وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة غافر - تفسير الآيات 1- 3 الحروف المقطعة من إعجاز القرآن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 وبعدُ، فيا أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من سورة غافر.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿  حم(1)  ﴾

[ سورة غافر ]


حم


1 ـ معنى حم:

 و(حَم) كما يقول المفسِّرون: الله أعلم بمراده.

 ويقول بعض المفسِّرين: إنها أوائل أسماء الله الحسنى.

 ويقول بعضهم الآخر: إنها أوائل أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

 ويقول فريقٌ رابع: إن القرآن الكريم قد نُظِمَ من هذه الأحرف، والأحرف بين أيديكم، فحينما تجلَّى الله على هذه الأحرف جعلها كلاماً مُعجِزاً.

2 ـ الحروف المتقطعة من إعجاز القرآن:

 إذاً دليل إعجاز القرآن الكريم، أن هذا القرآن الكريم الذي فيه إعجازٌ علمي، وإعجازٌ بياني، وإعجازٌ بلاغي، وإعجازٌ تشريعي، وإعجازٌ أخباري، إذا قرأت القرآن متدبِّراً، وإذا قرأت القرآن متأمِّلاً تشعر أنه لا يمكن أن يكون هذا الكلام إلا كلام الله عزَّ وجل، تؤمن أن هذا الكلام كلام الله من خلال إعجاز القرآن الكريم، فهو من حروفٍ بين أيدي البشر، وقد تحدَّى الله البشر جميعاً على أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً، أن يأتوا بسورة من مثله.

 على كلٍ، هذه التوجيهات الأربعة في تفسير هذه الحروف وردت في تفاسير كثيرة، ومرَّاتٍ كثيرة، إما أنك تفوِّض أمر معناها إلى الله عزَّ وجل، وتقول كما قال بعض المفسِّرين: الله أعلم بمراده، وإما أن تجتهد، وتقول: لعلَّها أوائل أسماء الله الحسنى، وإما أن تقول: لعلَّها أوائل أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، حامدٌ ومحمود، وإما أن القرآن الكريم من جِنس هذه الأحرف، وقد يعلم قارئ القرآن ومتدبِّره أن فيه إعجازاً، ومعنى الإعجاز أن البشر مجتمعين يعجزون عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا من حيث نظمه، ولا من حيث ما فيه من تشريعاتٍ حكيمة، ومن أخبارٍ صادقة، ومن إعجازٍ علمي، وإعجازٍ تربوي، وإعجازٍ تشريعي، إلى ما هنالك.

﴿  تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)﴾

[ سورة غافر ]


تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ


 أيْ أنَّ هذا القرآن الكريم من عند الله العزيز العليم، فكلَّما قرأت آيةً من آياته، وسورةً من سوره يجب أن تستحضر هذه الحقيقة، أنك مع كلام الله، وأنك مع كلام خالق الكون، أنك مع الكلام المطلق في صوابه، المطلق في صدقه، المطلق في بيانه، فكلَّما نما إيمانُ الإنسان ينمو مع إيمانه تعظيمه لكلام الله عزَّ وجل، المؤمن يتعامل مع كلام الله تعاملاً في أعلى درجات التقديس والتعظيم، تقرأ القرآن فتشعر بكل خليَّةٍ من خلاياك، وبكل شعرةٍ في جسدك، وبكلٍ نقطةٍ في دمك أن هذا الكلام كلام الله.

 لكن إذا فهمت تأويل الآيات، ووضعت يدك على مواطن الإعجاز، ولمست عظمة النظم القرآني، ودقَّة الصياغة البيانيَّة، ودقَّة الأمر والنهي، تعلم علم اليقين أن هذا القرآن كلام الله، ولا يكمل إيمان إنسان ما لم يتنامَ إحساسه بقدسيَّة هذا الكلام، ولا يكون الإنسان مؤمناً ما لم يؤمن أن القرآن الكريم حقٌ من عند الله عزَّ وجل.


لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا


 إذا كان يخطر في بال إنسانٍ أنَّ في القرآن آية لا تصلح لهذا الزمان فهذا نوع من التكذيب، لأن ربنا عزَّ وجل قال:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)﴾

[ سورة البقرة ]

 ذات مرَّةٍ أخ قال لي: إن غضَّ البصر صعب، قلت له: اسمع هاتين الآيتين.

 الآية الأولى:

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[  سورة النور ]

 قال لي: هذا صحيح، قلت له الثانية: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ الأولى تكليفٌ واضح الدلالة، قطعي الدلالة، وهذا التكليف ليس متعلِّقاً بزمن دون آخر ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ في أي زمان، في أي مكان، والأجر الآن يزداد كثيراً، فكلَّما كثرت الفتن، وكانت النساء كاسياتٍ عاريات ازداد الأجر، لكن غضُّ البصر من وُسْعِ الإنسان، لقول الله عزَّ وجل: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ أضعف ما في الإيمان أن تتوهَّم شيئاً يخالف القرآن، إذا توهَّم الإنسان أن بعض آيات القرآن التكليفيَّة فوق طاقة البشر فهذا نوعٌ من أنواع التكذيب، وأنت لا تدري، حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ الذي يقول لك: ماذا أفعل؟ الحياة صعبةٌ، والناس كلُّهم هكذا، كل تعاملهم رِبوي، ماذا أفعل؟ إذا صدَّقت كلام الله عزَّ وجل حينما قال:

﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ(279)﴾

[  سورة البقرة ]

 ما من أمرٍ إلهيٍّ توعَّد الله مخالفه بالحرب إلا موضوع الرِبا، فكلَّما تنامى إيمان الإنسان يتنامى معه إيمانُه بقدسيَّة هذا الكلام، بأحقيَّة هذا الكلام، لأن الكلام شرفه من شرف قائله "فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى كَلامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ" شرف الكلام من شرف قائله، الإنسان العظيم يتكلَّم كلمة، لهذه الكلمة أثر كبير جداً، فكلَّما قلَّت قيمة القائل قلَّت معها قيمة القَول، وكلَّما ارتقت قيمة القائل ارتقت معها قيمة القول، فإذا رأيت أن هذا الكلام كلام الله؛ منهجٌ قطعي الثبوت، منهجٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقد صحَّ إيمانك، والحقيقة هي أنَّ ما تتخبَّط به البشريَّة اليوم، وما تعانيه البشريَّة اليوم من أزماتٍ وأزمات، ومن ظلمٍ شديد، ومن أعمال عنفٍ لا تحتمل، كلها بسبب مخالفة منهج الله عزَّ وجل، هذا المنهج مَن طبَّقه سَعِدَ في الدنيا والآخرة، والدليل قول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9)﴾

