لست مداناً أمام أحد، لكنك خفت الله عزَّ وجل، وأديت هذا المبلغ إلى ورثته، هذه الأمانة. فالشرك يُحبط العمل، العمل طيب، يقول لك: فلان يدفع، يدفع ولكنه يحرص على سمعته التجارية، يخاف أن تهتز سمعته فلا يعطيه أحد بضاعة فيدفع، إذا أشركت حبط العمل، أما إذا أردت بأداء الحقوق إرضاء الله عزَّ وجل، أردت بإسعاف هذا المريض إرضاء الله عزَّ وجل، أردت بهذا الحكم العادل إرضاء الله عزَّ وجل، هنيئاً لك أنت الموحد، التوحيد يرقى بالعمل والشرك يحبط العمل، هذه واحدة.
المعنى الثاني: أنك إذا أشركت، خفت من فلان، أعطاك أمراً غير منطقي، وغير لائق أساساً، غير مناسب، غير إنساني، غير عادل، ونفذته، العمل سيئ، تلبست بعملٍ سيئ لأنك نفذت أمر إنسانٍ ظننت بإمكانه أن يؤذيك، أو أن يرفعك، فأحياناً العمل يسفل لأن الأمر سخيف، الأمر الذي جاءك سخيف وأنت خفت من الآمر فنفَّذت هذا الأمر فحبط العمل.
مقام العبودية:
أما المؤمن لا يفعل شيئاً لا يرضي الله عزَّ وجل وليكن ما يكن، أبداً، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ كأن يكلفك بشراء مادة محرَّمة، مشروب مثلاً، اعتذر، وقل: لا أحمله، مهما كلف الأمر، فإذا تلقيت أمراً مما سوى الله، ورأيت أن هذا الآمر مخيف، وبيده الخير والشر، ونفَّذت هذا الأمر حبط عملك، العمل سخيف وسيئ ومؤذٍ، أو أن العمل طيب ولكن النية لغير الله عزَّ وجل.
﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)﴾
أمامنا الآن آية عظيمة هي بيت القَصيد إن صَحَّ التعبير:
همُّ المؤمن بعد أن يعرف الله أن يبحث عن أمر الله:
ما أجمل الآية!
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
تنتهي هنا مهمتك، أن تطيع الله وأن تشكره، لكن أحياناً تجد من ينصِّب نفسه مسؤولاً عما يجري في العالم، هذا ليس معقولاً؟ إله يتصرف، أنت تعاطف مع المسلم، أنت اخدم لكن تنقم؟ تشك برحمة الله؟ هذا ليس عملك، لن تستطيع أن تثبت عدالة الله إلا إذا كان لك علمٌ كعلم الله، وأنت لا تعرف، صُلح الحديبية في ظاهره مهين ولكن في باطنه عاد بالخير العميم على المسلمين، يوجد أحداث يصعب تفسيرها، يوجد أحداث تفسيرها الظاهري مزعج جداً لا يُحتمل، لا يُقبل، الله عزَّ وجل متصرف، هو الفعَّال، هو الخالق، هو المربي، هو إله البشر جميعاً، هو أعطى القوي قوة، هو ضَعَّف الضعيف، ضَعَّف الضعيف لحكمة.
إذا استسلم الإنسان لله يكافئه الله بأن يكشف له الحِكَمَ البليغة من أفعاله:
قال تعالى:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾
هذا المسلم قصر فيحتاج إلى صعقة، صعقة صحوة، القلب عندما يتوقف، الأطباء يعطونه صعقة كهربائية، فإما أن يشتغل وإما عظم الله أجركم، هذا المسلم الميِّت ماتت نفسه يحتاج إلى صعقة، هناك صعقات الآن قاسية جداً، هذا عمل الله عزَّ وجل، أنا عليّ أن أستقيم، عليّ أن أخدم، عليّ أن أتعاطف، ولكن ليس عليّ أن أنقم على الله عزَّ وجل، فأنت لست إلهاً أنت عبد ضعيف علمك محدود.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
أنت لا تعرف فهنا استسلم، أنت ابذل جهدك واستسلم، طبعاً.
وسلم إلينا الأمر في كل ما يفعل فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
* * *
لكن والله الذي لا إله هو إذا استسلم الإنسان لله، الله عزَّ وجل مكافأةً على استسلامه، وعلى انصياعه، وعلى عبوديته، يكشف له الحِكَمَ البليغة من أفعاله، يرى أن الذي وقع لابُدَّ من أن يقع، ولو لم يقع لكان الله ملوماً، يرى أن كل شيءٍ وقع أراده الله لحكمةٍ مطلقةٍ بليغة.
في الطاعة جانب معرفي وجانب سلوكي وجانب جمالي:
﴿
تعطيك حجمك الحقيقي، أنت حجمك أيها الإنسان أن تعبد الله وأن تشكره، وألا تنصِّب نفسك وصياً على العالم، لماذا يجري ما يجري؟ أين الله عزَّ وجل؟ ما هذا الكلام؟ هذا كلام الضعف والجهل، الله موجود، كل شيء ينطق بوجوده، وكل شيء فعله الكفار بأمر الله، وبإذن الله؛ لكن هناك استحقاق.
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
﴿
والجانب المَعرفي هو الإيمان، والجانب السلوكي هو التطبيق.
الشرك أساسه ضعف العلم:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)﴾
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
العلماء وحدهم يخشون الله، ولا يخشى الله أحدٌ سواهم.
ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا أساسها المعصية والمعصية أساسها الجهل:
(( من هالَه الليلُ أن يكابدَه، أو بخِلَ بالمالِ أن يُنفِقَه، أو جَبُنَ عن العدوِّ أن يقاتلَه فلْيُكثِر من (سبحان اللهِ وبحمدِه) فإنها أحبُّ إلى اللهِ من جبلِ ذهبٍ ينفقُه في سبيل اللهِ. ))
إذا بخلت نفسه بالمال، أو ضَنَّت بالسهر في سبيل الله معنى ذلك أنه لا يعرف الله، عليه إذاً أن يجَدِّد إيمانه بالله.
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل التقوى، إذا أنت موحِّد ومستقيم جمعت الدين كله، وحزته من كل أطرافه، إذا وحدت وعبدت، و إذا وحدت وعبدت حققت المراد من وجودك، وكنت فائزاً وفالحاً وناجحاً ومتفوقاً وسعيداً.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين