- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الخسارة الحقيقية هي التي تبدأ بعد الموت:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثامن من سورة الزُّمَر، ومع الآية السادسة عشرةَ من هذه السورة.
يقول الله عزَّ وجل بعد أن حدثنا في هذه السورة الكريمة عن العبادة الخالصة لوجهه الكريم، فقال جلّ شأنه:
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾
كما قلت في الدرس الماضي: أشدّ أنواع الخسارة الخَسارة التي ليس بعدها تعويض، والخسارة الحقيقية التي يخسرها الإنسان في وجوده، حينما يشعر ساعة فراق الدنيا أنه خسر الدنيا، وخسر الفرصة الوحيدة التي كان من الممكن أن يستغلها ليسعد إلى الأبد، هذه هي الخسارة، أما أية خسارة يخسرها الإنسان في الدنيا لو خسر ماله كله، لو خسر مسكنه، لو خسر أحد أكبر مقوِّمات حياته، هذه خسارةٌ تعوَّض، وخسارةٌ تنتهي عند الموت، لكن الخسارة الحقيقية هي التي تبدأ بعد الموت، الخسارات التي يعانيها البشر مهما عَظُمت تنتهي عند الموت، لكن خسارة الدار الآخرة تبدأ بعد الموت، فشتانَ بين الخسارتين، أن تخسر كل شيء، وألا تملك شيئاً، بل يعاني الإنسان من عذابٍ لا ينتهي، هذه خسارة، وأن يخسر شيئاً يأتي الموت فينهي هذه الخسارة.
العمل من لوازم العقيدة الصحيحة:
صار المعنى أن الإنسان إذا لم يُدخل موضوع الموت في برنامجه اليومي فقد ضلّ ضلالاً مبيناً، وإذا تصرَّف على أن هذه الحياة هي كل شيء، وقد بيَّنت في الدرس الماضي هذه النقطة الدقيقة، دعونا مما تتوهم، أو مما يعتقد بعض الناس، السلوك اليومي إما أن يؤكِّد أنك مؤمن بالدار الآخرة أو لا يؤكِّد، فالذي يتصرف على أساس أن هذه الدنيا هي كل شيء، وإذا اعتدى على أموال الناس وكأن الله غير موجود، فهناك تصرُّفات تؤكِّد عدم الإيمان بالله، وهناك تصرفات تؤكّد عدم الإيمان باليوم الآخر، فالعقيدة الصحيحة هي العقيدة التي تنقلِب إلى عمل، أو العقيدة التي يؤكِّدها العمل، فالعمل من لوازم العقيدة الصحيحة، والعمل أيضاً يؤكِّد العقيدة الصحيحة.
ماذا في الآخرة؟
﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)﴾
الظّلل أي الطبقات، أي طبقاتٌ من النار من فوقهم، وطبقاتٌ من تحتهم، وفوق الذين من تحتهم طبقاتٌ بعضها فوق بعض، والإنسان حينما في الدنيا يشعر بألم الحريق، يبقى أياماً معدودات لا يطيق ألم الحريق، هذا الحريق في الدنيا مس وليس حريقاً مباشراً، وليس بقاءً في الحريق إلى ما شاء الله، فهذا كلام الله عزَّ وجل، الله جلّ جلاله يقول:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
أي كيف يصبرون على هذه النار المحرقة؟!!
الله عزَّ وجل هو الجهة التي تستحق العبادة في الكون:
﴿
الطاغوت صيغة مبالغة من طغى، والطاغوت هنا هو الشيطان، والإنسان بشكلٍ أو بآخر إما أن يتَّبع وساوس الشيطان، وإما أن يهتدي بإلهامات الملائكة، فالإنسان رحماني أو شيطاني، إما مع الحق رحماني، مع الباطل شيطاني، مع الشهوة شيطاني، مع المبدأ رحماني، مع الإحسان رحماني، مع الإساءة شيطاني، مع الإخلاص رحماني، مع الخيانة شيطاني، فهذه الاثنينية الله عزَّ وجل جعل الحياة مثانيَ، والقرآن مثاني، أهل إيمانٍ وأهل كفرٍ، أهل حقّ وأهل باطل، أهل إحسانٍ وأهل إساءةٍ.
في الآية التالية بشرى يسوقها الله لعباده:
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
أي اتبع سبيل من عاد إلى الله، كيف يعود الإنسان إلى الله عزَّ وجل؟ أي كلما عرض له موقف يرجع إلى حكم الله فيه، هذا معنى العودة، واجه مشكلة في بيته، في تجارته، في عمله، في قبض المال، في إنفاق المال، في إرواء بعض الشهوات، في أي نشاط؛ نفسي، اجتماعي، جسمي، عقلي، هذا النشاط يعود إلى حُكم الله في هذا الأمر، سمع قصةً يعود إلى القرآن، قرأ مقالة عن أن هذا الدواء يُطيل العمر يعود للقرآن ِيجد أن عمر الإنسان لا يزيد ولا ينقص، أي في عقيدته، وفي سلوكه، وفي نشاطاته، يعود إلى حُكم الله في كتاب الله، وليس من صفات المؤمن أنه إذا رأى حكماً لله عزَّ وجل ابتعد عنه لقول الله عزَّ وجل:
﴿
الآية التالية ﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ تحمل عدة معانٍ:
الشيء الدقيق - الآن دخلنا في لُبّ الموضوع - الشيء الدقيق أنك أنت عبد، العبد جاهل والله هو الذي يعلم، العبد فقير والله هو الغني، العبد ضعيف والله هو القوي، جاءك خطاب من الله هو القرآن الكريم، فموقف العبودية أن تعود إلى هذا الكتاب في كل أمر يَعْرض لك، فهُمُّ المؤمن الأول أن يتحرَّى أمر الله عزَّ وجل ليقيمَهُ، بعد أن عرف الله، واطمأنت نفسه لوجود الله، ولكمال الله، ولوحدانية الله، ولأنه رب العالمين، وأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، بعد أن اطمأنت نفسه له همّ واحد، في كل حركة، في كل سكنة، في كل تصرُّف، في كل إقدام، في كل إحجام يعود إلى أمر الله، هذا معنى:
أحياناً لاحظ موظفاً حريصاً على منصبه، ويريد أن يبت في أمر في معاملة، القوانين كلها في مكتبه، فإذا شكّ في قضية يقول لصاحبها: انتظر، تعال غداً، يعود إلى القوانين السابقة يطالعها، هذا المواطن حينما طلب منه هذه الموافقة يا ترى سمحت بها القوانين؟ يُسْمَح للمدير العام إعطاء هذا التعويض ؟ يعود للقوانين، فالإنسان الحريص على سلامة قراراته يعود إلى التشريعات الثابتة، والمؤمن الحريص على سلامة علاقته مع الله عزَّ وجل كلما عرض له أمر يعود إلى حكم الله فيه، إذاً كل إنسانٍ لا يُبالي كثيراً في حكم الله عزَّ وجل فهذا إما من ضعف إيمانه أو من انعدام إيمانه، أما المؤمن فقد أناب إلى الله.