[ سورة الإسراء ]

 هذه الآية مُطلقة، ومطلق القرآن على إطلاقه، ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في كل شيء؛ طبِّقه في علاقاتك الزوجيَّة، طبِّقه في كسب المال، طبِّقه في إنفاق المال، طبِّقه في كل نشاطٍ من نشاطات الإنسان: ﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ أيها الإخوة قال تعالى:

﴿  قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾

[  سورة طه  ]


اتباع القرآن هدى، ومخالفته ضلال:


 إذاً: كل أنواع الضلال بسبب عدم اتباع القرآن الكريم، كل أنواع الشقاء بسبب عدم اتباع القرآن الكريم، قال:

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[  سورة البقرة  ]

 هذا الخوف الذي يأكل قلوب البشر، هذا القلق الذي ما بعده قلق، هذا الخوف من المجهول، هذا الخوف من المستقبل، هذا القلق المدمِّر بسبب عدم اتباع القرآن الكريم.

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فبعض الثمار اليانعة: أنك إذا اتَّبعت القرآن الكريم لا يضلُّ عقلك، ولا تشقى نفسك، ولا تخاف مما هو آت، ولا تندم على ما فات، فماذا بقي إذاً؟

 قال تعالى: 

﴿  أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)﴾

[  سورة يونس  ]


الشرك سبب للأمراض النفسية:


 فسَّر النبي هذه الآية بأن هؤلاء الأولياء لا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس.

 إذًا: هناك خوف عامٌّ هذه الأيام، وحزن عامٌّ، نسمع أحياناً عن واحد بعيد عن الله نَجده كتلة من التشاؤم، كتلة خوف وقلق، يخاف من المجهول، يخاف من المستقبل، قال النبي عليه الصلاة والسلام حينما وصف أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم، ولا هم يحزنون، إنهم لا يخافون إذا خاف الناس، لأن الناس عندهم شرك، ماذا يعني الشرك؟ أي أن مصيرك بيد عدوِّك، معنى هذا أن الشرك صعب جداً، شيء لا يحتمل، هذه الفكرة وحدها تسبِّب أزمة نفسيَّة، وقد تسبِّب أزمةً حتى في جسم الإنسان، في أعضائه الأساسيَّة، إذْ ترى أن مصيرك بيد إنسان ولابدَّ من أن ينتقم منك، لابدَّ من أن يأخذ منك كل شيء، لابدَّ من أن يذلَّك.

إذًا الشرك وحده يسبِّب أشد الأمراض فتكاً بالإنسان، أما لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ والتوحيد سر سعادة الموحِّد، إذ يعلم أن أمره كلَّه بيد الله، وأن علاقته مع جهة واحدة، أما علاقة أهل الدنيا فمع آلاف الجهات، فاعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلَّها.

(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين. ))

[ رواه الترمذي بسند ضعيف ]

 فحقيقة الفلاح تكمن بالإيمان الحقيقي، وأذكركم دائماً بهذه الفكرة: قال لك إنسان: الدكتور فلان، فما معنى دكتور؟ في العرف العالمي، وعرف الجامعات معنى دكتور أي أنه بلغ أعلى درجة في العلم تقريباً، لأن الليسانس أو الإجازة تعني أنه درس كل شيء في هذا العلم، أما الدكتوراه فتعني أنه أبدع في هذا العلم، قدَّم بحثاً فريداً، قدَّم شيئاً لم يُسْبَق إليه، فمعنى دكتور أن هذا مكث ست سنوات أو سبعًا ليعدَّ أطروحة، وناقشها كبار العلماء ممن يحملون كبرى الشهادات مناقشة علنيَّة، وكتب فصولاً، وأعاد فصولاً، وعنده شتى المراجع التي تتجاوز المئات، وبقي سنوات عديدة في كتابة هذه الأطروحة، هذا معنى دكتور، وقبلها تقدم لشهادة الماجستير، وقبلها تقدم لفحوص الدبلوم، وقبلها نال الليسانس، وقبلها نال الشهادة ثانويَّة.. إلخ، فكلمة دكتور تعني أن هذا الإنسان مرَّ بمراحل علمية وأمضى سنوات طويلة في طلب العلم، وتجاوز وتخطَّى عقبات صعبة جداً، وبلغ درجة عالية من التفوُّق.

 لكن كلمة مؤمن، ما معنى مؤمن؟ أي أَنَّ هذه أعلى مرتبة في البشريَّة، مؤمن بربِّه، مؤمن بخالقه، متى آمن؟ هل من الممكن إنسان يُعْطَى لقب دكتور دون أن يفتحَ كتاباً؟ ولا قرأ رسالةً؟ ولا سهر ليلةً؟ هذا كلام فارغ، فإذا قلنا: فلان مؤمن، فمتى آمنت؟ لابدَّ من طلب العلم، لابدَّ من تفكُّرٍ في خلق السماوات والأرض، لابدَّ من فهمٍ لكلام الله عزَّ وجل، لابدَّ من اتباع الحق والابتعاد عن الباطل، هذا معنى مؤمن، فكلمة مؤمن أي أنّه وصل لإدراكِ أنْ يرى ما لا يراه الناس، يشعر بما لا يشعرون، إذا خاف الناس فهو لا يخاف، ألم يقل الله عزَّ وجل:

﴿  إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)﴾

[  سورة المعارج  ]

 هذا ضعفٌ في خلقه ولمصلحته. 

﴿  إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلا الْمُصَلِّينَ(22)﴾

[  سورة المعارج  ]

 معنى هذا أن المصلي الذي آمن بالله حقًّا، واتصل به، هذا ليس جزوعاً ولا منوعاً، ولا هلوعاً. 

﴿  الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35)﴾

[  سورة المعارج  ]

 إذاً: موطن الشاهد: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا*إِلا الْمُصَلِّينَ﴾ تقول لي: أنا مؤمن، إلاّ أنني لا أراك متميًزا عن بقية الناس، فأنت تخاف إذا خافوا، وتحزن إذا حزنوا، وتفزع إذا فزعوا، وتنهار أعصابك إذا انهارت أعصابهم، وتشعر بالقهر كما يشعرون، وتشعر بالحَيف والظلم كما يشعرون، وتشعر أنك مقهور، وأنه لا أمل لك في الخلاص، وأن المستقبل مُظلم كما يخيِّم على الناس هذا الشعور السوداوي أفأنت مؤمن بعد كل هذا؟!! لا ورب الكعبة، أنت مؤمن؛ إذا علمتَ حقًّا أنَّ الأمر كلَّه بيد الله، وأن يدَ الله فوق أيديهم، مؤمن بأنه لا يقع شيءٌ في الكون إلا بعلم الله ومشيئته، مؤمن بأن كل ما يجري وفق عدالةٍ مطلقة، عرفت طرفاً منها، وغابت عنك أطرافها الأخرى ـ هذا المؤمن ـ أنت مؤمن إذا علمت أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يقضي لعباده إلا بالخير، مؤمن بأن الله عزَّ وجل حينما قال: 

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)﴾

[ سورة آل عمران ]


تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ


 إن الله تعالى لم يقل: والشر، بل قال: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ لأن إيتاء المُلك ونزع الملك، والإعزاز والإذلال خيرٌ مطلق، وما كلمة شر إلا مفهومٌ نسبي، فإذا رأى الأب ابنه على مشارف الامتحان يلهو بلعبةٍ، وربَّما ضيَّع مستقبله بأكمله أو على الأقلّ عامه الدراسي، فإذا حطَّم الأب هذه اللعبة لإدراكه بخطورة هذا الامتحان، فتحطيم اللعبة في نظر العقل القاصر شر، أمَا هو في نظر الأب فمحض خير.

 فربنا عزَّ وجل يضحِّي بالأموال، يضحي بالمُمْتَلَكَات أحياناً، يضحي بحريِّة الإنسان، و كأنه يقول لك: بقيتُ عشر سنوات كأنني في مدرسة.

 حينما سلب الله حرية الإنسان عشر سنوات أدخله مدرسة قاسية، لكنه خرج بعدها إنساناً آخر، فالله عزَّ وجل من أجل أن تؤمن، ومن أجل أن ترقى، ومن أجل أن تعرف، ومن أن تستقيم، ومن أجل أن تعرف سر وجودك، ربما يضيع جزءٌ من مالك، جزءٌ من حريَّتك، جزءٌ من وقتك، هذه كلُّها مصائب هدفها صلاح النفس.


كيف يشهد الله أن هذا القرآن كلامه ؟


  إذاً: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ فشعور المؤمن يجب أن يرقى إلى مستوى إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما قال سيدنا سعد: << ثلاثٌ أنا فيهنَّ رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس؛ إحدى هذه الثلاث: ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى>> .

 اليوم خطر لي أنه لو فرضنا أن واحدًا دخل إلى صف، وقد كُتِبَ على السبورة: غداً الساعة الأولى مذاكرة في الرياضيات، يا ترى هذا الكلام صحيح؟ هذا الخط هل هو خط المدرِّس؟ الخط جيِّد، وهو يشبه إلى حدٍ كبير خطَّ المدرِّس، لعلَّه طالبٌ له خطٌ مشابهٌ لخطه كتب هذه العبارة، لكن ما الدليل القطعي على أن المذاكرة غداً الساعة الأولى؟ غداً! فحينما يأتي الغد، ويدخل أستاذ الرياضيات، ويقول للطلاب: ضعوا كل شيء في الأدراج، وافتحوا أوراق المذاكرة تمهيداً لإلقاء الأسئلة، ففعل هذا المدرِّس يؤكِّد الكلام الذي كُتِبَ البارحة.

 فالقرآن الكريم كلام الله، لكن كيف يشهد الله أن هذا الكلام كلامه؟

1 ـ الحياة الطيبة والحياة المريرة:

 ذكرت أن الحياة الطيِّبة التي يحياها المؤمن هي شهادة الله له أن القرآن كلامه، فعندما قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[  سورة النحل ]

 الحياة الطيِّبة ذاتها التي هي من فعل الله عزَّ وجل، هي شهادة الله لك أيها المؤمن أن هذا القرآن كلامه. فإذا أعرض إنسان عن ذكر الله؛ كأن ترك الصلاة، أو صلَّى صلاة شكليَّة، وأطلق بصره في الحرام، وأصبحت حياته قطعة من الجحيم، مشاحنة في البيت، وشقاء زوجي، وفي عمله متاعب متواصلة، ويعاني من إخفاقات، وإحباطات، والأمور كلها ضدُّه، فتجده يقول: ما هذه الحياة المريرة؟ فهذه المعيشة الضَنك التي يحياها المُعْرِضْ هي شهادة الله لك أيها الإنسان أن القرآن كلامه. 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)﴾

[  سورة طه ]

2 ـ أفعال الله مع العاصين والمنحرفين:

 إذا تعامل إنسان تعاملًا ربويًا، وأمواله صُودِرَت، أو أُتْلِفَت، أو تعرض لخسائر فوق طاقته، وتألَّم حتى العظم، هذا ما جرى معك من إتلاف المال وإزهاقه، شهادة الله لك بقوله تعالى:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾

[  سورة البقرة ]

 أما إذا أنت تصدَّقت، وتحاشيت أن تكسب كسباً حراماً، والله نمَّى لك مالك، هذه التنمية للمال شهادة الله لك ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾  

 أيها الإخوة، لا بدّ أن يشعر كلٌّ منكم أن يجري في الأرض ما هو إلا تأويلٌ لكلام الله عزَّ وجل، أنت معك كلام الخالق، فانظر لمجرى الأحداث المحيطة بك، أكاد أقول لكم: إن المؤمن يكاد يعلم الغيب، هو لا يعلم الغيب، ولا يعلمه أحد أساساً، لكن قوانين الله تعالى؛ أنّ من كسب مالاً حراماً أتلفه الله، ومن اتقى الله أكرمه الله، من كان صادقاً وثق الناس به، من خان الناس أتلف الله ماله وحطّ مكانته، تكاد ترى أن هذه القوانين كلُّها تجري، والأحداث كلُّها تؤكِّدها.

 إذاً: هذا معنى قول الله عزَّ وجل: 

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)﴾

[ سورة يونس ]

3 ـ وقوع الوعد والوعيد:

 تأويل القرآن الكريم الحقيقي وقوع وعده ووعيده، وَعَدَ الله عزَّ وجل، فوقوع الوَعْد هو التأويل، أَوْعَد؛ فوقوع الوعيد هو التأويل، وعَد المؤمن بالنصر؛ فالنصر هو التأويل، وعَد المؤمن بالحفظ؛ فالحفظُ هو التأويل، وعَد المؤمن بالتمكين فالتميكن هو التأويل، وعد العاصي بالعقاب فالعقاب هو التأويل، والآن عود على بدءٍ - فعندما كتب المدرِّس: غداً الساعة الأولى مذاكرة في الرياضيات، تأويل هذا الكلام يأتي يوم الغَد، حينما يدخل المدرِّس ويقول: ضعوا الكتب في الأدراج، وافتحوا أوراق المذاكرات، الآن نبدأ مذاكرة، حينما بدأت المذاكرة هذا أدقُّ تأويلٍ لها، وأدقُّ تصحيحٍ، وقطْعُ الشكِّ باليقين: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ .


القرآن من عند العزيز العليم:


 فكل واحد منَّا إذا كان بوظيفة معيَّنة، فأحياناً يأتيه كتابٌ من زميله (إحالة)، وكتابٌ آخر من رئيس دائرة أيضا محال إليه تجده يهتم أكثر بكتاب رئيس الدائرة، فكلَّما ارتفع مصدرُ الكتاب تجد الاهتمام به أكثر، لو جاءه كتاب موقَّع بالأخضر من الوزير يهتم اهتمامًا بالغًا فيه، ويمكن على الفور أن يترك كل أعماله، ويحاول تنفيذ هذا التوجيه، وإذا وقف أمام عقبة على الفور يستأذن، ويدخل، ثم يقول لمن يمنعه: الكتاب موجه من السيد الوزير، فماذا نفعل؟

 إذًا كلَّما كانت جهة التوقيع ذات مستوى أعلى يصبح الاهتمام أكثر، فأنت عليك أيها المؤمن أن تشعر دائماً أن هذا القرآن ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ هذا الكتاب ليس ككل كتاب، نعم هو كتابٌ ولكنه كتاب خالق الكون، وبعد فمن هو العزيز العليم؟ 

﴿  غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)﴾

[ سورة غافر  ]


غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ


 ورد في كتب التفاسير أن سيدنا عمر رضي الله عنه، بلغه أن أحدًا ممن كان في صحبته قد سافر إلى بلاد الشام وانحرف، وارتكب بعض المعاصي، فسيدنا عمر أرسل إليه رسالة، و إليكم الخبر كما ورد.

قصةٌ وعبرة:

 روي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد من أهل الشام، فقيل له: "تتابع في هذا الشراب" يعني انغمس في الشراب، فقال عمر لكاتبه: "اكتب: من عمر إلى فلان، سلامٌ عليك، وأنا أحمد الله إليك" ـ وهذا لشارب خمر. فإذا كان للإنسان صديق زلَّت قدمه، ترك الصلاة، انحرف، ارتاد دور اللهو، شرب الخمر، فلا ينبغي أن يبتعد عنه، لا ينبغي أن يقول: هذا الإنسان ضل وانتهى أمره، فأين أمَلُك بالله عزَّ وجل؟ انظر إلى هذا الخليفة العظيم عملاق الإسلام، لم يقل عن صاحبه: انتهى، بل أرسل له رسالة ـ قال له: "أمَّا بعد؛ من عمر إلى فلان، سلامٌ عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم*تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ ثمَّ ختم الكتاب وقال لرسوله: "لا تدفعه إليه إلا إذا وجدته صاحياً" ـ أما إذا كان سكران فاتركه ـ إذا وجدته صاحياً ادفعه إليه، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة - فدعاء الأخٍ لأخيه بظهر الغيب لا يُرَد ـ فلمَّا أتته الصحيفة جعل يقرأها ويقول: "قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذَّرني عقابه" ، فلم يبرح يردِّدها حتى بكى، ثم نزع فأحسن النزوع ـ أي أنه نزع عن شرب الخمرـ وتاب توبةً نصوحًا، وحسُنَت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال: "هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زلَّ زلَّةً، فسدِّدوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا يكن أحدكم عوناً للشياطين عليه" .

 القصَّة بليغة فيها توجيه دقيق. فأحياناً أخ يترك المسجد، ويترك الصلاة بعد ذلك، وبعدها ينغمس في الملذَّات، إخوانه يبتعدون عنه لأنه ضل، لا، بل يجب أن تصلوه، وأن تزوروه، يجب أن تتفقَّدوه ليشعر بالعطف، وبالرحمة منكم.  يقال: إن الإمام مالك بن دينار كان يمشي في الطريق، فرأى رجلاً سكران وقد وقع مغمياً عليه، والزبد وآثار الخمرة على فمه، وهو يقول: "الله الله"، وهو في غيبوبة، فكبُر على هذا الإمام العظيم أن يخرج هذا الاسم من فمٍ نجس، فجاء وغسل فمه، فلمَّا صحا من سباته قيل له: "أتدري من الذي غسل فمك؟ قال: لا، قالوا: الإمام مالك بن دينار بنفسه"، يبدو أن الله سبحانه وتعالى أذِنَ له بالتوبة، فتاب توبةً نصوحاً، وصلَّى الفجر يوما في المسجد الذي يصلي فيه مالك بن دينار.

 فرأى مالك بن دينار الإمام العظيم إنسانًا يبكي أشدَّ البكاء في صلاته، ولعله نسي ما جرى بالأمس القريب فقال: "يا هذا من أنت؟" قال: "الذي هداني أخبرك بحالي" فُيروى أن مالكًا رأى في المنام أن قائلاً يقول له: "يا مالك طهَّرت فمه من أجلنا فطهَّرنا قلبه من أجلك" .

 أي أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب لا ترد، إذا كان لك أخ ضَل، أو إنسان له ابن ضل، فدعاء الأب والأم وإخوته له بالهدى إذا صدر من قلبٍ مخلص، لعلَّ الله سبحانه وتعالى يستجيب، ولعلَّ الله سبحانه وتعالى يليِّن قلب هذا الشارد.

 على كلٍ، إنّ الإنسان إذا وقعت له مع أخٍ مشكلة، أو رأى أن أخاه قد زلَّت قدمه فهو أمام خيارين؛ إما أن يكون عوناً للشيطان عليه، يُشهِّر، يغتابه، يشمت فيه، ينشر الفضيحة بين الملأ جميعاً، فهذا الذي زلَّت قدمه يزداد بُعداً وانحرافاً ومعصيةً وعناداً، ماذا فعلنا معه؟ كنَّا عوناً للشيطان عليه، أما إذا تلقَّفناه بالرحمة، وتلقّفناه بالصبر وكتمان الأمر، وعدم الفضيحة، وعدم إذاعة السرِّ، وزرناه ووصلناه، لعلَّ قلبه يميل، ولعلَّه يشعر بما عند المؤمنين من وفاء.

 سيدنا عمر جعل هذه الآيات الأُوَل من سورة غافر موضوعاً لرسالةً بعثها لصديقٍ له في الشام زلَّت قدمه، وانغمس في شرب الخمر.  


غَافِرِ الذَّنْبِ


﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ إني أردت ولو لمرَّةٍ واحدة أن تشعروا بقيمة دقَّة اللغة العربيَّة في فهم كلام الله عزَّ وجل، ربنا قال: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ .

1 ـ معنى الذنب:

 الذنب: قالوا: ذَنَب الدابَّة وغيرها معروف، الذنَب معروف، الذنْب من الذَنَب، ويُعبَّر به عن المتأخِّر والرَذِلِ من العمل، عملٌ متأخِّر فيه تخلُّف، َعملٌ رَذِل يُعبَّر عنه بالذنب، يقال: هم أذنابُ القوم، أي أن الإنسان السخيف والتافه، والحقير والمنحط، غير الأخلاقي، يُوصف بأنه: من أذناب القوم، وفي تعبير حديث يقولون: هو من أذناب الاستعمار، وعبَّروا أيضا بالذنب عن الحظ، فقال تعالى:

﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ(59)﴾

[ سورة الذاريات ]

 وذَنَبَ الشيء أي أخذ بذَنَب الشيء، ويستعمل في كل فعلٍ عاقبته سيِّئة، كل فعلٍ عاقبته سيئة يقال له: ذنب، هنا موطن الشاهد.

 تعريف الذنب إذاً: هو الفعل الذي له عاقبة سيئة، ربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً، فأحياناً الإنسان تزل قدمه بساعة، أو أقل من ساعة، يتحمَّل آلامًا، يتحمَّل أمراضاً وبيلة، وأمراضاً عضالة ما لها شفاء، ألا يا رُبَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً.

 فما هو الذنْب؟ هو فعل يندم عليه فاعله بعد حين، هو فعل له عواقب وخيمة، هو فعل مرذول محتقر بين الناس، هذا هو الذنب؛ الخيانة ذنب، الكذب ذنب، العدوان على أموال الناس ذنب، العدوان على أعراضهم ذنب، فالذنب هو عملٌ عاقبته وخيمة، كيف أن الذَنَب شيء مُسترذَل مُحتقَر، مؤخِّرة الشيء، عضوٌ تافةٌ لا شأن له، فالذنْب هو الفعل الذي له عاقبةٌ وخيمة، هذا التعريف اللغوي.

 إذا فعل الإنسان المنكر فالله عزَّ وجل له بالمرصاد، أكل مالًا حرامًا فالله عزَّ وجل له بالمرصاد، أنفق إنفاقًا في معصية الله فالله عزَّ وجل سيعاقبه، إذاً كل عملٍ عليه تبِعَةٌ ومسؤوليَّة، كل عملٍ له عاقبةٌ وخيمة هو ذنب؛ أما العمل الطيِّب فعاقبته طيِّبة، فلو سلك إنسان الطريق الصحيح، وسلك في حركته اليوميَّة وفق منهج الله عزَّ وجل فليس لديه مشكلة، وليس لديه ما يخيفه، أما لو أكل مالاً حراماً، أو حلف يميناً كاذبةً، أو زوَّر وثيقةً، أو أدلى ببيان كاذب، ثم كُشِف أنه كذب فهذه مشكلة كبيرة جداً.

2 ـ التوبة ملازمةٌ للذنب:

 لذلك: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ أي إذا فعل الإنسان فعلاً له عاقبةٌ وخيمة، فالله سبحانه وتعالى في مثل هذه الظروف يذكَر عباده بالتوبة، فالتوبة كأنها حبلٌ يتمسَّك به الغريق، كأنها صمَّام أمان إذا ازدادت الضغوط على الإنسان، فلئلا ينفجر فعليه بالتوبة فهي نافذة النجاة، حبل النجاة لمن غرق في ذنوبه، وصمَّام الأمان إذا ضغطت عليه سيئاته، والمنهج الصحيح إذا زلَّت قدمه، فالتوبة تلازم الذنب، لأن كل بني آدم خطَّاء، ذلك بأنّ الله أودع في الإنسان شهوات، ووضع له منهجًا، فإذا تحرَّك وفق المنهج فشهواته قوى محرِّكة تدفعه نحو الأمام، لكن هذه الشهوات لو تحرك من خلالها بخلاف منهج الله عزَّ وجل فهناك عواقب وخيمة، فشهوة النساء هذه لها قناة نظيفة، وهي ما شرعه الله لعباده عن طريق الزواج، هذه الشهوة ليس لها مصرف إلا هذه القناة، بهذه القناة تجد زوجة طاهرة، مؤمنة، مستقيمة، تسعدك إذا نظرت إليها، تحفظك إذا غبت عنها، تطيعك إذا أمرتها، تنجب لك أطفالاً هم زهرة حياتك، هذه الأسرة تنمو، فإذا بالأطفال قد كبروا، ثم أصبحوا عوناً لأمِّهم وأبيهم، فجاءك أصهار مؤمنون، انظر إلى أساس المشروع  مشروع رحماني، فكل ما ينتج عنه خيرٌ وبركة.

 تجد إنسانًا شابًا نشأ في طاعة الله، تزوَّج شابَّة مؤمنة، هذه الأسرة بارك الله بها وعليها وفيها، تكونت أسرة صالحة نفعت المجتمع بعناصر طيِّبة، هؤلاء الأولاد تربَّوا تربية إسلامية؛ فهم صادقون، مخلصون، أمناء، ولو فرصنا أنهم تعلَّموا فنالوا شهادات عُليا، أو امتهنوا حِرَفًا، تجدهم عندئذ صادقين في تعاملهم، وغدت هذه الأسرة مصدر سعادة للمجتمع، وهذه نتيجة طبيعية عندما أُفْرِغَت تلك الشهوة في هذه القناة النظيفة.

 لكن لو انحرف الشباب بغرائزهم نحو الزنا، ونحو إشباع هذه الشهوة بعيداً عن الزواج، فلا بد أن تقع الأمراض التي تسمعون عنها؛ أمراض الإيدز ومشاكلها، والانحرافات، وحالات الطلاق، والشقاء الزوجي، الجرائم، هذه كلها بسبب خروج الإنسان عن منهج الله.

 فما هو الذنْب؟ هو مركبة فيها محرِّك ولها مقود، المقود هو الشرع، المقود هو الاختيار، والشرع هو الطريق، والمحرِّك يعطيك قوة اندفاع، قوة الاندفاع من دون طريق تتحطَّم السيارة، ومن دون مقود مشكلة، فالمقود هو الاختيار، والطريق هو المنهج، فما دُمت أنت توجِّه المركبة لكي تبقى على الطريق المُعبَّد فأنت في بحبوحة، وفي يسر، وفي أمان.

 إذاً ما هو الذنب؟ هو وجود شهوة، وخروج عن المنهج، أما المركبة لو لم يكن فيها محرِّك فليس هناك مشكلة، لكن هذا المحرِّك فيها يعطيها قوة اندفاع، هذا الاندفاع يحتاج إلى طريق، يحتاج إلى مقود، وأنت مخيَّر بالمقود، والطريق هو الشرع، فإذا أبقيت المركبة على الطريق المُعَبَّد نجوت وسلمت، أما إذا غفلت، فالغفلة تسبِّب انحراف المركبة عن الطريق الصحيح.

 فالذنب في أصله هو وجود شهوة في الإنسان، والمنهج خرج عنه بسبب غفلةٍ، فالغفلة عن المقود، والخروج عن الطريق مع وجود هذه الشهوة هو الذنب بعينه، فحبُّ المال شهوةٌ، إذا حسُن التوجيه؛ كَسَبه من حلال، وأنفقه في الحلال، لكن إذا قام باغتصاب المال، فقد أكل المال بالباطل، وعندئذٍ لا بد من العقاب، ما هو العقاب؟ هو الآثار المدمِّرة للشهوة التي أخرجت صاحبها عن منهج الله عزَّ وجل.

 لكن ربنا عزَّ وجل رحمةً بالإنسان قال له: أنا أعطيتك الشهوة، ومعها أعطيتك المنهج، وكلما زلَّت قدمك أنا أنتطر توبتك، أنتظر استغفارك، أنتظر أن تعود إليّ، أنتظر أن تنيب إليّ.

  فأنت فيك شهوة، ولديك منهج، ومقود تمسك به، ولو غفلت لحظةً وخرجت بك المركبة عن الطريق الصحيح، فمن الممكن أن تعود إليه، وترفعك رافعة وتضعك مع المركبة على الطريق، وكلَّما ابتعدت عن الطريق تحتاج إلى قوَّة كبيرة كي تعيدك إلى الطريق.

 إذاً: هذا هو الذنب، إنسان أودع الله فيه الشهوات، غفل عن ذكر الله، وغفل عن منهج الله، فقادته شهوته إلى عمل لا يرضي الله، عمل فيه عدوان إما على أعمال الناس، وإما على أعراضهم، هذا العدوان يقتضي العقاب كي تعود إلى الطريق الصحيح، فحياة الإنسان سلسلة من الحركة؛ إما على الطريق الصحيح، أو على غير الطريق الصحيح، فإن كانت على الطريق الصحيح الله عز وجل يشجعك ويكرمك ويعطيك، وإن خرجت بشهوتك عن الطريق الصحيح أدبك وأرجعك إلى الطريق الصحيح، حتى كلمة (منتقم)، ما معنى منتقم؟ أيْ ينتقم من عباده الجانحين ليعيدهم إلى الطريق الصحيح، فقط، وكلمة منتقم بحق الإنسان قد لا نرضاها، ولكنها إذا عُزيت إلى الله عزَّ وجل فهي تعني أنّ المنتقم أن يعاقب عباده العاصين ليعيدهم إلى الطريق الصحيح، هذا معنى منتقم. 


وَقَابِلِ التَّوْبِ


 إذاً: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ أيْ أنّهُ ما أمرك أن تتوب إليه إلا ليقبلك، وما أودع فيك الشهوة وهو يعلم أنه قد تزِلُّ قدمك، إلا سمح لك أن تتوب.

إذاً التوبة من لوازم الذنب، فالمؤمن مذنبٌ توّاب، كلَّما زلَّت قدمه، كلَّما قصَّر، كلَّما انحرف، كلَّما غفل يقول: يا رب ليس لي إلا أنت. فعلى الإنسان أن يعوِّد نفسه أن يكثر من التوبة.

((  إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. ))

[  سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ]

 والنبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ لنا، لكن ذنبه غير ذنوبنا، فهو كلَّما عرف الله في درجة، ثمَّ ارتقت معرفته، رأى أن المعرفة السابقة تقصير في حقِّه، وهناك تفسيرات دقيقة جداً للذنب في حقِّ الأنبياء، ولهم تعاريف خاصَّة بهم، أما نحن إذا فعلنا شيئاً مخالفاً للشرع فهذا ذنب، وهو عمل عاقبته وخيمة، فمن هو العاقل؟ هو الذي لا يعمل عملاً يندم عليه، لأن لكل سيئةٍ عقاباً، ولكل حسنة ثواباً. 

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ مرَّ إنسان على رجلٍ يمتطي دابَّة، فلمَّا قرأ: "غافر الذنب"، قال: "قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي"، فلمَّا قلت له: "قابل التوب" قال: قل: "يا قابل التوب تقبَّل توبتي"، قال: "فلمَّا قلت شديد العقاب" قال: "قل يا شديد العقاب اعف عني" قال:  "فلمَّا قلت ذي الطَّول" قال: "قل يا ذا الطول طُل عليَّ بخير" ، فقمت إليه.

 فغافر الذنب، اللهمَّ اغفر لي ذنبي، قابل التوب، اقبل توبتي، شديد العقاب، اعفُ عني، ذي الطَّول، يا رب أعطني من خيرك ومن بركتك.   

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ هذه الآيات متلازمة، أيْ أنْ تقول: الله غفور رحيم، من دون احتياط، من دون خوف، من دون توبة، هذا فهم خاطئ، غفور رحيم لكنَّه شديد العقاب، انظر إلى آيات الدرس الماضي: 

﴿  قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55)﴾

[  سورة الزمر  ]

 انظر مع: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ تجد أَن: ﴿يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً﴾

﴿  نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ(50)﴾

[  سورة الحجر  ]


شَدِيدِ الْعِقَابِ


 ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ إذا لم ترجع في الوقت المناسب، ولم ترجع قبل فوات الأوان، ولم تتب إلى الله توبةً نصوحًا، فهو شديد العقاب، أي بقدر ما أنّ الله رحيم فهو شديد العقاب أيضاً، فالمؤمن دائماً بين حالين، الحال الأول حال الخوف من الله، والحال الثاني حال الرجاء، فإذا غلب خوفه على رجائه اقترب من اليأس، وإذا غلب رجاؤه على خوفه اقترب من الانبساط، الانبساط موقف منحرف في علاقة المؤمن بربِّه، أي أنه تساهل، وأخذ حريَّته، ترك الخوف، ترك الوجل، لكن المؤمن بين الخوف والرجاء، يعبد الله خوفاً وطمعاً، رغباً ورهباً، في توازن دائماً.

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ فهناك شهوة، وهناك منهج، وأنت مخيَّر، غفلت قليلاً لا بأس، فحينما غفلت خرجت عن المنهج وهذا هو الذنب، وإذا لم يكن هناك قبول للتوبة فهذه مشكلة كبيرة جداً، إذا وقع الإنسان في ذنب ولا يوجد بعده مغفرة فقد انتهى أمره لن يتوب، على العكس يفعل كل شيء، ويكون بحال يصبح بحال أشد، يكون في الصغائر فينتقل إلى الكبائر، السبب لأنه يئس، ولكن ربنا عزَّ وجل قرن الذنب بالتوبة، كلَّما أذنبت يا عبدي غفرت لك، كلَّما أذنبت وتُبت من هذا الذنب تبت عليك وقبلته منك، المؤمن مذنبٌ توَّاب، أيْ أنّه كثير التوبة يتوب عند كل ذنب، وعند كل غفلة، وعند كل تقصير، هذا معنى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ .

 تصوَّر لو أن الله عزَّ وجل ليس تواباً ـ افتراضاً ـ وإنسان زلَّت قدمه، ماذا يفعل؟ من معصية إلى أكبر منها، حتى ينتهي به الأمر إلى جهنَّم، لكن رحمة الله بنا أنه أودع فينا الشهوات، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، ووضع المنهج، وأعطانا الاختيار، وكلَّما خرجت هذه المركبة عن الطريق أعدناها إليه، فإذا وقعت مشكلة فهذه المشكلة تصَحَّح. 

﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ الله عزَّ وجل عقابه شديد لأنه خبير، يعرف الإنسان من أي جهةٍ يتألَّم منها، فمثلاً إذا نَمَتْ عند الإنسان كرامته، أو مكانته الاجتماعيَّة، فهذا لا يُعاقَب بفقد المال، بل يعاقب أحياناً بجرح كرامته، المتكبِر لا يعاقب بإتلاف ماله، بل يُعاقَب بإهدار كرامته أحياناً، وإذا كان المال أثيراً عند الإنسان فهذا يعاقب بفقد ماله، بإتلاف ماله، فربنا عزَّ وجل يعلم بالضبط ما الذي يؤلم الإنسان، فيأخذه من مأمنه، هذا معنى ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ أحياناً مرض، وأدوية هذا المرض تزيد ذاك المرض، وأدوية هذا المرض تزيد ذاك المرض، تجد الآلام شديدة، ولا يُسمح بإجراء العمليَّة، فقلبه لا يتحمَّل البنج، وتجد الآلام لا تحتمل، فربنا إذا داوى الإنسان فمداواته شديدة، يرجعه إليه بالتمام والكمال.  

﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ أيْ أنّ عقابه أليم، ومثال ذلك أنه إذا أساء طالب في الصف وضربه المعلم ضربة خفيفة، فلم يتأثَّر، ورجع وهو يضحك، فهذا العقاب الخفيف يجعله يزداد طغياناً، لكن إذا تلقَّى عقابًا أليمًا إلى أن تأثَّر تأثراً بليغاً يعلم عندئذٍ أن النظام حق، فربنا عزَّ وجل إذا عاقب فعقابه شديد.  

