- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآيات الكونية التي تحدث عنها القرآن تأخذ حَيِّزاً واسعاً جداً في كتاب الله:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني من سورة الزمَر، ومع الآيتين الخامسة والسادسة.
الآية الرابعة أيها الأخوة آيةٌ قرآنية تتحدث عن الكون، وقبل أن نمضي في شرح هذه الآيات بتوفيق الله وبعونه، أحبّ أن أقف قليلاً عند الآيات الكونية.
يا أيها الأخوة الأكارم؛ لو قرأتم القرآن بأجزائه الثلاثين لوجدتم أن حجم الآيات الكونية حجمٌ كبير، تأخذ الآيات الكونية التي تحدث عنها القرآن حَيِّزاً واسعاً جداً في كتاب الله، ألم يسأل أحدكم هذا السؤال: لماذا ذكَّرنا الله بهذه الآيات؟ ما الهدف من ذلك؟ الإنسان العادي العاقل إذا تكلم فلكلامه قصدٌ واضح، ربنا سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)﴾
الآيات الكونية في القرآن الكريم ما ذكرها الله إلا لتكون وسيلةً لمعرفته سبحانه:
سؤالٌ كبير وسؤالٌ خطير: لماذا هذه الآيات الكونية؟ الجواب البسيط هو أن الله سبحانه وتعالى لا يُدرَك بالحواس، قال تعالى:
﴿
ولكن العقول تتعرف إليه، الشيء اللطيف في الموضوع أن الشيء إذا ظهر وآثاره فسبيل الإيمان به الحواس، هذا اليقين الحسي، إذا رأيت عينَ النارِ ودخانها يكفي أن تنظر إليها، تقول: هذه النار، أما إذا غابت ذات الشيء وبقيت آثاره، فسبيل الإيمان به الاستدلال العقلي، ربنا جلّ جلاله ذاته غابت عن حواسِّنا، ولكن آثاره باديةٌ لنا، آثاره في كل شيء، في أنفاسك، في تفكيرك، في أحاسيسك، في طعامك، في شرابك، في مسكنك، في لباسك، في أهلك، في أولادك..
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
* * *
هذه كلها تنطق بوجوده، تنطق بكماله، تنطق بوحدانيته، تنطق بأنه هو الخالق، هو الرب، هو المسَيِّر، لذلك لما ذكر ربنا عز وجل هذه الآيات الكونية في قرآنه الكريم، ما ذكرها إلا لتكون وسيلةً لمعرفة الله، قال تعالى:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
أي ما من طريقٍ إلى الإيمان بالله إلا من خلال آياته، لأن ذات الله غابت عن حواسِّنا:
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
أي طبيعتك المادية لا تحتمل أن تراني:
الكون تجسيد لأسماء الله الحسنى:
إذاً لا سبيل إلى معرفة الله عن طريق الحواس، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، ليس بشيءٍ ولا متبَعِّضٍ ولا متجزئٍ، أي هناك وصف لله عظيم جداً، لكن هذا الكون يدل عليه، ربما كان هذا الكون- إن صح التعبير- مظهراً لأسماء الله الحسنى، ربما تجسَّدت- إن صح التعبير- أسماء الله الحسنى بهذا الكون، فأنت إذا تأمَّلت في الكون وصلت إلى الله، الأجانب تأملوا في الكون، لكن ما وصلوا إلى الله، لأنهم حينما تأملوا في الكون أرادوا النفع المادي، هدفهم مادي، وصلوا إلى أهدافهم بأعلى درجة، ولكنَّهم ما عرفوا الله، لكن المؤمن إذا تأمل في الكون لا ليخترع اختراعاً ويسجله في دائرة حفظ المُلكية الأدبية، ليربح منه ألوف الملايين، لا، يتأمل في الكون ليتعَّرف إلى خالق الكون، لأنك إذا تعرَّفت إلى خالق الكون صرت إنساناً آخر، قال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
هل تريد أكثر من ذلك؟!!
آلا يضل عقلك، وآلا تشقى نفسك، وآلا تندم على ما فات، وآلا تخشى مما هو آت، هذه أعلى درجة بالسعادة النفسية، آلا يضل عقلك، وآلا تشقى نفسك، وآلا تندم على ما فات، وآلا تخشى مما هو آت،
التدين فطري:
كم هناك من ضلالات في البشر؟ ملايين مُمَلينة - إن صح التعبير- تعبد البقر من دون الله، ملايين مُمَلْيَنَة تعبد آلهةً نُحِتَت من الحجر في شرقِ آسيا، ضلالاتٌ وأوهامٌ، التدين فطري أيها الأخوة، قال تعالى:
﴿
إقامة وجهك للدين حنيفاً هي الفطرة، أي نفسك مهما تحركتْ، مهما سعيت إلى السعادة لن تجدها إلا بالله، ربما لاح لك في أوائل الحياة أن المال هو كل شيء، ربما بدا لك أن المرأة هي كل شيء، ربما ظننت أن العلو في الأرض هو كل شيء، ولكن في منتصف الحياة ترى أن المال شيءٌ وليس كل شيء، وأن اللذة شيءٌ وليست كل شيء، وأن العلو في الأرض شيءٌ وليس كل شيء، ولكن إذا اقتربت ساعة المُغادرة، المغادرة بلا عودة إذا اقتربت ترى أن المال ليس شيئاً، وأن اللَّذة ليست شيئاً، فالبطولة أن ترى هذا في مقتبل حياتك، إذا كانت هذه الرؤية لابُدَّ منها في وقتٍ ما فالبطولة أن تراها في وقت مناسب، أن تراها وأنت مقبلٌ على الدنيا حتى تتعرف إلى الطريق الصحيح، ماذا تفعل؟
تعاملنا مع الكون يجب أن يكون تعاملاً نفعياً وتعاملاً معرفياً:
إذاً ربنا سبحانه وتعالى جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، فحيثما وَرَدَ في القرآن ذِكْرُ الكون فالقصد الكبير أن تتأمل في الكون، لا من أجل أن تنتفع منه كشأن أهل الكفر، إذا تأمَّلت من أجل أن تنتفع منه لا مانع إذا اقترن النفع مع الهدى، ابنك الذي أمامك، خيرٌ لك ينفعك إذا شاء الله ذاك، وهو يرشدك إلى الله عزَّ وجل، كأس الماء، رغيف الخبز، الوردة التي خلقها الله إكراماً لك، تشم رائحتها، تنتعش برائحتها الفوَّاحة، وتدلُّك على الله.
ولكن أيها الأخوة الأكارم؛ أتمنى على الله أن تقنعوا أن الهدف الأول من خلق الكون هو أن تتعرف إلى الله منه.
الهدف الثاني هو أن تستفيد منه، لو أن الإنسان استفاد من الكون من دون أن يتعرف إلى الله عزَّ وجل، ماذا أقول لك؟ لا أستطيع أن أعبر لك عن فكرة دقيقة، لو معك شيك بمليار، وأنت استخدمته كمسودة ثم مزَّقته، يا ترى هذه الورقة الصغيرة أيهما أشد قيمةً أن تأخذ ثمنها مليوناً أم أن تستخدمها كورقة مسودة ثم تمزِّقها؟ أنت حينما تنتفع بالكون، ولا تتعرف إلى الله من خلاله هذا النفع محدود في الدنيا، لو وصلت إلى القمر، لو غُصت في أعماق البحار، لو ملكت أعظم الأسلحة، لو تحكَّمت بالعالم كله، أليس هناك موت؟ سبحان من قهر عباده بالموت، أليس هناك نهاية؟ لابدّ من نهاية، كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
الليل مهمـا طـال فلا بدَّ من طلوع الفجر والعمر مهما طـال فلا بد مـن نزول القبر
* * *
إذاً هذا الكون تعاملي معه بطريقتين أو بنوعين من التعامل؛ تعامل نفعي، وتعامل مَعرفي، التعامل النفعي تنتفع به ما دُمت حياً ترزق، تنتفع به ما دام قلبك ينبض، تنتفع بطعامه، بشرابه، بحدائقه، بمبانيه، بمقاصفه، بجباله الخضراء، بسواحله الجميلة، تنتفع به، تنتفع بهذه المُخترعات، مركبة فارهة، يَخْت جميل، طائرة ضخمة، مقاصف جميلة، بساتين، قصور شاهقة، وسائل حديثة، تنتفع به، ولكن ماذا بعد الموت؟ هنا المشكلة، لو أن الحياة الدنيا هي كل شيء، لكان الذين انتفعوا بالكون هم أذكى الأشخاص، ولكن لأن الحياة الدنيا ظلّ زائل، وعاريةٌ مستردة، أمدها قصير، وشأنها حقير، فمن أقبل عليها إقبال النهِم، من اتَّجه إليها اتجاه اللهفان، ثم فوجئ بعد نهاية المطاف أنها ليست كل شيء، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، لهي الحياة الحقيقة.
ثلاثة طرقٍ سالكةٍ إلى الله عزَّ وجل طريق خلقه وطريق كلامه وطريق أفعاله:
ما قولك أن يقول الإنسان عند الموت:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
لي قريب ترك ثروةً طائلةً، قال لامرأته قبل أيام من موته: أقبلنا على التافِه وتركنا الثمين، متى عرف ذلك؟ بعد فوات الأوان، الثمين أن تعرف الله، الثمين أن تغتني حياتك بالعمل الصالح، يا بشر لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً؟ والله سؤال خطير وسؤال محرج، يا ربي، أنت إذا أوقفتني أمام خلقك، أنت إذا أوقفتني أمام هؤلاء المؤمنين الذي باعوا أنفسهم في سبيل الله، أنت ماذا قَدَّمت؟ ماذا فعلت؟ ماذا تركت؟ كل شيءٍ تفعله للدنيا يبقى في الدنيا.
أيها الأخوة الأكارم؛ لماذا الإيمان؟ من أجل العمل، ولماذا العمل؟ من أجل السعادة، أنت لا تسعد إلا مع الله، والله لا يقبلك إلا بعملٍ صالح..
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
ولن تعمل صالحاً إلا إذا آمنت به، وكيف تؤمن به؟ من هذه الآيات التي بثَّها الله في الكون، إذاً يمكن أن تؤمن بالله من خلال خلقه، ويمكن أن تؤمن به من خلال أفعاله، آياته الكونية، أو آياته التكوينية، ويمكن أن تؤمن به من خلال كلامه، ثلاثة طرقٍ سالكةٍ إلى الله عزَّ وجل، طريق خلقه، وطريق كلامه، وطريق أفعاله.
لا زال الفكر حتى الآن عاجزاً عن إدراك ذات الله تعالى:
ربنا عز وجل في آياته القرآنية حَدَّثَنَا عن آياته الكونية، قال:
كيف يتحول هذا الإحساس الكيميائي إلى ذَوْق؟ هذا الطعام طيب، هذه النكهة طيبة، حتى الآن ليس معروفاً، كيف تتذكر؟ فرضيَّات، مثلاً إن في ذاكرتك الشمية ثمانمئة رائحة، تشم هذه الرائحة، تفكر لعدة ثوان ثم تقول: هذه رائحة الياسمين، أو فيها يانسون، أو في هذه الرائحة مثلاً عنبر، من قال لك ذلك؟ قال بعض العلماء: إن هذه الرائحة التي شممتها قد عُرِضت على ثمانمئة رائحةٍ في أقل من لمح البصر، ثم أثناء العرض توافقت هنا تقول: هذه ياسمين، أحياناً تنظر إلى رجل قد رأيته قبل أربعين عاماً مرةً واحدة، تقول له: أنت فلان، ما هذه الذاكرة؟ كم تتسع؟ إلى صور، إلى مشمومات، إلى محسوسات، إلى مُدركات، سبعون مليار صورة، قال بعض العلماء هو الحد الأدنى لذاكرة الإنسان، سبعون ملياراً.
البطولة أن تتعرف إلى الله من خلال الفكر:
هذا الفكر أليس من الجهل والعار أن تستخدمه لهدفٍ تافه؟ إنسان يشتري كمبيوتراً، ثمنه خمسة وثلاثون مليوناً يستعمله طاولة يضع عليها جهاز الهاتف؟! لا، قد يقوم مقامه طاولة ثمنها خمسة آلاف، خمسة وثلاثون مليوناً تجمِّدها من أجل أن تضع فوقها جهاز هاتف! هذا إنسان غير عاقل، يبدو أن هذا المثل صارخ وحاد، لا، الذي يستخدم فكره هذه الطاقة الإدراكية الكبرى في كسب المال فقط، أو في الاحتيال على الناس، أو في الإيقاع بينهم، أو في امتلاك أموال الناس، أو في السيطرة عليهم، من دون أن يستخدمه في معرفة الله، فو الله مغبون، ألم يسمِّ الله يوم القيامة بيوم التغابن، ما هو يوم التغابن؟ الإنسان الذي قَصَّرَ في معرفة الله يشعر أنه مغبون، الإنسان يبكي ولو أجريت السفن في دموعه لجرت،
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
أي هذا الفكر لم يستخدمه في معرفة الله، استخدمه في كسب المال، في الإيقاع بين الناس، في الاحتيال، استخدمه في السيطرة على العالم، ليس هذا هو الذكاء، البطولة أن تتعرف إلى الله، لو ملكت العالم كله، ولو كان العالم كله يأتمر بأمر رجلٍ واحد، لابدّ من أن يموت، ولابدّ من أن يُحَاسب عن كل دمعةٍ سالت في الشعوب، وعن كل قطرة دمٍ سالت من أجل كسب الأموال، والثروات، والسيطرة، أبداً، لذلك المؤمن العاقل حينما يمتن الله عليه بالهداية، يرى أنه قد حصَّل شيئاً ما حصَّله أحدٌ من أهل الدنيا، ما قاله بعض الأئمة رضوان الله عليهم:
الإنسان في حياةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية:
تتعرف إلى خالق الكون، وتهتدي بهداه، وتُحقق الهدف الذي من أجله خُلِقت، وأنت في طريقك إلى الجنة، هذا هو المُلْك، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)﴾
إذا قلنا لشخص: فلان مساحة بيته ألفا متر، ما هذا الكلام، ليس من المعقول؟ ويقع وسط غابات مساحتها عشرة آلاف متر مربع، وله بكل مكان قصر جميل، وله يخت، ما هذا المُلك العظيم؟ ربنا العظيم قال:
الكون من آيات الله الدالة على عظمته:
إذاً ما حجم الكون؟ سؤال محرج: هل أنت موقن يقيناً يشبه يقينك بوجودك أن هذا كلام الله؟ إذا كنت كذلك فإن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
أرجو الله أن أتمكن من أن أقرب لكم فكرة عن الكون، الكون في بعض التعاريف الحديثة فيه مليون ملْيون مجرة، درب التبَّانة هي مجرتنا، المجموعة الشمسية، التي هي الشمس وأحد عشر كوكباً منها الأرض تبدو نقطة صغيرة على هذه المجرة، تصور شكلاً مغزلياً والمجموعة الشمسية بأكملها نقطة على هذه المجرة، المجموعة الشمسية طولها مئة وخمسون ألف سنة ضوئية، ما معنى سنة ضوئية؟ أي الضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، أي القمر يبعد عنا ثانية ضوئية واحدة، أي إذا صدرت أشعةٌ من القمر نراها في الأرض بعد ثانية، القمر بعده ثانية والشمس بعدها ثماني دقائق، الشمس بعدها عنا مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، ضوءها يصلنا بعد ثماني دقائق فقط، المجموعة الشمسية كلها - أحد عشر نجماً - قطرها ثلاث عشرة ساعةً ضوئية، أما درب التبانة فطوله مئة وخمسون ألف سنة ضوئية، المجرة، بعض المجرات المتوسطة فيها مليون ملْيون نجم، كل هذا الكون من أجلك بنص القرآن الكريم:
أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
* * *
إعجاز الله في خلق الكون:
لا أريد أن أجعل الدرس درس علوم، لكن لا بُدَّ من ذلك، أقرب نجم ملتهب يبعد عن الأرض أربع سنوات ضوئية، أما المنطفئ فالقمر طبعاً وهو أقرب نجم يبعد ثانية ضوئية، أما الملتهب كالشمس فأربع سنوات ضوئية، الشمس ثماني دقائق، ثماني دقائق بعدها عنا، أما أقرب نجم ملتهب غير الشمس أربع سنوات ضوئية، عليك اليوم أن تجري حساباً بالآلة الحاسبة إن شئت، هذا النجم الذي يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، لو ضربت المسافات وحولتها إلى الكيلو مترات، وقسمتها على مئة بالساعة، وقسمتها على أربعٍ وعشرين ساعة باليوم، وقسمتها على ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً بالسنة، من أجل أن تصل إليه بمركبة أرضية تحتاج إلى ما يقارب من خمسين مليون عام، هذا النجم الذي هو أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، أربع سنوات ضوئية فقط، بمركبةٍ أرضية سرعتها مئة كيلو متر في الساعة، تحتاج إلى أن تصل إليه إلى ما يقارب من خمسين مليون عام، وكل عمر الإنسان ستون سنة، فكيف بنجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية؟ فكيف بمجرة المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئية؟ فكيف ببعض المجرات ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية؟ اسمع قوله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
أنت هل تعرف ما حجم الكون؟ هل تعرف معنى مليون ملْيون مجرة؟ هل تعرف أن المجرة فيها مليون ملْيون نجم؟ هذا خلق الله، والله سبحانه قال:
﴿
الإيمان أن يجتمع في قلبك تعظيمٌ وحبّ وخوف:
الله عز وجل قال:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾
غافل، أكبر مرض هو الغفلة والأمل، غافل عن الله، مُتأمل في الدنيا، هذا مرض خطير، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
وتستمعون ماذا يجري في بعض البلاد من بأس شديدٍ يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، بأس شديد، فهذا البلاء من أجل أن تخافه، هناك أمراضٌ وبيلة، هناك قهرٌ، هناك إذلالٌ، هناك فقرٌ، هناك فقرٌ مدقع.
العبادة الأولى هي التفكُّر في خلق السماوات والأرض:
إذاً العبادة الأولى هي التفكُّر في خلق السماوات والأرض،
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾
قوة التجاذب في الكون من آيات الله الدالة على عظمته:
هل تستطيع أنت ولو كنت من أعلم العلماء بالفيزياء أن تأتي بقطعتي مغناطيس متساويتين بالحجم، وأن تضعهما على سطحٍ صقيل، وأن تضع بينهما كرةً صقيلةً، بحيث يتكافأ جذب الكتلتين فتستقر في الوسط؟ لن تستطيع ذلك، لن تستطيع مهما جهدت، أن تجعل هذه الكرة الصقيلة على سطحٍ صقيل تستقر بين الكتلتين المغناطيسيتين، لو تحركت ميكروناً واحداً تنجذب إلى جهة أخرى، تصور كتلتين ليستا في حجمٍ واحد، معنى ذلك أنها تحتاج إلى حسابات، لو كانت بحجوم مختلفة هناك حسابات أخرى، لو كانت خمس كتل بحجوم مختلفة فالحساب أصعب وأصعب، لو كان بالفراغ، لو كان ملايين الملايين من الكتل كلها متحركة، هي مستقرة صعب فكيف وهي متحركة؟ ملايين الكتل كلها متجاذبة حركياً، وكلها تتحرك في الفراغ، والمحصلة استقرار حركي، توازن حركي، هذه قوة التجاذب:
﴿
يوجد أعمدة، قالوا: لو أن الأرض خرجت من جذب الشمس، وأردنا أن نعيدها إلى الشمس، كم نحتاج؟ قال: نحتاج إلى مليون ملْيون كبل من الفولاذ المضفور، قطر كل كبلٍ خمسة أمتار، وكل كبل يتحمل قوة شد تقدر بمليوني طن، أي الأرض مربوطة بقوة جذب للشمس تعادل مليوني طن ضرب مليون مليون، أي بألفي مليار طن الشمس تجذب الأرض، كل هذا الجذب من أجل أن تحرف الأرض في مسارها حول الشمس ثلاثة ميليمترات في كل ثانية، في أثناء حركتها حول الشمس تنحرف ثلاثة ميليمترات في كل ثانية فتشكل مداراً مغلقاً حول الشمس وتدور، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾
كل كوكبٍ في الكون يدور ويرجع إلى مكان انطلاقه، لأن مساره مغلق.
معنى كلمة (بالحق):
ربنا عزَّ وجل بكلمة واحدة وصف الكون كله، قال:
خلق الله عز وجل الأرض وما يتعلق بها بالحق أي وفق العلم:
هذه الأرض تستمد الحرارة والضوء من الشمس، لو أنها لا تدور حول نفسها لانتهت الحياة من على سطحها، هذا الوجه ثلاثمئة وخمسون درجة، وهذا الوجه مئتان وسبعون درجة تحت الصفر، لكنها تدور، بهذا الدوران يصبح جوُّها معتدلاً، لو أنها توقفت عن الدوران لانتهت الحياة،
﴿
من جعل الأشياء تنجذب إلى الأرض؟ الله عز وجل.
الماء أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته:
إذاً:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾
معنى بالحق وفق العلم، معنى بالحق وفق الحكمة، بحكمةٍ ما بعدها حكمة، هل تصدق أن بالماء ظاهرة واحدة لو انعدمت لانعدمت الحياة؟ الماء شأنه شأن أي عنصر يتمدد بالحرارة وينكمش بالبرودة، كأي عنصر، إلا أن الماء يتميِّز بأنك إذا بَرَّدته إلى درجة (+4) تنعكس الآية، يزداد حجمه مع تبريده تحت هذه الدرجة، من يصدق أن حياة الأحياء متوقفةٌ على هذه الخاصَّة؟
﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)﴾
ما الذي صَدَّعها؟ تجمُّد الماء، ما الذي قلب الأرض من صخور إلى تربة؟ تجمد الماء:
بعض من دلالات معنى (بالحق):
إذاً هناك أشياء بالكون مذهلة أيها الأخوة، هذا معنى بالحق؛ أي بالحكمة، حدثني أخ من مدة قال لي: كنا بفنلندا، كانت درجة الحرارة أربعين تحت الصفر، قلت له: هناك آية كونية، هل انتبهت لها؟ قال: لا، لم أنتبه لهاـ قلت له: أنت بهذه المنطقة الباردة ممكن أن تضع قفَّازات في يديك صوف أو جلد، وممكن أن تغطي رأسك بقطعة من الصوف، ويمكن أن تضع على رأسك شيئاً يقيك البرد، ويمكن أن ترتدي ألبسة قدم سميكة جداً، قال لي: جيد، قلت له: هل بإمكانك أن تغطي عينيك من أجل ألا يصيبهما البرد؟ قال: لا، قلت: إذا كانت الحرارة أربعين تحت الصفر لمَ لم يتجمد ماء العين؟ الله عزَّ وجل أودع في ماء العين مادةً مضادةً للتجمُّد، هذه معنى بالحق، أنت مخلوق بالحق، أي خلقك أساسه فيه علم، أساسه فيه حكمة، أساسه فيه رحمة، أساسه فيه لُطف، أبرع طبيب أسنان هل يتمكن من قلع سنّ لطفل دون أن يبكيه؟ يقول لك: أخدِّره بالبنج؟! لكنه يصرخ صوت عند وخز الإبرة لأنها أصعب من قلع الضرس، أما ربنا لطيف إذا أراد أن يُبَدل أسنان الطفل، تجد الطفل وهو لا يشعر رأى قطعة قاسية مع الطعام، ما هذه؟ سنه، كيف هذا السن ذاب من جذره؟ بالتدريج دون أن يشعر، الله عز وجل لطيف، المطر فيه لطف، لو كانت كل بَرَدَة تزن خمسة كيلوات، لما بقي على الأرض أي شيء سليماً، البرد حجمه صغير، المطر حجمه لطيف، فكل شيء بلطف الله عزَّ وجل، وبرحمة الله عز وجل وتدبيره.
عثروا بقمة جبل بأعلى جبال بالهند على نبع ماء، ليس لهذه الظاهرة في الفيزياء تفسير إلا أن يكون لهذا النبع مستودعاً في جبل أعلى منه، مستحيل، لأن بعض الوحوش تعيش في قمم الجبال، هناك رحمة، وهناك علم، وهناك حكمة، وهناك لطف، هذه بالحق، أي كل أسمائه الحُسنى داخلةٌ في خلقه.
الكون أوسع بابٍ لمعرفة الله وأقصر طريقٍ إليه:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾
اللعب شيء مخالف للجد، اللعب هو الشيء العابث، عمل بلا هدف، تجد إنساناً يلعب لعبة، لا فائدة من ورائها، خمس ساعات والله غلبتك مرتين، ماذا أفاد منها؟ عمل غير جاد، عمل عابث، ليس وراءه هدف، لكن بالحق خلاف اللعب، بالحق خلاف الباطل، أي خُلِقت لتبقى ولهدفٍ كبير، إذاً كلمة بالحق تعني الكون مخلوق وفق علم، وفق رحمة، وفق حكمة، وفق لطف، وفق قوة، ولهدفٍ كبير، وبعيداً عن الزوال،
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
خشية الله تعالى تحملنا على طاعته:
ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
وربنا عزَّ وجل قال:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)﴾
لا إله إلا هو إلى أين تمشون؟ فأنى تصرفون.
إن شاء الله في درسٍ قادم نتابع هذه الآيات، لكن الذي أرجوه من الله عزَّ وجل أن يُعْمل أحدكم فكره في الكون، وهو يأكل آلاف الأسئلة، كأس الماء، يقول لك: اللتر ببعض البلاد النفطية يكلف ستة ريالات تحلية، ستة ضرب ثلاث عشرة ليرة، حوالي مئة ليرة تقريباً، مئة ليرة ثمن تحلية لترٍ من الماء، كأس الماء من جعله حلواً عذباً فراتاً؟ ذلكم الله رب العالمين، ممكن من كأس الماء، من خصائص الماء، من الهواء اللطيف، فالهواء لا يحجب الرؤية لكنه يحمل طائرة، وزنها ثلاثمئة وخمسون طناً، الهواء شيء عظيم إذا تحرك وزادت سرعته على مئتي كيلو متر بالساعة صار إعصاراً، لا يذر شيئاً أمامه، الهواء لطيف، والماء لطيف، الطعام والشراب، في ابنك، في خلقك، أنت محاط بآيات، هذه إذا تأملت بها وعرفت من خلالها عظمة الله عزَّ وجل، هذه الخشية حملتك على طاعته..
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
والحمد لله رب العالمين