المؤمن يعود دائماً إلى الثوابت والقرآن هو الثابت:
قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وإليك آية أخرى:
﴿
من معاني هذه الآية أن القرآن هو القول الثابت، أي كلامٌ قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، فيه الحق، هو الفَيْصَل، هو الحَكَم، هو الرأي الصحيح، الحكم الصحيح في القرآن الكريم، إذاً المؤمن يعود دائماً إلى الثوابت والقرآن هو الثابت، فأي قضيةٍ، أية فكرةٍ، أية مقالةٍ، أي خطبةٍ، أية نظريةٍ، أي مذهبٍ عرض له أو قرأه، يرجع إلى القرآن فيقبلها أو لا يقبلها، إذاً:
الله عزَّ وجل جاء بنا إلى الدنيا من أجل أن نعمل عملاً يصلح للعرض عليه:
ذكرت اليوم في الخطبة مما يمس هذا المعنى أن الإنسان لماذا ينفق؟ لأن الله عزَّ وجل خلق الإنسان ليسعده، الآن لو أردت أن تسقي نبتةً - مثل بسيط - فهذا الماء الذي تُلقيه على النبتة يتناسب مع كرمك أم مع قوة احتمال النبتة؟ لو أن إنساناً عنده نبتة صغيرة صبّ عليها ماء كثيفاً قوياً أتلفها، يا ترى الماء الذي ينبغي أن أعطيه لهذه النبتة يتناسب مع كرم المُعْطِي أم مع احتمال المُعْطَى؟ مع احتمال المُعْطَى. فالإنسان جاء إلى الدنيا من أجل ماذا؟ من أجل أن يُؤهِّلَ نفسه لعطاء الله عزَّ وجل، كيف يؤهِّل الإنسان نفسه لعطاء الله؟ بالعمل الصالح، ضربت مثلاً قريباً، لو تصورنا قائد جيش، عنده مجنَّد، فبين رتبة المجند ورتبة قائد الجيش مسافةٌ كبيرةٌ جداً، ربما كان الضبَّاط الأُمَرَاء لا يستطيعون أن يقابلوه، وإذا أرادوا وأصروا هناك إجراءات طويلة وطلبات، وعلى رؤسائهم أن يعلِّقوا على هذه الطلبات، لكن جندياً أنقذ ابن هذا القائد من غرقٍ مُحَتَّم، وضَحَّى وخاطر بحياته لينقذ ابنه، هذا العمل الذي فعله المجنَّد يجعله يدخل عليه في أية لحظة، ما إن يقول هذا الجندي للحاجب قل للقائد: فلان بالباب. حتى يقال له: تفضَّل. ما الذي جعل هذا الجندي يدخل إلى صاحب هذه الرتبة العالية جداً متى أراد ومتى شاء؟ ما الذي جعله؟ عمله الطيِّب، هذا مثل قائد جيش وعنده ضباط كبار وجندي صغير حينما ضحى بحياته أو كاد أن يضحي بحياته لينقذ ابن هذا الضابط وأنقذه فعلاً، كان لهذا الجندي عند هذا الضابط يد عظمى، إذاً هذا العمل الطيب يجعله يدخل عليه متى شاء، ويطلب منه ما يشاء، وربما فاق في مكانته مكانة أناس كبار جداً ممن يعاونوه، هذا المثل يمكن أن يوسع قليلاً، الله عزَّ وجل جاء بك إلى الدنيا من أجل أن تعمل عملاً يصلح للعرض على الله، من أجل أن تعمل عملاً بإمكانك أن تُقْبل به على الله، فهذه
(( عن أبي ذر الغفاري قال اللهُ تعالَى: يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا، يا عبادي! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ، ويا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ، يا عبادي! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم، فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه. ))
فكيف تتقرب إلى الله وهو الغني عن كل أعمالك؟ تتقربُ إليه بخدمة عباده، هؤلاء كلهم عباده، فإذا خدمتهم، أطعمتهم، أنفقت عليهم، دللتهم على الله، ترأَّفت بهم، أنصفت في حقهم، قرَّبك الله إليه، هذا المثل، بإمكان هذا المُجَنَّد الصغير أن يدخل على هذا القائد الكبير متى شاء، لماذا؟ لأنه كاد أن يضحي بحياته من أجل إنقاذ ابن هذا القائد، هذا العمل العظيم يجعله يُقبل على قائده متى شاء.
المؤمن وقَّاف عند كتاب الله ولا يتحرك عشوائياً:
هذا المثل لو أردنا أن نوسعه، وأن نطبقه على علاقة المؤمن بربه، أعماله الصالحة كلها من أجل أن يكتسب ثقة أن الله يحبُّه، هذه الثقة التي هي كنزٌ عظيم كما وصفها النبي الكريم، هذه الثقة برضاء الله عنك هي التي تُعينك على الإقبال على الله، هي التي تدفعُك إلى الاتصال به، إذاً معنى أنابوا إلى الله، أي عملوا أعمالاً صالحة أقبلوا بها على الله، هذا المعنى.
المعنى الأول: أنابوا إلى الله كلما اعترضهم أمرٌ قال: قفوا لنسأل القرآن عن حكمه في هذا الشيء، فالمؤمن ليس شارداً، ليس دابةً غير منضبطة، إنه إنسان مكرَّم، تحكمه الشرائع، تحكمه القيَم، تحكمه المبادئ، فالقرآن قَيَّدَ المؤمن عن كثيرٍ من هوى نفسه، لذلك قيل عن سيدنا عمر: كان وقَّافاً عند كتاب الله، يروى أن عبداً أساء إساءة بالغة لسيده، فلما غضب سيده، قال: يا سيدي لقد قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
قال: قد كظمت غيظي، قال العبد: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال: قد عفوت عنك، ثم قال العبد:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
قال: أنت حرّ لوجه الله، مثل، فالمؤمن وقَّاف عند كتاب الله، لا يتحرك عشوائياً، لا تحركه شهواته، ولا أحقاده، ولا مزاجه العصبي، تحركه مبادئ الشرع، لهذا ترى الناس يطمئنون للمؤمن، لا يخافونه، وفي الحديث القدسي: يا موسى خفني وخف نفسك وخف من لا يخافني، المؤمن لا يخاف، لا يخاف إلا الله، إذاً لا تخف منه لأنه مقيَّد بالشرع، لن يأكل مالاً حراماً، لن يغشَّك، لن يكذب عليك، فلو سألت المؤمنين إذا تعاملوا مع مؤمن يرتاحون له أشدَّ الراحة، هذه الراحة نابعة من أنهم واثقون من استقامته، ومن خوفه من الله، ومن وقوفه عند كلام الله.
البشرى نصِّية نصّ عليها القرآن والسنة الشريفة:
﴿
والبُشرى كما قلنا: بشرى نصِّية، يقرأ آيةً فيها بشرى..
﴿
هذه بشرى..
﴿
هذه بشرى:
﴿
هذه بشرى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
هذه بشرى.
البشرى نصيةٌ ونفسية:
البشرى نَصِّيَة، وهناك بشرى نفسية، تجد المؤمن مرتاحاً، معنوياته عالية جداً، شعوره أن الله يحبه يغنيه عن كل شيء، فهو غني ولو كان فقيراً، والغني غير المؤمن فقيرٌ ولو كان غنياً، المؤمن مطمئنٌ ولو أحدقت به الخطوب، وغير المؤمن خائفٌ ولو ملك كل أسباب القوة، شيء عجيب، هذا العجيب هو المؤمن، مطمئن، وجميع الخلق أحياناً يتنكرون له لأنه على حق، والكافر بيده أسباب كل القوى ومع ذلك خائف، قلبه فارغٌ من الأمن، أو ممتلئٌ رُعْبَاً، المؤمن الفقير غني في نفسه مع أنه فقير في يديه، غير المؤمن فقير في نفسه، مع أنه غني فيما بين يديه،
لهم صفةٌ أخرى:
المؤمن كلما عرض له شيئان يختار أقربهما وأرضاهما لله عز وجل:
﴿
من أبسط معاني هذه الآية إذا الله عزَّ وجل أمر ونهى، حينما يتَّبع الأمر اتَّبع أحسن القول، وحينما اجتنب النهي انتهى عن أسوأ القول، إذا الله وصف أهل الجنة وأهل النار، يتبع سبيل أهل الجنة، إذا الله عزَّ وجل وصف السابقين السّابقين ووصف أهل اليمين يسلك سبيل السابقين، كلما عرض له شيئان يختار أقربهما إلى الله عزَّ وجل وأرضاهما لله،
المستمع المثالي هو الذي يتبع أحسن القول:
كذلك في آية أخرى يشير الله عزَّ وجل إلى أنَّك إن لم تلتزم بما استمعت فلست عند الله مستمعاً، الآية الكريمة:
﴿
يوجد آية أخرى أيضاً تؤكِّد هذا المعنى أنه هو يستمع لكنه لم يسمع، استمع ولم يسمع، كيف؟ كنت أضرب على هذا مثلاً، لو قلت لأحد: يوجد عقرب على كتفك. فقال لك: أنا شاكر لهذه الملاحظة، وأنا مدين لك بالفضل لهذه البادرة الطيِّبة التي ذكرتها لي، وأنت إنسان كريم وفاضل، والعقرب التي على كتفه؟! معناها أنه لم يفهم ماذا قيل له، ما دام يجامله وهو هادئ ومرتاح، ويثني على ملاحظته القيِّمة، وعلى مبادرته الطيِّبة، هذا لم يستمع لم يفهم قول القائل، فالمعنى أن الاستماع ليس أن تُصْغي والدليل:
﴿
علامة الإصغاء هي السلوك:
أجمل ما في الآية أنك إن تبت إلى الله عزَّ وجل فقد صغى قلبك إلى هذا الحديث:
أحياناً تُجالس إنساناً تقول له: هذه حرام، وهذه حلال، وآخرة، وجنَّة. تجده لطيفاً يقول لك: والله تباركنا، والله كأن النبي زارنا عندما تكرمت بهذه الزيارة يا سيدي، الله يبارك فيك ويخليك لنا، ولا تجده مغَيِّراً شيئاً؛ دخلٌ حرام، واختلاطٌ، ولكن لسانه أحلى من العسل، فهل هذا استمع؟ والله لم يستمع إطلاقاً. أحياناً الإنسان يستمع إلى محاضرة، إلى خطبة جمعة، إلى درس تفسير، إلى درس فقه، إلى درس سيرة، فالمقياس الدقيق الدّقيق أنه إذا لم يستجب بعد هذا الاستماع فهو لم يستمع، صار هناك موجات صوتية لامست غشاء الطبل، والغشاء تحرَّك، ونقل أصواتاً مُقَطَّعَة إلى الدماغ، أما هو فيعيش بأحلام أخرى، أما:
الاستماع الحقيقي والإصغاء الحقيقي هو الذي يتبعه عمل:
الإنسان قبل أن ينام ينبغي أن يُحاسب نفسه حساباً عسيراً، أنا استمعت اليوم إلى خطبة، والخطيب قال: أي مبلغٍ تنفقه الله جلَّ جلاله يعوضه عليك في ثماني آيات، وأي مبلغٍ تنفقه يعلمه الله، ذكر الخطيب حول الإنفاق الشيء الكثير، إن لم تنفق لن تستمع إلى الخطبة ولو حضرتها، ولو كتبت بعض الفقرات والآيات، ولخَّصت، وحدثت بها الناس مراراً، وقلت: أنا سجَّلتها كلها عندي بنقاطها الدقيقة، الموضوع شامل، الخطيب استوعب الموضوع بكامله، خير إن شاء الله، أنت ألم تنفق شيئاً؟ إذاً أنت لم تستوعب الموضوع، هذه النقطة الدقيقة:
بالمناسبة بين الاستماع وبين التطبيق كما بين لفظ ألف مليون وامتلاك ألف مليون، المسافة بين الاستماع وعدم التطبيق وبين الاستماع والتطبيق هي المسافة نفسها بين أن تقول: ألف مليون ولا تملكها وبين أن تقولها وتملكها، هذه المسافة، قال:
﴿
أي أنتم يا أمة محمد، فمعنى كنتم بمعنى أصبحتم، أي أصبحتم:
ما نريده هو إسلام ملتزم لا إسلام شكلي:
طبعاً هذه الآية مكتوبة على مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، كتبوا آيتين، الأولى:
﴿
والثانية:
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾
خيرٌ إن شاء الله، فهل الغلَّة فقط هي الفتح؟ أو يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، في كذب، وغش، واحتيال، ولديهم تدليس بالبيع، وعندهم بضاعة محرَّمة، ويحلفون أَيْمَاناً كاذبة، ما قيمة:
فرق كبير بين أمة التبليغ وأمة الاستجابة:
إذاً نحن خير أمةٍ إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإذا أمرنا بالمُنكر ونهينا عن المعروف فلسنا خير أمةٍ، ولسنا من أمة محمدٍ المرحومة، أمة محمدٍ المرحومة هي أمة الاستجابة:
﴿
أما أمة التبليغ أي كل طالب أخذ شهادة ثانوية وتبلَّغ فروع الجامعة وعلاماتها فهل صار يحمل ليسانس؟! لا، تبلغ أن العلامات الفلانية تؤهله دخول كلية الطب، الفلانية هندسة، الفلانية صيدلة، الفلانية حقوق، آداب، تبلَّغ العلامات، ولكن لم ينتسب للجامعة، ولا داوم، ولا درس، ولا قدَّم فحصاً، ولم يأخذ ليسانس، فنحن نقول: هل كل واحد تبلَّغ قرار إدارة الجامعة بعلامات الكليَّات صار مجازاً؟ لا، ما صار مجازاً، مازال طالباً في الثانوي، أما الذي يدخل للجامعة ويستجيب، ويدرس، ويقدم فحصاً، وينجح هذا صار مجازاً، فالميِّزات لا لمن بُلِّغوا قرار الإدارة، بل لمن اجتازوا فحص الليسانس، فالنقطة دقيقة جداً، هكذا انتماء شكلي، انتماء تاريخي لهذه الأمة، أصبحنا أمةً مرحومة بلا عمل، بلا انضباط، بلا استقامة، هذا شيء لا يكون.
البطولة في الإسلام الالتزام:
﴿
لذلك فرِّق بين إنسان له ثقافة إسلامية وبين إنسان مهتد إلى الله، المهتدي شيء، والمثقَّف ثقافة إسلامية شيء آخر، عُقِد مؤتمر إسلامي قال لي أحد الحاضرين، المؤتمر في آسيا، أَذَّنَ المغرب ثم العشاء وبعض الحضور لم يصلوا المغرب، هذا عضو فخري، أو عضو فكري فقط:
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
أحياناً إنسان يحمل فكراً إسلامياً لكنه لا يصلي، يحمل فكراً إسلامياً ولكن دخله حرام، يحمل فكراً إسلامياً لكنه ليس ملتزماً بالإسلام، فالبطولة الالتزام:
الهدى استقامة:
القصة معروفة: دخل رجل طويل القامة عريض المنكبين، يرتدي زياً فخماً مفخماً إلى مجلس علم، وكان المتكلِّم يشكو ألماً مُمضَّاً في رجله وحوله تلامذته، وقد مدّ رجله لعذرٍ بالغ، والنبي عليه الصلاة والسلام ما رُئي مادّاً رجليه قط، والدرس كان عن صلاة الفجر، وبعد أن انتهى الدرس هذا الإنسان الذي دخل إلى المجلس عظيم الهيئة طويل القامة عريض المنكبين يرتدي ثياباً فخمة مفخمة هذا المتكلم، هذا المدرس فلما دخل عليه - هو يُروى عن أبي حنيفة القصة - استحيا ورفع رجله، قال له: يا سيدي كيف نصلي إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفةٍ رجله. طبعاً إذا ما كان كلام الإنسان سديداً يسقط من نظر الآخرين:
تعريف المهتدي:
إذاً:
ممكن أن تعرِّف المهتدي بالتعريف التالي: استقامة تامة، أعمال صالحة، اتصال بالله، ابتغاء مرضاة الله، هذا المهتدي بنص هذا القرآن الكريم،
نفي مفهوم الشفاعة الساذج الذي يعتقده مُعظم الناس:
أما إذا لم يجتنب الإنسان الطاغوت؛ بل كان مع طواغيت الإنس والجن، تعامل معهم، واستجاب لهم، وائتمر بأمرهم، وفعل ما يريدون، وأرضاهم وأسخط الله عزَّ وجل، هذا جانب، وما عاد إلى الله في أحكامه، بل اتبع أهل الدنيا، اتبع أهل الضلال، اتبع الأحكام الوَضعية، اتبع مصالحه المادية، لم يُنِب إلى الله أناب إلى مصالحه، وحينما يستمع القول يتبع أحسنه للدنيا، إذا خُيِّرَ بين أمرين دنيوي وأخروي اختار الطريق الدنيوي، فعن هؤلاء قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) ﴾
أيها الأخوة، هذه الآية من الآيات الأساسية في نفي مفهوم الشفاعة الساذج الذي يعتقده مُعظم الناس، المفهوم الساذج، الشفاعة حق، وقد وردت في الكتاب والسنة لكن بمفاهيم دقيقة جداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يشفع إلا لمن مات غير مشركٍ بالله، لا شركاً خفياً ولا جَلياً، إنسان دخل الجامعة، ودرس، قد تأتيه بعض المُساعدات، قد تأتيه بعض المكافآت، بقي له علامتان لينجح، هناك قرار بإضافة هاتين العلامتين، فما دمت أنت في الجامعة لك ميِّزات كثيرة منها الشفاعة، أما إذا لم تنتسب أصلاً فهذه الآية لا يوجد غيرها:
شفاعة النبي محمد ينالها المؤمنون الصادقون:
إذا كنت خارج الجامعة كلياً، ميزات الكتب المجَّانيَّة ليس لك الحق فيها، مساعدتك بعلامتين كي تنجح ليس لك حق بهذا القرار، اللباس المجاني ليس لك فيه حق، ارتياد المكتبة والاستعارة منها ليس لك حق فيها، هناك آلاف الميزات لا ينالها إلا من كان ضمن الجامعة، فإذا كانت الشفاعة من بعض الميزات التي خَصَّ الله بها النبي ليشفع للمؤمنين، إذاً لا ينالها إلا المؤمنون الصادقون، أما أن ينالها شارِبو الخمر، مرتكبو الحرام، أصحاب الدخل الحرام، يفعلون كل ما يفعلون ويتَّكلون على شفاعة النبي لهم يوم القيامة، فهذا هو الحمق بعينه، وإجابة هؤلاء هذه الآية:
مشهد آخر من مشاهد أهل الجنَّة:
﴿
مشهد آخر من مشاهد أهل الجنَّة..
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
الله عزَّ وجل وعده حق، لذلك أخباره كأنَّك تراها، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾
هذا حديث قديم، قصة قديمة جداً قبل آلاف السنين، لكن لأن الله أخبرك عنها يجب أن تعتقد بوقوعها كأنَّك تراها الآن.
أيُّ شيءٍ ذكره القرآن وصحَّ عن النبي هو حقّ من عند الله عزَّ وجل:
لما ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
جاء هذا الخبر عن المستقبل بصيغة الماضي، وقال علماء البلاغة: هذا الماضي الذي يؤكِّد تحقق الوقوع، فالله إذا حدثنا عن شيءٍ مستقبلي بالفعل الماضي، وعن شيء غائب عنا بفعل رأى، معنى ذلك أن كلام الله عزَّ وجل حق، وعده حق، والجنة حق.
أثناء تلقين الميت اعلم أن الجنة حق، وأن النار حق، أي واقعة لا محالة، ثابتة، لن تفاجأ بشيء خلاف ما قرأت في القرآن، اعلم أن الجنة حق، والنار حق، وعذاب النار حق، والصراط حق، والحَوض حق، أيُّ شيءٍ ذكره القرآن وصحَّ عن النبي عليه الصلاة والسلام هو حقٌ من عند الله عزَّ وجل،
الآية التي بعدها إن شاء الله تعالى ندرسها في الدرس القادم:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21)﴾
والحمد لله رب العالمين