﴿  إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)﴾

[  سورة البروج  ]

 جزء من إيمانك خوفُك من الله عزَّ وجل، فالله عنده أمراض لا تعد ولا تحصى، عنده أمراض نفسيَّة، وعنده أحياناً حزن يسلطه على العبد، فتجد أن الحزن أكل قلبه، وكذلك عنده همٌّ والهم يسحق الإنسان، والهموم والأحزان ربَّما كانت أشدَّ من الأمراض، وقد يسلط عليه الخوف الذي لا يحتمل، أو القلق، أو يصيبه اختلال نفسه من داخلها الأمراض النفسيَّة، أو تصيبه أمراض عضوية، أو يبتليه بفقر مُدقِع، وذل وقهر وتعذيب، الله عز وجل عنده أدوية لا تعد ولا تحصى، بقدر ما عند الإنسان من أمراض. 


ذِي الطَّوْلِ


 ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ ذي الطول هنا: ذي الفضل، فمعنى الطَّول؛ أيْ طال فضله كل مخلوقاته، أحياناً الإنسان يكون ماله قليلًا جداً، فلو أراد أن يقدم للناس جزءاً من أمواله لا يستطيع، لكن الإنسان الأكثر مالاً ماله يطول أكثر الناس، فكلما كثر المال طال معظم الناس،  لكن ربنا عزَّ وجل هو الخالق، وهو الغني، فخيرُه يطول كل الخلق، إنسان يقول لك: والله لم يعد هناك شيء، الاعتماد انتهى، الشاغر امتلأ، الميزانية أُغْلِقَت، فتحس أن الإنسان محدود، لكن ربنا عزَّ وجل كن فيكون.

((  يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))

[  من صحيح مسلم عن أبي ذر  ]

 ذي الطَّول أيْ أنّ عطاءه كبير يطول كل المخلوقات. 

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ليس من مسيِّر آخر، وليس من إله آخر، الأمر كله بيده، هذا الإيمان الحق، والمؤمن لا يرى مع الله أحداً، لا يرى موجوداً مع الله إطلاقاً، والله كبير. 


تلازمُ فقرات الآية دقة وإعجاز:


 ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ هو غافر الذنب إذا أذنبت، كما أنه قابل التوب إذا تُبت، إذا أذنبت، ولم تتب فهو شديد العقاب، فانظر إلى التلازم بين الفقرتين.

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ أما إذا وقع ذنب ولم تصدر عن المذنب توبة، فالفقرة الثالثة: ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ أذنبت وتبت، فليس من عقاب، ودخلت في إطار: ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ جاءت الخيرات، يوجد أربع حالات؛ ذنب، ثم توبة، ذي الطول، ذنب بلا توبة: شديد العقاب، والثالثة شخص أذنب، ولم يتب فلا بد من عقاب، الرابعة شخص أذنب، وتاب فيتعرض لكرم الله، و يصيبه فضل الله، أجل إذا أذنبت، وتبت إلى الله فالفضل العميم، والخير الوفير، والسعادة التي تملأ القلب، أما إذا أذنب، ولم يتب فله عقاب أليم، فأنت إذًا مخيَّر.

 فالأمر واضح جداً مثل الشمس، هذا كلام أقوله لنفسي، ولكم في آنٍ واحد، تحب أن تستقيم فأهلاً وسهلاً، الاستقامة ثقيلة عليك، إن لم تستقم فهناك سلسلة من المتاعب لا يعلمها إلا الله، تبدأ بالجسم، وبالزوجة، وبالأولاد، وبالعمل، وبالمشكلات، بالتجارة، بالعمل المهني والوظيفي، وبالتعبير العامي، من هنا سد، ومن هناك سد، وهناك خطر، وهناك خطأ، إن استقمت فلمصلحتك، وإلا تفضَّل وتحمَّل متاعب الحياة. 

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ ترتيب رائع، غافر الذنب مقابلها؟ الذنب يقابله العقاب، أما مع التوبة فيقابله "ذي الطول"، أي إن أذنبت، ولم تتب هو شديد العقاب، إن أذنبت وتبت إلى الله عزَّ وجل ذي الطول، وبعد هذا ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾

لَا إِلَهَ إِلَّا هُو

 أنتَ لِمَ لا تتوب؟ خائف ممَّنْ؟ مَا من إله إلا الله، وإذا كان الإنسان مقيمًا على معصية، وهو خائف من جهة أن يغضبها، معنى هذا أنه مشرك، ما من إله إلا الله عزَّ وجل، فأنت ما الذي يمنعك من أن تتوب؟ هل تخاف أحداً مما سوى الله؟

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ العلاقة كلها معه، أمرك كله بيده، أساساً ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه بيده، بيده مقاليد السماوات والأرض، بيده الأمر كله.

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[  سورة الأعراف  ]

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾

[ سورة الزمر ]

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[  سورة الزخرف  ]

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)) 

[  سورة هود  ]

 إذا كانت هناك موانع تحول من التوبة، وموانع من الاستقامة، وخوف من جهة، فمعنى هذا أن الإنسان في شرك، وأنه لديه خطأ في العقيدة.

﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لو فرضنا أن إنسانًا أُجبِر على معصية، فماذا بعد الموت؟ بعده حياةٌ أبديَّة، والمصير إلى الله، الدنيا دار ابتلاء لكن الآخرة دار جزاء، فالمصير إليه، إذاً ليست هناك مشكلة، حتى لو فقد إنسان حياته من أجل طاعة الله عزَّ وجل فهو الرابح، لأنَّه إليه المصير، ولو أن الإنسان ضحَّى بحياته من أجل طاعة الله عزَّ وجل، ودخل الجنَّة فهو الرابح الأكبر، قال سبحانه: ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾


آية في إيجاز وإعجاز:


 فهذه الآية على إيجازها بليغة جداً.

﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ غافر الذنب وقابل التوب معها، أي أنه عندما أودع فيك الشهوات علم أنه قد تزلّ قدمك، ففتح لك باب التوبة.

بقي علينا في الدرس القادم إن شاء الله تعالى: 

﴿  مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ(4)﴾

[ سورة غافر ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور